غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

المسألة بدلالة بالنّهي كما سيظهر إن شاء الله.

«الأمر الثّاني»

في بيان أن المسألة هل هي أصولية أو من مباديها الأحكاميّة أو التّصديقيّة أو عقليّة كلاميّة أو فقهيّة؟ لا يخفى أن جهات هذه فيها مجتمعة فتختلف حالها بحسب ما هو الغرض والمهم من تلك الجهات ، إذ قد عرفت في صدر الكتاب أن المعيار في تمييز مسائل كلّ علم عن مسائل غيره وتمييز كلّ مسألة من علم عن سائر مسائله إنّما هو باختلاف الأغراض والجهات الدّاعية على البحث عنها ، ومعلوم أن جهات البحث في المسألة متعدّدة.

تارة : يبحث فيها لأجل أن نتيجتها ممّا ينتفع به المجتهد في مقام استنباط الأحكام الفرعيّة كحكم الصّلاة في الدّار المغصوبة وهذا هو مهم الأصولي ، فتكون على هذا من المسائل الأصوليّة حيث إنّها هي الّتي تقع في طريق الاستنباط

واخرى : يبحث فيها لأجل أن الغرض مجرّد إثبات جواز اجتماع الوجوب والحرمة وامتناعه ، وعلى هذا تكون من مباديها الأحكاميّة فإن البحث عن جواز اجتماع الحكمين وعدمه بحث عن أحوال الأحكام ولوازمها ، فتكون المسألة من مباديها التّصديقيّة ، كما أن البحث عن الأحكام وبيان حقائقها يكون من مباديها التّصورية.

وثالثة : يبحث فيها لا عن أصل جواز الاجتماع وعدمه ، بل عن أن تعدّد الوجه والعنوان هل يجدي في تعدّد الموضوع كي يقتضي جواز اجتماع الحكمين في واحد

٣٠١

ذي وجهين وعنوانين تعلق بأحدهما الأمر وبالآخر النّهي أو لا يجدي ذلك؟ كي يقتضي عدم جواز الاجتماع بناء على أن أصل مسألة اجتماع الأمر والنّهي من المسائل الأصوليّة وعلى هذا تكون المسألة من المبادي التّصديقيّة للمسائل الأصولية.

وأقول : يمكن عدها من المبادي التّصديقيّة لها حيث أن نتيجة امتناع الاجتماع وجوازه ثبوت التّزاحم بين الوجوب والحرمة وعدم ثبوته بينهما في مورد الاجتماع ومسألة التّزاحم بين الأحكام الشّرعيّة ، نظير مسألة التّعارض بين الأدلة من المسائل الأصولية ، فيكون البحث في المسألة بحثا عن مباديها التّصديقيّة كما لا يخفى.

ورابعة : يبحث فيها لأجل أن الجمع بين الوجوب والحرمة في موضوع النّزاع هل يمكن صدوره من الله تعالى أو يمتنع؟ حيث أنّه مستلزم لاجتماع الضّدين من الحكمين وما يقتضيهما من المصلحة والمفسدة ، فهو في نفسه محال لا من حيث أنّه تكليف بالمحال ، اذ بناء على اعتبار المندوحة في موضوع النّزاع لا يستلزم الجمع بين الحكمين فيه التّكليف بالمحال كما هو واضح ، وعلى هذا تكون المسألة عقلية كلامية فإن مسائلها هي الّتي يبحث فيها عن أحوال المبدأ والمعاد والبحث عن إمكان صدور هذا النّحو من التّكليف عن الله سبحانه بحسب عن أحوال المبدأ فتكون المسألة كلاميّة.

وخامسة : يبحث فيها لأجل استنباط حكم مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة من جزئيات موارد الاجتماع من حيث الصحّة والفساد ، وعلى هذا تكون المسألة فقهيّة فرعيّة إذ الّتي يبحث فيها عن أحكام أفعال المكلّفين من التّكليفيّة والوضعيّة

٣٠٢

كالصحّة والفساد ، ولا يخفى أن مهم الأصولي من البحث في المسألة هي الجهة الأولى فتكون أصولية واجتماع الجهات الأخر ، فهنا لا يقدح في كونها أصولية لكفاية وجود جهتها فيها في عدّها منها وإن أمكن عقدها كلاميّة أو فرعيّة أيضا لوجود جهتهما فيها أيضا ، ولا مانع من كون مسألة واحدة من علمين لاشتمالها على جهتين عامتين تكون بأحدهما من مسائل أحدهما وبالأخرى من مسائل الآخر كما عرفت في صدر الكتاب.

«الأمر الثّالث»

أنّه قد ظهر ممّا ذكر في تحرير محلّ النّزاع من أن مرجعه حقيقة إلى أن تعدّد الوجه والعنوان هل يكفي ويجدي في تعدّد الموضوع كي يلزم جواز اجتماع الأمر والنّهي في موضوع واحد ذي وجهين وعنوانين أم لا ، فلا يجوز اجتماعهما؟ وفيه أن المسألة عقلية لا اختصاص للنّزاع فيها بما إذا كان الإيجاب والتّحريم باللّفظ وإن كان يوهمه التّعبير بالأمر والنّهي في كلماتهم ، حيث إنّهما ظاهران في الإيجاب والتّحريم باللّفظ إلّا أنّه لأجل أن الغالب ثبوتهما به لا لأجل اختصاص النّزاع به ، فيجري النّزاع أيضا فيما لو كان الوجوب والتّحريم عقليين كما لا يخفى ، ولا شهادة في القول بالتّفصيل في المسألة بجواز الاجتماع عقلا وعدمه عرفا ـ كما عن بعض الأعلام ـ على اختصاص النّزاع فيها بالإيجاب والتّحريم اللّفظيين بدعوى أنّه لا وجه له ، إلّا أن يكون نظر المفصل إلى أن تعدّد الوجه والعنوان لمّا كان كافيا ومجديا عقلا في تعدّد الموضوع ودفع غائلة استحالة اجتماع الحكمين في موضوع ذي

