غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

الأمر بالمأمور به فورا ففورا وكان دليل اعتباره شرعيّا كما لو فرض أنه نفس الصّيغة أو الأدلة الخارجة كآيتي الاستباق والمسارعة ، فإنه إذا فرض عدم ظهور له في وجوب الفور كذلك كان المرجع فيه عند الشّك البراءة بلا إشكال ، وأمّا لو كان دليل اعتباره كذلك العقل بأن فرض أن المسارعة والاستباق في فعل المأمور به من أنحاء الإطاعة نظير الإتيان به بقصد القربة والمستقل في باب الإطاعة واعتبار كيفياتها هو العقل خاصّة ، فلا مجال حينئذ للتّمسك بالبراءة الشّرعيّة ، بل المرجع أصالة الاشتغال عقلا لأنّه مستقل بلزوم الاحتياط عند الشّك في طريق الإطاعة والخروج عن العهدة ، ولكن استقلال العقل بوجوب الفور كذلك مشكل ، إذ ليس من قبيل قصد القربة ونحوه مما لا يمكن اعتباره إلّا بالعقل ، فلا مانع من الرّجوع إلى البراءة الشّرعيّة ، ولو ثبت الفور ودار بين كونه على وجه التّقييد بحيث لو أخل به لزم العصيان وسقوط التّكلف بالمرّة أو على وجه الفور ، فالفور بحيث لو أخل به أي لم يأت بالمأمور به في أوّل أزمنة الإمكان يلزم العصيان ولكن يبقى التّكليف كما كان فيجب الإتيان به في ثاني الحال وهكذا إلى آخر الأحوال ، فلا بدّ حينئذ من ملاحظة ما هو الأصل في إثبات الفور هل يقتضيه على أي الوجهين ، إن كان الأصل في ذلك دلالة الصّيغة وادعى إنّها تقتضي الفور بالفور ، فلا مانع من التّمسك بإطلاقها في إثبات الفور كذلك عند الشكّ فيه ، إلّا أن هذه الدّعوى بعيدة جدا لو سلم دلالة الصّيغة على الفور ، وإن كان الأصل فيه حكم العقل فملاكه في أوّل الحال موجود في ثاني الحال وما بعده كما لا يخفى ، فقضيته إثبات الفور فالفور إلّا أن حكم العقل بوجوب أصل الفور مشكل كما عرفت ، وإن كان الأصل في ذلك قوله تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وقوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) بتقريب أن

٢٠١

ظاهرهما وجوب المسارعة إلى أسباب المغفرة والاستباق إلى الخيرات ، ومن أسباب المغفرة والخيرات الإتيان بالمأمور به ، فيجب فيه المسارعة والاستباق وهذا معنى وجوب الفور ، ففيه : أنه لو سلم ظهورهما في الوجوب المولوي فقضيتهما إثبات الفور فالفور ، إذ لو أتى بالمأمور به في ثاني الحال بعد الإخلال به فورا يصدق عليه أيضا المسارعة والاستباق إلى الخيرات ، فيجب وهكذا في سائر الأحوال ، فقضيتهما وجوب الإتيان بالمأمور به فورا ففورا ، إلّا أن ظهورهما في الوجوب مشكل ، لأنّه يستلزم تخصيص الكثير بل الأكثر للّزوم خروج المضيقات مطلقا والمستحبّات الموسعة ، فإن حكم المسارعة والاستباق فيها لا يزيد على أصل حكمها إذ لا يزيد الفرع على الأصل ، وكذا الواجبات الموسعة الّتي دلّ الدّليل على جواز التّأخير فيها كالصّلوات الخمس مثلا ، فتبقى تحت العموم الواجبات الموسعة الّتي ليست كذلك كقضاء الصّلوات والصّوم بناء على المضايقة ، وهي بالنّسبة إلى ما خرج عن العموم قليل جدا ، فلا محيص من حمل الأمر فيهما إمّا على خصوص النّدب أو على مطلق الطّلب أو على الإرشاد إذ لا يبعد دعوى استقلال العقل برجحان المسارعة والاستباق إلى الخيرات مطلقا ، خير الخير ما كان عاجله ، فيكون مساق الآيتين ونحوهما من الإخبار مساق الأدلة الآمرة بإطاعة الله وإطاعة الرّسول كقوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) في كونها إرشادا إلى ما يترتب على نفس المسارعة والاستباق والإطاعة وإن لم يكن فيها هذا الأوامر كما هو الشّأن في تمام الأوامر الإرشاديّة ، فاستفادة الوجوب أو الاستحباب متوقفة على دلالة أخرى غير هذه الأوامر كما هو ظاهر.

وأقول : خروج المضيقات عن عموم الآيتين من باب التّخصص لا التّخصيص ،

٢٠٢

إذ لا يتصور فيها المسارعة والاستباق ، فهي خارجة بمادة الأمر كما أن خروج المستحبّات أيضا بهيئته ، فخروجهما عن العموم أيضا من باب التّخصص فلا يبقى الخارج إلّا فيما دلّ الدّليل الخاص على التّوسعة فيه وهو لا يكون بالنّسبة إلى الباقي تحت العام قليلا كما لا يخفى ، فلا مانع من ظهور الأمر في الآيتين ونحوهما في الوجوب واستقلال القصد برجحانه لدينا فيه فلا يوجب حمله على الإرشاد.

