غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

وجود المانع عن الحكم في بعض الأفراد بالمصداق المشتبه مردّد بين دخوله فيما أثبت فيه حكم العام وبين دخوله فيما اثبت فيه حكم المانع أي المخصّص ، ولا حجّة في البين يعيّن حكمه لأنّ العام وأن فرض بقاؤه على ظهوره في العموم بعد التخصيص أيضا ، إلّا أنّه سقط عن الحجّيّة بمقدر المخصّص قطعا ، فإدخاله تحت حكم العام ترجيح بلا مرجّح ، وهذا معنى عدم حجّيّة العام فيه في الشّبهة المصداقيّة ، نعم لو فرض في المقام العلم إجمالا بخروج بعض أفراد الجيران مثلا لأجل عداوته مع المولى عن حكم العام وتردّد المعلوم بالإجمال بين فردين أو أزيد كان حكم المخصّص اللّبي حينئذ ، حكم المخصّص اللّفظي قطعا ، لاعتبار العلم الإجمالي كالتّفصيلي في أن المرجع حينئذ هو الأصل من الاحتياط أو التّخيير أو البراءة على حسب اختلاف الموارد من غير فرق بينهما أيضا في مورد إجمال المخصّص بين كونه مجملا ومردّدا بين المتباينين أو بين الأقلّ والأكثر كما لا يخفى.

وأمّا في غير هذا الفرض كما هو محلّ الكلام في المقام فلا ينبغي الشّك في أن مجرّد احتمال انطباق ما علم خروجه حينئذ عن حكم العامّ مفهوما كمفهوم العدو في أكرم جيراني ، والفاسق في أكرم العلماء ، والمؤمن في فلعن الله بني أميّة قاطبة ، لو فرض ترخيص لعنهم على وجه العموم شرعا على فرد خارجي كزيد من الجيران أو العلماء أو بني أميّة مثلا لا يوجب رفع اليد عن حكم العام بالنسبة إليه بل العام لأجل ظهوره في العموم وكونه حجّة ما لم تقم حجّة أقوى على خلافه ، وكون حجّيّة من باب الطّريقيّة يكون كاشفا عن دخول المشكوك فيه في حكمه ، إذ على الحكيم القاء كلامه على وفق غرضه ومرامه ، فلو كان في أفراد ما يكون إثبات الحكم فيه على خلاف غرضه كان عليه البيان ، وإذ لا بيان ، فليس ، فببركة العامّ

٥٠١

ظهورا وحجّيّة في العموم فيكشف أنّ من شكّ في كونه عدوّا من الجيران كان من الأصدقاء ، فيجب إضافته أيضا وكذلك من شكّ في فسقه من العلماء كان من عدولهم ، فيجب إكرامه أيضا ، وإنّ من شكّ في إيمانه من بني اميّة ليس بمؤمن واقعا ، فيجوز لعنه أيضا ، وهكذا الكلام في سائر الموارد من الشّبهات الموضوعيّة.

هذا تمام الكلام في المقام حسبما هو قضيّة الأصل اللّفظي في الشّبهات الموضوعيّة إذا كان المخصّص متّصلا كالاستثناء أو منفصلا ، وأمّا على حسب الأصل العملي فقلّ ما يتفق أن لا يجري فيها أصل موضوعي ينقح الموضوع المشكوك فيه ولا يدخله تحت ما حكم عليه بحكم العام ، وذلك لأنّ المخصّص المنفصل وهكذا المتّصل إن كان بنحو الاستثناء لا يجعل موضوع حكم العام ولا يصيّره معنونا بعنوان خاصّ كي يقتضي الأصل عدمه عند الشّك فيه ، بل يبقى معه مطلقا وبكلّ عنوان لم يكن ذاك بعنوان المخصّص ، فلا يكون المعنون إلّا موضوع حكم المخصّص فلا يكون المعنون إلّا موضوع حكمه دون موضوع حكم العام ، فإذا شك في فرد خارجي أنّه معنون بعنوان المخصّص كي يكون محكوما بحكمه أم لا كي يكون محكوما بحكم العام ، فإنّ كانت له حالة سابقة معلومة فبالأصل يحكم ببقائها ، مثلا أن كان زيد في السّابق عادلا أو فاسقا ، ولذا كان معلوم الدّخول في أكرم العلماء أو لا تكرم الفسّاق ، ثمّ احتمل تبدّل ما عليه في الفسق أو العدالة ولذا شك في أنّه داخل في أي حكمين؟ فبالأصل يحرز دخوله في أحدهما. وإن لم يكن له حالة سابقة معلومة ، كما هو المفروض في المقام ففي نفس الموضوع الخارجي المشكوك فيه وإن لم يجر أصل لأنّه لما يوجد أمّا في مصاديق العام أو المخصّص ، إلّا أنّه لا مانع من إجراء أصالة عدم المخصّص لأنّه مسبوق بالعدم الاوّلي ، فرتب حكم العام على

