غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

بخصوصيّاته وتشخصاته فإنّها متفاوتة ومتباينة ، والأشياء بما هي كذلك لا تكاد تكون مؤثرة في شيء واحد ، بل بما هي واحدة باشتراط في جهة جامعة ، فالجامع بينهما حقيقة هو موضوع الحكم ومؤثر فيه لما تقدم من أن موضوع الحكم بمنزلة العلّة له فمرجع التّخيير الشّرعي بين الشّيئين أو الأشياء في بعض المقامات إلى التّخيير العقلي.

وبالجملة حيث أن الموضوع بمنزلة العلّة للحكم وإن الأشياء المتغايرة بما هي متغايرة لا تكون مؤثرة في شيء واحد سواء كان من سنخ الأحكام أو غيرها من سائر الخارجيات كالحرارة والبرودة والصّفراء والسّوداء والإحراق ونحوها ، بل بما هي واحدة ومشتركة في جهة جامعة فلا محالة تكون الأحكام متعلقه بالطّبائع وإن قيدت بألف قيد مثلا ، ضرورة أنّها وإن كانت كذلك ما لم توجد في الخارج لا تتشخص ولا تصير جزئيّة ويكون التّخيير بين أفرادها حينئذ عقليا ، فإنّه لما لم يكن تفاوت بين خصوصيّاتها حيث أنّها من لوازم المطلوب وعوارضه لا من أجزائه ومقوماته فيستقل العقل بالتّخيير بين الأفراد ، ولأجل ما ذكرناه قيل برجوع القضيّة المحصورة حتّى المحصورة الكلّية إلى الطّبيعيّة ، وذلك لأنّ موضوع الحكم فيها وإن قيد بقيود كثيرة كما لو ورد مثلا : أكرم كلّ رجل عادل عالم كذا كذا ، إلّا أنّه مع هذا كلّي يمكن أن يوجد بحسب الخصوصيّات الخارجيّة الملازمة له من الزّمان والمكان وغيرهما على أنحاء كثيرة ، فلا محالة يكون موضوع الحكم فيها العنوان الجامع بين تلك الأوامر كعنوان الرّجل العالم العادل مثلا ، وإلّا لزم تأثير أشياء متباينة بما هي متباينة في شيء واحد ، فترجع الموجبة الكلّية إلى الطّبيعية غاية الأمر أن الحكم قد يتعلق بأحد وجودات الطّبيعة لا على التّعيين فتسمى

٢٦١

القضية حينئذ طبيعية ، وقد يتعلق بجميعها بحيث لا يشذ شيء منها فتسمى القضية حينئذ محصورة ، سواء كانت موجبة أو سالبة.

أقول : وبما أفاده الأستاذ العلّامة «أدام الله تعالى أيامه» اندفع ما ربّما يتوهّم من أن الحكم في المحصورة الكلّية لا يخلو إمّا أن يكون من قبيل العام الأفرادي أو المجموعي ، وعلى الأوّل لا بدّ من أن يكون هناك أغراض متعدّدة بحسب تعدّد الأفراد تدعو إلى إيجاب كلّ واحد منها مستقلا ، وعلى الثّاني لا بدّ من أن يكون هناك غرض واحد يقوم به مجموع الأفراد ، ولذا يكون داعيا على إيجاب واحد متعلق بمجموعها ، فعلى التّقديرين لا مقتضي لإرجاع تعلق الحكم بالأفراد إلى تعلقه بالطّبيعة الجامعة بينها ، إذ لا يلزم من إدخاله خصوصيّات الأفراد ومشخصاتها حينئذ في تأثير الإيجاب محذور وتأثير الأشياء المتغايرة بما هي متغايرة في شيء واحد ، إذ على فرض العموم الأفرادي ليس إلّا تأثير أشياء كثيرة في أشياء كثيرة ، أعني إيجابات عديدة بعدد الأفراد ، وعلى فرض العموم المجموعي ليس إلّا تأثير أشياء كثيرة بمجموعها في شيء واحد ، وهو الوجوب الواحد المتعلق بمجموعها فلا وجه لإرجاع المحصورة إلى الطّبيعية.

وهم ودفع

أمّا الوهم : الذي صدر عن بعض الأعلام في المقام هو أنّه على القول بتعلق الأحكام بالطّبائع يكون متعلق الطّلب فيها نفس الطّبيعة لأن توجد كما في الأوامر أو لتعدم أو تبقى على عدمها كما في النّواهي بأن يكون إيجادها أو أعدامها حدوثا أو بقاء غاية متعلق الطّلب بنفسها حيث أنه لا يمكن تعلق الطّلب بالطّبيعة بما هي هي ،

٢٦٢

فإنّها كذلك ليست إلّا هي ، ولا بالطّبيعة الموجودة أو المعدومة في الأوامر والنّواهي فإن طلب وجودها أو عدمها فيهما يكون حينئذ من قبيل طلب الحاصل.

