غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

تأخره عنه فهل تجري أصالة عدم النّقل مطلقا أو لا؟ تجري كذلك ، أو يفصل بين ما إذا علم تاريخ الاستعمال فتجري أصالة عدم النقل حينئذ وبين ما لو جهل تاريخهما فلا تجري؟ وجوه أقواها الثّاني لأن

أصالة عدم النّقل معارضة بأصالة عدم الاستعمال ، فإن لوحظ اعتبار أصالة عدم القرينة من في باب التّعبد والاخبار نقول : أن المستصحب في كلا الاصلين ممّا لا أثر له شرعا ، فلا مجرى لهما.

ومع الغض عن ذلك نقول : أن المقتضى لجريان الاصل في مثل المقام من مجهولي التاريخ اللذين علم إجمالا بتقدم أحدهما على الآخر غير موجود ، لما حققناه في باب الاستصحاب من لزوم إحراز اتصال زمان الشّك بزمان اليقين في زمان الاستصحاب ، وهذا في المقام مفقود.

ومع الفض عنه أيضا نقول : إن جريان الأصل في كلّ منهما مانع عن جريانه في الطّرف الآخر مع أن كلّ منهما من الاصول المثبتة كما لا يخفى. وإن لوحظ اعتبار أصالة عدم القرينة من باب بناء العقلاء فنقول : إن القدر المعلوم من بنائهم هو اعتبارها عند الشّك في اصل النّقل لا فيما اذا علم بثبوته وثبوت الاستعمال ولكن شكّ في أن أيّهما مقدم وأيّهما مؤخر ولم يثبت من بناء العقلاء تعبدا منهم على اعتبارها مطلقا.

وعبارة اخرى : على حمل اللّفظ على ما وضع له سابقا على النّقل مطلقا سواء شكّ في أصله أو في تاريخه بعد العلم بثبوته. وإن شئت قلت : إنه لم يثبت في باب الالفاظ مطلقا من بناء العقلاء إلّا حمل اللّفظ على المعنى الذي هو ظاهر فيه ، ولا ظهور للفظ بعد فرض استعماله وورود النّقل عليه لا في المنقول عنه ولا في المنقول اليه مع العلم إجمالا بتقدم أحدهما سواء جهل تاريخهما أو علم تاريخ أحدهما ولم يعلم فيه تعبد من العقلاء على أمر أصلا ، فيصير مجملا والمرجع فيه الاصول

٦١

العمليّة.

وممّا ذكرنا انقدح فساد الوجه الثاني وأنه لا وجه للتّفصيل بين الصّور لعدم جريان الأصل في مجهول التّاريخ من الاستعمال أو النّقل فما لو علم تاريخ أحدهما تفصيلا وتقدم أحدهما على الآخر إجمالا ، أمّا بناء على اعتباره من باب التّعبد والأخبار فلكونه من الاصول المثبتة مع عدم كون المستصحب ذا أثر شرعي ، وأمّا بناء على اعتباره من باب بناء العقلاء فلعدم معهودية بناء منهم حينئذ وإن شئت قل بعدم ظهور اللّفظ حينئذ في معنى كي يحمل عليه.

* * *

٦٢

الأمر العاشر

هل أن الفاظ العبادات

أسام للصّحيحة أو للاعمّ منها ومن الفاسدة

وقع النّزاع في أن الفاظ العبادات هل هي أسام للصّحيحة أو للاعمّ منها ومن الفاسدة على أقوال :

وقبل الخوض في تبيان أدلتها ينبغي رسم امور :

الامر الأول : لا إشكال في تصوير النّزاع على القول بثبوت الحقيقة الشّرعية ، وأمّا على القول بعدمها فيشكل تصويره لأن استعمال الالفاظ في غير معانيها اللغوية من المعاني الشّرعية مجاز على القول بالعدم سواء اريد بها خصوص الصّحيحة أو الاعم ، ولا مجال لانكار صحة استعمالها ووقوعه كذلك في الاعم كالصّحيحة فكيف يتصور النّزاع في أنها أسام للصّحيحة أو الاعم؟ وكذلك يشكل تصويره على القول الذي نسب الى الباقلاني من أن الالفاظ باقية على معانيها اللغوية والشّارع إنّما تصرف واعتبر فيها في مقام التكلّف بعض الامور ، فهي في استعمالات الشّارع أيضا مستعملة في معانيها اللغوية حقيقة ، لأن تصرفه فيها لا

٦٣

يوجب اختلافها في الحقيقة اذ على هذا القول أيضا استعمال الالفاظ في معانيها الشّرعية حقيقة مطلقا سواء اريد بها الصّحيحة أو الاعم فكيف ينازع في أنّها أسام للصّحيحة أو الاعم؟

وغاية ما يمكن تصويره على القول بالعدم هو أن النّزاع وقع في أن الشّارع هل جعل الاصل في محاوراته واستعمالاته الالفاظ مجردة عن القرينة حملها على خصوص الصّحيحة أو الاعم؟ بمعنى أنه نصب فيها قرينة عامة تكون صارفة عن معانيها اللغوية ، ولكنه هل جعلها معينة أيضا لارادة خصوص الصّحيحة فلا تحمل على غيرها إلّا بقرينة أخرى ، أو لم يجعلها كذلك فلا تكون القرينة العامة الا معينة لارادة الاعم ، فلا موجب لحملها على خصوص الصحيحة إلّا مع القرينة.

