غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

على الإطلاق وكلّ صفاته كذلك ، فإن كلّ واحدة منها غير الاخرى وغير ذاته الأعلى ، إلّا أن هذا الاختلاف إنّما هو بحسب المفهوم لا بحسب المصداق والخارج ، ولذا كان كمال الإخلاص وتوحيد الذّات نفي الصّفات عنه تعالى مع إنها عين ذاته ، بمعنى أن صفاته سبحانه ليست كصفات غيره من الموصوفين حيث أن لكلّ منها في حقّهم ما بحذاء غير ما بحذاء الاخرى وغير ما بحذاء موصوفها ، بخلاف صفاته تعالى فإن ما بحذاء الجميع شيء بسيط وهو عين ذاته المقدّسة ، وسيأتي لذلك فريد بيان إنشاء الله.

وبالجملة : لا تلازم بين الإرادتين إذا اجتمعتا فلا بدّ من صدور الاطاعة والايمان وإن ، اختلفتا فلا بدّ من اختيار الكفر والعصيان.

فإن قلت : إذا كانت الإرادة التّكوينيّة منه سبحانه مستحيل تخلفها عن المراد وإن تعلقت بالكفر أو الايمان أو بالاطاعة أو العصيان لزم سقوط التكليف عن الانسان بالمرّة وعدم استحقاقه المثوبة أو العقوبة على الاطاعة أو المعصية لأنّه إنّما يصحّ ذلك إذا كان مختارا في أفعاله وهي على ما ذكر غير مختار فيها لأنّها بما هي عليها من الخصوصيات قد تعلقت بها الإرادة الحتميّة وعلمه بها قبل وجودها قطعا فلا يكون باختياريّة.

قلت أوّلا : أن الإرادة التّكوينيّة قد عرفت أنّها عبارة عن علمه تعالى بالنّظام الأحسن وعلمه تعالى كعلم غيره لا يكون علّة لوجود المعلوم بل تبع له فلا يوجب سلب الاختيار عنه.

وثانيا : أن أفعال العباد إنّما تخرج عن حيز اختيارهم لو تعلقت إرادته تعالى بصدورها عنهم بالاضطرار لا بالاختيار ونحن نمنع إلّا عن تعلقها بصدورها عنهم

١٦١

بمباديها الاختياريّة وعن الاختيار ولا تنافي بين عدم إمكان تخلّفها عن ما تعلقت به وبين بقاء اختياريّة إذا تعلقت به كذلك كما لا يخفى ، فلا محذور عن صحة التّكلف وتعلقه بها.

إن قلت سلّمنا : أنّ الإرادة الإلهية والمشيّة الأزليّة تعلقت بصدور الافعال حتّى الكفر والعصيان عن المكلفين بالاختيار إلّا أنا ننقل الكلام في نفس الاختيار ونقول : هل هو اختياري أم لا؟ بمعنى أن مباديه من الإرادة ونحوها هل هي كلّها اختيارية ، أو تنتهي بالأخرة إلى ما لا بالاختيار؟ لا سبيل إلى الأوّل وإلّا لدار وتسلسل ، فتعين الثّاني وإذا كانت اختياريّة

الأفعال لا بدّ وأن تنتهي إلى ما لا يكون بالاختيار فكيف يصحّ التّكليف بها والمؤاخذة على مخالفته فيها؟

قلت سلمنا : أن اختياريّة الأفعال تنتهي بالأخرة إلى ما يكون بغير الاختيار إلّا أنا نقول : لا يلزم في صحّة التّكليف اختياريّة الفعل الذي تعلق التّكليف به على وجه يكون تمام مباديه اختياريّة ، بل يكفي في صحّة التّكليف به كونه على وجه يحسن أو يقبح فاعله العقل والعقلاء بحيث يستحق عندهم لاجله المثوبة أو العقوبة من المولى وإن كان بعض مباديه غير اختياري له ، وهذا المقدار موجود في بعض أفعال المكلفين قطعا ، وبالجملة لا يعتبر في اختياريّة أفعالهم أزيد ممّا هو موجود في أفعاله تعالى فإنه مختار فيها قطعا ، ولم يقل أحد بكونها غير اختياري له مع أن بعض مباديها من علمه وقدرته ووجود ونحوها غير اختياري قطعا ، وكما أن عدم اختياريّة بعض مبادي أفعاله غير قادح في اختياريتها له وأفعاله أيضا مختلفة بعضها على وجه يقبحه العقل والعقلاء كاثابته العاصي على معصيته وعقابه المطيع

١٦٢

على طاعته مثلا ، فيستحيل صدوره عنه لاستحالة صدور القبيح عن الحكيم ، وبعضها على وجه يحسنه العقل والعقلاء كاثابته المطيع وعقابه العاصي ، كذلك في عدم اختياريّة بعض مبادي أفعالهم لا يقدح في كون بعضها اختياريا لهم ، وهي في حقّهم أيضا مختلفة حسنا وقبحا كما عرفت ، فالملاك والمناط في اختياريّة الفعل مطلقا هو ما ذكرنا من كونه على وجه يقبّح أو يحسن العقل فاعله وإن كان بعض مباديه غير اختياري له وهذا المقدار موجود في حقه تبارك وتعالى وحق عبيده في بعض أفعالهم على السواء ، غاية الامر أن الفعل القبيح يمكن صدوره عن غيره ولا يعقل صدوره عنه سبحانه لأنه مناف لعلمه وقدرته وحكمته ، إلّا أن هذا الفرق غير فارق فيما نحن بصدده ، فيصحّ تكليف الكافر والعاصي وعقابهما ومؤاخذتهما على الكفر والمعصية لأجل صدورهما عنهما بالاختيار.

