غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

وعلامة عليه فيكون اللّفظ والمعنى من قبيل العلامة وذي العلامة ونظير القرينة وذي القرينة.

وثانيهما : أن يكون عبارة عن تحقيق المعنى وإيجاده عند المخاطب والقائه إليه باللّفظ حيث أنه عنوان ووجه له ومتّحد معه نحو اتحاد ، بل هو هو بوجه كأنه وجود لفظي للمعنى ولذا تسري إليه أحكامه وآثاره من الحسن والقبح كما ، أن المعاني المخطرة بالبال متحدة مع واقعياتها نحو اتّحاد ، كذلك الالفاظ متّحدة مع المعاني نحو اتحاد ، فالالفاظ إيجاد للمعاني بهذا اللباس والمستعمل حين التكلّم والاستعمال لا يريد ولا يلاحظ مستقلا إلّا المعنى بحياله بحيث لا يلتفت إلى اللّفظ إلّا تبعا من حيث أنه عنوانه ووجهه وحاك عنه وفان فيه فناء الوجه في ذي الوجه والعنوان في المعنون ، كما أن من أراد أن يشاهد وجهه في المرآة إذا نظر فيها لا يرى إلّا وجهه بحيث لا يلتفت إلى المرآة إلّا تبعا ولو أراد أن يلاحظها بحيالها احتاج إلى لحاظ آخر وإرادة أخرى ، كذلك المستعمل حين الاستعمال لا ينظر ولا يلاحظ مستقلا إلّا المعنى بحيث لا يلتفت إلى اللّفظ إلّا تبعا.

ولا فرق في ما ذكرناه بين كون المعنى مستقلا في نفسه كالمعنى الاسمي أو غير مستقل في نفسه كالمعنى الحرفي ، فإن الغرض في المقام إثبات استقلاليّة المعنى في مقابل استقلالية اللّفظ بحسب اللّحاظ والارادة وإن إرادة اللّفظ تبع لإرادة المعنى ، فلا ينافي عدم استقلاليّة المعنى في نفسه لما هو الغرض في المقام.

إذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن حقيقة الاستعمال إن كانت على الوجه الاوّل أمكن استعمال اللّفظ في الأكثر على سبيل الاستقلال في الارادة ، لأنه يمكن عقلا نصب علامة واحدة لإرادة امور كثيرة يكون كلّ واحد منها مستقلا في الارادة وإن

١٠١

كانت على الوجه الثّاني فلا يعقل استعمال اللّفظ في الأكثر من معنى لإن لحاظ اللّفظ وجها لمعنى فانيا فيه حسب الغرض فيما إذا لم يستعمل إلّا فيه ينافي لحاظه وجها لغيره وفانيا فيه ، كذلك فإن لحاظه كذلك ينافي لحاظه بنفسه ، فكيف لحاظه وجها لغيره. فاجتماعهما لا يعقل إلّا بتكرر اللّفظ ووجوده مرّة أخرى بعد انعدامه ، فحكم المسألة يبقى على كون معنى الاستعمال وحقيقته أي شيء من الوجهين.

ومن الواضح أنه لا مرجع في تعيين ذلك سوى الوجدان ، فلا بدّ لكلّ شخص من أن يلاحظ نفسه حين المتكلّم والاستعمال أنه أي شيء يصنع؟ وما ذا يصدر منه من الوجهين؟ إذ لا مرجع آخر في البين. ونحن إذا راجعنا إلى وجداننا وتصورنا حالنا في مقام التّكلّم نجد أن ما يصدر منا هو الوجه الاوّل ، وإذا كان الأمر كذلك فالحق عدم جواز الاستعمال في الأكثر لما عرفت.

وإذا كان الامر على الوجه الثّاني فلا وجه لعدم جوازه ، غاية الأمر أن الاستعمال في الأكثر عليه حقيقة أو مجاز ، أو حقيقة ومجاز بالاعتبارين إن كان المعنيان أو المعاني من المعاني الحقيقية أو المجازية أو المختلفة ، فإن حديث اعتبار قيد الوحدة في وضع اللّفظ أو في المعنى الموضوع له الذي صار منشأ لتوهّم عدم جواز استعماله في الأكثر أصلا أو على وجه الحقيقة في المفرد مما لا أصل له فاسد جدا ، وكذلك كون الوضع في حال وحدة المعنى وتوقيفيته لا يقتضي عدم جواز استعماله في الأكثر بعد ما لم تكن الوحدة قيدا للموضوع له ولا للوضع ، بل وإن كان قيدا للوضع أيضا بأن جعل الواضع وحدة المعنى شرطا لجواز استعمال اللّفظ فيه ، كما ذكرنا نظير ذلك في كيفية وضع الحروف ، فإن هذا النحو من الاستعمال وإن كان على خلاف قانون شرطه الواضع وألزم عليه في مقام الاستعمال ، إلّا أنه لو خالفه المستعمل بأن

١٠٢

استعمل اللّفظ في الأكثر لم يكن من قبيل استعمال اللّفظ في غير ما وضع له كي يكون مجازا اصطلاحيا ، وجواز استعمال اللّفظ فى غير ما وضع له أو على خلاف قانون الوضع دار مدار وجود الملاك الذي عرفته آنفا ، وهو وجود المناسبة بين المعنيين مع وجوده يجوز الاستعمال وإن كان ممنوعا عنه من قبل الواضع كما في المقام حسب الفرض ، ومع عدمه لا يجوز ، وإن كان مرخصا فيه من قبله يمكن الانفكاك من الطرفين.

