غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

عليها بما هو من لوازمها وآثارها والحاجة وإن كانت قد تؤدي الى الاستعمال في الأعم أو الفاسد أيضا إلّا أنها لا تقتضي أن يكون بنحو الحقيقة ، بل يكفي فيه أن يكون مسامحة تنزيلا للفاسد منزلة الصّحيح ، والمهم في نظر الشّارع المطابق لغرضه هو الصحيح ، لأنه مما يتعلق به تكليفه ويثبت له الأجزاء والشّرائط ، فهو وضع اللّفظ بازائه لأنه غير متخطئ عن طريقة الواضعين في أوضاعه.

وقيل : أن هذه الدّعوى وإن كانت قرينة بحسب الاعتبار إلّا أنها لا تفيد القطع لوضع الشّارع

للصّحيح لأنهما مجرد استحسان واعتبار فلا اعتبار بها في المقام.

* * *

٨١

واعلم أنّه قد استدل للاعمّي

أيضا بوجوه

الوجه الأوّل : تبادر الأعم من الالفاظ عند تجردها عن القرائن.

الوجه الثّاني : عدم صحّة سلب أساميها عن الفاسد.

ويرد عليهما : أنّهما متوقفان على معرفة الجامع بين أفراد الصّحيح والفاسد بجميع مراتبهما ولو بوجه ، وقد عرفت الاشكال في إمكان تصويره ومعرفته ولو بخواصّه وآثاره لعدم اشتراك الكلّ في أثر كي يجعل طريقا إلى معرفته وتصويره ويشار به إليه ، نظير النّهي عن الفحشاء بين الافراد الصّحيحة من الصّلاة ولذا تصح دعوى التّبادر وعدم صحة السّلب على الصّحيحي دون الأعمّي.

الوجه الثّالث : صحّة التّقسيم الى الصّحيح والفاسد ، فإنه ظاهر في أن لفظ المقسم حقيقة بما قسم إليه.

وفيه : أن التقسيم إنّما يكشف عن كون لفظ المقسم مستعملا في الأعم ، وأمّا أنه حقيقة فيه فلا ، إذ لو فرض العلم بكونه حقيقة في الاخص كالصّحيح أو الفاسد مثلا جاز تقسيمه أيضا الى القسمين ، غاية الامر أن هذا العلم يكون قرينة على أنه اريد به معنى عام كمطلق ما يستعمل فيه اللّفظ أعم من الحقيقة والمجاز من باب عموم المجاز. نعم ، ظاهر التّقسيم كون لفظ المقسم حقيقة في الأعم إلّا أن هذا الظّهور

٨٢

ممّا لا دليل على اعتباره ، فإن القدر المعلوم من بناء العقلاء الذي هو المدرك لاعتباره اعتباره في مقام تعيين مراد المتكلّم وأمّا في إثبات سائر اللوازم فهو كما نقدم.

الوجه الرّابع : إطلاق الصّلاة وغيرها من الفاظ العبادات في غير واحد من الأخبار على الأعم كقوله (ع) : «بني الاسلام على الخمس الصّلاة والزّكاة والصّوم والحجّ والولاية ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية فأخذ النّاس بالأربع وتركوا هذه فلو أن أحدا صام نهاره وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة» إذ بناء على بطلان عبادات تاركي الولاية لم يمكن أخذهم بالأربع إلّا إذا كانت أسامي للأعم ، وما استعمل في الأعم في هذه الفقرة وإن كان هو لفظ الأربع إلّا أنه عبارة عن الصّلاة والزّكاة والصّوم والحج ، فيعلم منه إنّها أيضا مستعملة في الأعم وكقوله : «دعي الصّلاة أيّام اقرائك». فإنه لا بدّ وأن يكون المراد بها الفاسدة لتمكن الحائض منها دون الصّحيحة ، فلو كان المراد بها هذه لزم تكليفها بغير المقدور وهو غير جائز ، فتعين أن يكون المراد بها الفاسدة.

وفيه : مضافا الى أن الاستعمال أعم من الحقيقة ، أن المراد في لفقرة الاولى من الرّواية الاولى الصّحيحة قطعا ، لأنّها هي الّتي بني عليها الاسلام ، فبهذه القرينة تحمل الالفاظ على الصّحيحة لا الفاسدة ، وأمّا في الفقرة الثّانية ، أعني قوله (ع) : «فأخذ النّاس بالاربع ...» وقوله (ع) : «فلو أن أحدا صام ... الخ» أن يمكن أن يكون المراد أيضا الصّحيحة لكن بحسب اعتقاد منكري الولاية لا بحسب الواقع والحقيقة ، ويمكن أن يكون المراد الفاسدة من باب عموم المجاز واطلاق الكلّي على الفرد أو لأجل المشابهة أو المشاكلة نظير قوله تعالى : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا

٨٣

اعْتَدى عَلَيْكُمْ) ضرورة أن مجازات الاعتداء ليس باعتداء ، وأمّا في الرواية الثانية فالمراد أيضا الصّحيحة لكون النّهي عن العبادة إرشادا إلى عدم تعلق القدرة بها ، وذلك لأن حرمة العبادات شريعة بمعنى إنها حين ما تعلق النّهي بها لم تكن مشروعة لا ذاتية وإلّا لزم أن يكون إتيان الحائض بصورة الصّلاة بدون قصد القربة والتّشريع ، بل ومع الاخلال بسائر ما يعتبر منها ما لا يخل بصدق اسم الصّلاة عليها عرفا محرما. ولا يلتزم به أحد. وهكذا غيرها كالصّوم والطّواف في حقّها أو في حقّ غيرها من المكلّفين ممن تعلق النّهي به عن عبادة في حال من الاحوال كالصّوم يوم العيدين ، فلا بدّ أن يكون النّهي عنها كاشفا عن عدم تعلق قدرة المكلّف بها وإرشادا الى عدم وقوعها عن المكلّف نظير الامر بالوفاء بالعقود ، فإنه أيضا إرشاد إلى وقوعها في الخارج وليس على حد سائر الأوامر يتمكن المكلّف من مخالفته ، إذ بمجرد وقوع عقد البيع مثلا يتحقق أثره وهو النّقل والانتقال ، فهلّا يتمكن كلّ من المتعاقدين عن مخالفة (أَوْفُوا)

وبالجملة : النّهي عن العبادة ليس إلّا كالأمر بالوفاء بالمعاملة في أن المراد عدم وقوع العبادة ووقوع المعاملة بعد إيجاد العقد في الخارج عن المكلّف فكلّ منهما إرشادي بهذا المعنى ، فليس متعلق النّهي والأمر في المقامين إلّا الصّحيحة.

الوجه الخامس : إنّها لو كانت أسامي لخصوص الصّحيحة لزم عدم تمكن المكلّف من حنث النّذر وشبهه إذا تعلق بعبادة مكروهة كما لو نذر أن لا يصلّي في الحمام فإنّها بعد تعلق النّهي بها تصير محرمة فتصير فاسدة لاقتضاء النّهي فساد العبادة ، فيلزم عدم تمكن المكلّف من الحنث ، فلا بدّ أن يكون متعلق النّذر ما هو أعم من الصّحيحة ، بل لو اعتبر في صحة النذر كون متعلقه صحيحا لزم من فرض

٨٤

وجودها عدمها ، والتالي باطل لاستحالته عقلا فالمقدم مثله ، تبيان الملازمة أن تعلق النّذر بترك العبادة المكروه يقتضي النّهي عنها والنّهي عنها يقتضي فسادها وفسادها يقتضي عدم صحة النّذر بتركها ، فصحة النّذر تستلزم عدمها بواسطتين.

وفيه : أن ما ذكر لو صح كان برهانا عقليا لاثبات أن متعلق النّذر الصّحيح لا بدّ أن يكون هو الأعم ولا يثبت وضعه له كما أنه لا ينافي ثبوت وضعه للصحيح فلا يصلح لأن يستدل به أصلا ، لأنه مضافا إلى أنه لا يثبت المدعي لا ينافي مذهب الخصم أيضا ، ولا أقل في الدليل من كونه منافيا لمذهب الخصم كما لا يخفى. مع أن عدم تمكن المكلّف من حنث النّذر لو كان متعلقه خصوص الصّحيح ممنوع إذ لا يعتبر فيه فعلا كان أو تركا أزيد من كونه مطلوبا في نفسه ، ومع قطع النّظر عن النّذر لا مطلقا حتى مع لحاظه وبعده ، فالفساد الناشئ من قبل النّذر إن تعلق بترك عبادة مرجوحه لا يمنع من إمكان تحقق حنثه ولو فرض أنّه يعتبر في متعلق النّذر كونه مطلوبا فعلا مطلقا حتى بعد المنذر لزم ما ذكره المستدل من أنه لا يمكن الحنث إن كان متعلق النّذر خصوص الصّحيح. ولكن نقول : هذا مسلم ولا بأس به ، ولنا أن نلتزم به إذ لا مانع عنه عقلا لأن عدم تمكن المكلّف من حنث النّذر حينئذ إنّما يجيء من ناحيته لأجل خصوصية تكون في متعلقه وهي كونه عبادة ، فإنها بعد تعلق النّهي بها لأجل تعلق النّذر بتركها أو بجهة أخرى لا تقع إلّا فاسدة فلا يتمكن المكلّف من حنث النّذر حينئذ من هذه الجهة غاية الامر إن فائدة النّذر حينئذ تظهر في عدم جواز الاقتصار في مقام أداء الفريضة بهذه الصّلاة المنذور تركها وإن لم يوجب فعلها حنثا وكفارة لأجل فسادها بعد تعلق النّذر ، فعليه الاعادة أو القضاء.