٣٠٣

وجهين وعنوانين ، فلذا جوز الاجتماع عقلا ، وإلى أن كلّ واحد من الأمر والنّهي حيث يدلّ بمدلوله اللّفظي على عدم اجتماعه مع الآخر ، فلذا منع عن الاجتماع عرفا

وجه عدم الشّهادة هو أن الظّاهر أن نظر المفصل إلى أن موضوع المسألة وهو الواحد ذو الوجهين والعنوانين لما كان بالنّظر العقلي الدّقيق اثنين لا بالنّظر المسامحي العرفي فإنّه بحسبه واحد ، فلذا جواز الاجتماع عقلا لا عرفا ، ولو كان نظره إلى ما ذكر من دلالة كلّ من الأمر والنّهي على عدم اجتماعه مع الآخر لم يقتض هذا إلّا عدم وقوع الاجتماع عرفا بعد اختيار جوازه عقلا لا عدم جواز الاجتماع عرفا كما هو المدعى ، وبالجملة ليست المسألة لفظيّة بل عقليّة ، فاجتماع الوجوب والتّحريم العقليين داخل في حريم النّزاع في البين.

«الأمر الرّابع»

وربما يتوهّم اختصاص النّزاع في المسألة ببعض أقسام الوجوب والحرمة ، ولكنه فاسد لجريان ملاك النّزاع فيها بعد فرض كونها عقلية في جميع الأقسام من غير فرق بين كونهما نفسيين أو غيريين تعيينيين أو تخييريين ، عينيين أو كفائيين أو مختلفين ، لأن الأحكام بجميع أقسامها متضادة لا يمكن اجتماع واحد منها بجميع أقسامه مع الآخر كذلك ، حتى الإيجاب مع الاستحباب والحرمة مع الكراهة فإن اختلافهما وإن كان بحسب قوة مرتبة طلب الفعل والتّرك وضعفه ، إلّا أنّهما بحدّيهما مستحيلا الاجتماع في موضوع واحد نظير استحالة اجتماع كلّ منهما مع سائر الأحكام ، وملاك النّزاع في جواز الاجتماع وامتناعه في موضوع النّزاع إنّما هو أنه هل يكفي ويجدي في رفع غائلة استحالة الاجتماع ورفع التّنافي والتّضاد بين

٣٠٤

الأحكام تعدّد الوجه والعنوان كي يلزم جواز الاجتماع في موضوع النّزاع ، أو لا يكفي ولا يجدي ذلك؟ فيلزم امتناع الاجتماع فيه ، ومن الواضح أن هذا الملاك جاز في جميع الأقسام من الوجوب والحرمة من غير فرق بين أقسامهما بالمرّة أن يكون التّعدّد المذكور زمانيا ومجديا في رفع الغائلة المذكورة في بعض أقسامهما فليكن أيضا كافيا ومجديا في الباقي ، فيجوز الاجتماع في جميع الأقسام ، وإن لم يكن كافيا ومجديا في بعض الأقسام فليكن كذلك في الباقي ، فيمتنع الاجتماع في الجميع وسقوط الواجب الغيري بإتيان الفرد المحرم منه ، كما لو ذهب إلى الحج راكبا على الدّابة المغصوبة ، إذ لا تجب عليه إعادة الذّهاب إليه على القول بوجوب المقدّمة أيضا إنما هو لأجل حصول الغرض من الوجوب الغيري بفعل المحرم لا لأجل أنه اجتمع فيه الوجوب والحرمة فسقوط الوجوب مطلب آخر لا دخل له بما نحن فيه.

نعم إن جاء من جهة اختلاف بعض أقسام التّحريم مع بعض أقسام الإيجاب سواء فرضا متساويين في النّفسيّة والعينيّة والتّعيينيّة بأقسامها أو مختلفين في ذلك ما يوجب رفع الغائلة المذكورة خرج عن محلّ النّزاع تلك الصّورة لعدم جريان ملاك النّزاع في جواز الاجتماع وعدمه فيها ، إلّا إنها مجرّد فرض لا واقعيّة له ، فجميع أقسام الإيجاب والتّحريم داخلة في حريم النّزاع لاشتراكها في ملاك النّزاع في المقام وفيما وقع فيه من النّقض والإبرام ، فانصراف إطلاق لفظي الأمر والنّهي في النّفسيين التّعيينين العينيين لو سلم لا يوجب اختصاص النّزاع ببعض الأقسام ، مثلا إذا أمر بالصّلاة والصّوم تخييرا بينهما ونهى كذلك عن التّصرف في الدّار والمجالسة مع الأغيار تخييرا بينهما ، فصلى فيها مع مجالستهم كانت حال الصّلاة فيها

٣٠٥

حالها إذا أمر بها تعيينا ونهى عن التّصرف فيها كذلك في جريان ملاك النّزاع في الجواز والامتناع ومجيء ادلّة الطّرفين وما وقع من النّقص والإبرام في البين.

«الأمر الخامس»

هل تعتبر في موضوع المسألة المندوحة في مقام الامتثال كما في كلام غير واحد ، فلا يجري النّزاع الا فيما إذا كان بين متعلّق الأمر والنّهى عموما من وجه ، أو كان متعلّق النّهي أعم مطلقا من متعلّق الأمر ، ضرورة أنّه إذا كان بينهما كذلك يتمكّن المكلّف من امتثال كلا التّكليفين بخلاف ما لو كان بينهما التّساوي أو كان متعلّق النّهي أعم مطلقا من متعلق الأمر ، إذ لا محالة يتحقّق عنه المخالفة فلا مندوحة ، بل ربّما قيل بأنّ اعتبارها مفروغ عنه ، والإطلاق في كلام من أطلق إنّما هو لأجل الاتّكال على الوضوح إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال ، أو لا تعتبر المندوحة.