نعم : لو قيل أن هذا النّحو من الاستعمال على خلاف طريقة المستعملين أيضا أمكن الحكم بعدم جوازه من هذه الجهة ، ولو تنزّلنا عن ذلك فلا وجه للتّفصيل بالجواز على نحو المجاز في المفرد وعلى نحو الحقيقة في التّثنية والجمع كما صار إليه في المعالم مستندا في كونه على نحو المجاز في المفرد إلى كونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة ، فإذا استعمل في الأكثر لزم الغاء قيد الوحدة ، فيكون استعماله فيه من قبيل استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء وهو جائز مطلقا غير مشترط بشرط كما في عكسه ، وفي كونه على نحو الحقيقة في التّثنية والجمع إلى كونهما بمنزلة تكرار المفرد بالعطف وعند تكراره يجوز أن يراد من كلّ لفظ معنا على حده. وذلك لأن لفظ المفرد إن فرض كونه موضوعا للمعنى بقيد الوحدة وبشرطها فكيف يجوز استعماله فيه مع الغير وبدونها بعلاقة الكلّ والجزء؟ لأن المعنيين حينئذ متباينان مباينة الشّيء بشرط لا والشّيء بشرط شيء ، فليس هذا النّحو من الاستعمال من قبيل استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، ولو جاز لكان المصحح له علاقة أخرى غير علاقة الكلّ والجزء كما لا يخفى ، ولأن دلالة التّثنية والجمع على التّعدد إنّما تكون لأجل وضع هيئتهما لافادة المتعدد ، فلا يكون من قبيل استعمال اللّفظ في أكثر

١٠٣

من معنى ، بل من قبيل استعماله في معناه ، ولا فرق في هذا بين أن نقول بأنهما موضوعتان للإفادة المتعددة من جنس واحد ، أعني فردين في التّثنية وأفراد في الجمع من حقيقة واحدة كما هو الأقوى ، لظهورهما في ذلك ، فيعتبر في المتعدد المراد بهما الاشتراك أو الاتّحاد في الحقيقة ، غاية الأمر أنّه يلزم على هذا العناية والتّأويل بإرادة المسمى باللّفظ في تثنيته الأعلام وجمعها ، أو قلنا بأنهما موضوعتان لافادة المتعدد مطلقا وإنه يكفي فيه الاشتراك أو الاتّحاد في الإسم ، لوضوح أن هذا النّحو من الاستعمال ليس من قبيل الاستعمال في أكثر من معنى ، نعم لو أريد من التّثنية كالعينين أربعة من معانيه المختلفة أو أربعة أفراد من العين الجارية أو الباكية أو فردان من الاولى وفردان من الثّانية أو فردان من إحداهم ، او بعينان أخرى كان هذا النّحو من الاستعمال في التّثنية من قبيل استعمال المفرد في أكثر من معنى ، ويجري فيه بعينه ما يقال في المفرد ، لإمكان أن يقال أن التّثنية موضوعة لمعناه وهو الاثنان بقيد الوحدة ، وبعبارة أخرى بشرط عدم الزّيادة ، فإذا أريد بها أزيد من الاثنين لزم الغاء قيد الوحدة ، إلى آخر ما يقال في المفرد. نعم هذا النّقض لا يجري في لفظ الجمع كما هو واضح.

وهم ودفع : ربّما يتوهّم أن الأخبار الدّالة على أن للقرآن بطونا سبعة أو سبعين تدلّ على وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنى ، فيمكن أن يستدل بها على وقوع ذلك فضلا عن جوازه ، وليس كما توهّم ، لعدم دلالة تلك الأخبار على أن إرادة البطون كانت على الوجه الذي قلنا باستحالته من الاستعمال في الأكثر ، ولعلها كانت على الوجه الذي قلنا بإمكانه ، ويحتمل أن تكون إرادتها من قبيل استعمال اللّفظ في المجموع ، ويحتمل أن تكون إرادتها على سبيل الكفاية بأن يكون المراد

١٠٤

بها لوازم المعنى المستعمل فيه وإن قصرت أفهامنا عن إدراكها ، واختص العلم بها بأهله من الرّاسخين في العلم ، ويحتمل أن يكون المراد بها أفراد المعنى المستعمل فيه مما يبلغ إلى سبعة أو سبعين وإن كان العلم بها أيضا مختصا بأهله ، مثلا ورد في القرآن لفظ الميزان يمكن أن لا يكون المستعمل فيه خصوص ما هو الظّاهر منه عندنا ، أعني ما له كفتان أو ما هو أعم منه وممّا يسمى ب (الفارسية قپان) ، بل معنى عام ويراد به سبعة أو سبعون من أفراده ، فيشمل مثل ولاية أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أبنائه الطّاهرين ، فإنّها ميزان بقبول أعمال العاملين ، ومثل ميزان الحسنات والسّيئات يوم الدّين ، وهكذا الى سبعة أو سبعين وإن كنّا عن إدراكها قاصرين.

* * *

١٠٥

الأمر الثّالث عشر

المشتق حقيقة فيما تلبس بالمبدإ

في الحال ومجاز فيما لم يتلبس به بعد

اتفقوا على أن إطلاق المشتق حقيقة فيما تلبس بالمبدإ في الحال ومجاز فيما لم يتلبس به بعد ، ولكنّه يتلبس به في الاستقبال واختلفوا في أن إطلاقه على ما تلبس به في الماضي وانقضى عنه في الحال هل هو حقيقة كالاوّل أو مجاز كالثّاني. وبعبارة أخرى اختلفوا في أن إطلاق المشتق هل هو حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال أو في الأعم منه وممّا انقضى منه المبدأ في الحال ، بعد اتفاقهم على أنّه مجاز فيما لم يتلبس به إلّا في الاستقبال على أقوال ، وقبل الخوض في تحقيق الحال في المجال ونقل الأقوال وأدلتها ينبغي رسم أمور.