وأمّا الدّفع : ولا يخفى فساده ، فإن الطّلب النّفساني لا يعقل أن يتعلق بنفس الطّبيعة كي يكون داعيا على إيجادها أو إعدامها حدوثا أو بقاء ، بل إمّا أن يتعلق بوجودها كما في الأوامر ، أو بعدمها وتركها إن كانت موجودة أو باستمرار عدمها إن كانت معدومة كما في النّواهي ، وليست قضية القول بتعلق الأحكام بالطّبائع أن الطّلب أيضا متعلق بنفس الطّبيعة بما هي هي أو الطّبيعة الموجودة أو المعدومة كي يورد على قائليه بأن الطّبيعة بما هي هي ليست إلّا هي غير موجودة ولا معدومة فهي غير قابلة لتعلق الطّلب بها كذلك ، وإن طلب الطّبيعة الموجودة أو المعدومة من قبيل طلب الحاصل ، ثمّ يلتزم فرارا عن المحذورين بأن الطّلب إنّما تعلق بنفس الطّبيعة لتوجد أو تعدم بأن يكون إيجادها أو إعدامها غاية لتعلق الطّلب بها ، وذلك لأنّ مدلول الأمر ليس إلّا طلب الوجود كما أن مدلول النّهي ليس إلّا طلب العدم ، فالقول بتعلق الأوامر والنّواهي بالطّبائع لا يقتضي إلّا كون متعلق الطّلب وجود الطّبيعة أو عدمها لا نفس الطّبيعة بحيث يكون داعيا على ايجادها أو إعدامها ، كما التزم به المتوهّم.

فانقدح ممّا ذكرنا أن متعلق الأوامر والنّواهي مع متعلق الطّلب النّفساني مختلفان يصحّ أن يقال أن الأوامر والنّواهي متعلقه بالطّبائع ، ولا يصح أن الطّلب متعلق بنفس الطّبيعة يكون داعيا على إيجادها أو أعدامها أو إبقاء عدمها فإن هذا لا معني له ما معنى تعلق الطّلب بنفس الطّبيعة؟ ولم يكون تعلق الطّلب بها داعيا على إيجادها أو أعدامها حدوثا وبقاء؟ نعم يصحّ أن يقال أن الأمر يكون داعيا

٢٦٣

على إيجادها والنّهي يكون داعيا على إعدامها حيث أن مدلوليهما طلب إيجاد الطّبيعة أو إعدامها حدوثا أو بقاء فيكونان داعيين عليهما إذا لم يكن للمكلّف داع آخر غيرهما ، فبالأمر والنّهي يجعل الدّاعي للمكلّف وهذا هو الغرض منهما ، لكن أين هذا من تعلق الطّلب من نفس الطّبيعة وكونه داعيا على إيجادها أو إعدامها؟

وبالجملة ليس مراد القائلين بتعلق الأوامر والنّواهي بالطّبائع أن الطّلب متعلق بأنفسها ولا هذا صحيح كما لا يخفى ، بل مرادهم كما عرفت أن المطلوب في الأوامر والنّواهي وجود الطّبائع أو عدمها بوجودها السّعي بما هو وجودها في مقابل وجوداتها الخاصة أو عدمها كذلك ، كما أن مراد القائلين بتعلقها بالأفراد أن المطلوب فيها وجوداتها أو أعدامها الخاصة بخصوصيّاتها الخارجيّة فهي من لوازم المطلوب على القول الأوّل ومن مقوماته على القول الثّاني ، فالفريقان متفقان على أن المولى الطّالب عند أمره أو نهيه إنما يطلب صدور الوجود وإفاضته وجعله بالجعل البسيط الذي هو مفاد كان التّامة أو العدم أو استمراره وإن اختلفا في أن ذلك الوجود أو العدم الوجود أو العدم السعي أو الخاص ، ومن الواضح أنّه ليست قضيّة شيء من القولين صحّة تعلق الطّلب من نفس الطّبيعة ، كما توهّم فإنّه فاسد في نفسه ولا يقتضيه شيء من القولين ، نعم يصحّ أن يقال أنّ متعلق الأوامر والنّواهي الطّبيعة المرسلة المبهمة أعني طبيعة هي هي لكن لا بما هي كذلك ومرسلة ، ضرورة إنّها غير موجودة ولا معدومة فهي غير قابلة لتعلق الطّلب بها بل بلحاظ وجودها أو عدمها فإنّها بلحاظها كذلك يصحّ تعلق الطلب بإيجادها أو إعدامها والبعث إلى فعلها أو الزّجر عنه ، فالآمر يلاحظ وجود الطّبيعة أو الفرد على القولين أوّلا ، ثمّ يطلبه من المكلّف ويبعثه ويدعوه إليه ويحركه نحوه بأمره به كي يصدر عنه ويجعله

٢٦٤

ويكوّنه ، والنّاهي أيضا يلاحظ عدم الطّبيعة أو الفرد أو استمراره على القولين ، ثمّ يطلبه من المكلّف ويبعثه ويدعوه إليه أو يزجره عن فعله نهيه عنه كي لا يصدر عنه ولا يجعله ولا يكوّنه ، فمتعلق الطّلب على القولين ليس إلّا وجود الطّبيعة أو عدمها لا نفس الطّبيعة لتوجد أو تعدم كما يتوهّم هذا على القول بأصالة الوجود ، وأمّا على القول بأصالة الماهيّة فمتعلق الطّلب في الأوامر وإن كان هي الطّبيعة لكن لا بما هي هي ، بل بما هي نفسها في الخارج بحيث يستحق أن يحمل عليه الموجود أصالة لا بتبع الوجود فيطلبها كذلك من المكلّف كي يجعلها من الخارجيات والأعيان الثّابتات لا بوجودها.