* * *

٢٠٣

الفصل الثّالث

باب الإتيان بالمأمور به على وجهه

هل يقتضي الإجزاء والاكتفاء فلا يجب الإعادة والقضاء أم لا؟

الحق هو الأول في الجملة خلافا لما عن بعض العامة. وقبل الخوض في تفصيل الكلام في المقام وتبيان النقض والإبرام ينبغي رسم أمور.

«الأمر الأوّل»

الظّاهر أن المراد بالوجه في عنوان المسألة في كلامهم هو النّهج والكيفيّة الّتي ينبغي أن يؤتى بالمأمور به على ذلك النّهج وتلك الكيفيّة شرعا وعقلا ، كأن يؤتى به بقصد القربة إذا كان عبادة لا خصوص قصد القربة لعدم اختصاص النّزاع بالعبادات ، مع أنّه لا وجه لاختصاصه بالذّكر من بين ما يعتبر فيها ولا خصوص نية الوجه من الوجوب أو النّدب لعدم اعتباره عند المعظم ، مع أن اعتباره عند من اعتبره إنّما هو في خصوص العبادات ، وقد عرفت أنّ النّزاع غير مختص بها ، بل يجزي أيضا في التّوصليات ، مع أنّه لا وجه لاختصاصه بالذّكر من بين ما يعتبر في

٢٠٤

العبادات ولا خصوص الكيفيّة الّتي تعتبر في المأمور به شرعا ، لأنّه مع أنّه يستلزم أن يكون قيد على وجهه في العنوان توضيحيّا وهو بعيد ، يستلزم خروج العبادات عن حريم النّزاع بناء على ما تقدم من أن قصد القربة ونحوه في العبادة غير مأخوذ في متعلق الأمر بها ، إذ على هذا التّقدير يكون قصد القربة ونحوه كالوجه والتّميز ، هذا على القول باعتبارهما في العبادات من الكيفيات المعتبرة في الإطاعة عقلا لا من الكيفيات المعتبرة في متعلق الأمر بها شرعا ، فلا بدّ من أن يكون المراد بالوجه في كلماتهم معنى يندرج فيه جميع ما ذكر وهو ما ذكرناه كما لا يخفى.

«الامر الثّاني»

الظّاهر أن المراد بالاقتضاء في كلماتهم الاقتضاء بنحو العلّية والتّأثير لا بنحو الكشف والدّلالة ، وبعبارة أخرى الاقتضاء في مقام الثّبوت لا في مقام الإثبات ، ولذا نسبوا الاقتضاء إلى الإتيان لا إلى الصّيغة ، ضرورة أن الاقتضاء بنحو الكشف والدّلالة إنّما يتصور بالنّسبة إلى مثل الصّيغة من اللّفظ لا إلى مثل الإتيان من الفعل الخارجي ، فإن الاقتضاء فيه بنحو العلّية والتّمايز بخلاف اللّفظ.

فإن قلت : سلّمنا أن الإتيان بالمأمور به مقتض للإجزاء بنحو العلّية ، لكن نقول أن هذا بالنّسبة إلى أمره واقعيّا كان أو اضطراريّا أو ظاهريّا ، وأمّا بالنّسبة إلى أمر آخر كالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظّاهري بالنّسبة إلى الواقعي فلا ، فمرجع النّزاع فيهما حقيقة إلى أن دليلهما هل يدلّ على أن العمل على طبقهما واف بتمام المصلحة المطلوبة واقعا وكاف في حصول تمام الغرض من الأمر الواقعي كالعمل على طبقه أم لا؟

٢٠٥

قلت : لا نضايق من وقوع النّزاع فيهما هكذا ، ولكن نقول لا ينافي هذا وقوع النّزاع فيهما في الاقتضاء وعدمه بنحو التّأثير والعلّية ، غاية الأمر أن إثبات هذا النحو من الاقتضاء فيهما متوقف على مقدّمتين.

أحدهما : أن الإتيان بالمأمور به يقتضي الإجزاء عقلا بالنّسبة إلى أمره مطلقا.

وثانيهما : أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري وهو المسمى بالأمر الواقعي الثّانوي أو بالأمر الظّاهري كالإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي الأولي واف بتمام الغرض منه والمصلحة المطلوبة واقعا ، ضرورة أنّه بعد إثبات هاتين المقدّمتين يثبت المدعى وهو كون الإتيان بالمأمور به ولو بأحد الأمرين مقتضيا عقلا للإجزاء بالنّسبة إلى الأمر الواقعي ، فللخصم أن يمنع كلتا المقدّمتين أو المقدّمة الأولى الّتي هي بمنزلة الكبرى أو الثّانية الّتي هي بمنزلة الصّغرى للنّتيجة وهي المدعى. نعم عمدة النّزاع في الأمر الاضطراري والأمر الظّاهري في المقدّمة الثّانية.

وبالجملة فيهما نزاعان ، أحدهما صغروي وهو أنّهما يكونان بمثابة الأمر الواقعي في أن الإتيان بالمأمور به بأحدهما واف بتمام الغرض من الأمر الواقعي ومحصل للمصلحة الكامنة في متعلقه أم لا؟ وثانيهما كبروي ، وهو أن الإتيان بالمأمور به مطلقا علّة تامة لإجزاء ولو بالنّسبة إلى أمر آخر أم لا؟ فلا مانع من جعل النّزاع فيهما كبرويا هكذا ، وإن توقف إثبات الاقتضاء فيهما كذلك على مقدّمة اخرى وهي حمل النّزاع أيضا ، بخلاف النّزاع في غيرهما فإنّه لا يحتاج إلى مقدّمة اخرى كما لا يخفى.