الامر الأول : ليس المراد بالمشتق في محل النّزاع مطلق المشتقات أعني ما يعمّ الأفعال والمصادر المزيدة لخروجهما عن محل النّزاع لما سيأتي إن شاء الله ولا خصوص أسماء الفاعلين والصّفات المشبهة بالأفعال وما الحق بها كما عن بعض الأجلّة ، إذ لا موجب له سوى ما يأتي إنه غير صالح للتّخصيص به ، بل خصوص ما

١٠٦

يجري منها على الذّوات ويكون مفهومه منتزعا عنها بملاحظة اتصافها وتلبسها به بأي نحو من التّلبسات ومنطبقا عليها ومتّحدا معها نحو اتّحاد ،

وبالجملة : خصوص ما يحمل على الذّوات بالحمل الشّائع الصّناعي الذي ملاكه الاتّحاد في الوجود الخارجي بأي نحو من الاتّحاد فيه فيدخل في محل النّزاع أسماء الفاعلين والمفعولين والصّفات المشبهة بالأفعال وصيغ المبالغة وأسماء الأزمنة والأمكنة والآلات كما هو ظاهر بعض العناوين ومصرح به في كلام بعض المحققين ، فإن هذا الصّيغ وإن كانت مختلفة بحسب أنحاء التّلبسات من حيث الصّدور أو الوقوع أو الحلول أو الاتّحاد إلّا أن اختلافها لا يوجب تفاوتا بينها في دخول بعضها دون بعض في محل النّزاع لاشتراك الجميع في ملاك البحث والجهة الّتي هي المهمّ من الكلام في المقام ، كما أن اختلاف أنحاء التّلبسات بحسب تفاوت ما أريد وأخذ في (١) مبادي المشتقات من الفعليّة أو الصّناعة أو الاستعداد وإنشائيّة أو الملكة لا يوجب تفاوتا بينها لما سيأتي إنشاء الله ، فيجري النّزاع في الجميع ، ولا وجه لتوهّم اختصاصه بالبعض كاسم الفاعل وما بمعناه كما زعم إذ لا منشأ له سوى التّمثيل به في بعض كلماتهم وكون ما ذكروه لكلّ منهما من المعنى مما اتفق عليها الكلّ.

ومن الواضح عدم صلاحيّة شيء من الوجهين لتخصيص محل النّزاع باسم الفاعل وما بمعناه ، بل لا يبعد أن يقال أن المراد بالمشتق في المقام ما يعمّ بعض الجوامد ما كان مفهومه المشتق جاريا على الذّوات ومنتزعا عنها بملاحظة اتصافها به عرضا كان أو عرضيّا ، كالزّوج والزّوجيّة والحر والرّق ونحوها ممّا يدلّ على

__________________

(١) أقول الزّاعم صاحب الفصول (قدس) حيث قال أو يختص باسم الفاعل وما بمعناه كما يدل على تمثيلهم به واحتجاج بعضهم بإطلاق الى الفاعل عليه دون إطلاق بقيّة الأكابر على البواقي مع إمكان التّمسك به أيضا.

١٠٧

ذوات متصفة بأوصاف وعناوين من الأعراض والعرضيات تنطبق وتحمل عليها بالحمل الشّائع الصّناعي فيجري فيها الخلاف ، وإن أبيت إلّا عن اختصاص النّزاع المعروف بالمشتق كما هو قضية الجمود على ظاهر لفظه.

قلنا : سلّمنا ذلك إلّا أن هذا القسم من الجوامد داخل في محل النّزاع ملاكا ووقع النّزاع فيه أيضا كما يدلّ عليه كلام فخر المحققين في الايضاح والشّهيد الثّاني (قدس) في المسالك عن الأولى في باب الرّضاع في مسألة من كانت له زوجتان كبيرتان أرضعتا زوجته الصّغيرة ما هذا لفظه : «تحرم المرضعة الاولى والصّغيرة مع الدّخول باحدى الكبيرتين ، وأمّا المرضعة الآخرة ، ففي تحريمها خلاف ، والذي اختاره والدي المصنف (قدس) وابن إدريس ، تحريمها لأن هذه تصدق عليها أم زوجته لأنه لا يشترط في بقاء المشتق منه فكذا هنا» انتهى.

وعن الثّاني أيضا ابتناء المسألة على القولين في مسألة المشتق ، وعلى هذا فكلّ اسم يكون مفهومه أمرا منتزعا عن الذّات بملاحظة اتصافها به وتلبسها به بأي نحو من التّلبسات صدورا أو وقوعا أو حلولا أو نحو ذلك عرضا كان أو عرضيّا فهو ممّا وقع النّزاع فيه وإن كان من الجوامد الزوجيّة والحريّة والرّقية ونحوها ، وأمّا ما يكون مفهومه مأخوذا عن مرتبة الذّات أو الذّاتيات كالحجر والمدر والحيوان والبشر فلا يطلق حقيقة إلّا ما دامت مرتبة تلك الذّوات محفوظة وهي بذاتياتها باقية ، فإذا خرجت عن مراتبها كما لو انقلب الماء هواء أو الهواء ماء أو الخل خمرا أو بالعكس أو الانسان جمادا أو بالعكس وهكذا فلا يطلق عليها أساميها إلّا مجازا اتفاقا ، فلا تترتب عليها أحكامها إذا اطلقت مجرّدة عن القرينة كما هو واضح.