فإن قلت : لم تعلقت الارادة الإلهية باختيار الكافر والعاصي الكفر والعصيان وباختيار المطيع والمؤمن الاطاعة والايمان؟ هل هذه التّفرقة في الارادة جزافيّة ، أو لأجل جهة وعلّة؟ وما ذا يدعوهم على الكفر والايمان والاطاعة والعصيان بالاختيار لا بالاضطرار؟

قلت : قد عرفت أن الإرادة الّتي تكون عبارة عن العلم بالنّظام الأحسن لا تكون علّة لصدور المراد من أفعال العباد من الحسنات والسيّئات ، فلا محذور في تعلقها بها بما هي عليها من الخصوصيات من الشّرور والخيرات ، وأمّا الدّاعي لهم عليها فهو ذواتهم أو ذاتياتهم الحاصلة بمواطنة الطّاعات أو المعاصي ، فإنها مختلفة استعدادا واقتضاء لأجل كمالها وحسنها أو نقصانها وخباثتها ، واختلافهم فيها يصير منشأ لاختلاف أفعالهم خيرا وشرا حسنا وقبحا وليس على الله تعالى إلّا

١٦٣

إفاضة الفيض على حسب استعدادات المقتضيات وقابلية القوابل إن كان الشّيء بنفسه مستعدا وقابلا لإعطاء الخير يفيض الخير عليه ، وكذا في الشّر ، وليس التّفكيك بين المقتضي والمقتضى خيرا بل الخير إفاضة الفيض على كلّ شيء بحسب ما يقتضيه ويطلبه إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا ، ولا يصح استناد شيء إلى الله تعالى إلّا هذا المقدار ، ومرجعه إلى عدم التّفكيك بين العلل ومعلولاتها ، ولا محذور في الالتزام به فهو تبارك وتعالى أوجد الذوات بما عليها من الخصوصيات الشّقي شقيا في بطن أمّه والسّعيد سعيدا في بطن أمّه لا جعلهما شقيا وسعيدا فإن الشّقاوة والسّعادة إنّما تنشآن من اختيارهما النّاشئ من مباديه المنتهية بالاخرة إلى ما بالذّات من انقضاء السّعادة أو الشّقاوة فإن الذّوات بما هي عليه من الاستعدادات والاقتضاءات إذا كانت على طبق النّظام الأحسن.

وبعبارة أخرى : إذا وقعت في سلسلة العلل والمعلولات واقتضت الوجود فلا بدّ من اعطاء الوجود وافاضة الفيض عليها فإنها حينئذ تام القابليّة. وهو سبحانه أيضا تام الفاعليّة ولا يخل في المبدأ الفيّاض الواجب الوجود فلا محاله يعطيها الوجود ، مثلا إذا وقعت في تلك السّلسلة انعقاد نطفة مثل الشّمر ويزيد لعنهما الله فلا جرم يعطيها الوجود ، وإذا فرضت النّطفة خبيثة تقتضي تكون مثل الشّمر عنه فلا بدّ من تكوّنه عنها ، وإذا فرض أن خباثة ذاته الشرور تقتضي إرادة الشّرور ومنها قتل سيّد الشّهداء صلوات الله عليه ، فلا بدّ من صدور ما عنه باختياره وإن كان على خلاف مصلحته ، ولذا كلّف بتركه ويعاقب على فعله ، فهو معاقب على فعله النّاشئ عن اختياره النّاشئ عن مساوي اختياره المنتهية إلى خبث ذاته وسوء سريرته ، وفي مثل هذا المورد تتخلف الارادة التّشريعيّة عن الإرادة

١٦٤

التّكوينيّة ، ولذا تظهر آثارها من استحقاق العقوبة على المخالفة وهكذا يقال عكس ما ذكر في طرف سيّد الشّهداء صلوات الله عليه ، وإنّه لمّا تعلّقت الارادة التّكوينيّة لوجوده الشّريف بأن اقتضاه النّظام الأحسن الكلّى ، وبعبارة الاخرى ، لمّا وقع وجوده الشّريف في سلسلة العلل والمعلولات فلا بدّ منه ، وإذا فرض أن ذاته الشّريفة تقتضي إرادة الخيرات ومنها تقبل الشّهادة وتحمّل المصيبات ، فلا بدّ من وقوعها عنه بحسن إرادته واختياره فيستحق لأجل عظمها في المثوبات العظيمة والدّرجات الرّفيعة ما لن يناله غيره بفعل عبادة أو قبول شهادة ، وهكذا يقال في جميع يصدر عن النّاس من حسنات الأعمال وسيّئات الأفعال ، وبالجملة ينتهى الأمر فيها بالاخرة إلى ما بالذّات من الكمال أو النّقصان المقتضي لصدور الشّرور أو الخيرات من الكفر والإيمان والاطاعة والعصيان ، والذّاتى لا يعلّل ، ولا مجال فيه للسّؤال لم خلق كذا؟ فإنّه بمثابة أن يقول الكلب أو الخنزير لم خلقت كلبا أو خنزيرا؟ ويقول الممكن : لم خلقت ممكنا محتاجا؟ فإن حقيقة الممكن الاحتياج ، وحقيقة الكلب أو الخنزير ما يصدر عنهما من الصّفات الكلبيّة والخنزيريّة ، فليس للناس على الله الحجّة بل لله على النّاس الحجّة البالغة.