قضيّة التّحقيق عدم اعتبارها في محلّ النّزاع ، لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون في ثبوت جواز الاجتماع والامتناع فعلا من أي جهة وسبب كان أو من جهة خاصّة وهي لزوم المحال أعني اجتماع الضّدّين من اجتماع الحكمين بحيث تكون جهة البحث في المسألة مختصّة في هذه الجهة ، وبعبارة الاخرى من جهة أنّه هل يجدي تعدّد الوجه والعنوان في رفع غائلة استحالة اجتماع الضّدين في موضوع النّزاع أو لا يجدي؟

وعلى الأوّل ، يلزم اعتبار المندوحة إذ مع عدمها يلزم التّكليف بالمحال لانتفاء القدرة على الامتثال بدونها ، وهذه جهة اخرى للمنع غير جهة لزوم اجتماع الضّدين ، والمجوز ليس إلّا بصدد رفع الجهة الثّانية بدعواه أنّه يكفي في ذلك تعدّد الوجه والعنوان لا أنّه يجوز التّكليف بالمحال ، فلا بدّ من اعتبار المندوحة حتّى يصحّ

٣٠٦

للمجوّز إثبات جواز الاجتماع فعلا في موضوع النّزاع ، إلّا أنّه لو كان المهمّ من البحث كذلك لزم اعتبار سائر شرائط التّكليف من الفعل والاختيار ونحوهما ، إذ مع عدم المندوحة لا ينتفي إلّا أحد الشّرائط العامّة ، أعني القدرة ، ولا وجه لاعتبار خصوص هذا الشرط من بين الشّرائط ، وليس المقام مقام بيان اعتبارها كما لا يخفى.

فانقدح ، أنّه ليس المهمّ من النّزاع في المقام إثبات جواز الاجتماع والامتناع مطلقا من أي جهة وسبب كان ، وإلّا لزم اعتبار سائر الشّرائط العامّة أيضا مع أنّهم لم يعتبروها في موضوع النّزاع.

وعلى الثّاني ، فلا ينبغي اعتبار المندوحة لوضوح أنّ وجودها وعدمها لا يوجب تفاوتا في الجهة المبحوث عنها في المسألة. إن قيل بأنّه يكفي ويجدي تعدّد الوجه والعنوان في رفع غائلة لزوم اجتماع الضدّين في محلّ النّزاع لزم جواز الاجتماع فيه سواء كانت فيه مندوحة أم لم تكن ، وإن قيل بعدم كفاية التّعدّد المذكور في رفع الغائلة لزم امتناع الاجتماع فيه مطلقا ، سواء كانت فيه مندوحة أم لا ، فاعتبارها فيه أجنبي عن ما هو المهمّ من البحث في المسألة.

نعم مع عدمها يلزم التّكليف بالمحال ، وهو على مذهب من لم يجوّز التّكليف بالمحال من العدليّة محذور آخر غير المحذور الّذي هو محل الكلام في المقام من أن اجتماع الحكمين في نفسه تكليف محال ، لا أنّه تكليف بالمحال ، وحيث عرفت أن المهمّ في المقام التكلّم في أن اجتماع الأمر والنّهي في موضوع النّزاع هل هو في نفسه محال أو ليس كذلك ، فلا وجه لاعتبار المندوحة فيه كما لا يخفى.

٣٠٧

«الأمر السّادس»

وربّما قيل أو يقال أن النّزاع في المسألة مبني على القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع ، وأمّا على القول بتعلّقها بالأفراد فلا محيص من القول بامتناع الاجتماع ، إذ عليه يلزم تعلّق الحكمين بواحد شخصي وإن كان ذا وجهين ، وهو غير جائز ، لأنّ الأحكام كلّها متضادّة ، وربّما قيل أو يقال أيضا أن النّزاع في المسألة مبني على النّزاع في تلك المسألة القول بالامتناع ، على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد ، إذ عليه يكون متعلّق الحكمين المتضادّين شخصا خارجيّا وفردا واحدا ، والقول بالجواز على القول الآخر ، إذ عليه يكون متعلّق الحكمين متعدّدا بحسب الذّات وإن كان متّحدا بحسب الوجود الخارجي. وعلى هذا التّوهّم يكون مرجع النّزاع في المسألة إلى النّزاع في تلك المسألة.

وقضيّة كلا التّوهمين إنّه على القول بتعلق الأحكام بالأفراد لا محيص من الالتزام بامتناع الاجتماع ، ولكن كلا التوهّمين فاسد ، لجريان النّزاع هنا على كلا القولين هناك. لأحد أن يقول بتعلّق الأحكام بالأفراد وبجواز الاجتماع وله أن يعكس بأن يقول بتعلّقها بالطّبائع وبالامتناع لعدم ترتّب شيء من القولين هنا على شيء من القولين هناك ، وذلك لأن الّذي يجدي هنا كما سيأتي تحقيقه إنشاء الله هو أنّه هل يكفي تعدّد الوجه والعنوان في رفع غائلة استحالة اجتماع الضّدّين في الموضوع الواحد أو لا يكفي؟

وبعبارة الاخرى ، تعدّد الوجه والعنوان هل يوجب تعدّده فيكون موجودين توأمين بوجود واحد فيجوز الاجتماع مطلقا ، سواء قيل بتعلّق الأحكام بالطّبائع أو بالأفراد ، أو لا يوجب تعدّده ، بل وحدة وجوده يمنع من كونه اثنين فيكون

٣٠٨

موجودا واحد بوجود واحد وإن كان ذا وجهين وعنوانين ، فلا يجوز الاجتماع فيه أيضا على كلا القولين ، إذ لا تفاوت بينهما إلّا في أنّ الخصوصيّات المشخّصة والمفرّدة داخلة في متعلّقات الأحكام ومن قبيل المقوّمات لها على القول بتعلّقها بالأفراد ، وخارجة عنها ومن قبيل اللّوازم لها على القول الآخر ، فتلك الخصوصيّات كالطّبائع مبغوضة أو مطلوبة على الأوّل وخارجة عنهما على الثّاني.