الامر الثّاني : قد تقدم إن ملاك البحث جار في جميع المشتقات وإن كانت مختلفة

١٠٨

بحسب أنحاء تلبسات الذّات بالمبدإ من حيث صدوره عنها أو حلوله فيها كاسم الفاعل وما بمعناه أو وقوعه عليها كاسم المفعول ، أو فيها كاسم الزّمان والمكان ، أو اتخاذها آلة لحصوله كاسم الآلة ، ولا وجه لإخراج بعضها عن حريم النّزاع كما زعم. إلّا أنّه ربّما يشكل بعدم إمكان جريانه في اسم الزّمان لإن الذّات فيه وهي الزّمان بنفسه ينقضي وينصرم ولا بقاء له بعد تلبسه بالمبدإ ، فكيف ينازع في أن إطلاق الوصف الجاري عليه هل هو حقيقة في خصوص ما تلبس بالمبدإ في الحال أو فيما يعم ما انقضى عنه؟ مثلا مقتل الحسين عليه‌السلام اسم ليوم عاشوراء عاشر محرم الذي وقع قتله عليه‌السلام فيه ، وبعد وقوعه فيه لا بقاء لذلك الزّمان كي يقال إن إطلاق المقتل عليه حقيقة أو مجاز.

ويمكن دفع الإشكال : بأنّه لا منافات بين كون الوضع للعام مع انحصاره في فرد كما في المقام ، لوضوح أن انحصار مفهوم العام في فرد لا يقتضي أن يكون هو الموضوع له دون العام ، كيف (١) وإلّا لما وقع الخلاف فيما وضع له لفظ الجلالة بين المفسرين في أنه كلّي منحصر بالفرد أو جزئي ، وكذا لفظ الواجب موضوع للمفهوم العام مع انحصاره فيه تبارك وتعالى ، فيمكن أن يلتزم أحد بأنّ باب اسم الزّمان موضوع للأعم إلّا أنّه لا يوجد له فردان ، بل فرد واحد وهو المتلبس بالمبدإ في الحال ، إذ بعد انقضاء حال التّلبس لا يبقى ما تلبس بالمبدإ أي ذلك الزّمان حتى يصحّ أن يقال : إن إطلاق المشتق عليه باعتبار حال تلبسه به في الماضي حقيقة أو مجاز ،

وبالجملة : إذا اقتضت القاعدة الوضع العام في اسم الزّمان فلا تنثلم القاعدة فيه

__________________

(١) أقول ويلزم أيضا عدم صحّة الوضع في الكلّي الذي لا وجود ولا فرد له أصلا كشريك الباري ، لمحرّره.

١٠٩

بواسطة انحصاره في أحد الفردين ، إلّا أنّه لا ثمرة للنّزاع بين القولين فيه كما لا يخفى على المتأمل.

الامر الثّالث : الأفعال والمصادر المزيدة خارجة عن محل النّزاع كما أشرنا إليه آنفا لاختصاص النّزاع في المقام بالمشتقات الّتي تكون من قبيل الأوصاف والعناوين المنطبقة على الذّوات الجارية عليها والمحمولة عليها بالحمل الشّائع الصّناعي ، ومن الواضح أن المصادر المزيدة فيها كالمجردة ليست كذلك ، فإن المصادر مطلقا مشتركة في الدّلالة على ما تتصف به الذّوات ويقوم بها لا ما يجري ويحمل عليها ، وكذلك الأفعال فإنّها إنّما تدلّ على قيام المبادي بالذّوات قيام صدور أو حلول في الأخبار منها معلوما كان أو مجهولا ، أو قيام طلب فعلها أو تركها من الذّوات في الإنشاء منها ، فهي على اختلافها لا تكون من قبيل الأوصاف والعناوين المنطبقة على الذّوات المنتزعة عنها ، وهل لها دلالة على اقتران معانيها بأحد الأزمنة الثّلاثة ، كما اشتهر في السنة النّحويين حتى أخذوا الدّلالة على أحدها في تعريفها ، أو لا دلالة لشيء منها حتى الاخباري منها على الزّمان أصلا كالجملة الاسميّة؟ التّحقيق أن الانشائي منها كالأمر والنّهي والاستفهام إن جعل أيضا بابا برأسه لا دلالة لها إلّا على طلب الفعل أو التّرك أو الفهم عن وقوع الفعل ولا وقوعه لا أن وقوع مضمونها مقيد بالحال أو الاستقبال ، غاية الأمر أن نفس الإنشاء بها في زمان الحال كما أن الأمر كذلك في كلّ جملة خبرية أيضا سواء كانت إخبارا عن الماضي أو الحال أو الاستقبال ، وأمّا الاخباري عنها كالمضارع والماضي فيمكن منع دلالتها أيضا على الزّمان إلّا بالاطلاق عند إسنادهما الى الزّمانيات لا مطلقا وإلّا لزم القول بالمجازية والتّجريد عن الدّلالة على الزّمان عند إسنادهما إلى نفس

١١٠

الزّمان ولو عناية كقولك أظلم اللّيل أو أضاء النّهار ، مضى الماضي وانقضى أو إلى المجردات كقولك : علم الله ، وهذا بعيدا جدا ، إذ لا نرى فرقا في معاني الأفعال بين إسنادها إلى الزّمانيات وبين إسنادها إلى نفس الزّمان أو المجردات ، هل ترى فرقا بين قولك : علم زيد ، أو علم الله ، في أن الاوّل يدلّ على الزّمان دون الثّاني. نعم فرق بين علمه تبارك وتعالى بالأشياء وبين علم غيره بها ، ولا نريد إنكار ذلك ، بل نريد إثبات عدم الفرق في كيفيّة إسناد العلم إليهما ، فلا بدّ من الالتزام بأن الدّلالة على الزمان خارج عن مدلولي الماضي والمضارع ، وإلّا لكان استعمالهما بما لا دلالة لهما فيه على الزّمان مجازا من باب استعمال اللّفظ الموضوع للكلّ في الجزء ، وهذا كما ترى ، نعم لو استند إلى الزّمانيات لم يبعد الالتزام بأن لهما حينئذ خصوصيّة في أصل المعنى توجب الدّلالة على الزّمان الماضي في الماضي وعلى الحال أو استقبال في المضارع ، ويؤيد (١) ذلك قولهم بأن المضارع مشترك بين الزّمانين إذ ليس فرضهم الاشتراك اللّفظي قطعا ، وإلّا لزم أن يكون استعماله في الأعم مجازا ، ولا يلتزمون به ، ولا الاشتراك المعنوي بأن تكون له دلالة على مفهوم زمان يعمّهما ، إذ لا دلالة له على ذلك أيضا قطعا ، بل الاشتراك المعنوي بوجه آخر ، فلا بدّ من أن يكون له خصوص معنى صحّ انطباقه على كلّ واحد من الزّمانين ، كما أن الجملة الاسميّة كزيد قائم لهما معنى صحّ انطباقه على الزّمانين ، وحيث تكلّمنا في معاني الأسماء والأفعال فلا بأس بالتّكلّم في معاني الحروف استطرادا ، فنقول :