الصّحيحي يدعي الاوّل والأعمّي يدعي الثّاني فهم متفقون في أن الشّارع كأنه قال : كلّما تكلّمت بالفاظ العبادات لم أرد بها معانيها اللغوية كالدّعاء من لفظ الصّلاة مثلا ، بل اردت بها معانيها الّتي اخترعتها كالاركان المخصوصة والماهيّة المعهودة من الصّلاة. إلّا أنه وقع الخلاف بينهم في أنه هل عين إرادة خصوص الصّحة كما يدعيه الصّحيحي ، أو الاعم كما يدعيه الأعمّي؟ فقضية الاصل على النّوع الاوّل حمل الالفاظ الواردة في كلمات الشّارع أو المتشرعة ومنهم الشّارع على الصّحيحة إلّا مع القرينة. بخلاف الوجه الثاني ، وبمثل هذا الوجه يمكن تصوير النّزاع على مذهب الباقلاني أيضا ، بأن يقال : إن النّزاع وقع في ان الشّارع لما تصرف في المعاني اللغوية ونصب قرينة عامة لإرادته بالالفاظ معانيها الشّرعية ، فهل جعل الاصل الأولي فيها حملها على خصوص الصّحيحة أي تام الأجزاء والشّرائط فلا ينتقل عنه إلّا بقرينة اخرى ، أو لم يحصل في ذلك أصلا؟

٦٤

الصّحيحي على هذا القول يدعي الاوّل ، والأعمّي يدعي الثّاني وحيث أن النّزاع على هذين الوجهين على مذهب الباقلاني والنافين للحقيقة الشّرعية مشترك مع النّزاع بين المثبتين لها في الاثر والثمرة العمليّة كما لا يخفى ، فيصح جعل النّزاع في المسألة غير مختص بالقول بثبوت الحقيقة الشّرعية وإن كان ظاهر عنوان المسألة أو صريحه مختصا به ، إلّا أن الوجهان المذكوران لتصوير النّزاع على مذهب الباقلاني وسائر النافين وإن أمكنا عقلا إلّا أنّهما بعيدان جدا ، بل يمكن دعوى القطع بعدم صدورهما من الشّارع عادة. فالنّزاع في المسألة منحصر بين القائلين بثبوت الحقيقة الشّرعية.

الامر الثّاني : الظّاهر أن الصحة عند الكلّ بمعنى واحد وهو التّماميّة ، ويعبر عنه بالفارسية ب «درست» وليس الفرض من تعريفها باسقاط الاعادة والقضاء عنه كما عن الفقهاء أو بموافقة الشّريعة كما عن المتكلّمين تحديدها وتفسير معناها بحقيقتها كي يكون أمرا مختلفا فيه عنهم ، بل الفرض رسمهما والاشارة الى معناها بذكر توازنها وآثارها ممّا هو المهمّ والمناسب لكل من الفرقتين. وحيث أن المناسب للفقهاء البحث عن حكم الاعادة والقضاء فلهذا عرفوها باسقاط الاعادة والقضاء والمناسب للمتكلّمين البحث عن اطاعة الشّارع ففسروها بموافقة الشّريعة. ومن الواضح أن كلا من الفريقين من آثار الصحة بمعنى التّمامية فلا اختلاف حقيقة بين التفسيرين في اصل معنى الصحة وحقيقتها. واختلاف الآثار فيما هو المهم بحسب الأنظار لا يكشف عن الاختلاف في حقيقة الصحة ، كما أن اختلافهما أيضا بحسب أفراد المكلّفين والحالات من الحضر والسفر والاختيار والاضطرار والعلم والجهل والذّكر والنّسيان ونحوها لا يكشف عن اختلاف حقيقتها لأن هذه الاختلافات

٦٥

من قبل من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات.

وممّا ذكرنا انقدح أن الصحة والفساد ليسا بأمرين مطلقين كي يكون كلّ من الصحيح والفاسد بالنّسبة الى جميع الاحوال وأفراد والمكلّفين شيئا واحدا ، بل أمران إضافيان يمكن أن يكون شيء واحد صحيحا في حالة دون اخرى أو في حقّ مكلّف دون آخر كما لا يخفى.

الامر الثّالث : لا بد على كلّ من القولين من الصحيحي والأعمّي من وجود جامع في البيّن يكون هو الموضوع له للّفظ الصّلاة مثلا بحيث ينطبق على جميع أفرادها أكملها بحسب الاجزاء والشّروط كصلاة المختار مثلا وأقلها كذلك كصلاة العرقي وما بينهما من المراتب الصّحيحة ، على مذهب الصّحيحي وعلى جميع أفرادها من الصّحيحة بجميع مراتبها والفاسدة كذلك على مذهب الأعمّي انطباق الكلّي الطّبيعي على أفراده ومصاديقه ، اذ قد عرفت أن الصّحة والفساد من الامور الإضافية لاختلاف مواردهما بحسب الأحوال وأفراد المكلّفين. ومن الواضح أن صدقهما على مواردهما ليس من باب صدق المشترك اللفظي على معانيه ، بل من باب صدق المشترك المعنوي على مصاديقه. فلا بدّ على كلّ من القولين من وجود جامع في البين يكون هو الموضوع للّفظ الصّلاة مثلا ، ولا بدّ من تصور هذا الجامع ومعرفته حين الوضع ولو إجمالا ، أعني بمعرفة خواصه وآثاره إذ معها يعرف في الجملة ويصح الاشارة إليه بوجه ، فإنّها وجهة له. ولا يلزم في مقام الوضع معرفة المعنى تفصيلا ، أعني بنفسه وحقيقته ، بل يكفي معرفته بوجه ، ولو بوجهه ، ولا اشكال في وجوده بين الافراد الصّحيحة وامكان الاشارة إليه ، فلا إشكال في إمكان تصوير الجامع بينها على القول بوضع الالفاظ للصحيح ، سواء قلنا بان ذلك

