غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

مقدّمة

المفهوم على ما يظهر من كلماتهم عبارة عن حكم إخباري أو إنشائي لازم لخصوصيّة المعنى الذي اريد من اللّفظ بتلك الخصوصيّة المستلزمة له مطلقا سواء كانت إرادة المعنى بتلك الخصوصيّة وصفا أو إطلاقا بمعونة مقدّمات الحكمة أو مجازا ، بل ولو غلطا ، وسواء كان ذلك الحكم الإنشائي أو الاخباري موافقا للمعنى المراد من اللّفظ في الإيجاب والسّلب كالأولويّة القطعيّة الّتي تسمى بالفحوى كدلالة آية حرمة التّأفيف على حرمة الإيذاء أو مخالفا له كمفهوم الشّرط والوصف والغاية ونحوها ، فمفهوم الشّرط على القول به في مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» قضيّة اخرى سالبة تستتبعها خصوصيّة المعنى المراد من القضيّة اللّفظيّة وهي «إن لم يجئك زيد» فلا تكرمه ، أو لا يجب إكرامه ويسمّى ذلك الحكم اللازم بالمفهوم لأنّه معنى يفهم من خصوصيّة المعنى المراد من القضيّة اللّفظيّة المستتبعة له ، كما أنّ ذلك المعنى يسمّى بالمنطوق ، لأنّ اللّفظ نحو وجود له وحاك عنه وفان فيه فناء الحاكي في المحكي عنه حسب ما عرفت في المباحث السّابقة ، كأنّه بهذا اللّحاظ منطوق ولذا يسمّى به ، وبالجملة المنطوق حقيقة وإن لم يكن سوى اللّفظ إلّا أنّه لمّا كان نحو وجود للمعنى ، فلذا يسمّى منطوقا.

ومن هنا انقدح أنّ المفهوم كالمنطوق في صفات المدلول والمعنى لا الدّال ولا

٤٢١

ومن هنا انقدح أنّ المفهوم كالمنطوق في صفات المدلول والمعنى لا الدّال ولا الدّلالة ، وإن كانت ربّما تتصف بهما أيضا ، فيقال الدّلالة المنطوقيّة أو المفهوميّة إلّا أنّ هذا الاتصاف ليس على نحو الحقيقة ، بل من باب الاتصاف بحال المتعلق وبنحو من التّجوز والعناية.

وانقدح أيضا أنّه يصحّ أن يفسّر المفهوم بأنّه حكم غير مذكور حيث أنّ استفادته من جهة كونه لازم خصوصيّة المعنى المراد في القضيّة اللّفظية الذي يسمى بالمنطوق ، فكأنّه غير مذكور ، بخلاف المنطوق ، فلا يحتاج هذا التّفسير الى تعسف فيه ، بخلاف ما قيل في تفسيره أيضا بأنّه حكم لغير مذكور ، فإنّه لا يصحّ بدونه ، وذلك لأنّ موضوع كلا القضيتين واحد وهو مذكور في القضيّة الاولى ، فلا يصحّ أن يفسّر بأنّه حكم لغير مذكور ، إلّا أن يقال : أن موضوع المفهوم أي القضيّة الثّانية في مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» زيد غير الجائي ، وهو غير مذكور أصلا ، وهذا تعسف فيه وهو غير محتاج إليه في التّفسير الاوّل ، وكيف كان ، لا يهمّنا التّعرض لتفصيل ما وقع بين الأعلام من النّقض والإبرام في هذا النّحو في التّفسير في المقام فإن الظّاهر كونه كالتّفسير اللّغوي من قبيل شرح الإسم لا بيان الماهيّة والحقيقة ، وهل الدّلالة على المفهوم من قبيل المطابقة أو التّضمن أو الالتزام بناء على انحصار الدّلالات في الثّلاثة لا ينبغي التأمل في عدم كونها من قبيل المطابقة ، وأمّا التّضمن فهو وإن أمكن بأن يدعى أنّ مثل «إن جاءك زيد فاكرمه» يدلّ على قضيتين مختلفتين فى الإيجاب والسّلب في عرض واحد وهما وجوب إكرام زيد عند مجيئه وعدم وجوبه عند عدم مجيئه ، إلّا أنّ الالتزام به بعيد جدا ، فتعين كونها من قبيل الالتزام حسب ما عرفت آنفا.

٤٢٢

والوصفيّة والمغياة وغيرها مرجع النّزاع فيها الى أنّه هل لها دلالة على تلك الخصوصيّة المستلزمة والمتتبعة للمفهوم بالوضع أو الإطلاق عند تماميّة مقدّمات الحكمة أو بقرينة عامّة مساوية في جميع الموارد وبحيث لا يعدل عنها إلا بقرينة اخرى حاليّة أو مقاليّة تقتضي تصرفا فيها وإن لم يكن تجوزا.