قد تقدم مشروحا أنه لا فرق بين الإسم والحرف بحسب المعنى وإنه فيهما حال الوضع والاستعمال مجرد ومعرى من لحاظ الآلية والاستقلاليّة بمعنى أن الموضوع له

__________________

(١) وأقول لم أفهم وجه التّالي المذكور ولا وجه خصوص المعنى المدعى هل هي لأجل صيغتي الماضي والمضارع أو لمتعلقها والزّمانيات أو للهيئة التّركيبيّة ، للمحرّرة.

١١١

والمستعمل فيه فيهما ذات المعنى لا مع قيد لحاظه مستقلا في نفسه أو آلة لملاحظة حال الغير وغير مستقل في نفسه ، وإنّما الفرق بينهما في أن الواضع وضع الاسم لأن يستعمل ويراد به معناه بما هو هو حال كونه مستقلا في نفسه ، ووضع الحرف لأن يستعمل ويراد به معناه بما هو في الغير ومن أحواله وخصوصياته ، فالتفاوت بينهما في مقام الارادة والاستعمال لا في المستعمل فيه ، والموضوع له ، فإنهما مجردان عن اللحاظين ، وعلى هذا لو استعمل كلّ منهما في مقام الآخر بأن استعملت كلمة «من» مثلا في معنى الابتداء الاستقلالي الاسمي أو لفظه «الابتداء» في الابتداء الآلي ، أي ما لوحظ آلة بملاحظة المبتدأ والمبتدأ منه ، كالسّير والكوفة ومن أحوالهما وخصوصياتهما لم يكن من قبيل استعمال اللّفظ في غير ما وضع له مجازا ، لأن هذا النّحو من الاستعمال وإن كان على خلاف قانون شرطه الواضع والزم عليه حين الاستعمال إلّا أنه لا يوجب استعمال اللّفظ في غير ما وضع له حتّى يوجب المجازيّة ، فامتياز المعنى الحرفي عن المعنى الاسمي إنما هو باعتبار لحاظه آلة لملاحظة حال الغير ومن خصوصياته ، بخلاف المعنى الاسمي حيث أنه لا يكون كذلك.

وبالجملة : أغلب المباحث المتعلقة بمعاني الحروف قد تقدم وبقي منها ما ينبغي التّنبيه عليه ، والغرض في المقام الإشارة إليه وهو أن المعنى الحرفي على ما عرّفوه به لا يتصف بالكلّية والجزئيّة فإنهما من صفات المعنى إذا لوحظ وصار متصوّرا في نفسه ، والمعنى الحرفي إن لوحظ هكذا خرج عن كونه معنى حرفيّا ، وإن لوحظ في ضمن تصور الغير وبتبع تصوره كما هو المأخوذ في حقيقته لم يكن بمتصور في نفسه فلا يتصف بالكلّية والجزئيّة.

ويمكن دفع الاشكال : بما تقدم نظيره مرارا من أن تصوّر المعنى قد يكون

١١٢

بنفسه وحقيقته وقد يكون بوجهه ومرآته ، والمعنى الحرفي ما دام معنى حرفيّا وإن لم يكن متصورا بنفسه وحقيقته إلّا أنه يمكن تصوّره ، إجمالا والإشارة إليه بتصوّر المعنى الاسمي في مقامه فإنه وجه له ، مثلا إذا تصور معنى الابتداء الاسمي فقد تصوّر معنى الابتداء الحرفي إجمالا وتصحّ الاشارة إليه فيمكن اتصافه بالكلّية والجزئيّة أيضا بلحاظ ذلك المعنى الاسمي وبتبعه حيث أنّه متصور بنفسه ومتصف بالكلّيّة والجزئيّة فاتصاف المعنى الحرفي بهما بتبع المعنى الاسمي المتصور في مقامه.

أقول : والاولى أن يقال : أن المعنى الحرفي وإن لم يكن متصورا بنفسه وحقيقته إلّا أنه يتصور بتبع تصور غيره أعني متعلقاته ، وهي تتصف بالكلّية والجزئيّة لأنها معان اسميّة متصورة بأنفسها ، فيصحّ أن يتصف المعنى الحرفي بهما أيضا بتبع اتصافها بهما ، مثلا الابتداء الذي كان معنى كلمة «من» وإن لم يكن متصورا إلّا بتصوّر المبتدأ والمبتدأ منه كالسّير والكوفة مثلا ، إلّا أنّهما قد يلاحظان كلّيين كما اذا أمر المولى بالسّير من الكوفة مطلقا بحيث يشمل أنحاء السّير وأيّ نقطة من الكوفة السّير منها ، وقد يلاحظان جزئيين كما إذا أمر المولى بنحو خاص من السّير ونقطة خاصّة من الكوفة وكما إنهما يتصفان بالكلّية والجزئيّة ، كذلك يصح أن يتصف بها معنى الابتداء الحرفي بتبع اتصافهما بهما ، فبهذا النّحو يمكن الجمع والتّوفيق بين القول بعدم اتصاف المعنى الحرفي بالكلّية والجزئيّة وبين القول باتصافه بهما.