وهم ودفع :

وهم : ربّما يختلج بالبال عنه على ما ذكر من كون الإرادة التّشريعيّة عبارة عن علمه تعالى بالمصلحة في عمل المكلّف أو نفس التّكليف أو أحدهما يلزم بناء على كونها عين الطّلب أن بكون المنشأ في الخطابات الشّرعيّة هو العلم بالمصلحة وأن لا يكون علّة فيها بالمرّة. ودفع : بأنّه ليس المراد بكون الإرادة عين العلم بالمصلحة

١٦٥

اتّحادهما بحسب المفهوم لضرورة المغايرة بينهما بحسبه كتغايرهما مع سائر صفاته وكتغاير كلّ صفة منها مع الاخرى وكلّها مع ذاته مع ذاته المقدّسة ، بل المراد اتّحادهما وجودا وخارجا وهما كسائر صفاته المقدّسة متّحدة مع ذاته الأقدس وجودا وخارجا فإنّه لوفور وجوده وشدّة ظهوره مجمع جميع صفاته الجلاليّة والكماليّة مع كمال وحدته وبساطته وليس المنشأ بالصّيغ الانشائيّة إلّا مفهوم الطّلب لا الطّلب الخارجي الحقيقي فإنّه غير قابل لأن ينشأ باللّفظ مطلقا ، لا منه تعالى ولا منّا كما لا يخفى ،

وبالجملة : لا شبهة في أنّ مفاهيم صفاته كالعالميّة والمريديّة والرّحمانيّة والرّحيميّة والقادريّة ونحوها مختلفة ، لكنّها في حقّه سبحانه عين ذاته الأقدس خارجا بعنى أن ما بحذائها في الخارج شىء واحد وهو عين ذاته ، وهذا المعنى قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أبنائه الطّاهرين : «كمال توحيده الاخلاص له وكمال الاخلاص له نفي الصّفات عنه» فإنّه صلوات الله عليه كان يوصفه بصفاته تعالى ولا ينفيها عنه ، فيعلم أنّه أراد من نفيها عنه ما ذكرناه من أنّها ليست كسائر صفات المخلوقين حيث أن لكلّ واحدة منها ما بحذاء غير ما بحذاء الاخرى ، وغير ما بحذاء الموصوف بها ، بل هي في حقّه تعالى على وجه يكون ما بحذاء الكلّ عين ذاته الأقدس الأعلى.

* * *

١٦٦

الفصل الثّاني

في ما يتعلّق بصيغة الأمر وفيه مباحث

«المبحث الاوّل» :

ربّما يذكر أن الصّيغة استعملت في معانى كثيرة وعدّ.

منها : التّهديد ، كقوله تعالى : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ.)

ومنها : الإنذار كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً.)

ومنها : الإهانة كقوله تعالى : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ.)

ومنها : الاحتقار كقوله تعالى : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ.)

ومنها : التّسخير كقوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.)

ومنها : الامتنان كقوله تعالى : (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ.)

ومنها : العجب كقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ.)

ومنها : التّعجيز والتّرجّي والتّمنّي وإلى غير ذلك في المعاني الّتي ذكرت لها ، ولا يخفى ، إن عدّها ممّا استعملت فيه صيغة الأمر نظير عدّ المعاني الّتي تقدّم عدّها

١٦٧

ممّا استعملت فيه مادّة الأمر غفلة نشأت في اشتباه المصداق بالمفهوم ، ضرورة أن الصّيغة لم تستعمل في شىء من هذه المعاني من التّمنّي أو التّرجّى أو الإهانة أو غيرها ، بل استعملت في معناها الحقيقي وهو إنشاء الطّلب الخارجي الايقاعي دون الطّلب الحقيقي فانّه غير قابل لأن ينشأ باللّفظ ، ولا شبهة في أنّ الطّلب إنّما ينشأ بمجرد التّلفظ بالصّيغة مطلقا ، غاية الأمر أن الدّاعي عليه يختلف ، فقد يكون هو البعث والتّحريك نحو الفعل المطلوب ، كما أن الداعي على النّهي أيضا قد يكون الزّجر عنه فيما إذ ما كان أحدهما ناشئا من الطّلب الحقيقى المتعلق بوجوده أو تركه ، وقد يكون الدّاعي عليه أحد هذه المعاني فتصير الصّيغة بمدلولها الحقيقى وهو الطّلب الانشائي مصداقا مثل التّمني أو التّرجي أو الاهانة أو التّهديد أو غيرها من المعاني ، فتصير الصّيغة مستعملة فيها ، نعم لو ادعى أنّ الصّيغة إنّما وضعت لأن ينشأ بها الطّلب فيما إذا كان الدّاعي عليه البعث أو التّحريك لا داع آخر من هذا المعاني فهو مطلب آخر ولا نضايقه ، إلّا أنّ هذا أيضا يتصور على وجهين :

أحدهما : أنّ يكون بنحو التّقييد في ما وضعت له الصّيغة فلو استعملت في إنشاء الطّلب لداع آخر غير البعث أو التّحريك نحو المطلوب كانت مجازا بمعناه المصطلح عليه.

ثانيهما : أن يكون بنحو الغرض والدّاعي للواضع كما تقدم نظيره في وضع الحروف حيث قلنا بانّها لم توضع ولم تستعمل في معانيها مقيدة بلحاظ خصوصياتها أي بلحاظ كونها غير مستقلة في أنفسها بأن تكون خصوصياتها أيضا من الاجزاء أو قيود للموضوع لها أو المستعمل فيها ، بل إنّما وضعت لان يستعمل ويراد بها معانيها حال كونها غير مستقلة في أنفسها لا مع لحاظ كونها