٥٠٢

ذلك الموضوع المشكوك فيه لأنّ موضوع حكم العام غير معنون بعنوان حسب الفرض إنّما كان عنوان المخصّص مانعا عنه ، فإذا انتفى بالأصل يترتّب عليه حكم العام ، مثلا إذا ورد : أن المرأة ترى الحمرة أي الحيض إلى خمسين سنة إلّا أن تكون قرشيّة ، أو أن كلّ شرط سائغ إلّا ما أحلّ حلالا أو حرّم حلالا إذا خالف كتاب الله ، ففي كلّ امرأة شك في كونها قرشيّة وإن لم تكن لها حالة سابقة كي يجري الأصل فيها ، لأنّها لمّا توجد إمّا قرشيّة أو غير قرشيّة إلّا أنّه لا مانع من جريان أصالة عدم تحقّق الانتساب بينهما وبين قريش فإنّه كان منتفيا في السّابق ولو لأجل انتفاء أحد المتلبسين ، أعني هذه المرأة ، وبعد وجودها بشك في تبدّل ذلك العدم الأزلي إلى الوجود والأصل بقاؤه على ما كان فيرتّب عليها حكم العامّ من تحيّضها إلى خمسين سنة ، لأنّ المانع عنه ليس إلّا تحقق الانتساب المذكور في الخارج ، وحيث أحرز عدمه بالأصل فيحكم عليها بحكم العامّ ، وهذا هو الأصل في الأصل الّذي حكم الأصحاب بجريانه في الانتساب.

وممّا ذكرنا في تقريبه اندفع ، ما ربّما يناقش به عليه ، وهكذا في كلّ شرط اشترط في ضمن التّعدّد وشكّ في كونه على خلاف كتاب الله مثلا أو محرّما لحلال أو بالعكس ، نقول بعد اشتراطه في العقد الأصل عدم تحقّق مخالفة كتاب الله ، فإنّها أيضا مسبوقة بالعدم الأزلي ولو لأجل عدم أحد المتلبسين ، أعني هذا الاشتراط في العقد في السّابق إذ لم يعلم انقلاب هذا العدم إلى الوجود ، فالأصل بقاؤه على ما كان ، فيحكم بلزوم ذلك الشّرط المشكوك في لزومه باشتراطه في ضمن العقد ، وهكذا الكلام في جميع موارد الشّك فى الشّبهات الموضوعيّة إذا لم يكن للمشكوك فيه حالة سابقة معلومة لكنّ فيما إذا كان المخصّص منفصلا أو متّصلا كالاستثناء ، والله العالم.

٥٠٣

وهمّ ودفع

أمّا الوهم : ربّما يتوهّم جواز التّمسّك بالعمومات فيما إذا شك في فرد من جهة أخرى غير جهة احتمال التّخصيص ، كما إذا شكّ في صحّة الوضوء أو الغسل بماء مضاف ، فيستكشف حجّيّته بعموم مثل أوفوا بالنّذور فيما إذا وقع متعلّقا للنّذر أمّا الدّفع : أنّه يحب الإتيان بهذا الفرد من الوضوء أو الغسل وفاء للنّذر لعموم مثل «أوفوا بالنّذور» وكلّما يجب الوفاء به لا محالة يكون صحيحا ، للقطع بأن ما ليس بصحيح فلا يجب الوفاء به ، وربّما يؤيّد ذلك ما ورد من صحّة الإحرام قبل الميقات إن تعلّق به النّذر كذلك ، مع أنّه لو لاه لم يكن بمشروع كما في بعض الأخبار أن الإحرام قبل الميقات بمنزلة الصّلاة قبل الوقت ، ومن صحّة الصّوم في السّفر إن تعلّق به النّذر كذلك مع عدم مشروعيّة بدونه وجه ، التّاييد ، أنّ النّذر ولو لم يفد رجحان متعلّقه لم يصحّ نذر الصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات لعدم مشروعيّتهما بدون النّذر ، فيكشف صحّة النّذر فيهما على كونه يفيد الرّجحان في ما تعلّق به ، فيصحّ التّمسّك بعمومات «أوفوا بالنّذور» في موارد الشّك في رجحان العمل المنذور به ، بل ربّما يتعدّى عن موارد النّذر فيقال : يجوز الغناء فى قراءة القرآن ومراثي سيّد الشّهداء عليه وعلى آبائه وأبناءه سلام الله المنّان ، تمسّكا بعمومات الأخبار المتواترة الدّالة على رجحانهما ، وكيف كان أصل التّوهّم فاسد جدّا وذلك لأنّ العمومات المتكفّلة لأحكام الأفعال بعناوينها الثّانويّة الطّارية عليها بواسطة مثل الوفاء بالنّذر والعهد واليمين والعقد والشّرط ونحو ذلك على قسمين :

منها : ما لا يؤخذ ولا يعتبر في متعلقاتها شىء من الأحكام الثّابتة لها بعناوينها

٥٠٤

الأوّليّة وذواتها.

ومنها : ما يؤخذ ويعتبر في متعلّقاتها بشىء من الأحكام من الإباحة أو الرّجحان كما في وجوب إطاعة الوالدين والوفاء بالعقد والشّرط في صحّته والوصيّة ونحو ذلك ممّا لا يؤثّر شرعا إن تعلّق بغير المباح من الحرام ، وكما في وجوب الوفاء بالنّذر وشبهة ممّا لا أثر شرعا ، لم يتعلّق بأمر راجح.