هذا والانصاف : أن منع اتصافه بهما بالاصالة لا وجه له ، ضرورة أنه متصور أيضا ولو بتبع تصور الغير ، فلم لا يجري فيه الكلّية والجزئيّة؟ نعم ، لو أريد بذلك أنّه لم يصطلح إطلاقهما إلّا على ما يتصور بنفسه لا بتبع غيره فلا مشاحة في الاصطلاح.

١١٣

الامر الرّابع : اختلاف المشتقات بحسب اختلاف مبادئها ومواردها حيث أن التّلبس بها قد يؤخذ على وجه الاستعداد والانشائيّة كالكتابة مثلا ، أو على وجه الحال والفعليّة كالضّرب والقتل أو على وجه الملكة كالعلم والعدالة ، أو على وجه الحرفة والصّناعة كالخياطة والصّياغة لا يوجب اختلاف أوضاعها بحسب الهيئات لاشتراك الجميع في الجهة المبحوث عنها في المقام فكلّها داخلة في محلّ الكلام ، غاية الأمر أن انقضاء التّلبس بالمبدإ في كلّ مورد بحسبه ، كما أن فعليّة التّلبس به أيضا في كلّ مورد بحسبه ، إن اخذ على وجه الانشائيّة أو الفعليّة ، فانقضاؤه بزوال القوة أو الفعليّة ، وإن أخذ على وجه الملكة فانقضاؤه بزوال الملكة ، وإن أخذ على وجه الصّنعة فانقضاؤه بالاعراض عنه مدّة لا بترك الاشتغال به فعلا ، مثلا الخياط يطلق على من جعل الخياطة صنعة له وإن لم يشتغل به فعلا ، وكذا البقال يطلق حقيقة وإن سد باب دكانه أحيانا كاللّيل ، بل ولو يوما أو يومين ما لم يعرض عنه ، فيجري في كلّ واحد منها النّزاع في أنه بعد انقضائه المبدأ بأي وجه أخذ قوّة أو فعلا أو ملكة أو صنعة هل إطلاق المشتق حينئذ على الذّات حقيقة أو مجاز كلّ على مذهبه.

وبالجملة : أنحاء التّلبسات بحسب المبادي والمواد كاختلافها صدورا أو حلولا أو وقوعا أو نحو ذلك لا يوجب تفاوتا بين الأقسام وخروج بعضها عن محلّ الكلام ، فبعض التّفاصيل في المسألة النّاشئ من ملاحظة اختلافها بحسب أنحاء التّلبسات فاسد ، وسيأتي الاشارة إليه وإلى فساده.

الامر الخامس : ليس المراد بالحال في محلّ الكلام ما يقابل الماضي والاستقبال ، أعني الحال الحاضر وزمان النّطق بل حال التّلبس مطلقا وإن كان في الماضي أو

١١٤

الاستقبال ، ضرورة أن مثل زيد ضارب أمس حقيقة إذا كان في الأمس ضاربا واريد إسناد الضّرب إليه فيه لا إسناد الضّرب إليه في حال النّطق فبملاحظة اتصافه به في الأمس بأن يكون أمس قرينة على تبيان زمان التّلبس ، وكذلك زيد ضارب غدا حقيقة إذا كان في الغد ضاربا واريد إسناد الضّرب إليه وجريه على في الغد لا إسناده إليه في الحال بملاحظة اتصافه به في الغد بأن يكون قرينة أيضا على تبيان زمان التّلبس. نعم لو أريد بهما إسناد الضّرب الى زيد في الحال ويكون الغد والأمس قرينتين على بيان زمان التّلبس كان الاطلاق الثّاني مجازا اتفاقا والإطلاق الاوّل محلا للخلاف ، وكذا لو أريد في المثال الاوّل إسناد الضّرب إلى زيد في الأمس ولكنّه لم يكن متلبسا به إلّا قبله بأن يكون إسناده إليه فيه بملاحظة اتصافه به قبله كان أيضا محلا للخلاف ، فما أدعي من الاتفاق على أن مثل زيد ضارب غدا مجاز لو سلّم لا بدّ من تأويله بأن يحمل على أن مرادهم الحكم بالمجازية فيما إذا أريد إسناد الضّرب إلى زيد في الحال كما هو الظّاهر منه عند الإطلاق ويكون الغد قرينة على بيان زمان التّلبس به الذي صار منشأ لصحّة إطلاق المشتق عليه لا زمان الإسناد والنّسبة ، وإلّا فلا وجه للحكم بالمجازيّة.

وبالجملة : لا ينبغي الشّك والشّبهة في أن اطلاق المشتق حقيقة فيما إذا جرى على الذّات واسند إليها وجعل وصفا لها بلحاظ حال تلبسها به مطلقا سواء كان في الماضي أو الحال أو الاستقبال ، وإنّما الخلاف في أن إطلاقه عليه كذلك حقيقة في خصوص هذا المورد أو فيما يعمّ ما إذا جرى عليها واسند إليها بعد ما انقضى عنها التّلبس لا بلحاظ حال التّلبس بل بعده وإن كان قبل زمان النّطق.