* * *

٤٢٣

الفصل الأوّل

في مفهوم الشّرط

اختلفوا في القضيّة الشّرطيّة وهي الواقعة عقيب إن أو أخواتها من أدوات الشّرط هل لها مفهوم ـ أي تدلّ على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشّرط ـ أم لا؟ لا الإشكال في أنّها تدلّ على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشّرط كما أنّه أيضا لا إشكال في أنّها ربّما تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء لأجل قرينة خاصّة في ذلك المورد ، وإنما الاشكال في أنّها إذا اطلقت ولم تكن قرينة خاصّة هل لها دلالة بحسب وضع أداة الشّرط أو إطلاقها أو إطلاق الجزاء فيها على الثّبوت عند الثّبوت والانتفاء عند الانتفاء أم لا؟ وبعبارة أخرى ، هل لها دلالة على علاقة لزوميّة بين جزئيها تقتضي ترتب الجزاء على الشّرط ترتب المعلول على علّته المنحصرة ، وهذه هي الخصوصيّة المستتبعة للمفهوم في القضيّة الشّرطيّة الّتي قد عرفت أنّها ممّا لا بدّ منها في كلّ قضيّة لها مفهوم ، أم ليس لها دلالة كذلك؟ فعلى القائل بالدّلالة من إثبات مراتب أربعة للمانع أن يمنع كلّ واحدة منها ، له أن يمنع الدّلالة على العلاقة واللّزوم ويقول بأنّها إنّما تدلّ على مجرّد الثّبوت عند الثّبوت ولو اتفاقا ، كما أن الأمر كذلك

٤٢٤

في مثل «إن كان الإنسان ناطقا كان الحمار ناهقا» وله أن يسلم الدّلالة على اللّزوم ويمنع من الدّلالة على ترتب الجزاء على الشّرط بأن يكون الشّرط مقارنا لما هو المؤثر في الجزاء بحيث لا يكون له دخل فيه أصلا ، كما إذا ورد «إذا أذن المؤذن فصلّ» بناء على كون المؤثر في إيجاب الصلاة دخول الوقت المقارن مع الأذان لا نفسه ، وله أن يسلم الدّلالة على التّرتب ويمنع من كونه بنحو ترتب المعلول على العلّة ويقول بأنه بنحو ترتب المقتضي على المقتضي لعدم لزوم تصرف وخلاف ظاهر في مثل «إن جاءك زيد فأكرمه» فيما إذا علم فى الخارج أن مجىء زيد لو صادف مع إظهار الإرادة أو المحبّة مع الأعداء لم يكن مؤثرا في إيجاب إكرامه وله أن يسلم الدّلالة على نحو التّرتب على العلّة ، ويمنع من كونه على ترتب المعلول على علّته المنحصرة لدوام التّنافي عرفا بين مثل قوله : «إذا نمت فتوضأ» و «إذا بلت فتوضأ» بحيث يكون كلّ واحدة منهما قرينة للتّصرف في الأخرى السّابقة باللاحقة وهي بالسّابقة ، ولكن منع الدّلالة بالوجهين الأولين في غاية السقوط ، لانسباق اللّزوم والتّرتب في القضيّة الشّرطيّة قطعا ، ويشهد لذلك إنّا نجد التّنافي عرفا بين إن جاءك زيد فأكرمه وإن لم يجئك فاكرمه ، ولو كانت القضيّة الشّرطيّة اتفاقية لم يكن تناف بين القضيتين مع أنّ مرجع إنكار الوجه الثّاني حقيقة الى عدم الدّلالة على الثّبوت عند الثّبوت ، وهذا كما ترى ، وأمّا المنع بالوجهين الآخرين فله مجال واسع ، إذ لا نجد تنافيا في نظر العرف بين إن جاءك زيد فأكرمه وإن أكرمك فأكرمه ، وكذا بين المثالين المتقدّمين ونحوهما ، وكذا بين الأدلة الدّالة على الشّروط والادلة الدّالة على الموانع لأنّهم يجدون التّنافي ولكن يصرفون ظاهر كلّ من القضيتين بالأخرى بحيث تكون الاولى ملحوقة بالقرينة والثّانية مسبوقة بها ، ولو سلّمنا تبادر اللّزوم و

٤٢٥

التّرتب بنحو العلّية لكن نمنع كونه بنحو التّرتب على العلّية المنحصرة لكثرة استعمال القضيّة الشّرطيّة في غير ذلك من دون عناية ورعاية علاقة ، بل تكون إرادته كذلك كارادة التّرتب على العلّة المنحصرة بلا عناية وارتكاب خلاف ظاهر لأجل علاقة كما لا يخفى على من أمعن النّظر في موارد الاستعمالات وعدم الإلزام والالتزام بالمفهوم عند المخاصمات والاحتجاجات وصحّة الجواب بأنّه ليس للكلام مفهوم لو احتج به ، ولو كان له ظهور معلوم لما كان يصحّ الجواب بأنه ليس له مفهوم ، وبالجملة إثبات الدّلالة كذلك بحسب وضع أدوات الشّرط لها بمثل التّبادر مشكل جدّا ، لكونه غير معلوم ، وهو كاف في عدم الدّلالة على المفهوم ، وترتب المعلول على العلّة نحو واحد لا يكاد يتفاوت بانحصارها وعدم انحصارها ، ضرورة أنّه ليست قضيّة العلّية والرّبط الخاص بينها وبين المعلول إفاضة الوجود عليه متى ما وجدت سواء كانت منحصرة أو لم تكن بمنحصرة.