أمّا القسم الاوّل : فلا بأس بالتّمسّك بالعموم فيه في كلّ مقام شكّ في جواز الفعل بعد إحراز التّمكن منه والقدرة عليه إن كان مفاده ثبوت الحكم الفعلي ، سواء طابق حكمه الواقعي الثّابت له بعنوانه الأوّلي أم خالفه ، أمّا في صورة المطابقة فلإفادته تأكد الحكم الاوّلي لا تعدّده وأمّا في صورة المخالفة فلكشفه عن عدم فعليّة الحكم الاوّلي لعدم اجتماع الحكمين في واحد ، وإن لم يكن مفاده الحكم الفعلي ، بل كان مفاد غيره كذلك فالحكم الفعلي تابع له ولا يؤثر فيه هذا العنوان الطّاري ، مثلا إذا فرض إن حرمة الخمر كذلك ، فاشتراط شربه في ضمن عقد لازم أو تعلّق النّذر به لا يجوزه ، لأنّ اقتضاء هذا العنوان الطّاري عليه جوازه بمنزلة اللااقتضاء بالنّسبة إلى اقتضاء عنوانه الأوّلي حرمته ، بل وكذا الحكم فيما لو كان مفاد حكمه الاوّلي الإباحة ، لكن على وجه العلّيّة التّامّة كما تصوّرناه عند تفسير ما ورد من أن كلّ شرط سائغ إلّا ما حرّم حلالا ، نعم لو لم يكن مفاده إثبات الإباحة كذلك كان الحكم الفعلي تابعا لمّا تقتضيه العنوان للطّاري ، فإن اقتضاء مقتضي الإباحة بمنزلة اللااقتضاء بالنّسبة إلى اقتضاء ما يقتضي الحرمة أو الوجوب الّذي كان مفاد دليل الحكم الثّانوي ، وإن كان مفاد كلا الحكمين ثبوت الحكم على وجه الاقتضاء وقع التّزاحم بينهما إن كانا إلزاميين أو مختلفين لكن على الوجه الّذي تصورناه في بعض

٥٠٥

الصّور ، فيؤثّر منهما ما هو الأقوى إن كان في البين ، وإلّا يؤثّران حكما ثالثا ، وبالجملة تكون المسألة على هذا التّقدير مسألة باب اجتماع الأمر والنّهي كلّ على مذهبه وحيث إنّا لم نقل بجوازه ، فلذا أجرينا في المقام حكم باب تزاحم المقتضيين.

وأمّا القسم الثّاني : فلا يجوز التّمسّك بعموم الدّليل فيه في محل مقام شك في وجوده أخذ ما في متعلّق الحكم من جواز الفعل بعنوانه الأوّلي أو رجحانه ، ضرورة أن وجوب الوفاء بالنّذر وشبهة إذا فرض كونه معلّقا على كون متعلّقة جائزا أو راجحا ، فعند الشّك في كون متعلّقة كذلك لا يعلّم أن الحكم هل يشمله أم لا. فكيف يعيّن كونه مشمولا له بالعموم؟ فإنّه فرع كونه من مصاديق متعلّقه وهذا مشكوك فيه ، وبالجملة لا يمكن تعيين الموضوع بالحكم فإنّه متوقف على الموضوع ومتأخّر عنه رتبة ، فلو توقف هو أيضا على الحكم لزم الدّور ، ولذا لا يمكن إثبات الصّغرى بالكبرى فعند الشّك في جواز الوضوء أو الغسل بمائع كيف يمكن إحراز جوازه بعد تعلق النّذر به بعموم أوفوا بالنّذور؟ والحاصل إنّ التّمسك بالعموم إنّما يصحّ في كلّ موضوع أحرز كونه من مصاديق متعلّق الحكم ، ومع هذا يشكّ في أنّه محكوم بحكم العام أم لا؟ وأمّا فيما شك في كونه في مصاديق العام كما في المقام فلا يصحّ التّمسّك به ، ولو أثر النّذر وشبهه فيه عند تعلّقه به لزم إمكان تعيين الحكم به لا في خصوص المقام ، بل في كلّ مورد من الشّبهات الحكميّة ، وهو باطل بالبديهة ، وأمّا الصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات بعد تعلّق النّذر بهما كذلك مع فرض عدم مشروعيتهما لولاه فإنّما هو لأجل دليل خاصّ يدلّ عليه ، وبعد وروده يمكن تصوير الصحّة بأحد وجوه ثلاثة على سبيل منع الخلو لا يؤيّد شىء منها ما توهّمه المتوهّم.