الامر السّادس : هل في المسألة أصل لفظي أو عملي يعول عليه مطلقا عند

١١٥

الشّك أم لا ، الظّاهر هو الثّاني وذلك لأن الأصل اللّفظي الذي يتصور في المقام هو أصالة عدم ملاحظة الخصوصيّة وهو غير صالحة لذلك فإنها معارضته بأصالة عدم ملاحظة العموم ، ضرورة أن لحاظ الخصوصيّة ليس أمرا زائدا على لحاظ العموم كي ينفى بالأصل عند الشّك في أن الحادث أيّهما ، بل مباين للحاظ العموم فالأصل في كلّ من الطّرفين معارض بالمثل في الآخر ، مضافا إلى أنه لا دليل على اعتبارها في إثبات الموضوع له لما تقدم في نظائرها كاصالة عدم القرينة من أن المدرك لاعتبار هذه الاصول ليس إلّا بناء العقلاء على اعتبارها والعمل على طبق مقتضياتها ، وبنائهم على إثبات مثل الوضع بها غير معلوم بل معلوم العدم.

وأمّا ما يقال : في مثل المقام من موارد دوران الأمر بين الاشتراك المعنوي وبين الحقيقة والمجاز من ترجيح الاشتراك لأجل غلبته ولأنّه يوجب كون استعمال اللّفظ في كلا الفردين حقيقة من باب إطلاق الكلّي وانطباقه على الفرد ، بخلاف الثاني فإنّه يوجب المجازيّة في أحد المعنيين ، وأصالة الحقيقة محكمة على المجاز لأنّه على خلاف الأصل.

ففيه : منع الغلبة أولا ، وعدم دليل على التّرجيح بها ثانيا ، كأصالة الحقيقة ، إذ لا مدرك لاعتبارهما سوى بناء العقلاء وهو في مثل المقام غير معلوم. نعم أصالة الحقيقة معتبرة عندهم فيما إذا ثبت للفظ معنيان حقيقي ومجازي واستعمل ، ولم يعلم أن المتكلّم هل اراد الحقيقي أو المجازي حيث أن بنائهم حينئذ على الحمل على المعنى الحقيقي ، وأمّا في مثل المقام فلا ، ولا مدرك آخر لاعتبارها بها في المقام.

وأمّا : الاصل العملي فلا شبهة في أنه يختلف بحسب الموارد براءة واحتياطا وكذا استصحابا فإنه قد يرد مثلا خطاب أكرم العلماء حال التّلبس بالعلم ثمّ يحصل

١١٦

الانقضاء عنه ، وقد يرد بعد الانقضاء ، وقضيته في الاوّل بناء على عدم المناقشة فيه من أجل اختلاف الموضوع بناء وجوب من كان عالما حين صدور الخطاب ثمّ انقضى عنه لاجتماع اركان الاستصحاب فيه ، وقضيته في الثّاني عدم وجوب إكرام من حدث العلم فيه واتصف به بعد صدور الخطاب ، فإنه قبله لم يكن بواجب الاكرام فكذا بعده ، فلا أصل في المسألة يعول عليه مطلقا أصلا كما لا يخفى.

إذا عرفت ما قدّمناه لك من الامور فاعلم أن المسألة كانت ذات قولين بين المتقدمين من الخاصّة والعامة وسائر الأقوال حدثت بتوهّم اختلاف المشتقات بحسب اختلاف مباديها في المعنى أو بحسب ما يعتريها من الأحوال كالاتصاف بضد ما كان متلبسا به في السّابق ، وقد عرفت أن اختلاف أنحاء التّلبسات صدورا أو حلولا أو وقوعا عليه أو فيه أو اتّخاذ المبادي قوّة أو فعلا أو ملكة أو صنعة لا يوجب تفاوتا بين المشتقات بحسب أوضاع الهيئات لاشتراك الكلّ في جهة البحث وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله في تضاعف الاستدلال لما هو المختار من بين الأقوال ، والمشهور منها بين مقدمي الاصحاب ومتأخريهم كغيرهم قولان ، قول بوضعها لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال وقول بوضعها للأعم منه وممّا تلبس به في الماضي وانقضى عنه في الاستقبال ، وأمّا إطلاقها على المتلبس بالمبدإ في الاستقبال فمجاز اتفاقا والأقوى وفاقا لمتأخري الأصحاب والاشاعرة وخلافا لمتقدميهم والمعتزلة هو الاوّل.

لنا : تبادر خصوص المتلبس بالمبدإ في الحال وصحّة الحمل عليه وصحّة السّلب مطلقا عن ما انقضى عنه المبدأ كالمتلبس به في الاستقبال من غير فرق بين أنحاء التّلبسات المتقدمة النّاشئة أو مبادي المشتقات من اختلاف الصّيغ أو مبادي

١١٧

المشتقات ، غاية الأمر أن نحو التّلبس وتعيينه ممّا هو المرغوب منه في كلّ مورد بحسبه وانقضائه كذلك ، وذلك لأن من الواضح أن مثل القائم والقاعد والجاري والرّاكد والنّائم والعالم ونحوها وكذا ما يراد منها من اي لغة كانت للتّصديق على من لم يكن متلبسا بالمبادئ في حال الإسناد والجري والانتساب وإن كان متلبسا بها قبل ويصح سلبها عنه ، كيف لا وقد اتصف في الحال بها يضادها ، وإسناده إليه وجريه وإطلاقه عليه حقيقة اتفاقا. فلو صح أسنادها إليه وجريها عليه واتصافه بها أيضا في الحال لا بلحاظ حال التّلبس بها للزم أن لا يكون تضاديين الوصفين كالقائم والقاعد والجاري والرّاكد وهكذا ، ويصحّ صدقهما بنحو الحقيقة على شخص واحد ، مع أنهما بحسب ما لهما من المعنيين المرتكزين عند الاذهان متضادان كمبدأيهما ، والمتضادين الوصفين بحسب معنييهما المرتكزين في أذهان النّاس كاشف عن صحّة السّلب عندهم عن ما انقضى عنه المبدأ ، فليس وضع المشتقات إلّا لخصوص المتلبس بالمبدإ في الحال ، يقرر هذا التّضاد بين الوصفين وجها على حده في متقابل التّبادر وصحّة السّلب.