وكيف كان : يلاحظ الأمر ما هو المقصود من الماهيّة الخارجيّة أو الوجود فيطلبه ويبعث المأمور نحوه ليصدر عنه ويكوّن ما لم يكن من الماهيّة أو الوجود ، وبالجملة ليس متعلق الطّلب إلّا جعل ما هو المتأصل فيه في ظرف الخارج وعالم الكون من الماهيّة بنفسها أو بوجودها على اختلاف القولين لا نفس الطّبيعة لتوجد أو تعدم.

وأقول : تصوير الفرق بين ما أفاده الأستاذ العلّامة «دام ظله» وبين ما حكي عن المتوهم على القول بأصالة الماهيّة لا يخلو عن خفاء أو إشكال.

* * *

٢٦٥

الفصل الثّامن

إذا نسخ الوجود

فهل يبقى الجواز بمعناه الأخص أي الإباحة

إذا نسخ الوجود فهل يبقى الجواز بمعناه الأخص أي الإباحة فتصير الواقعة حينئذ مباحة ، أو بمعناه الأعم وهو القدر المشترك بين ما عدا الوجوب والحرمة فتصير الواقعة حينئذ مرددة بين الاستحباب والإباحة والكراهة أو لا يبقى أصلا فتصير الواقعة حينئذ مردّدة بين ما عدا الوجوب من الأحكام الأربعة؟ فيه خلاف ، والكلام فيه تارة بحسب الدّليل واخرى بحسب الأصل.

أمّا بحسب الدّليل : فمن المعلوم بديهة أن دليل المنسوخ لا دلالة له بشيء من الدّلالات اللّفظيّة والعقليّة على حكم ما بعد النّسخ للواقعة ، بل لا بدّ فيه من الدّلالة على استمرار الوجوب ظاهرا إذ المعتبر في النّسخ ظهور دليل المنسوخ في الدّوام والاستمرار ، وأمّا دليل النّاسخ فهو إنّما يدلّ على رفع الحكم الأوّل وانتهاء أمده واقعا وإن كان هو بحسب ظاهر دليله استمراره إلى الأبد ، ولا دلالة له من حيث كونه ناسخا على حكم ما بعد النّسخ بشيء من الدّلالات اللّفظيّة والعقليّة ، ضرورة أنّه بعد ارتفاع الوجوب ثبوت كلّ واحد من الأحكام الأربعة الباقية ممكن واقعا ،

٢٦٦

ولو فرض أنّه كان متعرضا ومتكفلا ببيان حكم ما بعد النّسخ أيضا كان هذا مطلب آخر ودلالة اخرى والمقصود التّكلم في دلالته على حكم ما بعد النّسخ من حيث كونه ناسخا لا مطلقا ، ومن الواضح أنّه من هذه الجهة لا دلالة له على حكم ما بعد النّسخ أصلا.

وأمّا بحسب الأصل : فاستصحاب الجواز بالمعنى الأعم بعد ارتفاع الوجوب بناء على كونه بمنزلة الجنس والكلّي بين ما عدا الحرمة من الأحكام الأربعة مبنيّ على جريان الاستصحاب في القسم الثّالث من أقسام استصحاب الكلّي وهو إذا احتمل وجود فرد من كلّي مقارنا لارتفاع فرده الآخر ، وفيه وجوه ثلاثة ، وقد حققنا في باب الاستصحاب أنّه لا مجال لجريانه فيه وإن قلنا بأن المدار في تعيين موضوع المستصحب وبقائه وارتفاعه على العرف ، فإن الأفراد متباينة في الوجود ، أي وجود زيد من وجود عمرو مثلا ، أمّا بحسب المداقة العقليّة فواضح ، إذ كلّ وجود محدود بتحديد يعقل في الآخر ، وأمّا بحسب العرف فلانّهم يعدّون الأفراد متباينات ، فمرجع الشكّ في حدوث فرد من الكلّي متقارنا لارتفاع فرده الآخر عندهم إلى القطع بارتفاع وجود ، والشكّ في حدوث وجود آخر مقارنا لارتفاع ذلك الوجود ، لا إلى الشكّ في بقاء الوجود السّابق في اللاحق ، فلا مجال لاستصحاب فيه حتّى بالمسامحة العرفيّة.

نعم قد استثنينا منه ما إذا كان الحادث المشكوك فيه من قبيل المرتبة القويّة أو الضّعيفة للفرد المتيقن رفعه كالسّواد الضّعيف أو القوي المتبدل إلى مرتبة اخرى منه أو إلى الحمرة القويّة بحيث يعدان عرفا شيئا واحدا ويصدق على حدوث الفرد الثّاني مقارنا لارتفاع الأوّل بقاء ما كان ، وعلى ، عدمه ارتفاع ما كان ، ومن المعلوم