ومن هنا انقدح فساد إثبات الدّلالة بادعاء انصراف العلاقة اللّزومية والتّرتب على العلّة على تقدير تسليم تبادره من القضيّة الشّرطيّة إلى خصوص ما كان بين المعلول والعلّة المنحصرة ، لانه أكمل وآكد وأقوى ما شئت فسمّه به نظير انصراف صيغة الأمر الى الوجوب النفسي الذي هو أكمل أفراد الوجوب على تقدير تبادره من الصّيغة ، لبداهة عدم الفرق بين التّرتبين ليس ترتب المعلول على العلّة إلا نحوا واحدا يحصل في الرّبط الخاص بينهما يقتضي تأثيرها فيه سواء كانت منحصرة ، أو غير منحصرة مع أنّ مجرّد الأكمليّة ما لم تنضم إليها كثرة الاستعمال ومقدّمات الحكمة لا يوجب انصراف المطلق الى الأكمل ، وكثرة الاستعمال في المقام ممنوعة ، ولو سلّمت فجريان مقدّمات الحكمة فيه ممنوع ، كما قيل لأن معاني أدوات

٤٢٦

الشّرط كسائر الحروف غير قائمة بمعاني متعلقاتها ، لأنّها غير ملحوظة على حيالها واستقلالها ، بل لأجل غيرها من معاني المتعلقات ، فهي مطلقا معاني خاصّة غير قابلة للإطلاق ، فلا تجري فيها مقدّمات الحكمة لاختصاص جريانها بالمطلقات.

إلّا اللهم أن يمنع من ذلك ويقال سلّمنا أن معاني الحروف غير مستقلة في أنفسها ملحوظة بتبع غيرها إلّا أن هذا لا ينافي كون ذلك اللّحاظ التّبعي الغير الاستقلالي الحاصل لها على وجه الاطلاق أو التّقييد فإنّها عند وجودها لا بدّ من أن تكون محدودة فيمكن أن تكون في ذلك اللّحاظ الذي يكون حدا لها مطلقة أو مقيدة ، تارة تلاحظ منع من مثل سر من الكوفة وهو الابتدائيّة الملحوظة بتبع المبتدأ والمبتدأ منه كالسّير والكوفة مطلقا ، فيجوز السّير بأي نحو كان من أقسامه الرّكوب والمشي ونحوهما ، ومن أي موضع من البصرة ، وأخرى يلاحظ مقيدا فلا يجوز التّعدي عنه ، وكذا الكلام في معاني سائر الحروف ، فكيف يقال أن معانيها لا تقبل الإطلاق والتّقييد وليس المراد بتقييدها أنّها تلاحظ باللّحاظ الغير الاستقلالي مطلقة أو لا ، ثمّ يطرأ التّقييد عليها حتّى يلزم استقلال لحاظها عند التّقييد ، بل المراد أنها في ذلك اللّحاظ الغير الاستقلالي قد تلاحظ مقيدة ، فلا ينافي تقييدها عدم استقلاليّة معانيها ، وعلى هذا فالمنع المذكور في محلّه.

إلّا أنّك لما عرفت منع أكمليّة ترتب المعلول على العلّة المنحصرة ، فجريان مقدّمات الحكمة عند الإطلاق لا يوجب الحمل عليه لأنّ تعيينه يحتاج الى مئونة اخرى ، فالحمل عليه أو على غيره تعيين بلا معين وتخصيص بلا مخصص ، وأمّا حمل إطلاق صيغة الأمر الوارد في مقام البيان على الوجوب النّفسي فهو مسلّم ، إلّا

٤٢٧

أنه ليس لأجل أكمليته ، بل لأجل أن الوجوب الغيري يحتاج بيانه الى مئونة التّقييد بوجوب الغير ، لأنّ وجوبه إنّما يكون على تقديره ، بخلاف الوجوب النفسي فانه ثابت على كلّ حال ، فلذا تحمل عليه الصّيغة عند الاطلاق في مقام البيان ، فتبين ممّا ذكرنا أنّ قياس حمل إطلاق القضيّة الشّرطيّة على ما يقتضي المفهوم أعني التّرتب على العلّة المنحصرة على حمل إطلاق الصّيغة على الوجوب النّفسي قياس مع الفارق.

وربّما يتمسك لإثبات الدّلالة بوجه آخر غير إطلاق مدلول أداة الشّرط وهو إطلاق نفس الشّرط وتقريبه أنّ ظاهر القضيّة حسب الفرض ترتب الجزاء على الشّرط ، وقضيّة إطلاقه ترتبه عليه وحده مطلقا سواء وجد في العالم غيره سابقا عليه أو مقارنا معه أم لا ، وهذا إلّا يصحّ إذا كان علّة منحصرة ، ضرورة أنّه إن كانت غير منحصرة ففي صورة سبق غيره في العلل يكون الجزاء مترتبا عليه لا على الشّرط ، وفي صورة اجتماعها وتقارنها يكون الجزاء مترتبا عليها لا عليه ، فقضيّة إطلاق الشّرط كونه علّة منحصرة ، فيستكشف من إطلاقه بطريق الإن ثبوت المفهوم للقضيّة الشّرطيّة.