لا يقال : أن التّكليف لا يصحّ إلّا إذا كان متعلقه مقدورا للمكلّف وتعلق النّذر

٨٥

بترك عبادة مرجوحة يستلزم النّهي عنها ، فإذا فرض أن المكلّف لا يتمكن من حنث هذا النّذر ، وبعبارة اخرى من مخالفة هذا النّهي ، فكيف يمكن انعقاد النّذر حينئذ ، لأنه يستلزم التكليف بغير المقدور ، لأنه يقال : القدرة الّتي يعتبرها العقل في صحة التّكليف إنما هي القدرة الحاصلة في متعلقه قبله لا مطلقا حتى مع فرض وجود وبعده أيضا اذ لا يمنع العقل من صدور تكليف يكون هو بنفسه موجبا لسلب القدرة عن المكلّف بعد ثبوتها فيه قبله ، والنّهي عن العبادات بناء على أن حرمتها تشريعيّة من هذا القبيل سواء كان أصليا كنهي الحائض منها أو تبعيا ناشئا عن غيره كما في المقام ، فإن النّهي عن العبادة المنذور تركها ناش من النّذر فإن محصل معناه عدم وقوع متعلقه من العبادة في الخارج فيكون إرشاد الى عدم تعلق القدرة عليها كما أن الامر بالوفاء بالعقود في المعاملات كذلك فهو ايضا ارشاد إلى عدم تعلق القدرة بايجاد ما يخالف مقتضاها.

وبالجملة ، الأوامر الدّالة على وجوب الوفاء بالنّذر ليس إلّا مثل قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فكما أن معنى وجوب الوفاء بالعقد ليس إلّا وقوع مقتضاه في الخارج بعد وقوعه قهرا من الملكيّة أو الزوجيّة أو الطّلاق أو العتاق أو نحو ذلك كذلك معنى وجوب الوفاء بالنّذر ليس إلّا وقوع مقتضاه في الخارج بعد وقوعه ، فإن كان متعلقه أمرا خارجيا نظير شرط النّتيجة اقتضى وجوب الوفاء به وقوع هذا الأمر في الخارج كما لو نذر أن يكون ماله المعين صدقة فإنه بعد صدور النّذر يصير صدقة من دون حاجة لأمر آخر كايقاع عقد ، وإن كان فعلا اختياريا من أفعال نفسه أو تركا كذلك اقتضى وجوب الوفاء به وجوب ذلك الفعل أو الترك تكليفا ، كما لو نذر أن يتصدق بماله المعين فإنه بعد النّذر يجب عليه أن يتصدق ، وإن

٨٦

كان متعلقه ترك عبادة صحيحة مكروهة اقتضى وجوب الوفاء به عدم وقوعها عنه لأنه قضية النّهي النّاشئ عن الأمر بالوفاء بالنّذر ، واختلاف هذا الآثار إنّما يجيء لأجل خصوصيات الموارد لا لأن معنى وجوب الوفاء بالنّذر مختلف ، بل هو في الجميع واحد ، ولكنّه في كلّ مورد بحسبه ، فتحصل مما ذكرناه أن صحة النّذر لا تستلزم إرادة للأعم بمتعلقه إذا كان عبادة مكروه بل المراد خصوص الصحيح وفساده لأجل أنه يستلزم عدم التمكن من حنثه.

ولو سلمنا ذلك نقول : لا مانع عقلا من صحته إذ ليست فائدة النّذر منحصرة في إمكان الحنث له فائدة اخرى وهي عدم جواز الاقتصار على إتيان ما تعلق به في إسقاط التّكليف كما عرفت.

* * *

٨٧

بقي في المقام

امور ينبغي التّنبيه عليها.

الامر الأول : هل النّزاع يجري في الفاظ المعاملات أيضا أم لا؟ لا شبهة ولا إشكال في عدم جريان النّزاع فيها على القول بكونها أسامي للمسببات أي الآثار المترتبة على العقود والايقاعات كما هو الظّاهر من إطلاقها في كلام الشّارع وغيره ، ولا ينافيه قولهم في مقام اعتبار بعض الشّروط أو الاجزاء في البيع والصلح والنّكاح يعتبر الايجاب والقبول وهكذا سائر الشروط لوضوح أن المراد بها حينئذ عقود المفاوضات لأنها على هذا التقدير امور بسيطة تتصف بالوجود عند وجود أسبابها وبالعدم عند عدمها فهي غير قابلة للاتصاف بالصحة والفساد مع إنّ اتصاف الشّيء بهما باعتبار ترتب الامر عليه وعدم فهما من صفاته لا من صفات أثره ، وكذا لا إشكال في جريان النّزاع فيها على القول بكونها أسامي للأسباب أي العقود والايقاعات ، فإنها تختلف عرفا وشرعا قد تكون جامعة لجميع ما له مدخل في التأثير من الاجزاء والشّرائط فتتصف بالصّحة ، وقد لا تكون كذلك فتتصف بالفساد ، وعلى هذا الظّاهر أنّها أسامي للصحيحة لوجود علائم الحقيقة فيها لا في الأعم إذ لو كانت أسامي للأعم لا بدّ من وجود جامع بين جميع الافراد من الصّحيحة والفاسدة يكون هو المتصور حين الوضع سواء كان هو الموضوع له أيضا