٥٠٦

أحدها : الالتزام بتخصيص الادلّة الدّالّة على اعتبار الرّجحان في متعلّق النّذر في هذين الموردين ، ولكن قضيّة هذا سقوط النّذر بفعل الصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات بأي وجه كان ولو رياء وبدون قصد القربة ، لأنّ وجوب الوفاء بالنّذر لا يكون إلّا توصليّا لا يعتبر في سقوطه قصد القربة قطعا ، فلا يفي بدفع الإشكال الّذي يورد في المقام وهو أنّ ناذر الصّوم في السّفر أو الإحرام قبل الميقات إنّما نذر فعله عباديّا ، ومن الواضح إنّ عبادته متوقفة على وجود الرّجحان فيه ، فمع فرض عدم الرّجحان في الصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات يكون الإتيان بهما على وجه العبادة محالا ، فلو انعقد النّذر بفعلهما كذلك ولزم الوفاء به لزم التّكليف بغير المقدور ، إلّا أنّ يقال أنّه لا يعتبر في صحّة التّكليف تعلّق القدرة بالمكلّف به لا من جهة التّكليف ومع قطع النّظر عنه ، بل كفي كونه مقدورا ولو من جهة نفس التّكليف فإنّ اعتبار هذا الشّرط عقلي وهو لا يحكم باعتبار أزيد من كون المكلّف به مقدورا حين الإيتان به ولو من جهة نفس التّكليف ، وبعد تعلّق النّذر بالصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات يتمكن المكلّف من الإتيان بهما على وجه العبادة ، وإن لم يكن الأمر بالوفاء بالنّذر تعبديّا يجب الإتيان بهما على وجه العبادة بناء على أن طبعهما يقتضي أنّه مهما تعلّق الأمر بهما يكون عباديّا ، وإن فرض أنّ الأمر والوفاء بالنّذر يكون في نفسه توصليّا وعلى هذا فتثبت القدرة على الإتيان بهما في السّفر وقبل الميقات على وجه العبادة بنفس الأمر بالوفاء بالنّذر ، ولذا يصحّ تعلّقه بهما وإن كانا غير مقدورين مع قطع النّظر عنه ، ويثبت اعتبار الإتيان بهما على وجه العبادة وعدم صحّة الإتيان بهما بداع آخر بمقتضى طبعهما بدعوى أنّه يقتضي مهما تعلّق الأمر بهما أن يكون عباديّا.

٥٠٧

ثانيها : الالتزام بكون الصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات راجحين ذاتا وإنّما يؤمر بهما كذلك استحبابا أو وجوبا لأجل وجود مانع يرتفع بالنّذر فلا مانع من وجوب الوفاء به حينئذ لأنّه لم يتعلّق إلّا بأمر راجح ذاتا مع خلوه عن المنافع بعد النّذر حسب الفرض.

ثالثها : الالتزام بطرو عنوان راجح عليهما حال النّذر ملازم له ، بعد ما يبد ما لم يكونا كذلك قبله ، بأن يكون ذلك العنوان الرّاجح الطّاري عليهما والنّذر المتعلق بفعلهما بمنزلة معلولين لعلّة أخرى ، كما لو فرض أن إرادة النّذر الّتي لا تنفك عنه تكون أيضا علّة لحدوث ذلك العنوان ، ولكن على هذا الوجه لا بدّ من الالتزام بأنّه لا يعتبر في صحّة النّذر وجود الرّجحان في متعلّقه قبله ، بل يكفي وجوده فيه ولو حين النّذر ، والفرق بين هذه الوجوه أنّه على الاوّل يحدث الرّجحان للصّوم في السّفر والإحرام قبل الميقات بنفس الأمر بالوفاء بالنّذر المتعلّق بهما كذلك لا قبله ، وعلى الثّاني يزول المانع عن رجحانهما بواسطة النّذر مع وجود المقتضي له فيهما قبله ، فيصير الرّجحان الذّاتي فيهما بعد تعلّق النّذر بهما بلا مانع ، فلذا يجبان على وجه العبادة ، وعلى الثّالث يحدّث الرّجحان فيهما حال النّذر بعد ما لم يكون راجحين قبله لأجل عدم المقتضي له فيهما بالمرّة.

بقي هنا شيء وهو أنّه إذا شكّ في التّخصيص من جهة تردّد موضوع علم عدم كونه محكوما بحكم العامّ بين كونه من أفراده أو غيرها ، كما لو علم أن زيد محرّم الإكرام ، ولكنّ شك في كونه عالما فيكون مخصّصا لعموم أكرم العلماء ، أو غير عالم ، فلا يكون مخصّصا له ، فهل تجري حينئذ أصالة العموم وعدم المخصّص لإحراز كون

٥٠٨

زيد غير عالم ليترتب عليه ما لغير أفراد العام من سائر الاحكام (١) ، كما قيل نظرا إلى أنّ ترتيب الأثر المذكور على الأصل وإن لم يكن من الآثار الشّرعيّة المترتبة عليه واسطة ، إلّا أنّه لا بأس به في المقام لأنّ الأصول اللّفظيّة حتّى المثبت منها حجّة أو لا تجري أصالة العموم وعدم المخصّص ما شئت فعبر عنه وجهان : الظّاهر الثّاني لأنّ مجرّد كون الأصول اللّفظية معتبره من باب الطّريقيّة فيكون المثبت منها حجّة لا يكفي في المقام ، بل لا بدّ من ملاحظة دليل اعتبار الأصل وهو بناء العقلاء على عدم التّخصيص عند الشّك فيه هل يساعد على اعتباره في المقام أم لا؟ والظّاهر من حالهم هو البناء على عدمه فيما لو شك في ثبوت حكم العام لفرد من أفراده ، وبعبارة أخرى الظّاهر استقرار بنائهم عند الشّك في خروج فرد من أفراد العامّ عن حكمه وعدمه على عدم الاعتناء باحتمال خروجه وبترتيب حكم العام عليه لا على عدم الاعتناء باحتمال التّخصيص من أي جهة كان كي يرتب عليه ما تقدّم من الآثار ، ولا أقلّ من الشّك في ذلك وهو كاف في عدم الحجّيّة فلا مجال لأصالة العموم في المقام لا أنّها جارية فيه والمانع المتوهّم كونها من الأصول اللّفظيّة كي يقال في دفعه أن المثبت من الأصول اللّفظيّة أيضا حجّة ، وبالجملة كون أصالة العموم من الإمارات وإن قضيّة اعتبارها كذلك إثبات جميع ما لها من الملزوم والملازمات واللّوازم الشّرعيّة وإن كانت مترتبة عليها بالواسطة وبعبارة أخرى كون مثبتها أيضا حجّة ، لكن نقول أن المقضي لجريانها في المقام مفقود لاختصاصه وهو بناء العقلاء بصورة الشّك فى شمول حكم العام لبعض أفراده وخروجه عند لا فيما لم يكن شكّ في حكم موضوع أصلا ، وإنّما كان الشّك في التّخصيص من جهة