ويضعف : بمنع إطلاق للشرط كذلك بحيث يكون مسوقا في مقام البيان من هذه الجهة ، بل الظّاهر إنّه غالبا بل دائما ناظر الى غير هذه الجهة إنّما يكون المتكلم بصدد تبيان ترتب الجزاء على الشّرط على سبيل الإهمال أو الإجمال ، لا بصدد تبيان الحكم حتّى من هذه الجهة كي يقتضي مقدّمات الحكمة الحمل عليه ، ولذا لا نجد عرفا تنافيا بين مثل : جاءك زيد فأكرمه ، وبين : إن أكرمك فأكرمه بحيث يقيدون إطلاق كلّ منهما بالآخر ، نعم لو اتفق للشّرط إطلاق كذلك في مقام بأن يكون

٤٢٨

المطلق فيه بصدد بيان الحكم من هذه الجهة لا ننكر الدّلالة على المفهوم فيه ، إلّا أنّ مثل هذا لا يجدي القائل بالمفهوم ، إذ عليه أن يثبت الدّلالة عليه بالوضع أو بقرينة عامة جارية في جميع الموارد وتقتضي الحمل عليه ما لم تقم قرينة حاليّة أو مقاليّة على خلافه ، فلا يكفيه كونه قضيّة الاطلاق في مقامه في باب الاتفاق كما لا يخفى.

وربّما يتمسك أيضا باطلاق الشّرط بوجه آخر وهو كون مقتضاه تعينه وانحصاره ، كما أنّ مقتضى إطلاق الأمر لأجل انصراف المطلق أو لأجل مقدّمات الحكمة تعين الوجوب وعدم العدل له فيما إذا تردد بين إرادة التّعييني والغيري ، والفرق بين هذا وسابقه أنّ جهة الحمل على الشّرط المنحصر في الاولى عدم تقييد الشّرط بعدم وجود أمر آخر مقارنا له أو سابقا عليه ومن الثّاني عدم ذكر العدل له ، ويضعف أيضا بما تقدّم نظيره في سابقه من الاطلاق إنّما كان مسوقا في مقام بيان حكم ترتب الجزاء على الشّرط من غير نظر له أصلا الى بيان أنّه متعين أو غير متعين ، فالقضيّة الشّرطيّة من هذه الجهة مهملة أو مجملة لا إطلاق لها كي يتمسّك به سلّمنا أنّ لها إطلاقا كذلك ، لكن نقول أنّ ترتب الجزاء على الشّرط ودخله في المشروط ، وبعبارة اخرى تأثير العلّة في المعلول بنحو واحد انحصرت العلّة والشّرط أم لا ، ولا تعدّد فيه كما عرفت آنفا كي يمكن تعيين بعض أنحائه بالاطلاق وقرينة الحكمة ، سلّمنا أنّ التّرتب على العلّة المنحصرة على نحو يغاير التّرتب على العلّة الغير المنحصرة ، لكن نقول أنّه باطلاق الكلام لا يصحّ أن يعين إلّا ما يصلح الإطلاق لتعيينه بأن يكون المطلق المسوق ، البيان بمقدّمات الحكمة تاليا له ، كما أنّ الأمر عند إطلاقه ورفعه في مقام البيان بضميمة المقدّمات يصحّ لأن يعين به الوجوب العيني أو التّعييني أو النّفسي فيما إذا دار بين أحد هذه وبين ما يقابله ، لأنّ

٤٢٩

إرادة كلّ واحد من ما يقابلها تحتاج الى زيادة مئونة لا يحتاجها كلّ واحد من هذه ، ضرورة أنّه لا بدّ في التّخييري والكفائي من العدل ، وفى الوجوب الغيري من وجوب الغير ، فإذا ورد الأمر في مقام البيان مطلقا ولم يذكر عدل للوجوب أو المكلّف أو واجب آخر ، يكون هو الواجب ، نفسيا كان بقرينة مقدّمات الحكم تاليا للواجب العيني التّعييني والنّفسي إذ لو أراد المطلق غيره كان عليه البيان ، وحيث لم يبيّن كشف عن عدم إرادته ، وبالجملة ، نحو الوجوب التّعييني وإن كان يغاير الوجوب التّخييري ، وكذا نحو الوجوب التّعييني والكفائي والنّفسي والغيري ، إلّا أنّ الاولى من كلّ من هذه الأقسام بالنّسبة الى ما يقابله في مقام الإثبات بمنزلة الأصل له ، لأنّه غير محتاج الى ما يحتاجه ما يقابله من زيادة مئونة وبيان مثل : أو كذا في التّخييري ، أو غيري في الكفائي ، وإن وجب كذا في الغيري ، فإذا أطلق الامر وكان في مقام البيان وأراد شيئا من هذا الوجوبات ، فعليه نصب القرينة وبيان العدل أو وجوب الغير ، وإلّا كان مخلا بالحكمة ، وحيث لم ينصب القرينة ولم يبين ما ذكر كشف عن عدم إرادته ، فيحمل المطلق على الوجوب التّعييني العيني النّفسي ، وليس الأمر كذلك في المقام ، فإنّه لو سلّم أنّ نحو التّرتب على العلّة المنحصرة يغاير نحو التّرتب على غيرها ، إلّا أنّ الاوّل ليس بمنزلة الأصل الثّاني في مقام الإثبات ، بل كلّ واحد منهما يحتاج الى نصب القرينة ، فلا وجه لحمل المطلق على الأوّل لاجل الانصراف أو الحكمة ، أمّا الانصراف فلانّه يتوقف على وجوه غلبة في الاوّل وهو ممنوع ، وأمّا الثّاني فلما عرفت من أنّ إثبات كلّ منهما يحتاج الى مئونة ، أمّا احتياج ما إذا كان الشّرط متعدّدا بمثل أو كذا فهو إنّما يكون لأجل بيان تعدّد الشّرط وإن كلّ واحد منهما متى وجد يترتب الجزاء عليه لا لأجل بيان أنّ الشّرطيّة قائمة