وبالجملة ، ليست متعلّقات الأحكام على القولين سوى الوجودات الخارجيّة ، غاية الأمر أنها السّعي وهو الطّبيعي مع خروج لوازم الطبيعة من الخصوصيّات المشخّصة لها متعلّقاتها على الثّاني ، وبوجودها الضيق الفردي ، أعني مع تلك الخصوصيّات المنضمّات إلى وجودها السّعي متعلّقاتها على الأوّل. ومن الواضح أن هذا الاختلاف لا يجدي أصلا في حكم محلّ النّزاع كالصّلاة في الدّار المغضوبة من حيث جواز الاجتماع والامتناع ، فإن متعلّق الأمر والنّهي فيه كالحركات والسّكنات الّتي يصدق عليها عنوانا الصّلاة والغصب موضوع واحد بحسب الوجود الخارجي قطعا وبلا إشكال ، ضرورة إنّ الوجود الخارجي ليس من قبيل المفاهيم الذّهنيّة كي يقبل التعدّد والكثرة ، أي الصّدق على كثيرين غاية الأمر أن ذلك الواحد وجودا بوجوده الطّبيعي أي بوجوده السّعي متعلّق الأمر والنّهي على القول بتعلّقهما بالطّبائع ، وبوجوده الخاص ، أعني مع خصوصياته المنضمّة إلى وجوده السّعي وهي وقوعه في الوقت الخاص والمكان الخاص ومن الشّخص الخاص وبكيفيّته الخاصّة متعلّقهما على القول الآخر ، فهذه هي ثمرة الخلاف في تلك المسألة ، ومعلوم أنّها لا تفيد في المقام أصلا ، فإنّ وحدة وجود موردا الاجتماع وإن

٣٠٩

كان متعدّد الوجه والعنوان إن كان يضرّ بتعدّد متعلّقي الأمر والنّهي وكونهما حقيقتين ومقوّمتين ، فلا فرق بين فرضه طبيعيّا وجودا سعيا وبين فرضه وجودا ضيقا فرديّا ، إذ على التّقديرين لا يخرج عن وحدته وجودا ، فإن لم يكن كافيا تعدّد عنوانه بناء علىّ فرضه فردا وشخصيّا في تعدّده وكونه فردين موجودين توأمين بوجود واحد كما هو مدّعي المانعين فليكن كذلك غير كاف في تعدّده وكونه طبيعتين توأمين في وجود واحد بناء على فرضه طبيعيا ووجودا سعيا ، فلا يجوز الاجتماع على كلا القولين ، وإن لم يضرّ بتعدّد متعلّقي الأمر والنّهي وكونهما طبيعتين ومقولتين فلا فرق أيضا بين فرضه طبيعيّا ووجودا سعيّا وبين فرضه وجودا ضيّقا فرديّا ، فإن كان تعدّد عنوانه مع وحدة وجوده كافيا في تعدّده وكونه طبيعتين موجودتين بوجود واحد على فرضه طبيعيّا كما هو مدّعى المجوزين فليكن تعدّد عنوانه أيضا كافيا في كونه فردين موجودين توأمين في موجود آخر على فرضه فردا شخصيّا ، فيجوز الاجتماع على كلا القولين ، وليست الوحدة الطّبيعية في مجمع الطبيعتين كالصّلاة في الدّار المغصوبة من قبيل الوحدة الجنسيّة كالسّجود لله تعالى وللصّنم ، حيث أنّه يجوز فيها الاجتماع بلا خلاف وإشكال ، لأنّ متعلّق الحكمين في الوحدة الجنسيّة متعدّد بحسب الوجود ، فأين وجود السجود لله تعالى من وجود السّجود للصّنم؟ فلا مانع من وجوب الأوّل وحرمة الثّاني بخلاف الوحدة في مجمع الطبيعتين فإنّه حقيقة وجود واحد ولا تعدّد فيه قطعا ، فالّذي يجدي فيه هو ما عرفت من أنّ تعدّد الوجود والعنوان فيه هل يكفي في رفع استحالة اجتماع الضّدّين فيجوز الاجتماع فيه؟ لأنّه على هذا اثنان كما يقول به المجوّز ، غاية الأمر أنهما طبيعتان تعلّق بأحدهما الأمر كالصّلاة وبالاخرى النّهي كالغصب على القول

٣١٠

بتعلّق الأحكام بالطّبائع ، وفردان من طبيعتين تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النّهي على القول الآخر.

فانقدح ممّا ذكرنا ، أنّ مورد اجتماع الأمر والنّهي ـ أعني مجمع العنوانين ـ سواء فرض طبيعيّا أو شخصيّا ، يمكن فرض التّعدد فيه وكونه مع وحدة وجوده طبيعتين أو فردين منهما كما يلتزم به القائل بجواز الاجتماع ، ويمكن فرض وحدته واندارجه تحت حقيقة ومقولة واحدة من الكيف أو الوضع سواء فرض أيضا واحدا طبيعيّا أو شخصيّا كما يلتزم به القائل بالامتناع ، وليست قضيّة القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع كونه اثنين حتّى يلزم القول بالجواز ، ولا قضيّة القول بتعلّقها بالأفراد كونه واحدا ومندرجا تحت مقولة واحدة كي يلزم القول بالامتناع ، فلا يتفرّع شيء من القولين هنا على شيء من القولين هناك.