والنّزاع الثّاني فيهما وإن كان مرجعه إلى النّزاع في الاقتضاء وعدمه بنحو الكشف والدّلالة إلّا أن النّزاع الأوّل ليس كذلك فإن مرجعه بعينه مرجع النّزاع في

٢٠٦

الأمر الواقعي ، ولدينا في النّزاع الثّاني وقوع النّزاع الأوّل فيهما ، فيمكن جعل النّزاع أعم وقضيته كون الاقتضاء مطلقا عقليّا لا بنحو الكشف والدّلالة.

«الامر الثّالث»

الظّاهر أن المراد بالإجزاء في المقام معناه اللغوي ، وهو الكفاية وإن كان ما يترتب عليه يختلف بحسب الموارد ، فإن الإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي يسقط إطاعته والتّعبّد به ثانيا ، وبالأمر الظّاهري أو الاضطراري كالأمر الحاصل من قبل التّقيّة أو الحرج أو نحوهما يسقط القضاء ، أي الإتيان بالفعل على طبق الأمر الواقعي إعادة أو قضاء أو قضاء خاصّة على الخلاف ، لا أنّهم اصطلحوا فيه وأرادوا به إسقاط التّعبّد أو القضاء ، فإنه بعيد جدا ، وتفسير بعضهم له بإسقاط الإعادة والقضاء ليس تحديدا بل تفسير له بما هو مهم القضية من لوازمه.

«الامر الرّابع»

الفرق بين المسألة ومسألة المرّة والتّكرار هو أن البحث هنا في أن الإتيان بما هو المأمور به كلّما كان هل يجزي عقلا فلا مجال لإطاعته ثانيا أو لا يجزي عقلا فيبقى لها مجال؟ وفي تلك المسألة في تعيين ما هو المأمور به شرعا بحسب دلالة الصّيغة بنفسها أو بدلالة أخرى ، نعم بعض أنحاء التّكرار وهو الإتيان بالمأمور به في كلّ وقت يسع له موافق عملا لعدم الإجزاء (١) فلو قيل به هناك لا يبقى مجال للقول بعدم الإجزاء هنا ، ضرورة أنّه على هذا القول كلّ ما يوافق الأمر من الأفعال فهو

__________________

(١) لا ملاكا لاختلاف ملاك المسألتين.

٢٠٧

في نفسه مأمور به ، فلا يبقى شيء منها خاليا عن الأمر كي ينازع في أنه هل يقع إطاعة أم لا؟ وأمّا سائر أنحاء التّكرار كما لو حد بعدد معين مرّتين أو أزيد مما لا يستوعب تمام الوقت ، فلا يوافق عمدا لعدم الإجزاء ، فيمكن لأحد أن يقول بالتّكرار هكذا ، ويقول بالإجزاء أو بعدمه ، وأمّا الفرق بين هذه المسأله ومسألة تبعيّة القضاء للأداء فهو أوضح من أن يخفى ، فإن البحث في تلك المسألة في دلالة الصّيغة على التّبعيّة وعدمها.

وبعبارة أخرى ، في دلالة الصّيغة على وجوب الفعل في وقته بنحو التّعدد المطلوبي بأن يكون محصّل مدلولها ايت بالفعل في وقته وإلّا ففي خارجه وعدم دلالتها كذلك.

وأمّا في المسألة فالبحث فيها كما عرفت في أن الإتيان بالمأمور به أداء أو قضاء هل يجزي عقلا عن الإتيان به ثانيا أو لا يجزي فلأحد أن يقول بالتّبعيّة أو بعدمها هناك ويقول بالإجزاء أو بعدم هنا ، مضافا إلى ما عرفت من أن النّزاع في المقام في الاقتضاء العقلي أي بنحو التّأثير والعلّية وإن لم يكن مستندا إلى نفس الإتيان بالمأمور به بل إلى الصّيغة وفي المسألتين في الاقتضاء بنحو الكشف والدّلالة اللّفظيّة ، فلا ارتباط بين المسألة وبين المسألتين أصلا.

إذا عرفت ما ذكرناه ، فأعلم أن التّكلّم في المقام تارة في اقتضاء كلّ إتيان بالمأمور به الإجزاء بالنّسبة إلى أمره كالإتيان بالمأمور به بالأمر الواقعي بالنّسبة إليه وبالأمر الاضطراري بالنّسبة إليه وبالمأمور به بالأمر الظّاهري بالنّسبة إليه واخرى في اقتضاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري بالنّسبة إلى الواقعي ، وثالثة في اقتضاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهري بالنّسبة إلى الواقعي ، فتحقيق

٢٠٨

القول في المسألة في مقامات ثلاثة.