١٦٨

كذلك ، كما أن الأسماء أيضا وضعت لان يستعمل ويراد بها معانيها مستقلة في أنفسها لا مع لحاظها كذلك ، ولذا قلنا بأن استعمال كلّ منهما في مقام الآخر لم يكن من قبيل المجاز بمعناه المصطلح عليه ، وعلى هذا فلو استعملت الصّيغة لانشاء الطّلب بداعي شيء من المعاني المذكورة فهو ، وإن كان على خلاف وضع الواضع وغرضه إلا أنّه ليس بمجاز مصطلح وإن كان يشاركه في الحكم أي في الحاجة الى القرينة والعناية ، وكيف كان لا يبعد الالتزام بظهور الصّيغة وصفا أو انصرافا في كون الدّاعي هو البعث والتّحريك نحو المطلوب لا غيره ،

هذا ولا يخفى أن ما ذكرناه في صيغة الأمر من أن إنشاء الطّلب بها قد يكون بداعي البعث أو التّحريك نحو المطلوب فيما إذا كان منشؤه الطّلب الحقيقي ، وقد يكون بداع آخر من التّمني أو التّرجي أو نحو ذلك من المعاني المتقدمة جار بعينه في سائر الصّيغ الإنشائيّة كلفظتي «ليت ولعل» وأداة الاستفهام كهل والهمزة ، فإن إنشاء التّمني والتّرجي والاستفهام ، إنّما يحصل بمجرد اللّفظ بها إلّا أن الدّاعي عليه يختلف ، فقد يكون ثبوت هذه الصّفات حقيقة وقد يكون غيرها من شدة المحبّة أو التّقرير أو التّوبيخ أو التّهكم أو الإنكار أو غيرها ، ولا يقتضي هذا انسلاخه عن معانيها واستعمالها في غيرها بأن تستعمل لفظة لعل في إظهار المحبة مثلا ، وهمزة الاستفهام في التّقرير أو التّوبيخ أو نحوهما ، مع أنّها لو كانت مستعملة في هذه المعاني مجازا فلا بدّ من وجود العلاقة والمناسبة بينها وبين معانيها الحقيقية ، وهي غير موجودة فأي علاقة بين الاستفهام الحقيقي وبين التّقرير أو التّوبيخ أو التّهكم ونحو ذلك مما عدت من معاني همزة الاستفهام مع أنّها مرادفة للفظة «آيا» في الفارسية ، ومن المعلوم أنّها تستعمل فيها في مقام الاستفهام الحقيقي والإنكار والتّوبيخ

١٦٩

والتّقرير ونحوها ، مع عدم انسلاخها عن معناها الحقيقي في غير مقام الاستفهام الحقيقي ، فكذلك همزة الاستفهام في اللغة العربيّة ، فلا وجه لما التزم به من انسلاخ هذه الصّيغ عما هي عليها واستعمالها في غير معانيها إذا وقعت في كلامه تبارك وتعالى لاستحالة حقائق معانيها ، لاستلزامها الجهل أو العجز في حقّه تعالى ، وذلك لإن الإنشاء ما لا واقع له سوى ما يوجد بنفس المتكلّم بصيغته ، ولذا لا يقبل الصّدق والكذب ، بخلاف الأخبار حيث أن له واقعا يطابقه أو لا يطابقه ، فليصنع الإنشائيّة مطلقا إنّما تستعمل ويقصد بها إنشاء معانيها في الخارج من الطّلب أو التّمني أو التّرجي أو الاستفهام أو غيرها ، ومن الواضح أن المعنى المنشأ بها وهو الطّلب أو التّمني أو التّرجي أو الاستفهام الإنشائي الإيقاعي غير قابل لتخلفه عنها ، غاية الامر أن المتكلّم بها إذا كان مختارا فلا بدّ في صدوره عنه من وجود ما يدعوه عليه أما من ثبوت هذا الصّفات حقيقة أو غيرها من دواع آخر في نفسه ، واستحالة وقوع حقائق التّمني والتّرجي والاستفهام في حقّه تعالى لا يقتضي أن لا ينشأ بصيغها غير معانيها الإنشائية الايقاعيّة إذا وقعت في كلامه تعالى ، فهي فيه أيضا مستعملة في معانيها لكن لا بداعي ثبوت حقائقها ولإظهارها بل لدواع أخر كإظهار المحبّة عند استعمال كلمة لعل كما في قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) والتّقرير أو الإنكار أو التّوبيخ أو غيرها ممّا يقتضيه المقام عند استعمال أداة الاستفهام.

وممّا ذكرنا انقدح : أن عدّ التّقرير والتّوبيخ والإنكار ونحوها من معاني همزة الاستفهام ليس على ما ينبغي ، وبالجملة هذه الصّيغ مستعملة في معانيها وإن كان الدّاعي عليها غير ثبوت حقائقها قصارى ما يمكن أن يدعى ظهورها وصفا أو

١٧٠

انصرافا في كون الدّاعي ثبوت حقائقها في نفس المتكلّم لا داع آخر ، ولا نضايق عنه فإذا استعملت بلا قرينة حاليّة أو مقاليّة تحمل على ذلك ، وإن استعملت في غيره لاجل قرينة فهل هي مجاز أو حقيقة؟ فيه وجهان تقدم نظيرهما في صيغة الأمر لجريان نظير الوجهين المتقدمين فيها في هذه الصّيغ كما لا يخفى.