٦٦

الجامع هو الموضوع له أيضا من قبيل الوضع العام والموضوع له العام ، أو مصاديقه من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص ، وذلك لأن الافراد الصّحيحة جميعها مشتركة في بعض الآثار والثّمرات المترتبة عليها ككون «الصوم جنّة من النار» وكون «الصّلاة معراج المؤمن ، وعبور الدين ، وناهية عن الفحشاء» واجتماعها في أثر واحد كاشف عن اشتراكها في جامع لأجل يؤثر الكلّ في ذلك الأثر فيمكن معرفة الجامع إجمالا بمعرفة الأثر إن لم يكن طريق في معرفته تفصيلا وبحقيقته فان معرفة الأثر وجهة لمعرفة المؤثر ، ولا يعتبر في مقام الوضع ازيد من معرفة المعنى بوجه ، فيمكن تصوير الجامع بين الافراد الصّحيحة سواء كان هو الموضوع له أيضا أو مصاديقه ، ولا يكون ذلك الجامع أمرا مركبا وإلّا لزم عدم الاختلاف فيه بحسب أحوال المكلّفين وأفرادهم مع إنّك قد عرفت أن الصّحة والفساد من الامور الإضافية لا المطلقة ، فيمكن ان يكون عمل واحد صحيحا في المريض دون الصّحيح أو في حق النّاسي دون الذّاكر وهكذا ، بل يكون أمرا بسيطا نسبته الى جميع الافراد الصّحيحة كامل الأجزاء والشّرائط منهما وناقصهما بجميع المراتب نسبة الكلّي الطّبيعي الّتي مصاديقه بأن يكون كلّ فرد منها لوجد في الخارج عين ذلك المفهوم الجامع حقيقة. ولا يلزم على هذا ما قيل من أنه ينافي ذهاب المشهور القائلين بالوضع للصّحيح الى جواز التمسك بأصالة البراءة عند الشكّ في الأجزاء والشّرائط لعدم الاجمال في العبادات على هذا الفرض ، بل الاجمال والشكّ فيما يحصلها ويحققها في الخارج ، ومع كون الشّك فيهما كذلك لا مجرى للأصل فيهما بلا خلاف فيه بعد تسليم الصّغرى ، إذ لو كان عنوان المكلّف مفهوما بيّنا كالطّهارة مثلا ، ولكن شكّ في ما يحصله ويحققه في الخارج كما لو شكّ في أن الطّهارة هل

٦٧

تحصل بالغسل مرّة أو مرّتين؟ فالحكم حينئذ أصالة الاحتياط لا البراءة وجميع العبادات على القول بوضعها للصحيح وكونه أمرا بسيطا من هذا القبيل.

وجه عدم اللّزوم أن ذلك الامر الجامع ليس من قبيل المسبب وذي المقدّمة لهذه المركبات الخارجية المختلفة زيادة ونقيصة شطرا أو شرطا باختلاف الأحوال والمكلّفين كي لا يصح إجراء الاصل عند الشّك في اعتبار بعض الاجزاء أو الشّروط ، بل كما عرفت عين تلك المركبات ومتّحد معها ، لأن نسبته إليها نسبة الطّبيعي الى أفراده وجود الفرد في الخارج عين وجود الطبيعي فيه لا مقدّمة وسبب له ، فإذا شكّ في اعتبار بعض الأشياء أو الشّروط لم يكن من قبيل الشكّ في السّبب والمحصل لعنوان معلوم ومفهوم مبين تعلق التّكليف به ، بل كان من قبيل الشكّ في أصل مقدار المكلّف به أي أجزاء جزئيّة لا نفسه ، لأنه حسب الفرض بسيط فلا مانع من جريان الأصل حينئذ على القول بجريانه في الشك في الاجزاء والشّرائط أو في الاجزاء خاصة على الخلاف في المسألة.

هذا تمام الكلام في تصوير الجامع بين الأفراد الصّحيحة على القول بوضع الالفاظ لها ، وأمّا على القول بوضعها للاعم فتصوير الجامع بين أفرادها الصّحيحة بمراتبها المختلفة وبين أفرادها الفاسدة كذلك ففي غاية الاشكال ، إذ لا بدّ في ذلك لا أقل من معرفة وجود بعض الخواص والآثار بين جميع الافراد من الصّحيحة والفاسدة بجميع مراتبها نظير النهي عن الفحشاء مثلا بين خصوص الصحاح من أفراد الصّلاة ، إذ حينئذ يستكشف اشتراك الجميع في أمر جامع يكون هو المؤثر حقيقة وإن لم يعلم به تفصيلا ، فإن معرفة الأثر طريق ووجهة لمعرفة المؤثر إجمالا وهذا المقدار من المعرفة كاف في مقام الوضع فيصحّ أن يقال أن الواضع تصور

٦٨

المعنى العام هكذا وأشار إليه ببعض خواصّه وآثاره ووضع اللفظ بازائه ، إلّا أن الشأن فى إثبات هذا النحو من الأثر وانى لنا طريق إليه ، بل لا أثر للفاسد أصلا فتصوير الجامع بين الافراد على الأعمّي مشكل ، وما قيل في تصويره غير مجد في حل الاشكال.