ويقال : لا ريب في مضادة الصّفات المقابلة المأخوذة من المبادي المتضادة على ما ارتكز لها من المعاني ، فلو كان المشتق حقيقة في الأعم لما كان بينها مضادة ، بل كان بينها التّخالف كلّ واحد منها مع ما يقابله فيما انقضى عن المبدأ وتلبس بمبدإ آخر. ولا يتوجه عليه ما أورده بعض الأجلّة من المعاصرين من عدم التّضاد بين الوضعين على القول بعدم الاشتراط وثبوت الوضع للأعم ، وذلك لأنا نسلم أن قضية القول بعدم الاشتراط هو الالتزام بعدم التضاد بين الوضعين ، إلّا إنّا نقول : لما كان التّضاد بينهما أمرا واقعا في إنظار النّاس كمبدئهما فيكشف عن بطلان هذا القول

١١٨

لأنه تال فاسد يرد عليه ، فأردنا إبطاله وإلزام قائله بايراد هذا التّالي الفاسد عليه.

لا يقال : لعلّ التّبادر وانسباق خصوص المتلبس بالمبدإ من المشتقات كان إطلاقيا لا وضعيا فلا يكشف عن كونها موضعة لخصوصه.

لأنه يقال : لا يكاد يكون الانسباق لأجل الإطلاق دون الوضع والاشتراط لكثرة استعمالها في موارد الانقضاء ، ومن الواضح إنها لو كانت موضوعة للأعم لصح استعمالها في تلك الموارد بلحاظ كلّ من حالي التّلبس والانقضاء على حد سواء ، ضرورة أنه على هذا القول استعمالها فيها بلحاظ كلّ من الحالين على وجه الحقيقة من باب إطلاق ، الكلّي وانطباقه على الجزئي ، فلا وجه حينئذ لتبادر خصوص حال التّلبس من الاطلاق ، بخلاف ما لو كانت موضوعة له واقعا إذ لا وجه له سوى وضعها له ، إذ على هذا القول استعمالها في تلك المواد بلحاظ حال الانقضاء مجاز ، وحيث لا يتطرق في مثل المقام احتمال التّبادر الاطلاقي إذ لا وجه ، له فلا محالة يكون وضعيا وهو المطلوب.

وممّا ذكرناه انقدح : أنّه لا وجه لدعوى المتبادر الإطلاقي في المقام وإن قلنا بأن الاستعمال في موارد الانقضاء قليل ، لعدم الفرق بين كثرتها وقلتها في الوجه الذي ذكرناه ، لعدم احتمال كون التّبادر إطلاقيّا كما لا يخفى على من تأمل وما ربما يتوهّم كونه مبعدا للقول المختار ، وهو أنّه على ما ذكرت من كثرة استعمال المشتق في موارد الانقضاء يلزم أن يكون في الأغلب مجازا ، وهو بعيد ربّما لا تلائمه حكمة الوضع ، فإنّها تقتضي الوضع لما كان التّعبير عنه أكثر ، فاسد جدا.

أمّا أوّلا : فلأنه قابل للمنع لأنه يحتاج إلى سبر جميع الموارد وملاحظة أن موارد الانقضاء فيها أكثر من غيرها وأنى لا مثالنا طريق إلى هذا ، بل ممنوع لأنه ناشئ

١١٩

من توهم كون إطلاق مثل الضروب والمقتول بعد صدور الضرب والقتل على من تلبس بهما من قبيل إطلاق المشتق على من انقضى عنه المبدأ ومن موارد الانقضاء ، وسيأتي إنشاء الله بيان أن أمثال هذه المبادي باقية إلى الأبد ولا انقضاء لها وإن إطلاق المضروب على من وقع عليه الضرب والمقتول على من وقع عليه القتل وهكذا حقيقة دائما لا مجاز فيها.

وأمّا ثانيا : فلأن استعمال المشتق في موارد الانقضاء يمكن أن يكون بلحاظ حال التّلبس بأن يراد من مثل : جاء الضّارب أو الشّارب ونحوهما ممن انقضى عنه المبدأ ، جاء الذي كان ضاربا أو شاربا قبل مجيئه حال التّلبس بالمبدإ لا بلحاظ حال الانقضاء ، أعني حين المجيء ، واستعماله فيها مع الوجه الأوّل حقيقة ، إذ قد عرفت أن المراد بالحال في المحال حال التّلبس مطلقا وإن كان في الماضي أو الاستقبال بخلاف استعماله فيها على الوجه الثّاني ، فإنه مجاز على القول المختار ولا دليل على أنه كان على الوجه الثّاني كي يكون مجازا لعله على الوجه الأوّل ، بل ندعي تبادره وهو حقيقة كما عرفت.

سلّمنا : كونه على الوجه الثّاني ، إلّا أنه لا يقتضي إلّا جواز الاستعمال في الأعم ما انقضى ، والاستعمال لا يدلّ على الوضع لأنه أعمّ من المجاز ، ومجرد الاستبعاد وغير قادح فيما هو المدعى والمراد بعد مساعدة الأدلة ، ومع عدمها فالمرجع الاصول العمليّة لا ما ذكر.

هذا وقد أورد على الاستدلال بصحة السّلب بما حاصله : أنّه إن أريد بصحة السلب صحته طلقا فهو وإن كان يفيد إلّا أنه غير سديد ، إذ المفروض حصول التّلبس بالمبدإ في الماضي فكيف يصح السّلب مطلقا حتّى بلحاظه؟ وإن أريد

١٢٠