٨٨

من قبيل الوضع العام والموضوع له العام أو أفراده من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص ، ضرورة أنّها لأجل تشتتها وكثرتها مما لا يمكن معرفتها بانفسها. وإلى الآن لم نتعقل جامعا بين جميع الافراد الصّحيحة والفاسدة كما عرفت نظيره في الفاظ العبادات. وتوضيحه في المجال على وجه الاجمال أن تصور الجامع إمّا أن يكون تفصيا بمعرفته بنفسه وحقيقته ، ولمّا أن يكون إجماليا بمعرفته بوجهه وأثره فإنه طريق إليه ووجهة له ، وبعد معرفته يمكن الاشارة به إليه ، وكلاهما في المقام مفقود. أمّا الاوّل فواضح ، وأمّا الثّاني ، فلأنا لا نجد أثرا مشتركا بين الصحيح والفاسد والجامع بين الزّائد والنّاقص مع فرض عدم اشتراكهما في بعض الآثار غير معقول ، فإن الجامع بين الأمرين أو الامور ليس إلّا عبارة عن مفهوم ينطبق على الكلّ عينا ويتّحد معها خارجا ، ومن الواضح أن الشّيء إذا كان متّحدا مع النّاقص ومنطبقا عليه كذلك فكيف يمكن أن يكون أيضا متّحدا مع الزّائد بمجموع أجزائه وجملته ، فإنه مركب من النّاقص وزيادة فهو مشتمل على الجامع ، أعني ذلك الشّيء لا أنه بتمامه عين الجامع. نعم لو كان الزائد والناقص بحسب اختلاف الاحوال أو الاشخاص مشتركين في بعض الآثار أمكن تصوير الجامع بينهما بلحاظ ذلك الأثر ، ولذا تصورنا الجامع بين الافراد الصّحيحة من العبادات مع أنّها أيضا مختلفة كثرة وقلة كفاقد السّورة نسيانا أو اضطرارا من الصّلاة مع واجدتها في حال الذكر والاختيار ، فإنها بحسب اختلاف الأحوال كالذّكر والنّسيان والاضطرار والاختيار ونحوها مؤثرة أثرا واحدا كالنّهي عن الفحشاء ، وبلحاظ ذلك الأثر يمكن تصوير الجامع بين الزّائد والنّاقص وحيث أن هذا النّحو من الاشتراك في التّأثير ليس بين الصحيح والفاسد فلا يعقل تصوير الجامع بينهما لا في العبادات كما

٨٩

تقدم ولا في المعاملات.

ثمّ أن الظّاهر أن الاختلاف بين الشّرع والعرف في تأثير بعض المعاملات دون بعض كالربا والبيع أو في اعتبار بعض الامور فيها كالقبض في الصّرف والسّلم فإنه معتبر فيها شرعا لا عرفا من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات وتخطئة الشّرع العرف في تخيل مثل الربا محققا لما هو المؤثر أو في كون العقد بدون ما اعتبره الشّارع فيه كالقبض في الصرف محققا لما هو المؤثر لا من قبيل الاختلاف في حقيقة المسمى ، فإنها الظّاهر أنه عند الكلّ معنى واحد ومفهوم فارد ، مثلا البيع عرفا وشرعا اسم لما يؤثر في تملك العين بالعوض إلّا أن مصاديقه في أنظار العرف أو الشّرع تختلف بتحقق مجرد التّصفيق عند جماعة وبالمعاطاة عند آخرين وبكلّ لفظ يدل عليه وإن لم يكن عربيا عند غيرهم وهكذا ، وكما أن هذا الاختلاف بينهم لا يكون اختلافا في حقيقة معنى البيع عندهم كذلك الاختلاف بينهم وبين الشرع في اعتباره في تأثيره ما لم يكن معتبرا فيه عندهم ليس اختلافا في حقيقته ، وهكذا الكلام في سائر الفاظ المعاملات فكلّ لفظ منها موضوع لما يؤثر أثرا خاصا كالزوجيّة والملكيّة والحريّة ونحوها إلّا أن الشّارع تصرف في بعضها باعتباره في تأثيره ما لم يكن معتبرا فيه عرفا أو الغى بعضها بالمرّة كالرّبا والمحاقلة والمنابذة ونحوه ، فالمراد والمستعمل فيه في لسان الشّارع معانيها العرفية حقيقة وإن اعتبر في تاثيرها بعض الامور ولا يقتضي هذا تجوزا فيها ولا اختلافها في حقائقها كما لا يخفى.