وربّما يتوهّم ، أيضا أنّه على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد يكون اجتماع الأمر والنّهي في مورد الاجتماع من قبيل الأمر ، إذ عليه تعلّق كلّ واحد من الحكمين بواحد شخصي ، وهو لا يجوز لأنّه يستلزم اجتماع الضّدّين ، بخلاف القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع ، إذ عليه لم يتعلّق الحكمان بواحد الشّخصي ، بل إنّما جمع بينهما فيه المكلّف في مقام الامتثال والعصيان بسوء اختياره ، فلا يجوز الاجتماع لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

وفساد هذا التّوهّم يظهر ممّا تقدّم من أنّ به التّفاوت بين القولين ليس إلّا كون الخصوصيّات المفرّدة داخلة في متعلّقات الأحكام على القول بتعلّقها بالأفراد ، وخارجه عنها على القول الآخر وعلى القولين متعلّقاتها الوجودات الخارجيّة ، أمّا

٣١١

بوجودها السّعي والطّبيعي كما هو قضيّة القول الثّاني ، وأمّا بوجودها الضيّق الفردي كما هو قضيّة القول الأوّل ، والوجود الخارجي في مورد الاجتماع واحد قطعا ، فالاجتماع فيه سواء فرض طبيعيّا أو شخصيّا من قبل الأمر على كلا القولين ، فإنّ المسألة حسب ما عرفت عقليّة لا اختصاص له باللّفظ ، فلا يكاد يوجد مورد للاجتماع إلّا إذا اخذ متعلّق كلّ من الحكمين على وجه يشمل مورد الاجتماع بأن يكون فيه ملاك كليهما من المصلحة والمفسدة ، ضرورة أنّه لو لم يكن فيه ملاكاهما فلا يقع فيه اجتماع بين الحكمين أصلا كي يكون من باب مسألة اجتماع الأمر والنّهي ، نعم ، إذا أخذ متعلّق كلّ منهما في ظاهر اللّفظ والخطاب على وجه يشمل مورد الاجتماع مع إحراز عدم المقتضي لكلا الحكمين فيه وقع التّنافي بينهما فيه من باب تعارض الأدلّة ، للعلم الإجمالي حينئذ بكذب أحد الدّليلين ولو بعمومه أو إطلاقه إن فرض قطعيّا من حيث السّند ، وهذا هو المعيار في باب التّعارض ، فيعمل فيه عمل باب المعارضة من التّرجيح دلالة أو سندا أو التّخيير.

وبالجملة ، قضيّة كون المسألة عقليّة أنّه لا بدّ في مورد الاجتماع من وجود مناط كلا الحكمين كي يشملانه ، وهو سواء فرض طبيعيّا أو شخصيّا على الخلاف فيه وجود واحد ، ضرورة أنّه لا يتصوّر التّعدّد في الوجود الخارجي ، فاجتماع النّهي والأمر فيه من قبل الأمر على كلا القولين ، على القول بجواز الاجتماع يكون مورده محكوما فعلا بكلا الحكمين ومرتّب عليهما لوازمها جميعا ، وعلى القول بالامتناع لا يكون إلّا محكوما بحكم واحد إن كان أحد المناطين أقوى بحيث يكون المقدار الباقي منه بعد المزاحمة والكسر والانكسار لازم الرّعاية ، فلا محالة يكون إمّا واجبا أو حراما ، وإن كان بمقدار يقتضي الاستحباب أو الكراهة ، يكون مستحبّا أو

٣١٢

مكروها وإن كان المناطان متساويين يصير مباحا.

ومن هنا انقدح وجه الفرق بين المسألة وبين مسألة التّعارض بين الأدلّة وسيأتي إنشاء الله.

وكيف كان لا وجه لما هو المعروف في الألسنة من أن اجتماع الأمر والنّهي على القول بتعلّق الأحكام بالأفراد أمري ، وعلى القول بتعلّقها بالطّبائع مأموري ، بل أمري على كلا القولين حسبما عرفت.

وربّما يتوهّم ، أيضا ابتناء المسألة على مسألة أصالة الوجود أو الماهيّة ، القول بالامتناع على القول بأصالة الوجود والقول بالجواز على القول بأصالة الماهيّة ، ولعلّ منشأ التوهّم هو أنّ وجود متعلقي الأمر والنّهي في مورد الاجتماع والتصادق واحد لا تعدّد فيه قطعا ، فعلى القول بأصالة الوجود لا يجوز الاجتماع ، إذ عليه يلزم من اجتماعهما في مورد الاجتماع والتّصادق اجتماع الضّدّين في أمر واحد ، بخلاف القول بأصالة الماهيّة ، فإن متعلّقي الأمر والنّهي متعدّد ماهيّة ، كالصّلاة والغصب وإن كان موجودين في المجمع بوجود واحد ، فيجوز الاجتماع فيه ، إذ لا يلزم فيه على هذا من اجتماع الحكمين اجتماع الضّدين في واحد ، بل في اثنين.