منها : أن يكون عبارة عن مقدار خاص من الاجزاء للعبادة كالاركان للصّلاة والزائد عليه خارج عن مسمي اللّفظ وحقيقته فهو من أجزاء المأمور به لا الموضوع له. ولعل هذا القائل إنّما قصر الموضوع له في الاركان مع أنه قائل بالوضع للاعم لأجل أنها تجزي في بعض الاحيان كما لو أخل بما عداها من الأجزاء لأجل النّسيان.

وفيه : مضافا إلى أن الاجزاء لا يحقق المسمى ضرورة أنه إنما يدلّ على اسقاط التكليف عن ما عدا الاركان حال النّسيان ، واين هذا من الدّلالة على الوضع لخصوص الاركان كما هو المدعي ، وإلى عدم جريان هذا الكلام فيما لو كان المسمى أمرا بسيطا غير ذي أجزاء وأركان فإن محلّ النّزاع أعم ، والى انتقاضه طردا وعكسا في مثل الصّلاة فإنها قد تصدق مع فقد بعض الاركان في بعض الاحيان ، وقد لا تصدق مع الاخلال بسائر الاجزاء والشّرائط مع اشتمالها على الاركان عند الأعمّي أيضا إن غاية ما يتصور على هذا الفرض جعل الاركان مطلقا ولا بشرط هو الموضوع له ، ومن الواضح أن هذا لا يقتضي أزيد من إمكان اجتماعهما مع الزيادة من سائر الاجزاء والشّروط لعدم قدحها في وضعها لا يشرط لا أنها داخل في الموضوع له ، فالمركب فيها ومن الزّيادة مشتمل على الموضوع له لا أن تمامه هو الموضوع له ، وقضية هذا أنه لو استعمل اللّفظ فيه كذلك

٦٩

كان من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للجزء في الكلّ مجازا لا من قبيل اطلاق الكلّي على الجزئي حقيقة ، والظّاهر أن الأعمّي لا يلتزم بالمجازية حينئذ.

ومنها : أن يكون عبارة عن معظم الاجزاء الّتي بها قوام الماهيّة عرفا بحيث لا يصح سلب الاسم عنها ويدور صدقه عليها مدارها عرفا ، فإنّ صدق الاسم عليها وعدم صحة سلبه عنها عرفا كاشفان عن وجود المسمى وعدمهما عن عدمه

وفيه : مضافا الى ما أوردنا على سابقه أخيرا أن اللازم من هذا تبادل ما هو المعتبر من الاجزاء في المسمى بذهاب جزء منها وقيام آخر مقامه ، لأن الصّحة والفساد من الامور الاضافية ، فقد يكون جزء داخلا فيه بحسب بعض الاحوال أو الاشخاص وخارجا عنه بحسب بعضها الأخر ، فيلزم تبادل أجزاء ماهيّة واحدة وجودا وعدما بأن ينعدم بعضها ويقوم مقامه آخر ، وهذا غير معقول ، مع أنه لو اجتمعت الأجزاء يكون كلّ جزء منها يمكن التّبادل فيه مرددا حينئذ بين أن يكون هو الخارج أو غيره ، وهذا كما نرى.

ومنها : أن يكون وضع أسامي العبادات كوضع الأعلام الشّخصية حيث أنها موضوعة لمعانيها على وجه لا يقدح بالتّسمية فيها اختلافها بحسب كميّة الأجزاء زيادة ونقيصة وبحسب الحالات صغرا وكبرا طولا وقصرا ، فكذلك أسامي العبادات.

وفيه : أن المعاني الملحوظة حين الوضع الموضوعة بازائها الاعلام الشّخصية هي الاشخاص بوجوداتها الخاصة لا الابدان وشخص المعنى وتخصصه إنما يكون بالوجود ، فزيد مثلا موضوع لو لا عمرو بوجوده الخاص فما دام وجود باقيا تكون التسمية له باقية وإن تواردت عليه أحوال مختلفة لأنها كما لا تقدح في وجوده

٧٠

كذلك لا تقدح في تسميته باسمه ، فإنه أيضا موضوع له لوجوده الخاص ، بخلاف المعاني المركبة والمقيدة الملحوظة حين عين الوضع في أسامي العبادات ، فإنّها ليست من قبيل المسمى بزيد أشخاصا خاصة موجودة قبل الوضع لا يضرّ بوجوداتها تبادل الحالات وكثرة مراتب صحيحها فضلا من الفاسد الى ما شاء الله ، أيّ فرد ومرتبة من صحيحها أو فاسدها لوحظ حين الوضع ووضع اللفظ بازائه بوجوده الخاص كي يكون من قبيل المسمى بزيد ، فلا بدّ في مثلها حين الوضع من تصوير جامع بين شتاتها وحاو بين متفرقاتها كي يوضع اللّفظ بازائه. إن قلنا بأن الوضع فيها عام والموضوع له خاص وسيأتي تبيان ذلك انشأ الله.