٤٣٠

بالطّرفين نظير قيام الواجب التّخييري بالطّرفين والواجب الكفائي بالمكلفين ، كم فرق واضح بين المقامين ، فلا ينبغي أن يقاس إطلاق الشّرط في المقام على إطلاق الأمر في ذلك المقام ، ولو كان قضيّة إطلاق الشّرط ثبوت المفهوم في مقام لأجل قرينة حاليّة أو مقاليّة ، فهو ممّا لا ينكر ، ولكنّه لا يجدي القائل بالمفهوم كما مرّت الاشارة إليه غير مرّة ، فإذن تحقق ممّا ذكرنا أنّه لا دليل على ثبوت المفهوم للقضيّة الشّرطيّة بحسب الوضع أو قضيّة الاطلاق ، وعدم الدّليل كاف فى عدمه ، ولكن مع هذا استدل المنكرون بوجوه أيضا.

«الوجه الأوّل»

ما عزي الى السّيد (ره) في أن تأثير الشّرط إنّما هو تعليق الحكم به ، وليس بممتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه ولا يخرج عن كونه شرطا ، فإن قوله تعالى (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) يمنع من قبول الشّاهد الواحد حتّى ينضم إليه شاهدا آخر ، فانضمام الثّانى إلى الأوّل شرطا فى القبول ، ثمّ علمنا أن ضمّ امرأتين إلى الشّاهد الأوّل شرطا فى القبول ثمّ علمنا أن ضمّ اليمين يقوم مقامه أيضا ، فنيابة بعض الشّروط عن بعض أكثر من أن تحصى ، مثل الحرارة فإن انتفاء الشّمس لا يلزم انتفاء الحرارة لاحتمال يقام النّار مقامه ، والأمثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا.

ولا يخفى ما فى هذا الاستدلال ، لأنّ محصله بيان أن تأثير الشّرط أي السّبب والعلّة ليس إلّا تعليق الحكم عليه ثمّ إنكار انحصار الشّرط (١) في المنحصر وإثبات

__________________

(١) شرعا وعقلا وعرفا ، لمحرّره.

٤٣١

أنّه على قسمين ، قد يكون في مقام الثّبوت والواقع منحصرا ، وقد يكون غير منحصر ، ومن المعلوم أن هذه المقدّمة ما لم تنظم إليها مقدّمة اخرى ، وهي عدم دلالة الشّرطيّة على أزيد من كون الشّرط علّة للجزاء لا يكفي في مقام الاستدلال ، لعدم الدّلالة ، إذ المثبت لها يكفيه اثبات انحصار الشّرط في المنحصر أو دلالة الشّرطيّة على كون الشّرط أي ما جعل مقدما للتّالي علّة منحصرة له ، فلا بدّ للمنكر في مقام الاستدلال من منع كلتا المقدّمتين ، ولعلّ هذا كان مراد السّيد «ره» ، بالاستدلال ، ولأجل جلالته لا بدّ من حمل كلامه عليه بأن يقال : أنّه استدل بمقدّمة مذكورة حاصلها عدم انحصار الشّرط في المنحصر ، ومقدّمة مطوية هي عدم دلالة الشّرطية على أزيد من كون الشّرط علّة للجزاء ، وإنّما ترك الثّانية لوضوحها وكونها مسلّمة في نظره ، بخلاف الأولى ، ولذا حاول التّحقيق فيها وأثبت أن الشّروط والأسباب والعلل الشّرعيّة والعقليّة والعرفيّة قد يخلفها ، وثبوت منابها غيرها مع عدم خروجها بذلك عن كونها شروطا وأسبابا إلّا وعللا ، أن يقال أن حال المقدّمة الأولى ليست بأخفى من المقدّمة الثّانية ، إن لم يكون الأمر بالعكس ، فينبغي ترك الاستدلال لوضوح المقدّمتين أو التّعرض في مقام الاستدلال لهما لا أن يقتصر بالأولى ويترك الثّانية اتكالا علي ظهورها ، وأقول : لعلّ الأشكال المذكور والجواب فيه بأنّه أراد الاستدلال بالمقدّمتين ، غاية الأمر أنّه ترك أحدهما اتكالا علي ظهورها ممّا وقع في محلّه ، وذلك لانّ صدر كلامه «قدس‌سره» وهو قوله أن تأثير الشّرط هو تعليق الحكم به ممّا لا يبعد حمله على بيان تلك المقدّمة التي لا بدّ في مقام الاستدلال من التّعرض لها وهي عدم دلالة الشّرطيّة على أزيد من كون الشّرط علّة للجزاء ، بأن يكون مراده أن تأثير الشّرط بحسب ما هو قضية

٤٣٢

الشّرطيّة لا بحسب الوجود الخارجي.

وبعبارة اخرى : بأن يكون مراده أن فائدة ما جعل شرطا ومقدما للتّالي ليس إلا تعليق الحكم عليه أي لا يفيد أزيد من ثبوت التّالي عند ثبوت المقدّم وأمّا الانتفاء الّتي عند الانتفاء فلا يفيده ، وليس هذا إلا تلك المقدّمة إلى يقال في إصلاح استدلاله ، أنّها مطوية فيه كما لا يخفى ، فتأمل.

«الوجه الثّاني»

أنّه لو دلّ لكان باحدى الدّلالات والملازمة كبطلان التّالي ، حيث لا لزوم عقلا ولا عرفا ظاهرة.