__________________

(١) وأقول يترتّب عليه حجّيّة العام حينئذ حتّى على القول بحجّيّة العام المخصّص كما لا يخفى ، لمحرّره.

٥٠٩

دوران موضوع معلوم الحكم بين كونه من مصاديق العام أو غيرها كما هو المفروض في المقام ، لا أقلّ من الشّك في بناء العقلاء على الاعتبار وهو كاف في عدم الاعتبار.

* * *

٥١٠

الفصل الخامس

هل يجوز الاخذ بالعام

قبل الفحص واليأس عن المخصّص مطلقا أم لا؟

هل يجوز الأخذ بالعام قبل الفحص واليأس عن المخصّص مطلقا أم لا؟ كما نفي الخلاف عنه بل أدعى الإجماع عليه ، فيه خلاف ، وبعبارة أخرى : هل أصالة العموم وعدم التّخصيص عند الشّك فيه مطلقا كما قيل أو في خصوص ما كان منشأ الشّك في خروج بعض أفراد العام عن حكمه وعدمه كما استظهرناه حجّة ومعتبرة عند العقلاء ومطلقا أو بعد الفحص عن المخصّص واليأس عن الظّفر به ، فيه خلاف وتحقيق القول فيه يستدعي التّكلّم في مقامين.

«المقام الأوّل»

في الشّك في المخصّص المتّصل كالاستثناء والوصف ونحوه من الحال ، الظّاهر أنّه يجوز التّمسّك بأصالة العموم وعدم المخصّص المتّصل عند احتمال وجوده وعدم وصوله من غير فرق في ذلك بين المخاطب وغيره لعدم اعتناء العقلاء باحتمال

٥١١

وجوده في أوامرهم العرفيّة كعدم اعتنائهم باحتمال وجود قرينة المجاز وإن كان فرق بينهما حيث أن الاوّل لو كان لا يوجب تجوّز في العام لظهور أن إرادة الخصوص به إن كان مخصّصا بالمتّصل بهما لا بخصوص لفظ العام كما في المخصّص بالمنفصل كي يتوهّم استعماله فيه مجازا كما توهّم في المخصّص بالمنفصل بخلاف قرينة المجاز فإنّها توجب التّجوز في اللّفظ ، مثلا لفظة «يرمي» في رأيت أسدا «يرمي» تكون قرينة على التّجوز في لفظة الأسد ، إلّا إنّ هذا الفرق بينهما مع اشتراكهما في كونها موجبين لانعقاد ظهور للّفظ على خلاف ما كان ظاهرا فيه قبله غير فارق ، فحكما أن أصالة عدم القرينة متبعة ولو قبل الفحص ، كذلك أصالة العموم وعدم المخصّص متبعة ، والدّليل على ذلك بناء العقلاء على عدم الاعتناء باحتمال وجود ما يصرف اللّفظ عن ما كان ظاهرا فيه مطلقا من غير فرق في ذلك عندهم بين ما كان من قبيل قرينة المجاز وغيره

«المقام الثّاني»

في الشّك في المخصّص المنفصل ، وينبغي أن يكون محلّ الخلاف فيه ما لم يعلم التّخصيص فيه أصلا لا تفصيلا ولا إجمالا ضرورة أنّه مع العلم المذكور لا يكون عموم العام حجّة لمزاحمته بحجّة أقوى ، فلا بدّ في العمل به في البحث والفحص عن المخصّص إلى أن ينحل العلم بالظّفر به ، وأمّا ما لم يعلم فيه التّخصيص فيه أصلا فهل تكون أصالة العموم وعدم المخصّص فيه حجّة مطلقا أو لا تكون حجّة إلّا بعد الفحص وإلياس عن المخصّص لإمكان الالتزام بأنّه وإن كان المقتضي للحجّيّة موجودا إلّا أن الإجماع قام على لزوم الفحص أو يفصل بين ما لم يكن العامّ واردا