ومنها : أن ما وضعت له الالفاظ أولا هو الصّحيح الواجد لتمام الأجزاء والشّرائط إلّا أنها صارت حقائق في الاعم ثانيا لتسامح العرف في استعمالها كثيرا ، فيه الى أن صارت حقائق كذلك وذلك لجريان بناء العرف وديدنهم على التّسامح مطلقا في اطلاق الفاظ المركبات كالمعاجين الموضوعة لكامل الأجزاء أولا ، على النّاقص اذا كان مشابها للكامل في الصّورة أو في عمدة التّأثير بنحو من العناية ، إمّا تجوزا من باب المجاز في الكلمة أو الاسناد أو حقيقة من باب الادّعاء الذي صار إليه السّكاكي في باب الاستعارة الى أن تصير الالفاظ حقائق في الاعم ثانيا ، ولا اختصاص لهذا التّسامح بغير الفاظ العبادات ، فهي أيضا وإن كانت موضوعة أولا لخصوص الصّحيح إلّا إنّها صارت حقائق في الاعم ثانيا.

وفيه : أوّلا ، إن هذا إنّما يجري في مثل المعاجين من المركبات الخارجية الّتي يكون الموضوع له فيها أولا مركبا خاصا لا في مثل العبادات ، لعدم وجه مشابهة بين صحيحها وفاسدها لا أثرا إذ لا أثر للفاسد أصلا فلا أثر مشترك فيها ، ولا صورة

٧١

لأن مراتب الصحاح فيها كثيرة أيّ مرتبة منها تجعل الموضوع لها أولا؟ المقياس لصحة الاستعمال في غيرها من مراتب الفاسدة أي مشابهة بين الصّحيح من مثل الصّلاة في حق الحريق والغريق والفاسد منها في حق المختار؟ مع أن الصّحة والفساد كما عرفت من الامور الإضافية ، فقد يكون عمل واحد صحيحا في حالة دون اخرى أو صحيحا في حق أحد فاسدا في حق آخر ، فليس في مرتبة من صحاحها ما يصح أن يقال أنه لوحظ حين الوضع ووضع اللفظ بازائه أولا ثمّ صار حقيقة في الأعم عرفا.

وثانيا : إنّه لا يجدى في ترتب ثمرة الخلاف في المسألة بين الصحيحي والأعمّي من كون الالفاظ مجملة على الصّحيحي ومطلقه على الأعمّي فله التّمسك باطلاقها إن كان واردا في مقام بيان الحكم وذلك لأن الالفاظ على هذا الوجه إن كانت معها قرينة دالة على إرادة الصّحيح حينئذ أيضا تصير مجملة حالها عند الأعمّي حالها عند الصّحيحي ، وإن لم تكن معها قرينة دالة على إرادة الصّحيح ، فإن كانت مهملة كأن لم تكن واردة فى مقام تبيان الحكم فليس له التّمسك باطلاقها حينئذ أيضا ، وإن كانت واردة في مقام تبيان الحكم فليس له التّمسك بإطلاقها في حملها على مرتبة من مراتب الفاسدة إذ لا أثر لها كي يرتب عليها بعد حمل اللفظ عليها ، فلا بدّ من حملها حينئذ أيضا على الصحيحي ومعه تصير حالها عند الأعمّي حالها عند الصّحيحي.

وممّا ذكرنا من جواب هذا الوجه يظهر الجواب عن وجه آخر يقال ، وهو ان وضع الفاظ العبادات كوضع أسامي الموازين والمقادير كالكر والصّاع والرّطل والمثقال والحقّة والوزنة ونحوها ممّا لا شبهة في أنّها حقائق في الزّائد والنّاقص في الجملة ، فإن الواضع فيها وإن لاحظ حين الوضع مقدارا خاصا أو حجرا أمينا

٧٢

إلّا أنه لم يوضع اللّفظ بازاء شخص ذلك المقدار أو ذاك الحجر تحقيقا كي يكون اطلاقه على الزّائد أو الناقص عنه مجازا ، بل بازاء ما يساويه ويعادله عرفا بحيث يصح أن يقال عندهم أنه بذلك المقدار ، فالموضوع له فيها أعم من الناقص والزائد في الجملة لأن تعيينه موكول بنظر العرف وهم يتسامحون ويقولون : أن هذا المقدار كذا. مع أنه زائد عليه أو ناقص عنه حقيقة إذا لم تكن الزّيادة أو النّقيصة عنهم معتدا بها. وهكذا حال أسامي العبادات.

ومحصل الجواب أن الصّحيح يختلف زيادة ونقيصة بحسب الحالات والاشخاص ، فليس فيه مقدار معين في جميع الموارد لوحظ الزّائد والنّاقص بالاضافة إليه كي يقال أنه لوحظ حين الوضع ولكن لم يوضع اللّفظ بازاء شخصه أو مقداره تحقيقا بل بإزاء ما هو أعمّ منه تقريبا.