«المبحث الثّاني»

اختلفوا في أن صيغة الأمر هل هي حقيقة في خصوص الوجوب أو النّدب ، أو في الجامع بينهما ، أو في كلّ منهما على وجه الاشتراك اللّفظي أو في غيرهما أيضا على أقوال ، والأظهر هو الاوّل لتبادره وانسباقه إلى الذّهن عند إطلاقها وتجردها عن القرينة من أي متكلّم صدرت ، ولنا لو صدرت عن المولى استحق العبد على مخالفتها العقوبة والمؤاخذة عند العقلاء ولا يصحّ ولا يقبل منه الاعتذار باحتمال إرادة النّدب مع اعترافه بعدم نصب قرينة عليه من غير فرق بين اللغة العربيّة وسائر اللّغات ، فإن الظّاهر بل المقطوع به عدم اختلاف وضع الصيغ بحسب مدلولها الهيئي الذي هو محل الكلام في المقام باختلاف اللغات مع كونها مرادفات في المعنى كصيغة اضرب في العربيّة مع لفظة «بزن» في الفارسية مثلا ، والمتبادر منها في سائر اللّغات هو الوجوب ، كذلك في العربيّة وهو المدعى فإن استعملت في الكتاب أو السّنة بلا قرينة ولم يعلم أن المراد بها الإيجاب أو الاستحباب حملت على الايجاب ، لأصالة الحقيقة ، وشيوع استعمالها في لسان الشّارع كتابا وسنة في النّدب لا يوجب نقلها إليه أو حملها عليه أو التّوقف في ذلك على الخلاف في المجاز المشهور ، لكثرة استعمالها في الايجاب في كلمات الشّارع أيضا ، فإنه ليس إلّا كأحد من النّاس

١٧١

في لسانه وكلماته مطلقا واستعماله الصّيغة في النّدب لو كان أكثر فإنّما هو في الشّرعيات ، وأمّا في مجموع ما صدر عنه من الشّرعيات وغيرها من العاديات فلا ، وأكثرية الاستعمال في النّدب إنّما تفيد إذا كانت في مجموع الشّرعيات وغيرها ، وهذا غير معلوم بل معلوم العدم ، مع أن كثرة استعمالها في النّدب إنّما كانت مع القرينة المكتنفة بها أو استعمال اللّفظ في معناه المجازي مع القرينة المتصلة وإن بلغ غاية الكثرة لا يوجب انثلام ظهوره في معناه الحقيقي ، ولذا يحمل العام على العموم عند عدم القرينة على إرادة الخصوص مع أن استعماله في الخاص بلغ حدّا قيل ما من عام إلّا وقد خص.

وممّا ذكرنا انقدح : وجه استشكال صاحب المعالم (قدس) حيث ادعى شيوع استعمال الصّيغة في كلمات الأئمّة عليهم‌السلام في النّدب بحيث صارت من المجازات الرّاجحة المساوي احتمالها من اللّفظ لاحتمال الحقيقة فإنه لما رأى أن المستحبات الشّرعية الثّابتة بالاوامر الواردة في كلماتهم عليهم‌السلام أكثر من الواجبات ، فلذا تخيل إنّها بمجرد ذلك تصير من المجازات الرّاجحة على الحقيقة أو المساوية لها ، وقد انقدح أيضا وجه ضعفه ومحصله أنه لا بد في ذلك من ملاحظة جميع ما يصدر عنهم ولو في غير مقام بيان الاحكام الشّرعية وكون إرادة النّدب فيها أكثر وهذا ممنوع وعلى تقدير الاكثرية كذلك لا بدّ أيضا أن يكون ذلك بالقرائن المنفصلة عن الكلام لا المتصلة به وهذا أيضا ممنوع.

«البحث الثّالث»

الجملة الخبريّة الواقعة في مقام الإنشاء والطّلب والبعث في الأدلة الشّرعية

١٧٢

كقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) وكقولهم عليهم‌السلام «يغتسل ويعيد ويتوضأ ويقضي ويستأنف» ونحو ذلك هل هي منسلخة عن معناها الاخباري أو باقية عليه ، وعلى أي تقدير هل هي ظاهرة في الوجوب أم لا ، فالكلام فيها في مقامين :

أمّا الاوّل : فالظّاهر فيه إنّها باقية على معناها الحقيقي ومستعمله فيه مطلقا غاية الأمر أن الدّاعي على الأخبار يختلف ، فقد يكون فائدة الخبر من إعلام المخاطب بمضمون القضيّة إذا كان جاهلا به ، وقد يكون لازم فائدة الخبر في إعلام بعلم المتكلّم بمضمون الجملة فيما إذا كانا عالمين به ولكن المخاطب جاهل بعلم المتكلّم به فيخبره إعلاما بأنه أيضا عالم به ، وقد يكون البعث وطلب الفعل أو تركه فيخبره بوقوعه إظهارا بأنه مطلوبه وتحريكا للمخاطب نحوه إمّا على وجه المنع من النّقيض أو على وجه الرّضا به على الخلاف الآتي في المقام الثّاني ولا يلزم في هذه الصّورة كذب على المتكلّم عند عدم وقوع مطلوبه في الخارج لأنه إنّما يلزم فيما إذا كان الدّاعي هو الإخبار والاعلام دون البعث والطّلب نظير الكفايات فإن العبرة في صدقها وكذبها ليست بمطابقة مضمونها أعني معناها المطابقي وعدمها للواقع ، بل بمطابقة معناها الكنائي وعدمها للواقع ، مثلا إذا قيل زيد كثير الرماد وكناية عن جوده فلا يكون هذا الكلام كذبا إلّا إذا لم يكن زيد بجواد ، واختلاف دواعي الأخبار لا يوجب خروج الجملة الخبريّة عن معناها وانسلاخها عن كونها خبرا. نعم لا نضايق من ظهورها عند اطلاقها في أنها استعملت في معناها بداعي الإخبار والإعلام فلا داعي على الالتزام بانسلاخها عن معانيها لو استعملت في مقام الطّلب والانشاء ، كما أن اختلاف دواعي الإنشاء في الجمل الإنشائيّة لا يوجب انسلاخها عن كونها إنشاء وإن كان الظّاهر منها عند الإطلاق أنها مستعملة بداعي

١٧٣

ثبوت حقائق معانيها من الطّلب أو التمني أو التّرجي أو الاستفهام أو غير ذلك كما عرفت القول فيه مفصلا.