وهذا التّوهّم ، أيضا فاسد فإن وحدة وجود المجمع حسب الفرض يستلزم وحدة الموجود لاستحالة اجتماع ماهيّتين في عرض واحد أي بتمام حدّيهما في موجود بوجود واحد بأن يكون موجود كذلك مندرجا تحت مقولتين كالوضع والأين مثلا ، وإلّا لم يكن الممكن مركّبا زوجيّا من وجود وماهيّة ، وقد اتّفقوا على ذلك وإن اختلفوا في أنّ الأصيل منهما أي المنشأ للآثار والمصادر والمجعول والمتحقق حقيقة

٣١٣

في الخارج أي واحد منهما؟ بحيث يصحّ ويحسن أن ينتزع عنه الآخر ، فيحمل عليه الموجود ، قيل بأنّه الوجود ، وقيل بأنّه الماهيّة. وعلى القولين لا إشكال ولا خلاف بينهم في أنّ الحكمين الخارجي مركّب من أمرين ، فإن كان الوجود في المجمع واحد على القول بأصالة الوجود فلا محالة تكون الماهيّة فيه أيضا واحدة على القول بأصالة الماهيّة.

نعم يمكن اجتماع ماهيّات عديدة في موجود بوجود واحد طولا لا عرضا كاجتماع الأجناس العاليّة في نوع الأنواع كالإنسان ، فإنّ فيه اجتمع جميع الأجناس من الجوهر إلى الحيوان ، إلّا أنّ كلّ واحدة من هذه ليست تمام حدّ الإنسان كما لا يخفى ، والّذي نقول باستحالته هو اجتماع ماهيّتين عرضا وبتمام حدّيهما في وجود واحد بأن يكون أمر خارجي مع وحدة وجوده ما بحذاء ماهيّتين وتحت مقولتين ، فلا بدّ من أن يكون متعلّقا الأمر والنّهي المتصادقان على موضوع واحد أمّا كليهما مفهومين انتزاعيين من قبيل الخارج المحمول ، أو أحدهما كذلك والآخر ذاتيّا ، إذ لو كانا ذاتيين أو كان أحدهما كذلك والآخر من قبيل المحمول بالضّميمة لم يمكن تصادقهما واجتماعهما في موجود بوجود واحد ، وليس كلّ مفهوم يصدق على موضوع خارجي أن يكون وذاتيا له ، ربّما يكون انتزاعيّا له ، ولا يصحّ تعلّق التّكليف بكلّ مفهوم انتزاعي ولا ندعى هذا ، ضرورة أنّ الانتزاع والاختراع قد يكون غير صحيح كأنياب الأغيال ، وهذا النّحو من الأمور الانتزاعيّة غير قابل لتعلّق التّكليف به وقد يكون الانتزاع والاختراع صحيحا إذا كان منشؤه به صحيحا كالابوة والبنوة والأخوة والحرّيّة والرقيّة والزّوجيّة والملكيّة والوكالة والولاية ونحوها من الإضافات والاعتبارات الّتي تكون صحيحة عند العقلاء ،

٣١٤

فيجوز تعلّق التّكليف به ، إلّا أن من الواضح أن انتزاع أمثال هذه المفاهيم لا يوجب تعدّدا في حقيقة المنتزع عنه ، بل هو باق على ما هو عليه من اندراجه تحت أيّة مقولة واحدة من المقولات التّسع ، سواء اتّصف بذلك الأمر الانتزاعي من الملكيّة ونحوهما أم بعدمه كما لا يخفى.

وبالجملة ، اتّحاد الوجود لا ينفك عن اتّحاد الموجود بحسب الماهيّة ، فإن كان اتّحاد الوجود يستلزم القول بعدم جواز الاجتماع لعدم كفاية تعدّد الجهة والعنوان في ذلك ، فكذلك اتّحاد الموجود بحسب الماهيّة وإن كان اتّحاد الموجود بحسب الماهيّة ، لا يقتضي الامتناع لكفاية تعدّد الجهة والعنوان في جواز الاجتماع ، فكذلك في طرف الوجود من غير فرق أصلا ، فلا يبتني النّزاع في المسألة على النّزاع في تلك المسألة ، ويشهد على ذلك عدم التفات كثير من المجوّزين والمانعين على النّزاع في تلك المسألة وعدم ذكرها في المبادي التّصديقيّة للمسألة ، بل وكثير من القائلين بأصالة الماهيّة قائلون بالامتناع ، وكثير من القائلين بأصالة الماهيّة قائلون بجواز الاجتماع ، فالتّوهّم المذكور وإن ذكر في الفصول فاسد جدّا ، وإن شئت توضيح ما ذكرنا من أنّ وحدة الوجود تستلزم وحدة الماهيّة الموجودة به فلاحظ جزئيّا من موارد الاجتماع كالرّكوع والسّجود من الصّلاة الواقعة في الدّار المغضوبة مثلا ، هل الرّكوع الّذي يكون من مقولة الوضع متعدّد حقيقة باعتبار مصادفته مع إذن المالك وعدمه ، أم مطلقا من مقولة الوضع صارفة الإذن أو المنع من المالك ، وكذا السّجود هل متعدّد حقيقته ومقولته باعتبار إذن المالك ومنعه أم لا؟ وكذا سائر الموارد الاجتماع ، ومن الواضح أنّ حقيقته مورد الاجتماع سواء كان أمرا بسيطا أو مركّبا

٣١٥

من أجزاء مختلفة الحقائق مثل التّصرّفات الصّلاتية الّتي يصدق عليها الغصب لا تتعدّد بتصادق مفهومين عليها فإن كانت حقيقة واحدة كوجوده فلا فرق بين القول بأصالة الماهيّة أو الوجود في جريان النّزاع في جواز الاجتماع وامتناع الاجتماع على كلا القولين على حدّ سواء.