المقام الأوّل : فالحقّ فيه وفاق لأهله هو القول بالإجزاء خلافا لما عن عبد الجبار وأبي هاشم ، إذ بعد موافقة الأمر في إطاعته بإتيان المأمور به على وجهه وبتمامه بأن يؤتى به مرّة أو مرّتين أو أكثر أداء أو قضاء إن تعلق الأمر به كذلك ، وهكذا سائر الجهات والخصوصيات المعتبرة فيه لا محالة يسقط الأمر ، وكذا الغرض الدّاعي عليه ، فلا يبقى حينئذ مجال لإطاعته ثانيا وأمر بها من المولى إلّا بأمر آخر ، ومعه يخرج عن محل الكلام ، فإن الإتيان به حينئذ يكون إطاعة أولويّة بالنّسبة إلى هذا الأمر ، ومحل الكلام هو أن الإطاعة الثّانويّة بعد فرض سقوط الأمر وغرضه هل يعقل فيبقى مجال لأن يقول الآمر لعبده الذي أتى بما أمره به على وجهه : أطعت وأتيت ولكن أطعني ثانيا. فلا يقتضي الإتيان بالمأمور به الإجزاء كما هو مختار بعض العامة ، أو لا يعقل ذلك فإنه من قبيل طلب تحصيل الحاصل وهو محال ، فإن طلب المحال أعني تحصيل الحاصل في المحال قبيح لا يصدر عن الحكيم العليم الذي كلامنا في كلامه ، فلا محيص من اقتضاء الإتيان بالمأمور به الإجزاء وهو المدعى. وبالجملة إذا فرض الآمر جاهلا بأن امتثال أمره لا يفي بتمام غرضه أمكن عدم الإجزاء حينئذ فللآمر بعد انكشاف الخلاف أن يأمر بأمثاله مرّة أخرى أو أكثر حسبما يفي بتمام غرضه ، وكذا إن فرض غير حكيم يمكن أن يصدر منه طلب إطاعته ثانيا أو أكثر ، إلّا أن كلامنا في كلام الحليم العليم تبارك وتعالى فلا بدّ فيه من الالتزام بالاقتضاء للإجزاء عقلا. نعم إذا لم يكن مجرد الامتثال والإتيان بالمأمور به على وجهه علّة تامّة لحصول الغرض الأقصى بأن يكون من مقدّماته كما لو أمر المولى بإتيان الماء ليشرب أو ليتوضأ فأتى به العبد ولم يشربه أو

٢٠٩

لم يتوضأ به بعد فللعبد حينئذ تبديل الفرد المأتي به بفرد آخر أحسن بل مطلقا بدلا عنه لا منضما إليه ، فإن ملاك الأمر وحقيقته وروحه وهو حصول الغرض الأقصى باق ولم يسقط بعد ، ولذا لو أهرق الماء واطلع عليه العبد يجب عليه الإتيان به ثانيا ، كما إذا لم يأت به أولا ، ضرورة بقاء طلب الآمر ما لم يحصل الغرض الداعي عليه ، وإلّا لم يوجب حدوث الأمر أوّلا وإذا كان ملاك الأمر باقيا بعد فللعبد تبديل الفرد المأتي بفرد آخر كما كان له اختياره إذا لم يأت بالفرد الأوّل ، فإن سبب التّخيير وهو الأمر وإن سقط ، إلّا أن ملاكه باق بعد فسبب التّخيير من الأفراد باق بعد ، وأمّا لو كان الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض تمامه كما إذا أمر المولى بإهراق الماء في فيه فاهرقه فيه ، فلا مجال حينئذ للتّبديل ولو لم يعلم أنه من أي القبيل فله أيضا التّبديل رجاء واحتياطا كما هو واضح ، ويؤيد ما ذكرنا بل يدّل عليه ما ورد في باب إعادة الصّلاة المأتي بها فرادى جماعة من انّ الله تعالى يختار أحبّهما إليه ، إذ يعلم منه أن إحدى الصّلاتين ذات مصلحة وليست في الأخرى مصلحة أصلا حتّى على وجه تقتضي الاستحباب وإلّا لم يكن وجه لاختيار أحبّهما ، بل لا بدّ حينئذ من اختيار كليهما ، فيعلم من هذا أن تمام الغرض لم يحصل بعد امتثاله فله تبديله بفرد آخر لعلّه يكون أحب وأفضل ، ولعلّه لأجل ما ذكرنا كان ديدن غير واحد من سلفنا الصالحين رضوان الله عليهم أجمعين على إعادة عباداتهم مرّة أو مرّتين أو أكثر بحسب ترقيات مراتبهم وكمالات أنفسهم الزّكية حيث أنّهم يحتملون حينئذ في كلّ مرّة حصول مرتبة من القرب إلى الله تعالى لم تحصل تلك المرتبة في المرّة الأولى ، ولا تكون إعاداتهم من باب الرّجاء والاحتياط ، فإنّهم قاطعون بكونها صحيحة مجزيّة حسب القواعد الفقهيّة ومع هذا أعادوها ، والظّاهر أنه لا وجه له

٢١٠

سوى ما ذكرنا

وكيف كان ما اخترناه من جواز التّبديل في بعض الصّور لا دخل له بالقول بعدم الإجزاء فإن قضيته كما عرفت إمكان تحقق الإطاعة الثّانية بعد بقاء الإطاعة الأولى على حالها ، وأي هذا من تبديل الإطاعة الأولى بإطاعة أخرى ، وهذا معقول بخلاف الأوّل كما لا يخفى.

المقام الثّاني : وهو أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري وهو المسمى بالأمر الواقعي الثّانوي كالأمر بالصّلاة مع الطّهارة الرّاتبة أو على وجه التّقيّة أو مضطجعا أو مستلقيا ونحو ذلك من الأوامر الجانبيّة من قبل الأعذار الشّرعيّة هل يجزي بالنّسبة إلى الأمر الواقعي الأولي فلا يجب الإعادة في الوقت والقضاء في خارجه بعد رفع الأمر الثّانوي من الاضطرار ونحوه ، أو لا يجزي؟ كذلك فالكلام فيه أيضا في مقامين :

تارة في بيان ما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطراري من الأقسام وبيان ما هو قضية كلّ واحد منها من الأحكام من الإجزاء أو عدم وجواز البدار وعدمه وأخرى في تعيين ما وقع عليه شرعا.