وأمّا الثّاني : فالأقوى فيه ظهور الجملة الخبريّة الواقعة في مقام الإنشاء في الوجوب ، بل ظهورها فيه أبلغ وآكد من ظهور الصّيغة فيه لظهورها في أن المتكلّم إنّما أخبر بوقوع مطلوبه من الفعل أو التّرك إظهارا بأنه لا يرضى إلّا بوقوعه فتكون في إفادة الوجوب أبلغ وآكد من إفادة الصّيغة لخلوها عن هذه النّكتة ، مع أن الوجوب قضية الإطلاق لو منعنا ظهورها فيه وقلنا بأنها لا تدل على أزيد من الطّلب لكن فيما إذا كان المطلق حكيما وصدرت عنه في مقام بيان تمام مراده لأن الطّلب المدلول عليه بها وإن كان وجوده في ضمن كلّ من الوجوب والنّدب محدودا ومقيدا بحدّ وقيد من المنع من التّرك والرّضا به لا يكون في الأخر ، وليس الوجوب والنّدب من قبيل الزّائد والنّاقص إلّا أن الطّلب في ضمن الوجوب كأنه تمام الطّلب عند العقلاء بخلافه في ضمن النّدب فإنه عندهم مرتبة ناقصة من الطّلب وإرادته منه محتاجة إلى مزيد بيان من التّحديد والتّقييد بعدم المنع من الترك ، فعند عدمه مع كون المطلق حكيما وفي مقام تبيان تمام مراده يحمل على عدم إرادته ، إذ لو أراده كان عليه البيان ونصب القرينة وحيث لم يبين ولم ينصب القرينة بأن عدم إرادته ويحمل على الوجوب ،

وبالجملة إنشاء الطّلب من الحكيم في مقام التّبيان مع عدم تقييده بقيد من قبيل المطلق الصادر عنه في مقام التّبيان مع عدم تقيده بقيد ، كما أنه عند إطلاقه وتمامية مقدّمات الحكمة يحمل على العموم الإفرادي في مثل «أحل الله البيع» وعلى العموم البدلي في مثل جئني برجل ، وأعتق رقبته ، مع أن كلّ واحد من المطلق والمقيد معين

١٧٤

ومحدود وبحدّ ليس في الآخر قطعا ، ضرورة أن المعنى المراد باللّفظ قد يراد على وجه الاطلاق وقد يراد على وجه التّقييد ، وعلى أي تقدير يكون معنيا واقعا ومحدودا بحدّ إلّا أنّه إذا أطلق اللّفظ وصدر من الحكيم في مقام تبيان تمام مراده لا في مقام الإبهام أي غير شرط بشرط حتّى اللابشرطية ، ولا في مقام الاجمال يحمل على الاطلاق لأن التّقييد في نظر العقلاء محتاج إلى البيان كان المقيد عندهم مرتبة ناقصة من المطلق مع أن واقعه ليس كذلك ، فإن المقيد مقابل للمطلق لا مرتبة ناقصة عنه كذلك الطّلب إذا أنشأ مطلقا فعند تماميّة مقدّمات الحكمة يحمل على الوجوب لأنه تمام الطّلب في نظر العقلاء بحيث لو أراد المطلق الحكيم غيره لكان عليه البيان ، فعند عدمه يحمل على عدم إرادته فيحمل على الوجوب ، ومن هذا الباب أيضا حمله على الوجوب النّفسي إذا دار الامر بينه وبين الوجوب الغيري وعلى الوجوب التّعييني إذا دار الامر بينه وبين الوجوب التّخييري وعلى الوجوب العيني إذا دار الأمر بينه وبين الوجوب الكفائي ، فإن كلّ واحد من هذه الوجوبات وإن كان معينا ومحدودا بحدّ على حده ، إلا أنّ كلّ واحد في الوجوب الغيري والكفائي والتّخييري في نظر العقلاء كافة مرتبة ناقصة في أصل الوجوب ، فلذا عند دوران الأمر بين واحد منها وبين ما يقابله يحمل عليه لانه قضية الاطلاق عند تماميّة مقدّمات الحكمة.

«المبحث الرّابع»

إطلاق الصّيغة سواء قلنا بأنّها للوجوب أو للنّدب في كلّ مقام تمّت فيه مقدّمات لحكمة من الورد لاجل تبيان الحكم وغيره هل يقتضي أن يكون الوجوب أو

١٧٥

الاستحباب توصّليا فيجزي مجرد الإتيان بالمأمور به ولو بدون قصد القربة ، أو لا يقتضي ذلك ، فلا بدّ في كلّ مقام احرز التّكليف فيه وشكّ في أنّه توصّلي أو تعبدي من الرّجوع الى أصل آخر؟ التّحقيق في ذلك يستدعي التكلّم في مقامات :