الامر الرّابع : الظّاهر المقطوع به كون الوضع والموضوع له عامين في الفاظ العبادات ، سواء قلنا بوضعها للصّحيح أو الأعم وإن احتملنا سابقا كون الموضوع له فيها خاصا ، لأنه مجرد إمكان عقلي إذ لا موجب له سوى ارادة الإفراد منها كثيرا ومن الواضح أن مجرد هذا لا يكفي في إثبات خصوصية الموضوع له لإمكان أن يكون المستعمل فيه في تلك الموارد نفس العام مجردا عن تخصصه بخصوصيات الأفراد وإن كانت مرادة من باب إطلاق الكلّي على أفراده لا هي بما عليها من الخصوصيات بحيث تكون خصوصياتها أيضا مأخوذة في المستعمل فيه وإطلاق لفظ العام على الخاص على الوجه الاوّل حقيقة دون الثاني ، ولا ملزم لحمل تلك الموارد عليه دون الاوّل ، فإن الوضع للعام لا يقتضي إلّا صحة إرادته من اللّفظ ولا يمنع من تشخصه خارجا وإرادته كذلك بأمر خارج عن اللّفظ لعل الأمر في تلك

٧٣

الموارد هكذا.

وبالجملة ، مجرد إرادة الأفراد فيها كثيرا لا يوجب كون المستعمل فيه خاصا فضلا عن الموضوع له ، وإلّا لجرى هذا الكلام في جميع أسماء الاجناس لكثرة إرادة الأفراد منها أيضا ، مع أنه لا يلتزم به أحد ، بل قد عرفت أن توهّم كون الموضوع له خاصا في الحروف وما الحق بها من الأسماء أيضا فاسد ، لأنه ناشئ عن تخيل كون المستعمل فيه فيها خاصا دائما وقد أوضحنا بما لا مزيد عليه أن خصوصية المعنى فيها إنّما تجيء من قبل الاستعمال أو الاشارة الحسية أو المخاطبة أو الحكاية عن النفس ولا تكون مأخوذة في المستعمل فيه ، فلا ينافي كون الموضوع له فيها عاما كالوضع ، مضافا إلى إنّه لو كان الموضوع له فيها خاصا لزم أن يكون استعمالها في العام في مثل «الصّلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر ، والصّلاة معراج المؤمن ، وقربان كلّ تقي ، وعمود الدّين» و «الصّوم جنّة من النّار» مجازا لأن استعمال اللّفظ الموضوع للجزئي في الكلّي مجاز ليس على حدّ إطلاق الكلّي على الجزئي ، فإنه حقيقة ، مضافا إلى أن أدلة النّافين والمثبتين الآتية من التّبادر وعدم صحة السلب ونحوهما إنما يناسب عموم الموضوع له والمستعمل فيه ، بل لا يجري إلّا ، عليه

واقول : هذا موقوف على عدم جريان التّبارد وعدم صحة السلب ونحوهما من علائم الحقيقة فيما لو كان الموضوع له خاصا ، مع أنه كالمشترك اللّفظي وإن لم يسم به اصطلاحا ، فإن جرت العلائم في المشترك جرت فيما كان الوضع فيه خاصا كما لا يخفى.

الامر الخامس : قد يقال أن ثمرة الخلاف تظهر في الرّجوع الى الاصل فإن المرجع عند الأعمّي أصالة البراءة وعند الصّحيحي قاعدة الاشتغال. وفيه ما لا يخفى فإن

٧٤

مورد مسألة البراءة والاشتغال دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطين مطلقا من غير فرق فيه قولا ودليلا بين كون منشأ شكّ فقدان النّص أو إجماله فلا عمّي في المقام أن يقول بالاشتغال كما أن للصحيحي أن يقول بالبراءة لأنه جزئي من موارد تلك المسألة ، ولذا ذهب المشهور القائلون بالبراءة فيها الى القول بالوضع للصحيح في هذه المسألة ولعل هذا القائل اشتبه عليه مفهوم الصحيح بمصداقه وتوهم أن المراد بالصحيح الذي أدعي الوضع له مفهومة إذ على هذا التّقدير عنوان المكلّف به وهو مفهوم الصحيح أمر متبين نظير مفهوم الطهارة ، فإنه أيضا متبين ، فكما أنه إذا شكّ في أنّها بم تتحقق في الخارج بالغسل مرّة أو مرّتين مع العصر أو بدونه كان المرجع قاعدة الاشتغال بلا إشكال وخلاف فيه بعد تسليم الصغرى ، كذلك في المقام ، فإذا شكّ في جزئية شيء أو شرطيته للعبادة كان مرجعه الى الشّك في أن مفهوم الصحيح بم يحصل في الخارج فالمرجع حينئذ قاعدة الاشتغال.

إلّا أن الأمر ليس كما توهّمه لأنّ المراد بالصّحيح مصداقه وهو الذي يحمل عليه ما بالجمل الشّائع الصّناعي ، وعلى هذا إذا استعمل اللّفظ مجردا عن القرينة يكون مجملا فيكون المورد من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين كلّ على مذهبه ، وأمّا ما توهمه من الرّجوع الى البراءة على الأعمّي فلا منشأ له أصلا ، فإنّ اللّفظ إمّا أن يكون واردا في مقام بيان الحكم فالمرجع حينئذ أصالة الاطلاق لا أصالة البراءة ولا أصالة الاشتغال ، إذ لا مجال لهما عند وجود الاصل اللفظي كأصالة الاطلاق ، وإن لم يكن كذلك بل كان مهملا وفي مقام بيان حكم آخر ومرجع إهماله الى إجماله فالمرجح حينئذ أصالة البراءة أو الاشتغال كلّ على مذهبه ، لأن المورد جزئي من موارد مسألة الاشتغال والبراءة. فالثّمرة المذكورة