٢٦٧

أن هذا المعنى غير موجود بين الوجوب وما عدا الاستحباب عقلا وعرفا ، وأمّا بينهما فهو وإن كان موجودا بحسب المداقة العقليّة لأن الوجوب مرتبة أكيدة قويّة من طلب الفعل الذي يقال أن فصله المنع من التّرك ، والاستحباب مرتبة ضعيفة من طلب الفعل الذي يقال أن فصله الإذن في التّرك ، إلّا أنّ المدار في باب الاستصحاب لما كان على العرف ونظرهم ، وهم يعدّون الوجوب والاستحباب متباينين نظير كلّ واحد منهما مع سائر الأحكام ، فلا مجال أيضا لاستصحاب طلب الفعل الجامع بينهما ، وهذا من الموارد الّتي يتخلف الميزان العرفي عن الميزان العقلي في باب الاستصحاب ، لأنّه يكون من الموارد الّتي يكون الموضوع باقيا فيها عقلا لو فرض حدوث المشكوك فيه ، ومع هذا لا يجري الاستصحاب فيه ، لأن المتبع فيه نظر العرف وهم لا يحكمون فيه بالبقاء بل يحكمون بالارتفاع ، فيكون موضوع الحكم عرفا أضيق دائرة من موضوعه عقلا.

وربّما يكون الأمر بالعكس بأن يكون موضوعه عرفا أوسع دائرة من موضوعه عقلا ، كما لو فرض أنه يحكم بارتفاعه ولكن العرف يحكمون ببقائه وأمثلته كثيرة ، وإذا كان المدار على العرف كما هو الأقوى ، فكما أن قضيّة جريان الاستصحاب في القسم الثّاني مع أن الموضوع فيه غير باق عقلا كذلك قضيّة عدم جريانه في القسم الأوّل وإن كان الموضوع فيه باقيا عقلا ، ففي المقام وإن كان الموضوع باقيا على تقدير حدوث المشكوك فيه أي الاستحباب ، إلّا أنّه لما لم يكن بنظر العرف باقيا فلا مجال لجريان استصحاب مطلق طلب الفعل ، وقد أوضحنا ذلك في باب الاستصحاب.

هذا وربّما يتوهّم : أن ما ذكر في المقام من عدم جريان الأصل فيه إنّما هو لأجل

٢٦٨

عدم مساعدة الميزان العرفي عليه وإنّه لو لا هذا المانع لم يكن لجريانه مانع آخر مناف لما تقدم في مسألة اقتضاء الأمر بالشّيء النّهي عن ضدّه من أن الوجوب مفهوم بسيط وحداني لا تركب فيه ، إذ على تقدير بساطته لو فرض نسخه لا يمكن الشّك في بقاء شيء منه كي يجري الاستصحاب فيه.

ويندفع : بأنّ المراد ببساطته في تلك المسألة أنّه غير مركب من طلب الفعل ومن المنع من التّرك في مقابل من يقول باقتضاء الأمر بالشّيء النّهي عن ضدّه بالتّضمن ، حيث أن قضيّة هذا القول كونه مركبا من الجزءين لا أنّه غير مركب من جنس وفصل ، ضرورة أنّه كل مفهوم بسيط سوى البسيط على الإطلاق تبارك وتعالى بحسب التّحليل العقلي مركب ممّا يشترك فيه مع الغير يسمى جنسا وممّا يمتاز به عن الغير يسمى فصلا ، فلا تنافي بين ما ذكرنا هنا من أن للوجوب جنس وهو مطلق طلب الفعل يمكن استصحابه لو لا منع الميزان العرفي عنه ، وما تقدم سابقا من أن الوجوب مفهوم بسيط لا تركب فيه كما لا يخفى.

* * *

٢٦٩

الفصل التّاسع

هل الواجب على البدل

إذا ورد الأمر بأحد الشّيئين أو الاشياء على قبيل التّخيير

إذا ورد الأمر بأحد الشّيئين أو الأشياء على قبيل التّخيير الاصطلاحي كما لو ورد : صم أو أطعم مثلا ، فهل الواجب حينئذ كل واحد على البدل بمعنى أنّه لا يجوز تركه إلّا إلى بدل ، أو الجميع ، ولكنّه يسقط بفعل أحدهما أو أحدهما ، لا بعينه ، أو أحدهما المعين عند الله وجوه وأقوال. والكلام فيه تارة في مقام الثّبوت والواقع واخرى في مقام الإثبات والدّلالة.

أمّا المقام الأوّل : فالتّحقيق فيه أن ثبوت التّخيير بين الشّيئين أو الأشياء يتصور على أنحاء :

الأوّل : أن يكون هناك غرض واحد يقوم بتمامه فعل كلّ واحد ولذا يسقط به الأمر ، إذ حينئذ لا بدّ من التّخيير إلّا أن الواجب حينئذ حقيقة هو الجامع بين الشّيئين أو الأشياء لما تقدّم من الوجدان والبرهان وهو أن الأشياء المتفاوتة المتباينة بما هي كذلك ، لا يمكن أن تكون مؤثرة في شيء واحد كالغرض في المقام لاعتبار نحو خاص من الارتباط والسّنخية بين العلّة والمعلول لأجله صار أحدهما

٢٧٠

علّة والآخر معلولا وإلّا لزم تأثير كلّ شيء في كلّ شيء ، فمرجع التّخيير حينئذ شرعا إلى التّعيين ، أي إلى إيجاب الجامع تعينيا ، وقضيته إيجابه كذلك ثبوت التّخيير عقلا بين أفراده ممّا يحصل الغرض الواحد من الشّيئين أو الأشياء ، فجعل كلّ واحد متعلقا للأمر شرعا إنّما هو لتبيان أن الجامع هو الواجب حقيقة ، وعدم تعلق الأمر به تعيينا ، إمّا لعدم وجود لفظ يحويه ويفهمه ، وإمّا لعدم إدراك المكلّف أنه يحصل ويتحقق بما تعلق به الأمر من الشّيئين أو الأشياء ، والشّارع لما علم بهذا أمر بنحو التّخيير ولأجل هذه الجهة يمكن تسمية التّخيير في هذا الفرض بالتّخيير الشّرعي ولا مشاحة في الاصطلاح إلّا أنّ مرجع التّخيير الشّرعي فيه إلى التّخيير العقلي.