المقام الأوّل : لا ينبغي الإشكال في أنّه إنّما يصحّ التّمسك بالاطلاق مطلقا من غير اختصاص له بالمقام فيما إذا كان القيد المشكوك في اعتباره في المطلق على وجه يمكن تقييده به واخذه فيه ، أمّا إذا لم يكن القيد كذلك ومع هذا شكّ في اعتباره في صحّة العمل وإسقاط التّكليف به بوجه من الوجوه كما لو أقمنا اعتباره فيه لأجل احتمال دخله في حصول الغرض من الأمر به كما سيأتي إن شاء الله تقوية هذا الوجه لاعتبار قصد القربة في العبادات ، فلا يمكن رفع ذلك القيد بأصالة الإطلاق ضرورة أن النّسبة بين الإطلاق والتّقييد هي التّضايف وأنّهما يتواردان على موضوع واحد ، فلو فرض أن المطلق في مورد لم يكن قابلا لأن يقيد ببعض القيود لم يصح نفي اعتباره بأصالة الإطلاق ، إذ لا يتمكن المطلق حينئذ من التّقييد ، فلو كان حكيما وفي مقام بيان الحكم ومع هذا لم يقيده بذلك القيد لا يتوجه عليه خلاف كلمة ونقض غرض كي يدفع عنه بحمل كلامه على إرادة العموم والإطلاق ، وإن شئت قلت في مثل هذا الفرض لا إطلاق ولا تقييد فلا يصحّ التّمسك في رفع القيد المشكوك فيه بأصالة الإطلاق ، هذا واضح.

المقام الثّاني : الواجب التّعبدي ما يعتبر في سقوطه وحصول الغرض من الأمر به الإتيان به بقصد القربة فلو أتى به بدونه ولو ألف مرّة لا يدفع استحقاق العقاب ولا يوجب استحقاق الثّواب ، بخلاف الواجب التّوصلي فإنه لا يعتبر في سقوطه وحصول الغرض من الأمر به الإتيان بقصد القربة لا أنه يعتبر فيه الإتيان به مع

١٧٦

عدم قصد القربة ، فلو أتى به بدونه أجزأ بمعنى أنه أسقط العقاب ولو أتى به بقصد القربة فمع أنّه يدفع العقاب يوجب استحقاق الثّواب أيضا.

المقام الثّالث : قد عرفت أن التّمسك بأصالة الإطلاق لا يصحّ إلّا في نفي اعتبار القيد الذي يمكن أخذه في المطلق أعني ما تعلق به الأمر ، فإذا شكّ في اعتبار قصد القربة فيه وعدمه فلا يمكن نفي اعتباره بإطلاقه إلّا بعد إحراز كونه قابلا للتّقييد به كما أن الأمر كذلك في سائر موارد الشّك في التّقييد ، فلا بدّ في المقام من معرفة معنى قصد القربة وأنّه ما هو ، ثمّ ملاحظة أنه هل يعقل ويمكن أخذه في متعلق الأمر وتقييده به أم لا؟ فنقول : أنّه لا يخلو من أحد أمرين.

أحدهما : أن يكون عبارة عن الإتيان بالمأمور به بداع قربى ، أعني بداعي رجحانه شرعا أو كونه ذا مصلحة أو محبوبا له تبارك وتعالى وإن لم يكن بمطلوب منه عقلا كما في فعل غير الأهم من الواجبين المتزاحمين ، فإنه لأجل ابتلائه بمزاحمه الأهم لا يكون بمطلوب فعلا قطعا إلّا أن هذه المزاحمة لا توجب خروجه عن كونه ذا مصلحة ومحبوبا لله تعالى ، فملاك الطّلب فيه موجود وهو كاف في صحّة العبادة لو أتى بها لأجله وبداعيه ، ولذا نقول بصحته بناء به على ما هو الأقوى في كفاية الإتيان بالعبادة بأي داع من الدّواعي القربيّة المتقدمة إذ لا دليل على اعتبار أمر زائد عنها ولذا أيضا يحكم بصحة المستحبات من العبادات مع أنها غالبا إلّا ما شذ مزاحمة بالواجبات ، ولو لم يكلّف الإتيان بالعبادة بداعي رجحانها أو كونها محبوبة ذا مصلحة وإن لم تكن مطلوبة فعلا لم يكن وجه لحكم بصحّة المستحبات غالبا للإبتلاء بها بمزاحمة الواجبات ، وكيف كان إن كان قصد القربة المعتبر في العبادات بهذا المعنى أمكن أخذه واعتباره في متعلق الأمر شرعا شرطا أو شطرا ، لأنّه

١٧٧

متقدم على الأمر وممّا ينشأ ، عنه فلا محذور عقلا من اعتباره وأخذه فيه شرعا ، لكن سيأتي إن شاء الله أن قيام الإجماع ، بل الضّرورة من الدّين على عدم اختصاص قصد القربة بهذا المعنى يكشف عن كونه معنا لا يعقل أخذه واعتباره من متعلق الأمر بالعبادات.

ثانيهما : أن يكون عبارة عن الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر وبقصد امتثاله بحيث لا يكون له داع على فعله سوى الأمر به ، ولا شبهة في أن قصد القربة بهذا المعنى ممّا لا يمكن أخذه في متعلق الأمر ، لأن امتثال الأمر لا يكاد يتحقق إلّا بعد الأمر ، ضرورة أنه إنما ينشأ من ناحية الأمر ويجيء من قبله ، فلو أخذ في متعلقه شرطا أو شطرا لزم الدّور ، إذ الأمر يتوقف على مقدوريّة متعلقه فلو كان مقدوريته متوقفا على الأمر لزم الدّور ، فلا جرم يكون اعتباره في العبادات عقلا لا على حد سائر ما يعتبر فيها شرعا ، فإذا شكّ في اعتباره في واجب أو مستحب لا يمكن نفيه تمسكا بأصالة الإطلاق ، فإن إطلاق متعلق الأمر غير قابل للتّقييد بمثل هذا القيد.

ومن هذا الباب : أيضا نيّة الوجه بناء على اعتبارها في العبادات وصفا أو غاية وكذا التّميز لأنّها ينشآن من قبل الأمر فلا يعقل اعتبارهما في متعلقه شرعا.