وفيه : أنّ بطلان التّالي نظري ليس بمثابة الملازمة في الظّهور ، إذ قد عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أنّ يقال في إثبات التّالي أو نفيه ، وغاية ما حققناه عدم ثبوت الدّلالة وصفا وإطلاقا لا ثبوت عدم الدّلالة كي يقال أنّ بطلان التّالي ظاهر

«الوجه الثّالث»

قوله تبارك وتعالى ((وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)).

وفيه : ما لا يخفى ، فإن غاية ما يدلّ عليه استعمال القضيّة الشّرطيّة في الآية الشّريفة خالية عن المفهوم لأجل قرينة قطعيّة ، وهذا ممّا لا ينكره القائل بثبوت الدّلالة ، فإنه إنما يدعيها بالوضع أو بقرينة عامّة كالاطلاق يمكن التّخلف عنها لاجل قرينة اخرى على خلافها ، هذا على تقدير إمكان الإكراه في عدم إرادة

٤٣٣

التّحصن أيضا ، وأمّا على تقدير عدم إمكانه إلا في صورة التّحصن خاصّة ، فلا يخفى أنّ المفهوم حينئذ من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع وهو غير واقع في كلام الفصحاء والبلغاء ، وبالجملة عدم ثبوت المفهوم لمثل الآية الشّريفة ، إمّا لعدم إمكانه مع عدم الخروج عن ظاهره ، وإمّا لاجل قرينة قطعيّة على ذلك مع إمكانه لا ينافي القول بالدّلالة وصفا أو إطلاقا ، فإنّ القائل بها قد يدعي ثبوتها على وجه لا يمكن التّخلف عنها لأجل قيام قرينة قطعيّة على خلافها كما في الآية الشّريفة ، والعجب منهم كيف ذكروا مثل هذا الاستدلال في أدلتهم وسطّروه في كتبهم.

* * *

٤٣٤

وبقي هنا امور

ينبغي التّنبيه عليها

«الأمر الأوّل»

هل المفهوم على تقدير ثبوته للقضيّة الشّرطيّة أو الوصفيّة أو غيرهما انتفاء نسخ الحكم المعلق على الشّرط أو الوصف أو غيرهما عند انتفائه أو شخصه؟ لا ينبغي التّأمل في كونه هو الاوّل ، لأنّ الخلاف في المفهوم وعدمه للقضيّة الشّرطيّة وغيرها لا يتمشى إلّا في الحكم الذي يمكن بقاؤه مع انتفاء الشّرط أو الوصف والحكم الشّخصي لا يكون كذلك ، ضرورة انتفائه عقلا (١) قطعا بانتفاء موضوعه ، ولو بانتفاء بعض قيوده ، بخلاف نسخ الحكم المذكور في القضيّة ، فإنّه قابل للبقاء والانتفاء عند الانتفاء ، فيصحّ أن يقع محل النّزاع في القضيّة الشّرطيّة ونحوها ويدعى أن لها مفهوم أي دلالة على انتفاء الحكم بهذا المعنى عند الانتفاء ، وكذا الكلام في مفهوم الموافقة ، فإنّه أيضا لا ينبغي التّأمل في كونه ثبوت نسخ الحكم المتعلق بموضوع خاص كالتّأفيف لموضوع آخر كالشّتم والضّرب لا شخص ذلك الحكم ، ضرورة عدم إمكان إثباته بتلك الخصوصيّة لموضوع آخر ، وسيأتي مزيد

__________________

(١) بتماميّة الكلام ، وكذا الحكم الشّخصي المتعلق بما اخذ في الكلام موضوعا له مقيد بالشّرط أو الوصف أو غيرهما ، فإنّه أيضا ينبغي ، لمحرّره.

٤٣٥

توضيح لهذا إنشاء الله تعالى.

فتعين كون المفهوم هو انتفاء نسخ الحكم الثّابت لموضوع عن غيره ، كما في مفهوم المخالفة أو إثبات نسخه لغير موضوعه كما في مفهوم الموافقة ، ولا يخفى أنّ النّزاع في ثبوت المفهوم بهذا المعنى لا يتمشى إلا فيما كان نسخ الحكم الثّابت في القضيّة قابلا للثّبوت في غير ما تعلق به فيها ، وأمّا فيما لم يمكن فيه ذلك فهو خارج عن محل النّزاع كما في موارد الأقارير والوصايا والوقوف والنّذور والإيمان والعقود والإيقاعات ونحوها حيث أن انتفاءها عن غير ما هو المتعلق لها من الاشخاص الّتي تكون بألقابها أو بوصف شيء أو شرطه مأخوذة فى الأفراد أو الوصيّة أو الوقف أو نحوها ، إنّما يكون لأجل عدم إمكان ثبوت نسخ الملكيّة والوقفيّة والمنذوريّة ونحو ذلك لشخصين ، ضرورة أنّه إذا صار شىء وقفا أو وصيّة أو نذر أو متعلق عقد أو إيقاع لاحد لا يصلح لانّ يصير كذلك لغيره ، فانتفاء الحكم عن غير متعلقه في أمثال هذه الموارد ليس لاجل ثبوت المفهوم لها على القول به من غير فرق بينها وبين غيرها في الدّخول في محل النّزاع كما توهّم ، ولا لأجل ثبوت المفهوم لها على القولين كما عن الشّهيد الثّاني «ره» في تمهيد القواعد ، حيث أنّه نفى الإشكال عن ثبوت المفهوم لها وخصّ محل النّزاع بغيرها بل ذكرناه ، (١) وبالجملة هذه الموارد خارجة عن محل النّزاع في ثبوت المفهوم للقضيّة الشّرطيّة أو الوصفيّة أو غيرهما لما ذكرنا ، لا أنّها داخلة في حريمه من غير فرق بينها وبين غيرها كما توهّم