«الأمر السّابع»

قد مرّت الإشارة إلى أن مسألة اجتماع الأمر والنّهي غير مسألة التّعارض بين الأدلّة وإنّه لا يكون من باب الاجتماع ، إلّا إذا كان في كلّ واحد من متعلّقي الإيجاب والتّحريم مناط حكمه مطلقا حتّى في مورد الاجتماع والتّصادق كي يكون على القول بالجواز محكوما فعلا بكلا الحكمين ، وعلى القول بالامتناع محكوما بحكم واحد على حسب ما يقتضيه تزاحم المناطين ، فإن كان أحدهما أقوى بحيث يكون الثّاني منه بعد المزاحمة بالآخر وحصول الكسر والانكسار وبمقدار يقتضي الإيجاب أو التّحريم كان واجبا أو حراما ، وإن كان بمقدار يقتضي الاستحباب أو الكراهة كان مستحبّا أو مكروها ، وإلّا كان مباحا فتعيّن حكمه وترجيح أحد الحكمين فيه يحتاج إلى إحراز مناطه لا بالمرجّحات الّتي تكون هي المرجع عند تعارض الأدلّة ، فإنّه لا يكاد يتحقّق إلّا فيما علم إجمالا بكذب أحد لدليلين بمعنى عدم وجود مناط حكمه واقعا في مورد الاجتماع ، فربّما كان التّرجيح في باب الاجتماع مع ما كان التّرجيح مع خلافه في باب التّعارض ويقدّم من الوجوب أو الحرمة ما كان أقوى مناطا وإن كان أضعف دليلا سندا أو دلالة ، ولذا لو قلنا بالامتناع ورجّحنا جانب الحرمة أمكن وقوع المجمع صحيحا إذا كان من

٣١٦

العبادات فيما عرض على المكلّف ما يمنع عن فعليّة النّهي في حقّه من غفلة أو نسيان أو نحوهما من الإعذار المانعة عقلا عن فعليّة النّهي مع عدم كونه مقصّرا في جهله ، فإنّه إذا أتى به بنيّة العبادة في هذه الحالة كأن صلّى في الدّار المغصوبة غفلة أو نسيانا أو جهلا بالحكم عن قصور كان صحيحا ، فإن المقتضي للأمر به موجود حسب الفرض المانع عنه ، وهو فعليّة النّهي لأجل الجهل بالعنوان أو بأصل الحكم مع كونه قاصرا فيه ـ مفقود ، فيقع صحيحا ، بخلاف ما لو كان ترجيح جانب الحرمة بمرجّحات باب المعارضة ، فإن قضيّتها خروج المجمع عن متعلّق الأمر واقعا ، فلا يمكن أن يقع صحيحا ، إذ لا أمر به أصلا كي يقتضي إجزائه وصحّته.

وبالجملة ، قضيّة بابي الاجتماع والتّعارض مختلفة كما لا يخفى ، فإن احرز من الدّليلين أو غيرهما من إجماع ونحوه أنّ مورد الاجتماع من أي القسمين فهو ولا إشكال في حكمه ، وإن لم يحرز ذلك لم يكن فيه سوى الدّليلان اللّذان يشملانه عموما أو إطلاقا سواء كان بينهما عموم من وجه أو عموم مطلق ، لكن مع تعلّق كلّ من الحكمين بعنوان على حدّة يتصادقان فيه ، إذ لو فرض تعلّقهما بعنوان واحد كعنواني الصّلاة وصلاة الحائض مثلا يكون مورد الاجتماع من موارد مسألة النّهي عن العبادة كما تقدّم ، فهل هو ملحق بأي القسمين تجري فيه قواعد باب المعارضة والتّرجيح كما لعلّه ظاهر عمل الأصحاب ، حيث أنّ الظّاهر من حالهم أنّهم لا يلاحظون عند تنافي الدّليلين أنّ ملاك كلا الحكمين في مورد التّنافي هل هو موجود أم لا؟ ويعملون فيه بقواعد باب المعارضة من التّرجى أو التّخيير أو تجري فيه قواعد باب المزاحمة وينزل عمل الأصحاب بقواعد المعارضة على موارد أحرزوا فيها ما هو مناط باب المعارضة من العلم الإجمالي بكذب أحد الدّليلين واقعا ، أو

٣١٧

لا بدّ فيه من التّوقّف التّحقيق أن الدّليلان المتنافيان إمّا أن يكونا في مقام بيان الحكم الاقتضائي والذّاتي نظير أدلّة حليّة الغنم ونحوه ممّا لا تنافي ثبوت الحرمة لأجل طروّ عارض من الغصب أو الوطي ونحو ذلك فيكون كلّ منهما دليلا على ثبوت المقتضي والمناط في متعلقه مطلقا حتّى في مورد الاجتماع فيكون من هذا الباب ، إلّا إذا علم إجمالا بكذب أحدهما فيكون من باب المعارضة.

وأمّا أن يكونا في مقام بيان الحكم الفعلي

فعلى القول بجواز الاجتماع لا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي لكلا الحكمين في مورد الاجتماع ، إذ

عليه لا تزاحم بينهما فيحكم فيه فعلا بكليهما إلّا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدّليلين فيعمل فيه حينئذ بقواعد باب المعارضة.