الثّاني : أن يكون هناك غرضان فصاعدا بمقدار ما تعلق به الأمر من الشّيئين أو الأشياء يفي فعل كلّ واحد ممّا تعلق به الأمر بكلّ واحد من الغرضين أو الأغراض من قبيل مقابلة المعين بالمعين ولكن فرض التّضاد والتّزاحم بين الغرضين أو الأغراض لا بين الشّيئين أو الأشياء ، كما لو فرض غرضان يفي بأحدهما الصّيام وبالآخر الإطعام ولكن فرضا متزاحمين غير ممكني الاجتماع وتمكن المكلّف من الجمع بين محصليهما من الإطعام والصّيام ، إذ حينئذ لا بدّ من التّخيير عقلا بين الشّيئين فإن المفروض أن كلّ واحد منهما يفي لغرض ملزم في نفسه ، إلّا أنّه لما لم يمكن اجتماع الغرضين ولم يكن مرجح في البين فلا جرم يستقل العقل بالتّخيير بين الشّيئين لكن بنحو آخر غير التّخيير في القسم الأوّل ، لأن مرجعه فيه إلى إيجاب الجامع بينهما تعيينا فيكون التّخيير الشّرعي بينهما تخييرا عقليّا حقيقة كما عرفت ، وهنا لا جامع في البين ، لأنّ كلّ واحد من الشّيئين بخصوصياته واف بغرض على حدّه ، فلو خير الشّارع بينهما كان إرشادا إلى ما حكم به العقل من لزوم التّخيير

٢٧١

بينهما ، بل يمكن أن يلتزم بلزوم التّخيير الشّرعي المولوي بينهما أيضا ، حيث أنه لما لم يكن موجب لإيجاب الجميع وإن تمكن المكلّف من الجمع بينهما لعدم المقتضي له من جهة فرض المزاحمة بين نفس الغرضين وعدم الجزاف في أمر الشّارع بشيء ، بل ربّما يكون نقضا للغرض فيما لو فرض أن فعليهما معا لا يفي بشيء من الغرضين ، إذ عند تداخل الأسباب يمكن أن لا يؤثر شيء منهما في مسببه ، بل يترتب عليها مسبب آخر غير مسبباتها كما لا يخفى ، فإيجاب الجميع في هذا الفرض مع أنّه لا موجب له نقض للغرض أيضا ، ولا موجب لإيجاب أحدهما المعين ، فإن التّعيين يحتاج إلى مرجح وليس حسب الفرض في البين ، ولا لإلغاء إيجاب كلا الشّيئين لإمكان تحصيل أحد الغرضين ، فلا بدّ من إيجاب أحد الشّيئين تحصلا له لأنّه يلزم وبالجملة التّخيير في هذا الفرض عقلي وشرعي مولوي إذ أنّ لخصوصيات كلّ واحد من الشّيئين أو الأشياء دخل في الحكم بخلافه في الأوّل فإنه حقيقة عقلي محض كما عرفت.

الثّالث : أن يكون هناك غرضان فصاعدا يقوم بكلّ واحد كلّ واحد ممّا تعلق به الأمر من الشّيئين أو الأشياء كما في الفرض الثّاني ، إلّا أنّه فرض التّزاحم والتّضاد بين الشّيئين أو الأشياء والتّساوي بين الغرضين أو الأغراض كإنقاذ الولدين أو الأخوين المتساويين ، إذ لا بدّ حينئذ من الحكم بالتّخيير فإن إيجاب الجميع بالإيجاب الفعلي البعثي تكليف بغير المقدور لغرض المزاحمة بين الشّيئين أو الأشياء ، وهو قبيح لا يصدر عن الحكيم الملتفت إلى المزاحمة ، وبالإيجاب الشّأني حاصل ، إلّا أنّه غير مفيد ، وإيجاب البعض المعين أيضا غير سديد لاحتياجه إلى مرجح فيه والفرض التّساوي ، وعدم إيجاب الجميع مناف لتمكن المكلّف من

٢٧٢

تحصيل الغرض اللازم ، فتعين الحكم بالتّخيير تحصيلا له لكنه كما في الفرض الثّاني عقلي وشرعي مولوي إذ أنّ لخصوصيات كلّ واحد من الشّيئين أو الأشياء دخل في حصول الغرض وثبوت الحكم حينئذ ، بخلاف القسم الأوّل ، إذ التّخيير فيه شرعا راجع إلى التّعيين عقلا ، فلا دخل لخصوصيات كلّ واحد في ثبوت الغرض والحكم ، ولذا قلنا أن التّخيير الشّرعي فيه راجع إلى التّخيير العقلي.