__________________

(١) وأقول أنّ ما ذكر يقتضي عدم صحّة الحكم المخالف وإن كان مصرفا به لا انتفاء المفهوم أعني عدم دلالة اللّفظ عليه على القول بثبوته ، غاية الأمر أنّه على القول بعدمه أيضا يحكم بانتفاء الحكم عن غير ما تتعلق به لا لأجل المفهوم بل لوجه آخر كما لا يخفى ، لمحرّره.

٤٣٦

كي يلزم على القول بعدم المفهوم إمكان اثبات الحكم المذكور فيها من التّمليك أو الوصيّة أو الوقف أو نحو ذلك لغير من ذكر فيها مقيدا بوصف أو شرط أو لقب ، ولا أنها خارجة عن محل النّزاع بدعوى ثبوت المفهوم لها بلا إشكال كما عن الشّهيد «ره» ، وكيف كان الحكم المعلق على الشّرط مثلا إخباريّا كان ، أو إنشائيّا في مثل قولك : إن جاءك زيد يجب إكرامه أو أكرمه ، ليس إلّا نفس وجوب الإكرام الذي هو مدلول الجملة الإخباريّة أو الإنشائيّة بخصوصيّاته الثّابتة له من غير جهة الاستعمال كالعينيّة والكفائيّة ونحوهما ممّا تكون ثابتة له مع قطع النّظر عن إنشائه أو الإخبار به لا شخص وجوب الإكرام ، أعني المتخصص بكونه منشأ بالجملة الإنشائيّة أو مخبرا به بالجملة الخبريّة بحيث تكون هذه الخصوصيّة من مقومات المعنى المستعمل فيه ، فإن ثبوتها له ناشئة من قبل استعمال اللّفظ فيه ، ولا يعقل أن تكون الخصوصيّات الثّابتة للمعنى المستعمل فيه حال الاستعمال النّاشئة من قبله داخلة فيه ومن أجزائه ومقوماته ، إخباريّا كان أو إنشائيّا ، حرفيّا كان أو اسميّا ، كما حققناه في بيان المعنى الحرفي ، ولذا التزمنا بعدم الفرق بين الحروف وما الحق بها من الأسماء وبين غيرها منها في أن المستعمل فيه كالوضع والموضوع له في الجميع عام لا خاص ، مع إنّه لا شبهة في أن المعاني الحرفيّة متخصصة بكونها آلية غير مستقلة في نفسها أي غير ملحوظة إلا في معاني متعلقاتها لأنّها من أحوالها وخصوصياتها القائمة بها قيام العرض بالجوهر ، فإن هذا التّخصص لها لا يكاد يكون من مقومات المستعمل فيه كي يقال أنّه في الحروف خاص لا عام كما أنّ تخصص المعاني الاسميّة بكونها مستقلة في أنفسها ملحوظة بحيالها لا يكون من مقومات ما استعملت فيه الأسماء ولو كان ذلك التّخصص في المعاني الحرفيّة موجبا لكون المستعمل فيها

٤٣٧

خاصّا ، فليكن ذلك التّخصص في المعاني الاسميّة أيضا كذلك ، مع أنّه لا يلتزم به أحد ، والسّر في ذلك ما أشرنا إليه آنفا وحققناه في محلّه هو أنّ الخصوصيات النّاشئة من الاستعمال للمعاني المستعملة فيها الألفاظ مطلقا لا يعقل أن تكون من مقومات المعاني ، من غير فرق في ذلك بين الحروف والأسماء والأخبار والإنشاء ، ومعلوم أنّ كلّ واحد هذين التّخصصين للمعاني الحرفي والاسميّة ناشئ من قبل الاستعمال ، فلا يوجب شيء منهما تخصّصا في معانيهما من غير فرق بينهما أصلا ، فثبت مما ذكرنا أنّ ما هو مدلول بالجملة الإنشائيّة أو الاخباريّة من الحكم المعلق على الشّرط في القضيّة الشّرطيّة مطلقا عام ليس بخاص ، وكذا في سائر القضايا ، فصحّ ما ذكرنا من أنّ المفهوم في القضيّة الشّرطيّة وغيرها حتّى في اللقبيّة انتفاء نسخ الحكم ونوعه المعلق على الشّرط أو الوصف أو اللّقب عن ما انتفى عنه الشّرط أو الوصف أو اللّقب أو إثبات نسخ الحكم ونوعه لموضوع آخر يكون أقوى مناطا ممّا تعلق به الحكم ، إذ لا معني من نسخ الحكم ونوعه سوى ذلك المعنى العام الذي يكون مدلول الكلام إنشائيّا كان أو أخباريّا من غير فرق فيهما أصلا.