٧٥

ليست بثمرة للنّزاع في المسألة اذ لا تترتب على شيء من القولين بل الثّمرة إنما تظهر حسب ما أشرنا إليه في جواز التّمسك بالاطلاق على الأعمّي إذا كان واردا في مقام بيان الحكم لإثبات عدم اعتبار ما شك في اعتباره في العبادة شطرا أو شرطا ، بخلاف الصحيحي فإن اللّفظ عنده مجمل عند عدم القرينة فالمرجع عنده أصالة البراءة أو الاشتغال على الخلاف في المسألة لأنه جزئي من مواردها ، وكذلك عند الأعمّي فيما كان الاطلاق غير وارد في مقام تبيان الحكم ، فالثّمرة بين القولين إنّما تظهر عند الشكّ في الجزئيّة أو الشّرطيّة في صورة واحدة.

وربّما قيل بأنه تظهر الثّمرة أيضا فيما لو نذر أن يعطي درهما لمن صلّى ، فإنه على الأعمّي تبرأ ذمّته فيما إذا أعطى درهما لمن راه مصلّيا وإن لم يحرز صحة صلاته بل وإن علم بفسادها ، بخلاف الصحيحي إذ عليه لا تبرأ ذمّته باعطائه الدّرهم إلّا بعد إحراز صحة صلاته ولو بأصالة الصّحة إن قلنا بانها تفيد الصّحة الواقعيّة.

وفيه : أن حصول البراء وعدمه باعطاء الدرهم لمن صلّى فاسدا تابع لقصد النّاذر قطعا فإن أراد خصوص الصّحيحة وإن لم يكن اللّفظ حقيقة فيها فلا تبرأ ذمّته باعطاء الدّرهم لمن صلّى فاسدا قطعا ، كما أنه لو أراد الأعم وإن كان اللّفظ مجازا فيه تبرأ ذمّته كذلك ، فلا يفيد النّذر ثمرة عند تعين قصر النّاذر. نعم إذا نسي قصده سابقا ولم يدر أنه هل قصد حال النّذر خصوص الصّحيحة أو الأعم تظهر الثّمرة كما ذكر ، لعدم اختصاص اعتبارا حالة الحقيقة بجريانها في كلام الغير بل للمتكلّم أيضا إن يجريها في كلام نفسه إذا ذهل عن قصده حين التكلّم وشكّ في أنّه ما ذا أراد بكلام في السّابق ، وكذلك إذا لم يقصد خصوص الصّحيحة أو الأعم ، بل قصد مسمى الصّلاة مطلقا أي ما يسمى صلاة عرفا سواء كان عندهم خصوص

٧٦

الصحيحة أو الأعم ، إذ على هذا التّقدير أيضا لو اختار النّاذر قول الأعمّي فله أن يكتفي باعطاء الدّرهم لمن صلّى فاسدا ، بخلاف ما لو اختار قول الصحيحي فإنّه ليس له إلّا اعطائه لمن صلّى صحيحا كما لا يخفى.

إلّا أن هذه الثّمرة ليست بثمرة للمسألة الاصولية ، فإنّها كما عرفت في صدر الكتاب ما يقع في طريق استنباط الاحكام الفرعيّة عن الادلة أو القواعد الّتي ينتهي اليها الفقيه بعد الفحص واليأس عن الظّفر بالادلة. فثمرة المسائل الاصولية هي انتفاع الفقيه بها في مقام استنباط الاحكام الفرعيّة عن الادلة أو عن القواعد والاصول العمليّة ، ومن الواضح عدم انتفاع الفقيه بثمرة النّذر كذلك فهي من ثمرات المسائل الفقهيّة لاشتراكها بين الكلّ وعدم اختصاصها بالفقيه في مقام استنباط الاحكام من الادلة أو الاصول والقواعد.

فانقدح ممّا ذكرنا : أن كلّ مسألة تذكر في الاصول وتنحصر ثمرة النزاع فيها في حال النّذر فهي من مسائل الفقه حقيقة لا من مسائل الاصول. إذا عرفت ما ذكرناه من الامور.

* * *

٧٧

فأعلم إنّه قد استدلّ

للقول بالوضع للصّحيح بوجوه

الوجه الاوّل : التّبادر وانسباق الصّحيح من الالفاظ عند إطلاقها مجردة عن القرينة سواء وقعت في حيّز الانشاء كقوله «أقيموا الصّلاة» أم في حيّز الأخبار كقولك «صلّى فلأن» ولا تنافي دعوى التّبادر ما ذكرناه سابقا في بيان الثمرة بين الصّحيحي والأعمّي من حصول الاجمال على الصّحيحي ، فإن المنافاة بين الأمرين إنّما تكون إذا لم يكن معرفة الجامع بين الصّحاح بوجه ، ضرورة إنّه مع فرض عدم معرفته بوجه من الوجوه كيف تصح دعوى التبادر عند الاطلاق ، كذلك قد عرفت إمكان تصويره والاشارة إليه بآثاره وفوائده المترتبة عليه ككون الصّلاة مثلا ناهية عن الفحشاء ومعراج المؤمن ونحو ذلك ، فإن هذه الآثار مشتركة بين جميع الافراد الصّحيحة فيمكن معرفة الجامع بينهما الذي تبادر عند الاطلاق بمعرفة آثاره وخواصه ، وهكذا الكلام في غير الصّلاة ، فلا تنافي بين الدّعويين.