الأوّل : التّكليف الاضطراري لا يخلو إمّا أن يكون كالتّكليف الاختياري وفي مرتبته في كونه وافيا بتمامه المصلحة المطلوبة وكافيا في ما هو المهم والغرض من الأمر الاختياري أو لا يكون كذلك ويفوت معه شيء من المصلحة والغرض؟ وعلى الثّاني فأمّا أن لا يمكن تدارك ما فات واستيفاؤه ، أو يمكن وعلى الثّاني فأمّا أن يكون باقي بمقدار يجب تداركه أو بمقدار يستحب فالأقسام أربعة.

أمّا الأوّل : وهو ما كان وافيا بتمام المصلحة فحكمه الاقتضاء للإجزاء وعدم

٢١١

مجال فيه التدارك أصلا لا بنحو الإعادة ولا القضاء كما لا يخفى ، وأمّا تسويغ البدار فيه مطلقا أو مع اليأس عن طرو الاختيار أو إيجاب الانتظار فيه مطلقا ، فهو دائر مدار كون العمل بمجرد طرو الاضطرار أو مع اليأس عن طرو الاختيار أو بشرط الانتظار ذا مصلحة ووافيا بالغرض ، إذ كما يعقل أن يكون لسائر الخصوصيات والطّواري كالسّفر والحضر وأمثالهما دخل في حدوث المصلحة ، كذلك يعقل أن يكون للاضطرار عند اليأس عن طرو الاختيار أو مع الانتظار أو مطلقا دخل فيها ، فلذا يمكن تسويغ البدار مطلقا أو مع اليأس عن طرو الاختيار أو إيجاب الانتظار ولعلّه لهذا اختلفت الموارد شرعا ، ففي بعضها جاز البدار وفي بعضها وجب الانتظار.

وأمّا الثّاني : وهو ما لا يكون وافيا بتمام المصلحة ولا يمكن تدارك الفائتة منها فحكمه أيضا الإجزاء وعدم مجال فيه للقضاء ، إذ به لا تتدارك المصلحة الفائتة حسب الفرض ، وأمّا تسويغ البدار فيه فلا مجال له إلّا مع اشتماله على مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع مع الانتظار وإلّا كان تشريعه نقضا للغرض وتفويتا بشيء من المصلحة يكون واجب الرّعاية.

وأقول : لصورة المستثناة داخلة في القسم الأوّل ، إذ لو كان العمل الاضطراري مع البدار ذا مصلحة ولو من جهة أخرى غير نفسه ، تساوي مصلحته مع الانتظار وتأخيره إلى آخر الوقت لكان وافيا بتمام المصلحة والغرض ، ولعلّه لذا أمر بالفهم في الكفاية ولكن على هذا كانت قضية القسم الأوّل الإجزاء مطلقا إعادة وقضاء كما أفاده في الكفاية وجواز البدار مطلقا إذ لا وجه لعدمه إلّا كونه مخلا بشيء من المصلحة اللازمة ومعه يكون خارجا عن الغرض وهو كونه وافيا بتمام المصلحة ،

٢١٢

فالأولى أن يفصّل بين القسمين بالإجزاء إعادة وقضاء وجواز البدار في القسم الأوّل والإجزاء قضاء وعدم جواز البدار في القسم الثّاني إلّا إذا كانت المصلحة الفائتة بالبدار وبمقدار لا يكون واجب الرّعاية.

فانقدح ممّا ذكرناه أنّه لا يمكن الجمع بين القول بالإجزاء إعادة وقضاء في القسم الأوّل ، وبين التّأمل في جواز البدار فيه وتوقيفه على كون العمل بمجرد الاضطرار وافيا بتمام المصلحة والغرض إذ لو فرض كونه بشرط الانتظار ذا مصلحة ، فكيف بجامع هذا مع القول بالإجزاء فيه بحسب الإعادة ، فالجمع بينهما كما في الكفاية لا يخلو عن المناقشة كما لا يخفى على المتأمل.

فإن قلت : إذا كان الأمر الاضطرار موجبا لفوات شيء من المصلحة الملزمة غير قابل للتّدارك كما في هذا القسم فلا وجه لتشريعه سيما مع تسويغ البدار لإمكان استيفاء تمام المصلحة بإيجاب القضاء.

قلت : للوقت دخل في المصلحة ، فبالقضاء يفوت شيء منها قطعا ، فإن كان ما يفوت بالأمر الاضطرار مساويا له أو أنقص فلا مانع من تشريعه ولعل هذا محصل ما افيد في الكفاية بقوله : لا يقال عليه فلا مجال لتشريعه الى آخره.

وأمّا الثّالث : وهو ما لا يكون وافيا بتمام المصلحة ولكن يمكن تدارك الباقي بالإعادة في الوقت أو مطلقا ولو بالقضاء في خارجه ويكون الباقي مما يجب تداركه فحكمه عدم الإجزاء ولزوم الإعادة أو القضاء وله البدار ، أمّا استحبابا إذا فرض كون العمل معه غير واجد إلّا لمقدار من المصلحة لا يقتضي إلّا الاستحباب بحيث لا يكون الباقي إلّا تمام المصلحة اللّازمة ، فحينئذ له البدار استحبابا مع لزوم الإعادة أو القضاء عليه ، وله التّأخير مع لزوم الإتيان بالعمل ثانيا على ما هو تكليف

٢١٣

المختار ، وأمّا وجوبا إذا فرض كون العمل معه واجدا لمقدار من المصلحة اللازمة ولكن يحصل الباقي منها بالإعادة أو القضاء وإذا لم يأت به في أوّل الوقت يحصل تمام تلك المصلحة بالإتيان به في آخر الوقت أو بالقضاء ففي هذه الصّورة مخيّر بين البدار والإتيان بالعمل الاضطرار في حال الاضطرار ثمّ الإتيان به بعد رفع الاضطرار وبين الانتظار والاقتصار على إتيان ما هو تكليف المختار.