فانقدح : بما حققناه فساد ما استشكل في المقام وهو أن الشّرط المذكور في القضيّة الشّرطيّة إنّما وقع شرطا بالنّسبة الى الإنشاء الخاص الحاصل بذلك الكلام دون غيره ، فغاية ما يفيده انتفاء ذلك الحكم بانتفاء شرطه ، وأين هذا من دلالته على انتفاء نوع الحكم ونسخه كما هو المدعى ، وكذا فساد ما تقضي به من الإشكال من التّفرقة بين الوجوب الإخباري والإنشائي ، بأنّه كلّي في الأوّل وخاص في الثّاني ، حيث دفع الإشكال بأنّه لا يتوجه على الأوّل أصلا ، لكون الوجوب فيه كلّيا ، وفي الثّاني بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلّية والسببيّة المستفادة

٤٣٨

من الجملة الشّرطيّة ، حيث أنّ ارتفاع شخص الوجوب فيه ليس مستندا إلى ارتفاع العلّة ، فأنّه يرتفع وإن لم يؤخذ المذكور في حيال أداة الشّرط علّة كما هو ظاهر في اللقب والوصف ، فقضيّة العلّيّة ارتفاع نوع الوجوب الّذي أنشأه الأمر وصار بواسطة إنشائه شخصا من الوجوب.

وتوضيح فساد الأشكال المذكور والجواب فيه يظهر ممّا حققناه ، ومحصله أن الحكم المعلّق عليه الشّرط مطلقا عام لا يعقل أن يكون خاصا سواء كان أخباريّا أو إنشائيّا ، وكذا الكلام في سائر القضايا الّتي يدعي المفهوم فيها حتى اللقب من غير فرق بينه وبين غيره لجريان الوجه المذكور في جميع أقسام القضايا على حدّ سواء كما لا يخفى

«الأمر الثّاني»

إذا تعدّد الشّرط واتّحد الجزاء وكان على وجه لا يقبل التعدّد أو لم يكن بمراد منه ، كما إذا خفي الأذان فقصر وإذا خفي الجدران فقصّر ، فعلى القول بثبوت المفهوم للقضيّة الشّرطيّة يقع التّنافي بين منطوق كلّ من القضيّتين وبين عموم المفهوم في الأخرى ، وكذا إذا كان كل واحدة منهما محفوفة بما يوجب ظهورها في إرادة المفهوم منها على القول بعدمه للقضيّة الشّرطيّة عند إطلاقها ، ويمكن الجمع والتّوفيق بينهما باحد وجوه :

الأوّل : تخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى ، لكون ظهوره أقوى ، قضيّة هذا وجوب القصر عند وجود أحد الشّرطين وانتفائه عند انتفائهما.

الثّاني : رفع اليد عن ظهور كلّ منهما في المفهوم ، بأن يحمل على بيان علّيّة كلّ من

٤٣٩

الشّرطين للجزاء لا أزيد ، وعلى هذا فلا دلالة لهما على عدم علّيّة شيء آخر للجزاء ، وتظهر الثّمرة عند وجود دليل آخر فلا ينافيانه على هذا ، فيعمل به بخلاف الأوّل ، فيقدّم منهما ما هو الأقوى على تقديره كما لا يخفى

الثّالث : رفع اليد عن ظهور كلّ منهما في كون كلّ من الشّرطين علّة تامّة للجزاء على كونه جزئهما ، وبعبارة اخرى ، تقييد منطوق كلّ منهما بمنطوق الأخرى بعد تصرّف في مفهوميهما ، وعلى هذا يكون مجموع الشّرطين علّة منحصرة للجزاء ، فيجب القصر عند خفاء الأذان والجدران معا ولا يجب عند انتفاء خفائهما وإن خفي أحدهما.

الرّابع : رفع اليد عن ظهور كلّ من الشّرطين في كونه بعنوانه الخاص علّة منحصرة للجزاء بحمله على بيان كون كلّ منهما بعنوان جامع بينهما يكون هو حقيقة العلّة المنحصرة للجزاء علّة ، له ومرجع هذا إلى الأوّل في مقام العمل فيخالف الوسطى على حذوه.

الخامس : رفع اليد عن مفهوم أحدهما بالخصوص مع بقاء مفهوم الأخرى على حاله (١) ، لا وجه لهذا لأنّه جمع تبرعي لا شاهد له وترجيح بلا مرجّح ، إلّا أن يكون ما أبقى على مفهومه أظهر من الآخر ، فيجب المصير إليه للّزوم حمل الظّاهر على الأظهر وهل الأقرب أي واحد من هذه الوجوه في مقام الجمع العرفي؟ لعلّه

__________________

(١) وأقول فهذا الوجه لا يوجب رفع التّنافي بأنّه بين عموم مفهوم كلّ من القضيتين وبين منطوق الأخرى ، ومن الواضح أن رفع اليد عن عموم أحد المفهومين بالخصوص بمنطوق الأخرى لا يرفع التّنافي المذكور ، والوجه الخامس الّذي نسب إلى الحلي «قدس‌سره» لا في المثالين هو إبقاء جملة خفاء الأذان بحالها منطوقا ومفهوما وتقييد الجملة الثّانية منطوقها بخفاء الآذان ومفهومها بعدمه ومرجعه إلى إلغاء الثّانية بالمرّة وجعل المناط هو الأولى ، ولا يخفى أنّ الجمع بينهما كذلك يرفع تنافي إلّا أنّه ترجيح بلا مرجّح وجمع بلا شاهد كما لا يخفى ظهور ، لمحرّره.

٤٤٠