والفرق بين التّخييرين في القسمين الأخيرين مع اشتراكهما في كونهما عقليين وشرعيين بخلاف الأوّل ـ لأنّه عقلي حقيقة ـ أنّه ليس في القسم الثّاني إلّا مقتضى التّخيير لأنّه قضيّة التّزاحم بين الغرضين أو الأغراض ، بخلاف القسم الثّالث إذ فيه مقتضى إيجاب الجميع تعيينا إلّا أن اقترانه بالمانع عنه وهو عدم تمكن المكلّف من الإتيان بالجميع صار منشأ للحكم بالتّخيير ، فلو فرض أن مفاد الخطاب فيه إيجاب الجميع تعيينا لزم التصرف فيه عقلا بإرجاعه إلى إيجاب الجميع تخييرا ، وكذا يلزم التّصرف في مفاد الخطاب في القسم الثّاني لو فرض العلم بثبوت المزاحمة بين الغرضين أو الأغراض كما لا يخفى.

وأمّا المقام الثّاني : وهو مقام إثبات التّخيير فهو وظيفة الفقيه لأنّه من المسائل الفقهية ، فعليه أن يرجع إلى الأدلة ويستنبط ما هو مفادها وأنّه أيّ قسم من الأقسام الثّلاثة كي يرتب عليه حكمه إن فرض له حكم خاص.

بقي الكلام في أنّه : يعقل التّخيير بأقسامه الثّلاثة بين الأقلّ والأكثر أم لا؟ ربّما يتخيل ويتوهّم عدم إمكانه استنادا إلى أنه إذا وجد الأقلّ تتحقق به الطّبيعة والغرض فيسقط به الأمر فيكون الزّائد عليه من أجزاء الأكثر خارجا عن الواجب ، فتعيّن أن يكون هو الواجب والزّائد عليه مستحبّا ، ولذا يكون الأكثر

٢٧٣

أفضل الأفراد.

والحقّ إمكانه في جميع أقسامه.

أمّا في القسم الأوّل : فلأنّه يمكن أن تؤخذ الطّبيعة وتعتبر على نحو لو أتى بالأكثر يكون بتمامه وبحدّه فردا واحدا لها ومحصلا للغرض على نحو ما لو أتى بالأقلّ لا فردي ولا فردا واحدا وشيئا زائدا بأن يكون لتمام أجزائه من الأقلّ وما زاد عليه دخل في حصول الغرض وانطباق الطّبيعة وصدقها عليه انطباق الكلّي وصدقه على أفراده والطّبيعي على مصاديقه ، كما لو فرض أن رسم الخط أخذ بحدّه أي ما لم يتخلل العدم بين أجزائه موضوعا لحكم ، فإنّه على فرضه كذلك كما أنّه إذا رسم وأنهاه الرّاسم إلى حد الأقلّ كالذّراع مثلا يكون فردا له ، كذلك إذا رسم وأنهاه الرّاسم إلى حد الأكثر كالذّراعين يكون فردا واحدا له لا فردين ولا فردا واحدا وشيئا زائدا ، ضرورة أنّه على هذا الفرض ما دام الرّاسم مشتغلا به لا يتحقق حدّه وبعد قطعه يتحقق فيوجد له الفرد وإن كان هو الأكثر إذ لتمام أجزائه حينئذ دخل في تحققه ، ومن الواضح إمكان التّخيير في هذا الفرض ، بل لا محيض عنه لصدق الطّبيعة على الأقلّ والأكثر على حدّ سواء ، فتخصيص الوجوب وتعيين الواجب بالأقل تخصيص بلا مخصّص وتعيين بلا معيّن.

فإن قلت : سلّمنا ذلك في الدّفعي والكم المتصل بأن يكون للأكثر وجود واحد لم يكن للأقل في صحّته وجود على حدّة ، كما لو رسم الخط ولم يتخلل عدم في البين ، ولكنه ممنوع في الكم المنفصل بأن يكون للأقلّ في ضمن الأكثر وجود على ، حدّة كتسبيحة واحدة في ضمن تسبيحات ثلاثة ، فإن الأقلّ حينئذ يوجد بحدّه وبه يحصل الطّبيعة والغرض ، فيكون الزّائد عليه ممّا لا دخل له في حصولها ، فيكون

٢٧٤

زائدا على الواجب لا من أجزائه.

قلت : إذا أخذت الطّبيعة وحدّدت وعيّنت على نحو يتحقق بالأكثر على نحو تحققها بالأقلّ لو اقتصر عليه بحيث لا يتحقق به في ضمن الأكثر بأن اعتبر بشرط لا ، أي بشرط عدم الانضمام فردا لها لا مطلقا ، كما لو فرض أن مصلحة طبيعة التّسبيحة أو الذّكر في الصّلاة على نحو يتحقق بتسبيحة واحدة أو ذكر واحد لو اقتصر عليه ، وبتسبيحتين أو ذكرين فصاعدا إلى مرتبة حدث لها بحيث يكون كلّ واحدة من التّسبيحات أو الأذكار الأخيرة في ضمن الثّلاثة أو الأربع مثلا بمنزلة أجزاء تسبيحة واحدة أو ذكر واحد في تحقق الطّبيعة بها بأن يكون لكلّ من التّسبيحات أو الأذكار الأخيرة دخل في تحققها ، فلا مانع من التّخيير حينئذ بين الأقلّ والأكثر ، لأنّه حينئذ يكون عدلا للأقلّ ، بل لا يعقل غيره حسب ما عرفت من عدم معقولية تأثير خصوصيات الأفراد ومشخصاتها في حصول شيء واحد من الإيجاب أو الغرض ، نعم لا بدّ في هذا الغرض من تحديد عدم الزّيادة في فرديّة الأقلّ بشيء من الزّمان ونحوه كعدم تخلل الذّكر كي يكون معه فردا على حدّه وبدونه من أجزاء الذّكر ، إلّا أن تشخيص هذا وظيفة الفقيه لا الأصولي.