٥١٢

في معرض التّخصيص فالأوّل وبين ما كان العام كذلك ، فالثّاني ، الحقّ هو الأخير لاستقرار بناء العقلاء في الاوّل على العمل بالعمومات الواردة في محاوراتهم عند الشّك في تخصيصها بمخصّص منفصل ، بخلاف الثّاني لعدم استقرار بنائهم فيه على ما ذكر ، مضافا إلى أن اعتبار الأصول اللّفظيّة مطلقا في باب الظّن النّوعي وهو في المقام لا يحصل قبل الفحص حيث أن الظّن يلحق الشّيء بالأعم الأغلب ، وبالجملة إن كان العام في معرض التّخصيص كما لو فرض إن بناء المتكلّم في عموماته على ذكر المخصّصات لها منفصلة عنها غالبا أو دائما كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنّة ، حيث أنّها غالبة مخصّصة بمخصّصات منفصلة لم يحرز التّمسّك بعمومه قبل الفحص ، فإذا فرض عام من الكتاب والسّنة لم يعلم فيه التّخصيص تفصيلا ولا إجمالا بأن لم يكن من أطراف المعلوم بالإجمال أو فرض أنه تفحص عنه إلى أن انحل العلم وظفر بما علم به لم يكن بحجّة قبل الفحص للوجهين ، والعمدة هو الثّاني وهو عدم استقرار سيرة العقلاء الّتي هي الأصل لاعتبار الاصول اللّفظيّة مطلقا على عدم الاعتناء وباحتمال صدور حجّة أقوى على خلافها من المتكلّم لا أقلّ من الشّك في ذلك ، وهو كاف في عدم اعتبارها ، كيف وقد أدعي الإجماع على عدم جواز العمل بأصالة العموم قبل الفحص عن المخصّص فضلا عن نفي الخلاف عنه.

ومن هنا انقدح ، مقدار الفحص اللازم ، فإنّه يختلف باختلاف الآراء والأنظار في جهة المنع من الحجّيّة إن كان النّافع هو العلم الإجمالي بوجود المخصّصات لعمومات الكتاب والسنّة وهو العمدة في نظر المانعين ، فاللازم الفحص عن المخصّص إلى أن ينحل العلم الإجمالي بالظّفر بمخصّصات تكون بمقدار المعلوم

٥١٣

بالإجمال ، وإن كان المانع عدم الحصول الظنّ بالحكم قبله بناء على أنّه المعتبر مطلقا في إثبات الأحكام كما يراه المحقّق القمّي «قدس‌سره» القائل بحجّيّة الظّنّ المطلق لأجل الانسداد ، فاللازم الفحص إلى أن يحصل الظّن ، وإن كان المانع كون العام في معرض التّخصيص فاللازم الفحص إلى أن يخرج العام عن كونه معرضا له.

ومن هذا تبيّن الفرق بين لزوم الفحص عن المخصّص وكذا عن المقيّد في العمل بأصالة العموم والإطلاق وبين لزوم في العمل بالأصول العمليّة ، عقليّة كانت كالبراءة والاحتياط والتّخيير عقلا في مواردها ، أو شرعيّة كالبراءة النّقليّة والاستصحاب ونحوهما ، وذلك لأنّ الفحص في المقام عن المزاحم والمانع عن ما هو الحجّة بعد الفراغ عن حجّيّته وفي الأصول العمليّة عن تحصيل الحجّة ، إذ بدونه لا مقتضي للحجّيّة فيها.

أمّا الأصول العقليّة : فلأن العقل في مورد البراءة لا يحكم بقبح العقاب بلا بيان إلّا بعد الفحص وبدونه يستقل استحقاق المؤاخذة على المخالفة ، وكذا في مورد التّخيير عند دوران الأمر بين المحذورين يستقل بعدم جواز الاقتصار على الموافقة الاحتماليّة مهما تمكن المكلّف من الموافقة القطعيّة وقبل الفحص لا يعلم أنّه غير متمكّن من ذلك ، فلا بدّ له من الفحص كي يجوز له الاقتصار على الموافقة الاحتماليّة ، وكذا في مورد الاحتياط اللازم لا يحكم بتعيينه ما لم ينحصر طريق الامتثال فيه ، إذ بدونه يخيره بينه وبين تحصيل المكلّف به معيّنا فيأتي به ويقتصر عليه ، فلا يحكم بتعيين الاحتياط إلّا بعد الفحص وعدم الظّفر بما عين المكلّف به سواء كانت الشّهبة موضوعيّة على ما هو التّحقيق في مجراه أو حكمية على مذهب من يقول بوجوب الاحتياط فيها أيضا.

٥١٤

وأمّا الأصول النقليّة : فلان قضيّة إطلاق أدلّة اعتبارها وإن كان جواز العمل بها مطلقا وعدم لزوم الفحص ، ولذا يلتزم بذلك في الشّبهات الموضوعيّة ، إلّا أنّ الإجماع بقسميه قائم على تقييده بالفحص في الشّبهات الحكميّة ، وبالجملة الفحص في كلا المقامين وإن كان لتحصيل الحجّة الفعليّة لأنّها متقومة بأمرين : وجود المقتضي لها وعدم المانع عنها ، إلّا أنّه في المقام لإحراز الثّاني وفي الأصول العمليّة لإحراز الأوّل ، فتختلف جهة الفحص في المقامين وإن اشتركا في أنّه في كلّ منها لأجل تحصيل الحجّة الفعليّة كما لا يخفى.