الوجه الثّاني : صحة سلب الاسم عن الفاسد بسبب الاخلال ببعض الاجزاء أو الشّرائط بحسب الحقيقة والمداقة وإن صح الحمل على بعض مراتبه أيضا بنحو من التّصرف والعناية إمّا بتجوز في أمر لفظي أي الاسناد أو الكلمة ، أو في أمر معنوي أي تنزيل الفاسد منزلة الصّحيح وادعاء أنّه من أفراده حقيقة أوّلا ، ثمّ إطلاق

٧٨

اللّفظ عليه إطلاق الكلّي على فرده الادّعائي حقيقة على ما يراه السّكاكي في الاستعارة ، وهذان الوجهان كما ترى ممّا يشهد به الوجدان ، فهما قابلان للمنع ولا يمكن إثباتهما باقامة البرهان ، نعم يمكن جعلهما برهانيين اذا فرض وجودهما في حقّ غير المستدل كما لا يخفى.

الوجه الثّالث : الأخبار مثل قوله «لا صلاة إلا بطهور ، ولا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ونحوها ممّا يدل على اعتبار بعض الاجزاء أو الشّرائط في العبادات ، فإن أمثال هذه التّراكيب ظاهرة في نفي الحقيقة حقيقة عند فقد بعض ما يعتبر شطرا أو شرطا كالقراءة والطّهارة في الصّلاة ولا يمكن حملها وبقائها على حقيقتها ، وظاهرها الأنباء على كونها أسامي للصّحيحة ، إذ عليه نفي حقيقتها عند فقد ما يعتبر فيها شطرا أو شرطا صادق حقيقة ، بخلاف ما لو كانت أسامي للاعم فإن صدق نفي الحقيقة حينئذ متوقف على تصرف وعناية من اضمار لفظة صحيحة ونحوها ، أو تجوز في الاسناد أو الكلمة أو تنزيل الفاسد منزلة المعدوم وادعاء أنّه من أفراده حقيقة وهذه المتصرفات حتى الاخير على خلاف الاصل ، فقضية أصالة الظّهور أو الحقيقة في أمثال هذه التّراكيب كون الالفاظ موضوعة للصّحيحة. اللهمّ إلّا أن يقال كما تقدم في أصالة عدم القرينة أن أصالة الظّهور أو الحقيقة وإن كانت حجّة مطلقا حتّى فيما كانت من قبيل الاصول المثبتة إلّا أن القدر المعلوم من بناء العقلاء اعتبارها بالنّسبة الى تعيين مراد المتكلّم ، فكلّما كان فيها دخل في ذلك ولو بوسائط كثيرة كانت حجّة.

وأمّا بالنّسبة الى سائر اللوازم كاثبات الوضع للصحيحة في المقام فاعتبارها عند العقلاء غير معلوم ، بل معلوم العدم.

٧٩

وبالجملة أن قلنا بأن أصالة الظّهور أو الحقيقة حجّة مطلقا حتى فيما لا دخل له بارادة المتكلّم كاثبات الوضع للصّحيحة في المقام فالاخبار المذكورة بضميمتها تدل على المطلب ، ودعوى الوضع الثّانوي لأمثال هذه التّراكيب كدعوى شيوع استعمالها في إرادة نفي الصّحة أو الكمال ممنوعة ، حتّى فيما علم من الخارج إرادة نفي الكمال مثل «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» إذ يمكن حمله في هذه الصّورة أيضا على نفي الحقيقة بنحو من العناية والتّجوز في أمر عقلي بإن ينزل غير الكامل من الصّلاة مثلا منزلة المعدوم ويدعي أنه من أفراده ينتفي عنه الحقيقة على سبيل المبالغة لا الحقيقة ، فإنه أبلغ في إفادة المبالغة المقصودة من مثل الكلام من ارتكاب سائرا التّصرفات عن الاضمار أو التّجوز في الاسناد أو الكلمة ، بل لا دلالة فيها على المبالغة. ومما ذكرنا ظهر وجه الاستدلال بأخبار أخر مثل «الصّلاة عمود الدّين ، ومعراج المؤمن» و «الصوم جنّة من النّار» ونحوها مما يكون ظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار لمسميات ألفاظ العبادات ، فإنها بضميمة أصالة الظّهور أو الحقيقة بناء على اعتبارها في إثبات جميع الآثار واللوازم كالوضع في المقام تدل على المدعي كما لا يخفى. إلّا إنك قد عرفت الاشكال في اعتبارها كذلك ، فغاية ما يستفاد من هذه الأخبار وأشباهها مجرد الاستعمال وهو أعمّ من الحقيقة والمجاز.

الوجه الرّابع : دعوى القطع بإن طريقة الواضعين وعادتهم في مقام وضع الألفاظ للمركبات جارية على وضعها لما هو المهم لهم فيها والمطابق لأغراضهم وهو الصّحيح ، أي التّام الواجد لجميع الاجزاء والشّرائط لا الفاسد ولا الأعم ، فإنه قضية الحكمة الدّاعية على الوضع وهي مسيس الحاجة الى التعبير عنها والحكم

٨٠