الامر الثّاني : هل الثّمرة الّتي ذكرناها للنّزاع بين الصّحيحي والأعمّي في ألفاظ العبادات من كونها مجملة على الاوّل ومطلقة على الثّاني تترتب على النّزاع في

٩٠

الفاظ المعاملات أم لا؟ الظّاهر لا ، بل للصحيحي أيضا التّمسك باطلاقها عند تماميّة مقدّمات الحكمة إذ ليست هي إلّا كسائر الالفاظ الّتي لها معاني عرفيّة ، فكما أنها اذا وردت في كلام الشّارع وصدر في مقام بيان تمام الحكم تحمل على معانيها عند العرف إلّا مع القرينة الصّارفة لأنه منهم وكلامه منزل على هو المتفاهم عندهم كذلك الفاظ المعاملات غاية ، الأمر أن الفرق بينها وبين غيرها أنه قد يكون اسما لماهيّة واقعيّة لا تختلف مصاديقه بحسب الأنظار والأحوال والأشخاص وقد يكون اسما لماهيّة تختلف مصاديقه كذلك كالطّهارة والنّجاسة بمعنييها العرفيين ، أعني النّظافة والقذارة فإن مصاديقهما تختلف بحسب الأنظار فقد يكون الشّيء الواحد قذرا في حال دون حال أو في نظر أحد من الشّارع أو غيره غير قذر عند غيره ، وكالتّعظيم والاهانة قد يكون بعض الأفعال تعظيما في حال دون حال أو عند بعض كرفع القلنسوة عند ملاقات من يريد تعظيمه مع أنه إهانة عند غيره ، ومع هذا لا اختلاف بينهم في حقائق معانيها ، والفاظ المعاملات من هذا القسم الثّاني ، إذ قد عرفت أن الاختلاف فيها بين أهل العرف أو بينهم وبين الشارع إذا ألغى بعضها عن التأثير بالمرّة كالرّبا أو اعتبر في تأثيره ما ليس بمعتبر فيه عرفا من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات لا الاختلاف في حقائقها هي عند الكلّ ما يؤثر الملكيّة أو الزوجيّة أو الطّلاق أو العتاق وتختلف مصاديقها بحسب اختلاف الأنظار فمرجع تصرفات الشارع فيها الى تخطئته العرف في تخيل ما ليس بمؤثر مؤثرا أو عدم مدخليّة ما له دخل في التّأثير عنده فإن معانيها عنده باقية على ما كانت عليه عند العرف ، فإذا وردت في كلام ودل دليل على تقييد المؤثر فيها ببعض الامور يؤخذ به وإلّا فإن كان اطلاقها في مقام بيان الحكم تحمل على معانيها

٩١

عند العرف بمعنى أنه ينزل على أن المؤثر عنده ما كان مؤثرا عندهم ولم يعتبر في تأثيره غير ما اعتبر فيه عندهم ، كما لو وردت في كلامهم فإنه أيضا منهم ، فلا مانع من التمسك باطلاقها حينئذ في إثبات عدم اعتبار ما شكّ في اعتباره فيها شرعا اذا كان ممّا احرز عدم اعتباره فيها عرفا ، ولذا تمسكوا باطلاقاتها مع أن المشهور قائلون بكونها أسامي للصّحيحة ، ومحصل الفرق بينها وبين العبادات أنها على القول بوضعها للصحيحة ماهيّات مخترعة من قبل الشّارع لا بدّ ولا خبرة للعرف فيها ، فإذ شك في اعتبار شيء فيها شطرا وشرطا لا يمكن الرّجوع في ذلك إلى العرف فتبقى مجملة ، فيدور الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين كلّ على مذهبه من البراءة أو الاشتغال بخلاف أسامي المعاملات فإنها حسب الفرض باقية على معانيها اللغوية والعرفية وإن تصرف الشّارع فيها ليس في حقيقتها ، فإذا وردت في كلامه مطلقة وتمّت فيه مقدّمات الحكمة يؤخذ باطلاقها في رفع ما شكّ في اعتباره فيها ولو قلنا بمثل هذا في العبادات أيضا كما لو اخترنا مذهب الباقلاني فيها صح لنا التمسك باطلاقها أيضا عند الشّك في الجزئيّة والشّرطيّة إن كانت معانيها اللغوية محرزة. فالفرق بين العبادات والمعاملات في ظهور الثّمرة في الاولى دون الثّانية إنما نشأ من اختلافهما من هذه الجهة.

وكيف كان فالتمسك بالاطلاق إنما هو عند الشّك في اعتبار شيء في المعاملات شرعا وأمّا فيما شك في اعتباره عرفا فلا مجال للتّمسك باطلاقها بل المرجع حينئذ أصالة عدم الأثر كما لا يخفى والله العالم.

الامر الثّالث : قد تقدم أن الصّحة والفساد من الامور الإضافية وإن الشّيء الواحد يمكن أن يكون صحيحا في حال دون حال أو في حقّ أحد دون غيره أو من

٩٢

وجه دون وجه بأن يكون صحيحا جزءا فاسدا شرطا ولا يحفى ، أن (١) دخل بشيء وجودي أو عدمي في متعلق الامر يتصور على وجوه :

تارة : بأن يكون داخلا فيما يأتلف منه ومن غيره مطلق الطّبيعة المأمور بها بأن يكون من جملة امور تعلق الامر بجملتهما ومجموعها وتلك الامور مقومات للطّبيعة وتسمى أجزاء لها.