* * *

٥١٥

الفصل السّادس

في الخطابات الشّفاهيّة

اختلفوا في أن الخطابات الشّفاهيّة مثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هل هي مختصة بالحاضرين في مجلس التّخاطب أو يعمّ الغائبين عنه بل المعدومين أيضا؟ على أقوال. ومحلّ الخلاف في المسألة يحتمل وجوها ثلاثة ، وينبغي ذكر كلّ واحد منها على حدة وتعقيبه بما له من الحكم ، فنقول وبالله الاستعانة.

«الوجه الأوّل»

أن يكون محل النّزاع أن التّكاليف المتضمّنة لها الخطابات الشّفاهيّة هل يصحّ تعلّقها بغير الحاضرين من الغائبين والمعدومين حال الخطاب أم لا؟ ومن البديهي عدم صحّة ذلك بالنّسبة إلى المعدومين إن كانت التّكاليف على وجه البعث أو الزّجر ، ضرورة أنّها على هذا الوجه يستلزم الطّلب الحقيقي من المكلّفين ، ولا يكاد يكون الطّلب كذلك إلّا من الموجودين ، فيصحّ تعلّقها بالغائبين لكونهم موجودين ،

٥١٦

غاية الأمر أن تنجزها عليهم يكون متوقّفا على حصول العلم لهم به ، وإن لم تكن التّكاليف كذلك بل كانت على وجه جعل القوانين بلا بعث أو زجر لكلّ من اندرج تحت من أخذ عنوانا لمن كلّف بها من المؤمن أو الكافر أو النّاس أو غير ذلك من العناوين ، فلا شبهة في صحّة تعلّقها بالمعدومين كالموجودين مطلقا على حدّ سواء وإن صحّ مخاطبة الموجودين الحاضرين بها دون غيرهم ، ولكن هذا لا يوجب تفاوتا بينهم بل كلّ واحد منهم وجد شرائط التّكليف وفقد موانعه واندرج تحت عنوان من كلف به يصير فعليّا في حقّه ، سواء كان من الحاضرين المخاطبين أو الغائبين أو المعدومين ، وكلّ من لا يكون كذلك ، وإن كان هو المخاطب بذلك الخطاب لم يصر فعليّا في حقّه ، ضرورة أنّه ربّما يكون مخاطب المولى أحد عبيده ولكن المكلّف غيره ، فيقول له مثلا : وليفعل غيرك كذا : وبالجملة لا شبهة في صحّة إنشاء هذا النّحو من التّكليف على وجه يعمّ المعدومين فضلا عن الغائبين سواء كان شرعيّا أو غيره ، كالقوانين المجعولة من السّلاطين ، فإنّها وإن كانت إنشاءات صرفة إلّا أنّها تصير فعليّة في حقّ من اندرج تحت عنوان من كلّف بها جامعا لما يعتبر فيه وجودا وعدما ، مثلا إذا جعلوا قانونا كلّ من بلغ سنه كذا فعليّة أن يدخل في زمرة العسكريّة ، فإنشاء هذا النّحو من التّكليف يعمّ المعدومين والموجودين على حدّ سواء ، وهكذا يتصوّر من التّكاليف الشّرعيّة إن اقتضته الحكمة والمصلحة كما لا يخفى ، أو نظير هذا النّحو من التّكليف إنشاء التّمليك بالوقوع على الموقوف عليهم ، بطنا بعد بطن ، فإن البطون اللاحقة بعد وجودهم جامعين لما يعتبر فيهم عند الوقف يتملّكون العين الموقوفة ما يشاء عقد الوقف ويتلقّونها من الواقف كالبطن الموجود حين الوقف ، غايته أنّه يفيد في حقّه الملكيّة الفعليّة ، وفي

٥١٧

حقّ غيره من المعدومين لا يفيد فعلا ، إلّا استعدادها لأنّ تصير ملكا له بعد وجوده.

«الوجه الثّاني»

أن يكون محلّ النّزاع صحّة مخاطبة غير الحاضرين من المعدومين ، بل الغائبين عن المجلس الخطاب بالألفاظ الموضوعة له أو بنفس توجيه الكلام إليهم بدون أداة الخطاب وعدم صحّتها ، لا شبهة في عدم صحّة مخاطبة الغائبين عن مجلس التّخاطب فضلا عن المعدومين وعدم إمكانها ، ضرورة عدم تحقّق توجيه الكلام نحو الغير ومخاطبته به حقيقة إلّا إذا كان موجودا وكان بحيث يتوجه إلى الكلام ويلتفت إليه من غير فرق في ذلك بين كون المخاطب هو الله سبحانه ، أو غيره فإن أحاطته بالموجودين في الحال والموجودين في الاستقبال وإن كان على نسق واحد ، إلّا أن عدم إمكان مخاطبة غير الموجودين في الحال لا يوجب نقصا في حقّه المتعال ، لوضوح أنّه ليس إلّا لأجل قصورهم وعدم قابليتهم للمخاطبة حقيقة لا لأجل قصور فيه تعالى.