وأمّا على القول بالامتناع فإن أمكن حمل كليهما أو خصوص الظّاهر منهما في الفعليّة على الاقتضائي لكن لا مطلقا كي يكونا مهملين ولا يقتضي شيء منهما فعليّته الحكم في غير مورد الاجتماع أيضا ، بل من جهة الاجتماع خاصّة بأن تكون هي مانعة عن فعليّتهما فيه ، إمّا لأجل كون هذا النّحو من الحمل طريق جمع وتوفيق عرفي بينهما ، أو لأجل استكشاف ثبوت المقتضي لهما من الفعليّة بطريق الإنّ لإنّها لا تتحقّق إلّا بعد وجود المقتضي كان حكمهما في مورد الاجتماع حكم الاقتضائيين وإن لم يكن ذلك لمنع كون الحمل المذكور جمعا وتوفيقا عرفيّا ولمنع استكشاف ثبوت المقتضي لهما في مورد الاجتماع ، إذ على القول بالامتناع لا يعلم فيه إلّا عدم أحد الحكمين ، وإمّا أنّه لأجل عدم المقتضي له أو لأجل وجود المانع عنه ، فغير معلوم ، كلّ منهما ممكن فإن لم يكن كلّ واحد منهما ظاهرا في فعليّة الحكم مطلقا حتّى في مورد الاجتماع بأنّ فرض أن مدلوليهما بالنّسبة إليه ليس إلّا ثبوت الحكم له في

٣١٨

الجملة ، وإمّا أنّه فعلى أو اقتضائي فلا يستظهر (١) من واحد منهما فيعمل فيه عمل باب المعارضة لعدم إحراز مناط كلا الحكمين فيه كي يكون من باب الاجتماع.

وإن كان كلّ واحد منهما ظاهرا في فعليّة الحكم مطلقا في مورد الاجتماع بأن فرض أنّ دليل حرمة الغصب مثلا ظاهر في حرمته وإن كان تصرّفا صلاتيّا ودليل وجوب الصّلاة ظاهر في وجوبها وإن كانت تصرّفا غصبيّا كان تنافي بينهما حينئذ من باب التّعارض ، إذ على القول بالامتناع لا يمكن ثبوت حكمين فعليين في مورد واحد فيعلم إجمالا بكذب أحد الدّليلين ، فيعمل بينهما فيه عمل باب المعارضة.

فتلخّص ممّا ذكرنا عنه كلّما علم إجمالا بكذب أحد الدّليلين كان باب التّعارض ، فالمرجع فيه قواعده من التّرجيح بمرجّحات الرّوايات بين الأدلّة أو التّخيير ، وإن يعلم بكذب أحدهما فإن كانا اقتضائيين كان باب الاجتماع على القولين ، فيعمل فيه بقواعده من الجمع بينهما على القول بالجواز ، ومن التّرجيح بمرجّحات المقتضيات المتزاحمات لا بمرجّحات الرّوايات على القول بالامتناع ، فربّما يرجّح ما هو أضعف سندا أو دلالة ، وكذا إن كان فعليين وكان فيهما أو في شيء من الخارج دلالة على ثبوت المقتضي لكلا الحكمين في مورد الاجتماع ، وإلّا فهو من باب التّعارض على القول بالامتناع ويجمع بينهما فيه على القول بالجواز.

وأقول : قضيّة ما افيد هنا أنّ باب المعارضة إنّما يتحقّق فيما إذا لم يحرز المقتضي والمناط لكلا الحكمين في مورد الاجتماع سواء احرز عدمه فيه أم لا؟ وبعبارة الاخرى سواء علم أنّ عدم فعليّة الحكمين فيه لأجل عدم وجود المقتضي لكليهما فيه أم لم يعلم أنّه لذلك ، أو لأجل وجود المانع عنه بأن يكون ابتلاء كلّ منهم

__________________

(١) وظنّي هكذا فيه في المباحثة وهو مخالف لما في الكفاية ، وكيف كان فرض هذا الموضوع مشكل وحكمه على النحو المذكور أشكل ، لمحرره.

٣١٩

بمزاحمة الآخر منشأ لعدم فعليّة الحكمين فيه ، وأمّا إذا أحرز وجود المقتضي لهما فيه فهو باب الاجتماع كلّ عدم مذهبه ، فعلى هذا يظهر محمل صحيح لعمل الأصحاب بقواعد باب المعارضة من التّرجيح بمرجّحات الرّوايات أو التّخيير من غير ملاحظة وجود المناط والفحص عنه في مورد الاجتماع ، فإن الظّاهر أن عملهم كذلك إنّما يكون في موارد يكون ظاهر كلّ من الدّليلين فعليّة حكمه حتّى في مورد الاجتماع ، وقد تقدّم أنّه في مثل هذا الفرض على القول بالامتناع من موارد باب المعارضة ، إذ عليه لا يمكن ثبوت حكمين فعليين كما هو قضيّة كلّ من الدّليلين في مورد واحد أي المجمع ، فلا بدّ فيه من الرّجوع إلى مرجّحات الرّوايات لا مرجّحات المقتضيات المتزاحمات لعدم إحرازها.

نعم ، على القول بالجواز لا ينبغي إعمال قواعد باب المعارضة إلّا مع العلم إجمالا بكذب أحد الدّليلين أي بعدم المقتضي والمناط لكلا الحكمين في مورد الاجتماع ، ولعلّ هذا معلوم لهم في موارد التنافي ، ولذا لا يعملون فيها بقواعد باب المعارضة حتّى القائلون بجواز الاجتماع إلّا أن الشّأن في إثبات ما ذكر.

توضيحه ، أنّه لو احرز في مورد الاجتماع مناطا الحكمين كان من باب الاجتماع وإن احرز عدمهما فيه كان من باب التّعارض هذا بحسب مقام الثّبوت

وأمّا بحسب مقام الإثبات : فإن لم يحرز من الدّليلين أو الخارج شيء من الوجهين إلّا أنّه علم أنّ قضيّة إطلاقي الحكمين أو عمومهما ثبوتهما فعلا في مورد الاجتماع فلأي وجه يحكم فيه بقواعد باب التّعارض من أن واقعه يحتمل أن يكون من باب تزاحم المقتضيين ، إلّا أنّ يقال أنّه قضيّة أدلّة الإطلاق الأخبار العلاجيّة ، غاية الأمر أنّه خرج عنها ما لو احرز المقتضي والمناط لكلا الحكمين مطلقا حتّى في

٣٢٠