وأمّا الرّابع : وهو الثّالث إلّا أن المصلحة فيه ممّا لم يجب تداركه ولا يقتضي إلّا الاستحباب فحكمه أيضا عدم الإجزاء ولزوم الإعادة أو القضاء وله البدار إلّا أنّه يتعين كونه على وجه الاستحباب كما في الفرض الأوّل من الثّالث بخلاف الغرض الأخير منه فإن البدار فيه على وجه الوجوب التخييري كما لا يخفى.

هذا كلّه فيما يمكن أن يقع عليه الأمر الاضطرار من الأقسام وما يقتضيه كلّ منها من الأحكام من الإجزاء وعدمه وجواز البدار فيه استحبابا أو وجوبا وعدمه وأمّا تعيين ما وقع عليه في الموارد فهو موقوف على ملاحظة الدّليل الدّال على الحكم في كلّ مورد مورد لأنها مختلفة وليست مندرجة تحت أصل كلّي ، فالمتبع في كلّ مورد دليله ، فإن استظهر منه الإجزاء فهو ، وإلّا فالمرجع أصالة البراءة عن الإعادة لكونه شكا في أصل التّكلف وكذا عن القضاء بطريق أولى ، نعم لو دلّ دليله على أن سببه فوت الواقع وإن لم يكن فريضة وجب القضاء حينئذ لتحقق سببه وهو فوت الواقع وإن حصل غرضه واستوفيت مصلحته ، إلّا أن هذا مجرد فرض فقضية الأصل البراءة عن القضاء والإعادة.

وممّا يستظهر منه الإجزاء قوله تعالى : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) فإن لسانه لسان الإجزاء سيما بملاحظة ما في ذيله وهو قوله تعالى : (ما جعل

٢١٤

عليكم في الدّين من حرج) فإنّه يدلّ على أن تشريع الطّهارة التّرابيّة لأجل الحرج ، ومن الواضح أنّه لو لم تكن الصّلاة مع الطّهارة التّرابيّة مجزيّة لأوجب الحرج فيها ضيقا على المكلّف لا تسهيلا وتخفيفا عليه ، وقوله عليه‌السلام «التّراب أحد الطّهورين ويكفيك عشر سنين» فإنّه أن لم يكن التّراب مجزيّا فكيف يمكن أن يكون مجزيا عشر سنين ، وبالجملة فالمتبع في كلّ مورد إطلاق الدّليل لو كان ، وإلّا فالأصل.

أقول : ما ذكر في وجه استظهار الإجزاء من الآية الشّريفة جار في جميع الأوامر الاضطرارية فلا يبقى لها مورد يشك فيه كي يقال أنّه لا بدّ في كلّ مورد من ملاحظة الدّليل الوارد فيه منه ، وأمّا أن المتبع إطلاق الدّليل لو كان ، ففيه أن إثبات الإجزاء عقلي وليس من مدلول اللفظ كي يجدي فيه الإطلاق ، نعم لو دلّ دليل على أن الأمر الاضطرار نظير الأمر بالتّقيّة كالأمر الواقعي ، كان قضية هذا الكلام الإجزاء ، فلو شكّ فيه في بعض الأحوال أو بعض الأفراد من التّقيّة مثلا أمكن الرّجوع إلى إطلاق الدّليل حينئذ لو كان ولعلّ هذا هو المراد ، وإلّا فيشكل كما لا يخفى.

المقام الثّالث : وهو أن الإتيان بالمأمور به بالأمر الظّاهري أعني مؤدى الطّرق والأمارات والأصول الشّرعيّة هل يجزي بالنّسبة إلى الأمر الواقعي فلا يجب التّدارك بالإعادة أمر القضاء والخلاف أو لا يجزي؟ فالكلام فيه في مقامين.

تارة في بيان حكم ما يجزي في متعلقات الأحكام وتنقيح موضوعاتها وتعيين ما يعتبر فيها وجودا أو عدما شطرا أو شرطا وما لا يعتبر كقاعدة الطّهارة والحليّة واستصحابهما في وجه قوي بالنّسبة إلى كلّ ما اشترط فيه الطّهارة أو الحليّة وكأصالة البراءة الشّرعيّة بالنّسبة إلى ما شكّ في اعتباره في المأمور به ، وأخرى في

٢١٥

بيان حكم ما يجري في إثبات نفس الأحكام كما لو قام الخبر على وجوب صلاة الجمعة يومها مثلا.

أمّا المقام الأوّل : فالأقوى فيه التّفصيل بين مؤدى الأصول وبين مؤدى الطّرق والأمارات بالإجزاء في الأوّل وعدمه في الثّاني ، أمّا الإجزاء في الأوّل فلأن لسان أدلة الطّهارة والحليّة والبراءة ونحوها لسان جعل الحكم ولو في مورد الشكّ ، فيكون حاكما على أدلة اعتبار الشّروط كالطّهارة والحليّة والإجزاء والموانع مطلقا ومبيّنا لمقدار المراد بها وموسعا لدائرتها وإنّها أعمّ من الطّهارة أو الحليّة الواقعيّة والظّاهريّة أو مضيقا لها كما هو قضية حديث الرّفع ونحوه من أدلة البراءة الشّرعيّة فإنّها تقتضي عدم الجزئيّة عند الشكّ أو الحرج أو الضّرر أو الاضطرار ، فانكشاف الخلاف فيها لا يوجب انكشاف وقوع خلل في العمل يفقد شرط أو جزء.