فاندفع توهّم صحّة التّعميم في خطابه سبحانه تمسّكا بما ذكر ، هذا على تقدير كون خطاباته بمثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا) ونحوه بلسان النّبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن لسانه لسان الله ، وأمّا على القول بأنّه المخاطب والموجه إليه الكلام حقيقة وحيا وإلهاما ، فلا محيص من الالتزام بكون الأداة في خطاباته بمثل (يا أَيُّهَا النَّاسُ) للخطاب الإيقاعي ولو مجازا.

٥١٨

«الوجه الثّالث»

أن يكون محلّ النّزاع عموم الألفاظ الواقعة تلو أدوات الخطاب للغائبين ، بل المعدومين وعدم عمومها لهما بقرينة الأدوات والنّزاع على الوجهين الأوّلين يكون عقليّا ، وعلى هذا يكون لغويّا ، إذ عليه مرجعه إلى أن أدوات الخطاب كضمائره وأدوات النّداء مطلقا هل هي موضوعة للخطاب الحقيقي إلى من يصحّ أن يوجه عليه ويقبل أن يتوجّه إليه حقيقة فتقتضي عند إطلاقها تخصيص ما يقع عقيبها من الأحكام بالحاضرين لكون استعمالها في الأعمّ مجازا ، أو هي موضوعة للخطاب الإيقاعي وإنشاء الخطاب. وبعبارة الأخرى ، هل هي موضوعة لأن يخاطب بها حقيقة من يصحّ أن يوجّه عليه الخطاب ويقبل أن يتوجه إليه ، أو موضوعة لإنشاء الخطاب وإيقاعه مطلقا سواء كان ناشئا من داعي الخطاب الحقيقي أو غيره من الدّواعي كالتّحسر والتّحزّن والتّأسّف ونحو ذلك ، كما في قوله عليه‌السلام :

«يا كوكبا ما كان أقصر عمره»

وقول الشّاعر :

«يا جبلي نعمان بالله خليّا»

فلا تقتضي وضعا عند إطلاقها تخصيص ما يقع عقيبها من الأحكام بالحاضرين ، لأنّه لا ينافي أن يعم المعدومين فضلا عن الغائبين ، الظّاهر الثّاني ، لصحّة استعمالها في مخاطبة غير من يعقل ، لمن لا يصحّ أن يوجّه إليه الخطاب حقيقة بلا عناية ولا رعاية علاقة وتنزيل فأي علاقة ومناسبة بين الجبل الّذي يخاطب بمثل : أيا جبل نعمان ، وبين الإنسان الّذي هو يصحّ أن يخاطب حقيقة دونه كي يصحّح التّنزيل والاستعمال ، وتوهّم وجودها حينئذ وكونها أمرا ارتكازيّا

٥١٩

مدفوع ، بأنّها لو كانت كذلك محصّل العلم به مع الالتفات إليه والتّفتيش عن حالة ، وإلّا فمن أين يعلم بوجوده ، مع إنّا لا نحصل العلم به بعد الفحص عن حالة فيكشف هذا عن عدمه ، ومن الواضح أن صحّة الاستعمال كذلك إمارة الوضع للخطاب الإيقاعي الإنشائي لا الحقيقي. نعم لا يبعد دعوى ظهورها انصرافا الثّاني ما لم يمنع عنه مانع كما إنّه موجود غالبا في كلمات الشّارع ، لوضوح عدم اختصاص أحكام مثل : يا أيّها النّاس ، بحاضرين مجلس الخطاب ، بل يعم غيرهم بلا إرتياب ولأجل ما ذكرنا توهّم اختصاص الوضع بالثّاني وهو اشتباه نشأ من اشتباه المفهوم بالمصداق ، وقد وقع نظيره كثيرا في كلمات غير واحد من الإعلام ، وقد نبهنا على جملة منها في المباحث السّابقة في غير مقام ، منها ما تقدّم في مباحث الأمر والنّهي من توهّم استعمالهما في معاني كثيرة من الإهانة والتّعجيز والسّخريّة ونحوها ممّا عدوّه من المعاني ، وقد حقّقنا أن الموضوع له فيهما هو الطّلب الإيقاعي الإنشائي وأن تلك الأمور من قبيل الدّواعي لا المعاني ، وحيث أنّهما ظاهران في الطّلب الحقيقي انصرافا ، فلذا توهّموا أن الإهانة ونحوها من الدّواعي للطّلب الإيقاعي الإنشائي من المعاني ، ومنها ما تقدّم أيضا في حروف الاستفهام والتّرجي والتّمني حيث توهّم أن استعمالها في غير حقايق هذه المعاني يكون مجازا ، ولذا عدوّا لكلّ واحد منها معاني كثيرة والتزموا بانسلاخها عن معانيها الحقيقة عند استعمالها في كلماته تبارك وتعالى ، وقد نبهنا أيضا أن هذا أيضا من قبيل اشتباه المفهوم بالمصداق فإنّها موضوعة للاستفهام والتّرجي والتّمني الإيقاعي الإنشائي ، وأن هذه الأمور المعدودة من المعاني لها من قبيل الدّواعي لهذا المعنى الإيقاعي الإنشائي وهو إنّما وقع في هذا الموارد ، ولذا اشتبه المفهوم بالمصداق أي المورد.

٥٢٠