وكيف كان ، التّخيير بين الأقل والأكثر في هذا الفرض لازم عقلا ، وتعيين الواجب بالأقلّ تعيين بلا معيّن وترجيح بلا مرجح ، بل ربّما يكون الأكثر بمجموعه كما أنّه يتحقق به الطّبيعة الواجبة كذلك يتحقق به طبيعة اخرى مستحبّة كفرديّة الذّكر مثلا في الثّلاثة والخمسة أو زوجيته كما في الأربعة ، فيكون الأكثر حينئذ أفضل الأفراد حيث أنّه بجملته مصداق للطّبيعتين ومجمع لعنوانين ، فلا محالة يكون أفضل الأفراد بهذا المعنى لا بالمعنى الذي التزم به القائلون باختصاص الوجوب

٢٧٥

بالأقل بتوهّم عدم إمكان التّخيير بينه وبين الأكثر ، حيث أن الأكثر على ما ذكرنا بجملة أجزائه من الأقل وممّا زاد عليه يتصف بالوجوب والاستحباب ، لأنّه كذلك مصداق واحد للطّبيعتين والعنوانين ، بخلاف ما ذكروه ، فإنّه عليه يكون الأقلّ في ضمن الأكثر واجبا تعيينا والزّائد عليه مستحبّا على حدّه انضم إلى الواجب فيكون الأكثر حينئذ أفضل الأفراد ، بمعنى أنّه انضم فيه مستحب على حدّه إلى واجب كذلك ، نعم في غير الفرض المذكور يكون الأكثر أفضل الأفراد بالمعنى الذي ذكروه ، حيث أن الطّبيعة الواجبة لما لم تؤخذ على نحو يوجب كون الأكثر عدلا للأقلّ فلا محالة إذا وجد الأقلّ ولو في ضمن الأكثر تتحقق الطّبيعة لانطباقها عليه قهرا ، فيكون الزّائد عليه مستحبّا أو واجبا على حدّه انضم إلى الواجب على اختلاف الموارد.

وبالجملة لا فرق في إمكان التّخيير بين الأقلّ والأكثر في الفرض المذكور بين ما لو كان الأكثر دفعيّا أو تدريجيّا ، متصلا كان أم منفصلا كما لا يخفى.

هذا تمام الكلام في إمكان التّخيير في القسم الأوّل من أقسام التّخيير الذي عرفت أن مرجع التّخيير الشّرعي فيه إلى التّخيير العقلي

وأمّا القسمان الأخيران منه : فالكلام فيهما الكلام فيه لجريان مثل الفرض المذكور فيهما أيضا ، فيمكن التّخيير بين الأقلّ والأكثر فيهما كما في القسم الأوّل ، إلّا أنّه فيه عقلي وفيهما عقلي وشرعي كما عرفت آنفا.

* * *

٢٧٦

الفصل العاشر

هل أنّ الوجوب الكفائي نحو من الوجوب

الحقّ أن الوجوب الكفائي نحو من الوجوب له تعلق بكلّ واحد ممن كلّف به على حسب ما اعتبر فيهم من الأوصاف والشّرائط بحيث يكون كلّ واحد منهم مكلّفا به ولا يرضى المكلّف بإخلالهم به ، إلّا أنّه لو أتى به كلّ واحد منهم سقط عن الآخرين واستحق هو المثوبة دونهم ولو أتوا به جميعا أو أكثر ممن به الكفاية استحق عليه المثوبة خصوص المباشرين ، ولو أخلّوا به جميعا استحقوا عليه العقوبة أجمعين ، وهل هي عقوبة واحدة توزع عليهم أو عقوبات متعدّدة على حسب عددهم ، لا وجه لهذا التّرديد وإن توهّم ، إذ بعد صدق استحقاق العقوبة عليهم لا يبقى في حقّ كلّ واحد إلّا كونها شديدة أو ضعيفة ، ومن الواضح أن هذا يختلف باختلاف الموارد ربّما يكون الكفائي من الواجبات المهمة كحفظ نبي مرسل أو بيضة الإسلام ، ومعلوم أن الإخلال به حينئذ يوجب استحقاق كلّ واحد ممن به الكفاية أشدّ العقوبة.