واخرى : بأن يكون خارجا عن ما تأتلف منه مطلق الطّبيعة المامور بها ولكنه مما لا تحصل الخصوصيّة المعتبرة فيها إلّا بوجود ذلك الشّيء أو عدمه بأن نعرض أن مطلق وجود الطّبيعة لم يصر متعلقا لأمر بل وجود خاص منها لا يكاد يوجد ذلك الوجود وتلك الخصوصيّة إلّا بوجود ذلك الشّيء أو عده مسبوقا به أو ملحوقا به أو متعارفا له ، فهذا الشّيء خارج عن حقيقة المأمور به كالطهارة والحدث بالنّسبة إلى طبيعة الصّلاة مثلا ، ويسمى ذلك الشّيء مقدّمة شرط إن كان لوجود دخل في المأمور به ، أم مطلقا ولا شرط كاشتراط الرّضا وطيب النّفس من المالك في لزوم العقد بناء على القول بصحة الفضولي ، فإنّه عليه شرط للزوم العقد مطلقا ، وأين ما وقع قبله أو مقارنا له أو بعده أو بشرط كونه متقدّما عليه أو متعارفا له أو متأخرا عنه (٢) ومانع أو رافع أو قاطع إن كان بعدمه دخل في المأمور به.

__________________

(١) الاخلال بكلّ من الجزء والشّرط وإن كان موجبا للاخلال بالحقيقة المأمور بها إلّا أن دخل الشّرط فيها أهمّ وأعظم إذ مع انتفائه لا يتحقق بشيء منها مطابقا لما أمر به لعنوان الخصوصيّة المعتبرة فيها التي لا تحصل إلّا مع وجود الشّرط ، فكلّ جزء يؤتى به بدون الشّرط يقع فاسدا لا محالة ، بخلاف الجزء أو مع انتفائه به لا تقع حقيقة المركب إلّا ناقصة لا فاسدة إذ لا يخرج سائر الاجزاء عن كونها أجزاء الامر أنه لم يضم إليها جزء ، ولذا لم تحصل حقيقة المركب ، فالاجزاء المأتي بها في حدّ أنفسها صحيحة ، وبالجملة فقد الجزء لا يزيل وصف الصّحة عن سائر الاجزاء بخلاف فقدان المركب فإنه موجب لعدم ......؟

(٢) فأقسام الشرط باعتبار بلا شرط شيء أو بشرط شيء اربعة.

٩٣

وثالثة : بأن يكون ما تتشخص به الطّبيعة المأمور بها بأن لا يكون له دخل في أصلها كما هو المفروض في الوجهين الاوّلين ، بل له دخل في تشخصها وتخصصها خارجا بأن يصدق على المتشخص به عنوانها وهذا قد يوجب لها مزيّة أو منقصة كالصّلاة في المسجد أو في الحمام ، وقد لا يوجب لها شيئا من الأمرين كالصّلاة في الدّار ، ويتصور فيه الشّرطية والشّطرية ، غاية الأمر إنّهما على هذا تلاحظان بالنّسبة إلى الشّخص والوجود الخاص بخلاف الوجهين الاوّلين فإنّهما عليهما تلاحظان بالنّسبة إلى مطلق الطّبيعة المأمور بها ، وتظهر الثّمرة في أنه مع الاخلال بما له دخل في المأمور به على أحد الوجهين الاوّلين يلزم الاخلال بأصل ماهيته وحقيقته ، لأنه فاقد الجزء أو الشّرط فيقع فاسدا ، بخلاف هذا الوجه ، ضرورة أن الاخلال بما له دخل في تشخص المأمور لا يوجب إلّا فوات هذا التّشخص وتلك الخصوصيّة الموجبة للمزيّة أو المنقصة في بعض الأحيان ، فلا ينافي تحقق الحقيقة بخصوصيته خرى خالية عن تلك المزيّة أو المنقصة ، مثلا إذا أمر المولى برسم الخط وأتى بفرد منه زائد على ما يتحقق به مسمّاه فإن هذه الزيادة ممّا يتشخص به طبيعة الخط وجزء له حينئذ ، إلّا إنها ليست على وجه يوجب فواتها عدم صدق الخط على ما دونها ، ضرورة أنه إذا أتى به بدون تلك الزيادة يصدق عليه الخط ، ففواتها يوجب فوات تشخص من الطبيعة مع تشخصها بخصوصية اخرى.

ورابعة : بأن يكون مطلوبا نفسيّا وجوبا أو ندبا في المأمور كالمضمضة والاستنشاق في الوضوء عند تأخرهما عن النّية على احتمال ودخل هذا في المأمور به مع كونه غير داخل فيه لا في حقيقته ولا في تشخصه لا شطرا ولا شرطا من حيث أن المأمور به جعل ظرفا لمطلوبيته فلا يكون الاخلال به موجبا لاخلال ما

٩٤

جعل المأمور به ولا بتشخيصه كما لو كان مطلوبا نفسيّا قبله أو بعده ، وهذا واضح.