وإن شئت قلت : أن قضيّة ظاهر هذه الأدلة ارتفاع الحكم عن ما عدا مؤدياتها فلا يوجب الإعادة أو القضاء بالمرّة.

وأمّا عدم الإجزاء في الثّاني فلأن لسان أدلة الإمارات بناء على اعتبارها من باب الطّريقيّة كما هو الأظهر الأقوى أن مؤداها هو الواقع ، فإذا انكشف الخلاف وتبين أنّه ليس كذلك وإن المأتي به على طبقه فاقد لما يعتبر فيه وجود أو عدمه من الإجزاء أو الشرائط أو الموانع فلا وجه للحكم فيه بالإجزاء سواء قلنا بأن قضية اعتبارها من باب الطّريقيّة تنجيز الواقع عند الإصابة وإثبات أحكام ظاهريّة عند الخطأ كما عن المشهور وهو قضيّة قولهم : «ظنّية الطّريق لا ينافي قطعيّة الحكم» أو قلنا بأن قضيّة اعتبارها من باب الطّريقة ليست إلّا جعلها كالحجّة المنجعلة أي

٢١٦

القطع والظّن في حال الانسداد بناء على الحكومة في إنّها لا تفيد إلّا التّنجيز الواقع عند الإصابة والمعذوريّة عن مخالفته عند خطئها عنه كما واخترناه لا لأجل عدم إمكان الجمع والتّوفيق بين الحكم الواقعي والظّاهري في موضوع واحد إذ قد أثبتنا في محله إمكان ذلك حتّى فيما لو كان المكلّف مقصر في تحصيل الحكم الواقعي ، غاية الأمر إن هذا يحتاج إلى مساعدة الدّليل فيقتصر في الحكم عليه ، ولذا حكمنا بمعذوريّة الجاهل المقصر في الجهر والإخفات والقصر والتّمام وبصحّة صلاتهما تمسكا بالأخبار ، بل لأن عمدة أدلة اعتبار الأمارات بناء العقلاء على اعتبارها والعمل عليها ، وهو لا يغير أزيد مما ذكرناه من التّنجيز عند الإصابة والمعذوريّة عند المخالفة ، لوضوح أن بناءهم على اعتبارها في أمورهم العرفيّة ليس بأكثر ممّا ذكر ، فكذلك اعتبارها عند الشّارع في الأحكام الشّرعيّة إذ لم يعلم من الأدلة إلّا اعتبارها عند الشّارع إمضاء وتقريرا لبناء العقلاء ، أمّا عدم الإجزاء على ما اخترناه فواضح إذ عليه لا أمر بالمأتي به أصلا فكيف يكون مجزيا.

نعم إذا كان المأتي به مشتملا على تمام مصلحة المأمور به واقعا أو على مقدار منها لا يمكن تدارك الباقي منها بعد فعله كان مجزيا حينئذ ، وهذه هي صورة يحكم بإخراجها عن الحكم بعدم الإجزاء عند القطع وانكشاف الخلاف ، إلّا أن الإجزاء فيها ليس لأجل امتثال الأمر الطّريقي أو القطعي للأجزاء ، بل لأجل خصوصيّة اتفاقيّة في متعلقهما كما في الجهر والإخفات والقصر والإتمام.

وأمّا على مذهب المشهور فلأن مؤديات الإمارات والطّرق ليست أحكاما حقيقيّة جدّيّاً بل أحكام ظاهريّة صوريّة في حال الشكّ ، فعند زواله ينكشف الخلاف ويتبين عدمها واقعا ، فلا تكون مجزية عنه.

٢١٧

وأمّا بناء على اعتبارها من باب الموضوعيّة والسّببيّة فتكون حالها حال الأوامر الاضطراريّة الّتي تقدم حكمها في القسم الثّاني ، فإن مؤدياتها على هذا التّقدير أحكام واقعيّة حقيقية غاية الأمر إن الأحكام الاضطرارية حادثة في حال الاضطرار وهي حادثة في حال الشّك والجهل فإذا أدت إلى أن العمل واجد الشّرط أو الجزء أو أن المشكوك اعتباره فيه غير معتبر فيه كان في هذا الحال صحيحا ومشتملا على المصلحة حقيقة وعند انكشاف الخلاف لا بدّ في الحكم بالإجزاء وعدمه من ملاحظة أنه في تلك الحالة هل يكون وافيا بتمام الغرض والمصلحة أو يكون واجدا لبعضها مع إمكان تدارك الباقي منها أو عدمه فيجري فيه ما تقدم في القسم الثّاني من الأقسام الأربعة الممكنة وأحكامها من الإجزاء وعدمه مع البدار وجوبا أو استحبابا وعدم جوازه ، فإن استظهر بشيء منها من إطلاق دليل الحجيّة فهو المتبع وإلّا فالمرجع هو الأصل وقد تقدم ما هو قضيته.