وبالجملة كلّ ما يعتبر في الواجب ولا يكاد يوجد إلّا بعد الأمر لأنّه ناشئ ومسبب عنه ، كقصد القربة بهذا المعنى ونيّة الوجه والتّميز ، فلا يعقل أخذه في متعلق الأمر ، فالصّلاة مثلا إن فرض أن الأمر تعلق بنفسها غير مقيدة يكون فعلها بداعي الأمر وامتثاله أمكن فعلها كذلك ، وإن فرض أن الأمر تعلق بها مقيدة يكون فعلها بداعي الأمر والامتثال لم يمكن الإتيان بها كذلك مع وحدة الأمر كما هو المفروض ، فإنّه حسب الفرض لم يتعلق بنفسها بل يتعلق بها مقيدة ، فكيف يؤتى بها بداعي

١٧٨

الأمر وبقصد امتثاله.

وممّا ذكرنا : ظهر فساد ما لا يتوهّم من اعوجاج الذهن وهو أنه يمكن تعلق الأمر بالصّلاة مثلا مقيدة بكون فعلها بداعي الأمر وفعلها كذلك ، ضرورة إمكان تصور الأمر بها مقيدة بداعي الأمر وإمكان إتيان المأمور بها كذلك بعد تعلق الأمر بها لا قبله ، والقدرة المعتبرة عقلا في صحّة التّكليف لا يلزم حصولها قبله ومع قطع النّظر عنه ، بل يكفي حصولها ولو حين الامتثال ، فإذا فرض أن المكلّف قادر على فعل الصّلاة مثلا مقيدة بداعي الأمر بعد تعلق الأمر بها فلا مانع من أخذ قصد القربة واعتباره فيها شرعا على حد سائر الأجزاء والشّرائط وكذا سائر العبادات.

توضيح الفساد : إن تصور الأمر بالصّلاة كما ذكر لا يجدي بمجرده في صيرورتها مأمورا بها كذلك ، فإنه من قبيل تصور المحال وهو ليس بمحال ، وأمّا تمكن المكلّف من الإتيان بها بداعي أمرها بعد تعلق الأمر بها ، ففيه أنه مستلزم للخلف ، فإن المفروض أن الأمر تعلق بالصلاة مقيدة لا أنه تعلق بها بنفسها ، ولا أمر آخر حسب الفرض ، فكيف يعقل الإتيان بها بداعي أمرها؟ نعم لو فرض أن الأمر تعلق بنفسها أمكن الإتيان بها بداعي أمرها إلّا أن هذا خلاف الفرض.

وبالجملة : لو فرض أن الأمر تعلق بها مقيدة فلا يكاد يكون داعيا على الإتيان بها ، ضرورة أن الأمر لا يكون داعيا إلّا على فعل ما تعلق به لا على فعل غيره ولا أمر آخر يكون متعلقه نفس الصلاة حسب الفرض ، فكيف يعقل أن يؤتى بها بداعي أمرها ، وليس ما نحن فيه من قبيل القضايا الطّبيعيّة الّتي تحدث بعد تماميتها موضوعا آخر لها كقولك كلّ كلامي صادق ، فإنّ ثبوت محموله لموضوعه يحدث له موضوع آخر ، فلو فرض كونه من القضايا الطّبيعيّة لم يكن مانعا أصلا من شموله لا

١٧٩

لذلك الموضوع الحادث منه ، وذلك لأنا إن فرضنا أن الأمر بالصّلاة قضية طبيعيّة ، تعم الصّلاة كلّما كانت مقدورة ، وإن المكلّف بعد الأمر بها يتمكن من الاتيان بها بداعي أمرها ، لكن نقول : أن هذا إنّما يصحّ على تقدير تعلق الأمر بنفس الصّلاة وهو خلاف المفروض.

وبالجملة ، لا يخلو إمّا أن الأمر تعلق بنفس الصّلاة أو بها مقيدة الأوّل خلاف الفرض ، والثّاني مستلزم بعدم أمر بنفس الصّلاة ، إذ المفروض وحدة الأمر وأنه لم يتعلق بها بنفسها بل بها بقصد الامتثال وبداعي الأمر على وجه التّقييد أو التّركيب ، فلا أمر بها بنفسها كي يتمكن المكلّف من الإتيان بها بداعي ذلك الأمر وبقصد امتثاله ، أمّا على فرض التّقييد فواضح لأن تركيب المقيد بشيء من جزءين : ذات المقيد كالصّلاة وتقيده بذلك الشّيء إنّما هو بالتّحليل العقلي ، إذ ليس هناك إلّا وجود واحد واجب بالواجب النّفسي ، والجزء التّحليلي لا يتصف بالوجوب أصلا ، وسيأتي توضيح هذا في باب المقدمة إن شاء الله.

فذات المقيد كالصلاة غير مأمور بها بنفسها أصلا لا أصالة ولا بقاء ، فلا يمكن الإتيان بها بداعي أمرها ، وأمّا على فرض التّركب والجزئيّة فلأن كلّ جزء من أجزاء المركب وإن كان له وجود على حده غير وجود سائر الأجزاء بخلاف المقيد ، والمركب ليس إلّا نفس الأجزاء بالأسر ، فالوجوب المتعلق به متعلق بكلّ جزء بعين تعلقه به ، لأن وجوبه وجوب منبسط على الأجزاء ، فيصحّ أن يؤتى بكلّ جزء بداعي وجوبه ، إلّا أن هذا متوقف على تسليم وجوب المقدمة مطلقا على حد وجوب ذي المقدمة ، ولما منع وجوب المقدّمة مطلقا أوّلا ثمّ منع وجوب المقدمة الداخلية أي الأجزاء ثانيا فإن المانع عنهما كثير ، ثمّ منع كون وجوب المقدمة على

١٨٠