إذا عرفت هذا كلّه فأعلم أنه لا شبهة في خروج ما له دخل في العبادات على أحد الوجهين الاخيرين عن التّسمية بأساميها لخروجها عن حقائقها الّتي وضعت الاسامي بازائها ، فهي كما أنّها خارجة عن حقائقها كذلك خارجة عن التّسمية بأساميها على القول بوصفها للصّحيحة كما أنه لا شبهة في دخول ما له دخل فيها على الوجه الاوّل في التّسمية بأساميها على القول بوضعها للصحيحة لأنه من مقوماتها ، فالاخلال به يوجب الاخلال بحقايقها وماهيّاتها ، فلا محاله يخل بالتّسمية على الصّحيحي ، وأمّا ما له دخل فيها على الوجه الثّاني فهل هو كالاوّل ، نظرا إلى أن الاخلال به أيضا يوجب الاخلال بالماهيّة لفقد الخصوصيّة المعتبرة فيها بدونه ، أو كالاخيرين نظرا إلى أنه خارج عن ماهيّة المأمور به وإن كان الاخلال به موجبا للاخلال بها؟ وجهان ، بل قولان ، أظهرهما الثّاني لأن الأدلة الّتي اقيمت على اعتبار الصّحة من حيث الأجزاء في المسمى ودخلها في التّسمية كلّها جارية في اعتبار الصّحة من حيث الشّروط أيضا سيما الوجه الاعتباري ، وهو جريان العادة ومسيس الحاجة إلى وضع اللّفظ لما هو المهم والوافي بتمام الغرض ، فإن هذا ليس إلّا الصّحيح من كلّ ماهيّة ، أعني الواجد لتمام الأجزاء والشّروط لا ما كان صحيحا من حيث الأجزاء دون الشّرائط (١) مضافا إلى ما عرفت من عدم تصوير الجامع بين الصّحيح والفاسد وإن أمكن في المقام تصويره بأن يجعل الجامع الصّحيح بحسب الأجزاء فإنه مشترك بين واجد الشّرائط وفاقدها ، إلّا أن الظّاهر أن كلّ ما يدعو إلى

__________________

(١) بل اعتبارها في تحقق الماهيّة أو قل من اعتبار الاجزاء فيها او عند انتفاء الشرط تصير الاجزاء وإن وقويا جمعها فاسدة فلا تقع شيء من الماهية حينئذ بل اعتبارها في تحقق الماهيّة أو قل من اعتبار الاجزاء فيها او عند انتفاء الشرط تصير الاجزاء وإن وقويا جمعها فاسدة فلا تقع شيء من الماهية حينئذ ، للمحرّرة.

٩٥

الالتزام بالوضع للصّحيح بحسب الأجزاء يدعو الى الالتزام بالوضع للصّحيح بحسب الشّروط أيضا ، فاذن الظّاهر أن كلّ من قال بأن الالفاظ موضوعة للصّحيحة أراد الصّحيحة من كلّ جهة فالقول بالتّفصيل ضعيف ، بل لا قائل به.

وربّما يتوهّم أنه لا يمكن الالتزام بوضع العبادات للصّحيحة إذ يعتبر في صحتها قصد القربة وهو ممّا لا يمكن أخذه فيها لا شرطا ولا شطرا ، لأنّه إنّما يجيء من قبل الأمر فلا يعقل أخذه في المأمور به على حد سائر الأجزاء والشّرائط فكلّها ناقصة موضوعة للفاسدة ، أعني ما عدا قصد القربة.

ويندفع بما حققناه من أنّه لا يعتبر في العبادات إيجادها بداعي الأمر الفعلي ، بل يكفي في صحتها إيجادها بنحو قربي وبداعي رجحانها الشّرعي (١).

__________________

(١) لأجل ما تقتضي الصّحة بها من المصلحة وإن سقط عنها الأمر الفعلي بمزاحمة الأقوى أو المساوي ولذا منها المستحبات مطلقا مع أنها غالبا أو دائما مزاحمة بالمساوي أو الاقوى وليس هذا إلّا لأجل كفاية ما فيها من المصلحة للصّحة ، وهكذا نقول بصحة الواجبات مطلقا حتى مع المزاحمة فالصّحة المعتبرة فيها غير متوقفة على الأمر الفعلي ممكن فرض الصحة فيها بدونه وأقول لا دفع لهذا الإشكال فتأمل ، لمحرّره.

٩٦

الأمر الحادي عشر

في وقوع الاشتراك وعدمه

وقع الخلاف في وقوع الاشتراك وعدمه بل في إمكانه ووجوبه ، والحقّ كما عليه المحققون وقوعه ، خلافا لمن أحاله مطلقا أو في الفاظ القرآن ولمن أوجبه لوجود علائم الوضع والحقيقة من تصريح أئمّة اللغة والتّبادر وعدم صحة السّلب بالنّسبة الى معنيين أو أكثر لبعض الالفاظ كالقرء والعين ونحوهما.

حجّة من أحاله مطلقا أنه مخل بالغرض الدّاعي على الوضع وهو التّفهيم والتّفهم لخفاء القرائن. وفيه ، ما لا يخفى لامكان أن يتكل المتكلّم في تفهيم مرامه من كلامه بقرينة واضحة من حال أو مقال ، ولأن الغرض والحكمة قد يتعلقان إلى الاجمال في المقال في بعض الأحوال.