أمّا المقام الثّاني : وهو ما يجري من الأصل أو الإمارة في إثبات أصل التكليف كما لو قام الخبر أو الأصل على وجوب صلاة الجمعة في زمان الغيبة فأتى بها ثمّ انكشف وجوب صلاة الظّهر فالأقوى فيه عدم الإجزاء مطلقا حتّى على القول باعتبار الإمارات من باب الموضوعية إذ غاية ما يقتضيه اعتبارها كذلك وكذا اعتبار الأصل حين الشّك صيرورة صلاة الجمعة في زمان الغيبة عند عدم انكشاف الخلاف ذات مصلحة ومن المعلوم إن هذا لا ينافي بقاء صلاة الظّهر على ما هي عليه من المصلحة الملزمة ، فيلزم تداركها بفعلها إلّا أن يقوم دليل بالخصوص على عدم وجوب صلاتين في يوم واحد.

وأقول : إن كان لسان أدلة الأصول كقوله عليه‌السلام «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف

٢١٨

أنّه حرام» وقوله عليه‌السلام «كلّ شيء طاهر حتّى تعلم أنّه قذر» وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «رفع عن أمّتي تسعة ....» لسان الحكومة وقضيتها توسعة دائرة الشّروط والإجزاء أو تضييقها ، ولذا يحكم بالصّحة والإجزاء وعدم لزوم الإعادة أو القضاء عند انكشاف الخلاف في المقام الأوّل ، فلم لا تكون كذلك في هذا المقام أيضا؟ فلو كانت قضيتها في ذلك المقام حصول الشّرط عند قيام الأصل عليه أو عدم اعتبار الجزء عند الشّك فيه بمقتضى حديث الرّفع ، ولذا يحكم فيه بالإجزاء كانت قضيتها في هذا المقام أيضا ارتفاع التّكليف عن صلاة الظّهر مثلا عند قيام الأصل على وجوب صلاة الجمعة يومها ، فينبغي أن يحكم فيه أيضا بالإجزاء.

وبالجملة لا أجد فرقا في دلالة مثل حديث الرّفع بين أن يكون المشكوك فيه نفس التّكليف وبين أن يكون ممّا يعتبر في المكلّف به من الإجزاء والشّرائط ، فلو كان قضية الإجزاء في القسم الثّاني لأن كفارة رفع الجزء أو الشّرط حين الشّك ، فليكن كذلك في القسم الأوّل ، لأن مفاده أيضا رفع التّكليف عن صلاة الظّهر أيضا حال الجهل ، فليحكم فيه أيضا بالإجزاء منه ، ولو كان قضية عدم الإجزاء في القسم الأوّل بقاء مصلحة الواقع على حالها فيلزم تحصيلها بالإعادة أو القضاء فكذلك في القسم الثّاني بعينه.

هذا ولا يخفى ، أنّه لو شكّ في أن اعتبار الطّرق والأمارات على أي الوجهين هل هو على وجه الطّريقيّة فيلزم عدم الإجزاء في القسم الأوّل ، أو على وجه الموضوعيّة فيلزم الإجزاء فيه ولو في بعض الصّور كان المرجع استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التّكليف بالواقع في الوقت وإن لم يعلم فعليته بناء على أن التّكليف مهما علم إنشائه بل المقتضى له من المصلحة الملزمة الّتي هي الفرض من

٢١٩

الأمر والدّاعي عليه ، وإن لم يعلم فعليته يجب بحكم العقل الفراغ عن عهدته ، ولذا لو كان الغرض من الأمر أضيق دائرة مما تعلق به الأمر كما في العبادات بناء على ما أثبتناه منها من إن التقرب المعتبر منها غير فعلا مأخوذا في متعلق الأمر بها يستقل العقل بأنه يجب على العبد الإتيان بالمأمور به على وجه يحصل به غرض المولى ، إذ على هذا التّقدير بعد كشف الخلاف وإن كان المكلّف به فعلا مرددا بين كونه هو الواقع كما هو قضية الطريقيّة ، أو العمل بمؤدى الطّريق كما هو قضية السّببيّة ، إلّا أنّه يعلم إنشاء تكليف بالواقع غاية الأمر أنه لم يعلم فعليته من جهة احتمال كون العمل بالإمارة مسقطا عنه بناء على السّببيّة ، فإذا شك في وجود المسقط عنه فالأصل عدمه وقضية لزوم الإعادة في الوقت مطلقا والقضاء إن كان بمقتضى الأمر الأوّل ، وإن كان لغرض جديد فالأصل البراءة عنه فلا يجب القضاء.

وبتقرير آخر ، بعد انكشاف الخلاف يعلم إجمالا بوجود مصلحة ملزمة ، إمّا في العمل على وجه الواقع أو على وجه الإمارة ، وبعد العمل على وجهها يشكّ في حصول تلك المصلحة والأصل بقاؤها إلى أن يحصل القطع بتحصيلها.

وإن شئت قلت : بعد انكشاف الخلاف ينكشف قيام غرض لازم التّحصيل على العبد بنفس المولى وبعد الإتيان بمؤدى الإمارة يشكّ في تحصيل ذلك الغرض والأصل بقاؤه مع أنّه لولاه كانت قاعدة الاشتغال محكمة لاستقلال العقل بلزوم تحصيل القطع بتحصيل تلك المصلحة وذلك الغرض القائم بنفس المولى ، وهو لا يحصل إلّا بالإعادة في الوقت أو القضاء في خارجه إن كان بالأمر الأوّل ولا يعارض الأصل باستصحاب عدم كون التّكليف بالواقع فعليّا فإنّه لا يجدي إلّا إذا كان من آثاره كون المأتي به مسقطا عن الواقع وليس كذلك ، ولو سلم فإنّما هو من

٢٢٠