وكيف كان ، إنّما تثبت هذا الآثار للواجب الكفائي لأجل أنّه إنّما يكون فيما إذا كان هناك غرض واحد يحصل بفعل واحد من أشخاص مخصوصين على حسب ما

٢٧٧

عيّنوا واعتبر فيهم من الشّرائط سواء صدر عن بعضهم أو عن الكلّ بأن يكون المطلوب صدوره من بينهم كيف ما كان ، لوضوح أنّ قضيّة هذا سقوط الغرض بفعل الكلّ أو جماعة منهم لو أتوا به دفعة واحدة كما هو قضيّة توارد العلل المتعدّدة على معلول واحد في جميع الموارد ، فيسقط الوجوب عن الجميع لأن بقاءه ببقاء الغرض ، بل الظّاهر استحقاقهم المثوبة عليه لصدق امتثالهم به وسقوطه أيضا بفعل البعض فيسقط الوجوب عن الباقين لأنّه بقاء وارتفاعا دائر مدار الغرض وجودا وعدما لاستحالة صدور الأمر لا عن غرض ، واستحقاقه المثوبة خاصّة لأن فعله مستند إليه دونهم واستحقاق الكلّ العقوبة لو أخلّوا به جميعا لأنّ عدمه حينئذ مستند إلى الكلّ وهو مبغوض المولى المكلّف شارعا كان أو غيره ، فيصحّ له أن يعاقبهم يؤاخذ كلّ واحد منهم بقوله : لم لم تفعل وإن لم يفعله غيرك ، وبالجملة هذا النّحو من الوجوب أمر ممكن وواقع في العرفيّات والشّرعيّات ، والثّمرة بينه وبين العيني إنّما تظهر في صورة إتيان بعض المكلّفين بالواجب فإنّه يوجب سقوطه عن الباقين في الكفائي دون العيني حيث أنّه لا يسقط بفعل البعض عن الآخرين.

* * *

٢٧٨

الفصل الحادي عشر

الفعل لا يخلو من الزّمان

من الواضح أن كلّ فعل لا يخلو من الزّمان فهو ممّا لا بدّ منه في الواجب إلّا أنّه ربّما يكون له دخل فيه فيسمى موقتا وربّما لا يكون له دخل فيه فيسمى غير موقت ومطلقا ، والموقت لا يخلو ، إمّا أن يكون الزّمان الذي عين له متساويا لفعله كاليوم بالنّسبة إلى الصّوم فيسمى مضيقا ، وأمّا أن يكون أوسع منه كأوقات الصّلوات اليوميّة بالنّسبة إليها فيسمى موسعا ، ولا يمكن العكس بأن يكون الزّمان أضيق من فعل الواجب لأنّه يستلزم التّكليف بغير المقدور ، وهو لأجل قبحه عن الحكيم مستحيل الصّدور.

والكلام في الموقت تارة في إمكانه وعدمه ، وعلى الأوّل إذا وقع فهل التّخيير فيه بين أفراده التّدريجيّة عقلي أو شرعي؟ واخرى في أن دليله هل يدلّ على وجوب الفعل في خارج الوقت بعد فوته فيه أم لا؟ وهذا هو الخلاف المعروف من أن القضاء تابع للاداء أم لا.

أمّا المقام الأوّل : فالحقّ فيه إمكانه ووقوعه وكون التّخيير فيه عقليّا ، أمّا

٢٧٩

إمكانه فلأنّه كما يمكن عقلا تعلق الغرض والمصلحة بوجود طبيعة لها أفراد دفعيّة عرضيّة يمكن أن يتأتى كلّ واحد منها في زمان خاص عين لها كذلك يمكن تعلق الغرض والمصلحة بوجود طبيعة لها أفراد تدريجيّة طوليّة يمكن الإتيان بها كذلك ، إذ لا مانع عنه عدا ما يتخيل من لزوم جواز ترك الواجب لا إلى بدل في غير الجزء الأخير من الزّمان ، وهو غير صالح للمنع عقلا ، إنّما المانع عنده لزوم جواز ترك الواجب لا إلى بدل بالمرّة ، وهذا غير لازم في الموقت ، فإن الفعل في ثاني الحال بدل عنه في أوّله وهكذا إلى آخر الأزمنة يتضيق فيه الوجوب ، فلا وجه لتخصيص الوجوب حينئذ ببعض أجزاء الوقت من الأوّل أو الآخر كما التزم به القائلون بالاستحالة في الصّلاة ، وهذا واضح بإمكانه ووقوعه في مثل الصّلوات اليوميّة شرعا ممّا لا شك فيه ولا شبهة تعتريه.

وأمّا كون التّخيير فيه عقليا فلما تقدّم من استحالة تأثير خصوصيات الأفراد وتشخصاتها المفردة من غير أن يشذّ شيء منها في إيجاب واحد فالواجب حقيقة هو الجامع بينها ، وإذا لم يكن تفاوت بين الخصوصيات والتّشخصات فالعقل مستقل بلزوم التّخيير بين الأفراد وتعدّدها في الواجب الموسع وإن كان بحسب أجزاء الزّمان إلّا أن كلّ فرد منه ـ أعني فعله في كلّ جزء من الزّمان ـ له أفراد شتى بحسب سائر الخصوصيّات من الأمكنة والألبسة ونحوها وهي خارجة عن متعلق الوجوب لما عرفت ، فلا محيص من لزوم التّخيير عقلا بين أفراده المتدرجة ، نعم ربّما يجتمع في بعضها عنوان آخر يقتضي استحبابه كفعل الظّهر والمغرب والصّبح في أوّل الوقت والعصر بعد مصير الظّل قدمين أو أربعة أقدام مثلا والعشاء بعد ذهاب الشّفق الحمرة فيكون ذلك الفرد أفضل الأفراد حيث أنّه يكون مصداقا لعنوانين

٢٨٠