حجّة ، من أحاله في القرآن أنه لو استعمل المشترك فيه فلا يخلو ، إمّا أن يكون مع القرينة المعينة أو بدونها. وعلى الاوّل يلزم التّطويل بلا طائل لإمكان الاداء بغيره ، وعلى الثّاني يلزم الاجمال ، وكلا التّاليين غير لائق بكلام تعالى ، فإنه في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة ولا يخفى. أيضا ضعفه لامكان الاشكال على قرينة

٩٧

حاليّة ومعه لا تطويل ، أو مقاليّة أتي بها لغرض آخر ، ولمنع كون الاجمال مخلا بالفصاحة والبلاغة وغير لائق بكلامه ، إذ قد يكون الاجمال مطابقا لمقتضى الحال والحكمة وإن كان المعنى معينا عند أهله وهم الرّاسخون في العلم ، فكيف يقال أنه غير لائق بكلامه؟ كيف وإلّا لما وقع المشتبه في كلامه وقد أخبر بوقوعه فيه في قوله تعالى (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ)

حجّة ، من أوجب الاشتراك في اللّغات أن المعاني غير متناهية والفاظ المركبات متناهية تركبها من حروف متناهيّة فلا بدّ من الاشتراك وإلّا يبقى من المعاني ما لم يوضع لفظ بإزائه أو الاخلال بالحكمة المقتضية للوضع ، وهذا أيضا واضح الضعف.

أمّا أولا : فلأن مصاديق المعاني وجزئياتها وإن كانت غير متناهيّة إلّا أن كلّياتها متناهية ويجوز الاكتفاء بالوضع لها فإنه مغن عن الوضع بجزئياتها.

وأمّا ثانيا : فلأن المعاني لو فرضت غير متناهيّة فلا يفي تعدد الوضع والاشتراك بتمام تلك المعاني إلّا باوضاع غير متناهيّة ، وهذا غير ممكن إلّا إذا فرض أن الواضع هو الله سبحانه فإنه يمكن من معرفة ما لا يتناهى والوضع له ولو دفعة واحدة من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص فإنه أيضا قسم من الاشتراك وإن لم يكن باشتراك اصطلاحي ، ومع هذا لا يجدي إلّا في مقدار متناه لعدم الحاجة إلى الاستعمال في تمام تلك المعاني الغير المتناهيّة بحسب الاوضاع الغير المتناهيّة أو الوضع الواحد.

وأمّا الثالث : فلأن الحكمة الدّاعية على الوضع لا تقتضي إلّا الوضع للمعاني المتداولة المحتاج اليها في مقام التّعايش والمعاشرة ، وهي ليست بغير متناهيّة ، مع أن

٩٨

باب المجاز واسع يمكن الوضع لجملة منها والاستعمال فيما عداها مجاز ، إلّا أن يمنع وجود العلاقة الصّحيحة لا استعمال بين جميع المعاني ، ويمكن الجواب أيضا بمنع تناهي مركبات الالفاظ لأن كلّ مرتبة تتصور من تراكيب الحروف إن كانت متناهيّة يمكن فرض مرتبة فوقها كمراتب الاعداد فإنها تحصل من الواحد مع إنها غير متناهيّة فهي أيضا غير متناهية كالمعاني ومراتب الاعداد ، إلّا أن الظّاهر أن المستدل لم يرد مطلق التراكيب ، بل التراكيب الواردة المتداولة وهي لا تزيد على الخماسية والسّداسية فلا يكون أعدادها غير متناهيّة.

* * *

٩٩

الأمر الثّاني عشر

في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى

اختلفوا في جواز استعمال اللّفظ في أكثر من معنى على أقوال ، وليس محل الكلام استعمال اللّفظ في المجموع نحو استعمال المركب كالعشرة في معناه بأن يكون إرادة كلّ واحد من المعاني نظير إرادة الباقي العشرة من لفظها ، ولا استعماله في الكلّ على نحو استعمال العام في معناه لأن استعمال اللّفظ على هذين لم يكن إلّا في معنى واحد ولا شبهة في إمكانه عقلا ولو وقع كان حقيقة إن كان ذلك المعنى ممّا وضع له اللّفظ أيضا ، وإلّا كان مجازا مع وجود العلاقة المصححة للاستعمال على ما قالوه ، أو المناسبة على المختار ، بل محل الكلام بين الاعلام استعماله في الأكثر على سبيل الانفراد والاستقلال في الارادة بأن يراد كلّ واحد كما إذا لم يستعمل اللّفظ إلّا فيه.

والحقّ عدم جواز هذا النّحو من الاستعمال في الأكثر عقلا ، وتحقيق المسألة متوقف على تمهيد مقدّمة نتعرض فيها ، شرح معنى الاستعمال وبيان حقيقته فنقول : أن الاستعمال يتصور أن يكون على وجهين.

أحدهما : أن يكون عبارة عن إرادة المعنى وإجراء اللّفظ على اللّسان كشفا عنه

١٠٠