غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

تكون له دلالة أصلا ، والاوّل يستلزم اتحاد الدّال والمدلول ، لأن لفظ زيد حينئذ في قولك زيد لفظ ، دال ومدلول ، والثّاني يستلزم تركب القضية الحاكية من جزءين محمول ونسبة لعدم الموضوع بالفرض ، فتكون القضية الذّهنيّة المحكية بها أيضا مركبة من الجزءين ، مع أنه يستحيل أن تتركب القضية في الجزءين لاستحالة ثبوت النّسبة بدون المنتسبين. وفيه مضافا الى أنه على التّقدير الثّاني ينبغي أن يقول يستلزم تركب القضية من جزء واحد أي المحمول ، ضرورة أن النّسبة لا يمكن وقوعها بدون ثبوت المنتسبين ، فعدم الموضوع كما هو المفروض يستلزم عدم النّسبة أيضا أنه يمكن أن يلتزم بكلّ من التّاليين مع عدم لزوم محذور في البين.

أمّا على الاوّل : فلأنّه إن كان المراد أنه لا بدّ في الدّال والمدلول من تعدّدهما ذاتا ، قلنا هذا ممنوع إذ يكفي تعدّدهما اعتبارا وإن اتّحدا ذهنا ، وإن كان المراد إنه لا بدّ فيهما من تعدّدهما ولو اعتبارا بمعنى أنه لا يلزم تعدّدهما ذاتا ، بل يكفي تعدّدهما اعتبارا قلنا التّعدد الاعتباري في المقام موجود ، اذ المفروض أن اللّفظ استعمل واريد منه شخصه فيجتمع فيه اعتباران باعتبار أنه استعمل واريد منه شخصه دال ، وباعتبار أنه المراد في اللّفظ مدلول.

وأمّا على الثّاني : فلتماميّة أجزاء القضية في المقام وإن لم يكن فيها ما يحكي عن الموضوع ويدل عليه ، اذ لا حاجة في خصوصها الى توسيط ما يحكي عنه ، إذ بايجاد اللّفظ يتحقق موضوعها ، وليس غرض المتكلّم إلّا تحقيقه خارجا وأخطاره في ذهن السّامع ، وبعد تحققه وحضوره في ذهن السّامع يصح أن يحمل عليه بما يخصه من أحكام ، ولا يحتاج الى ذكره والتّلفظ به ، ثانيا بالجملة غرض المتكلّم في مثل «زيد لفظ» تحقيق موضوع هذه القضيّة ، أعني لفظة زيد خارجا وإخطار في ذهن

٤١

السّامع ليحمل عليها حكم أي كونها لفظا ، وبعد تحقق الموضوع في الخارج وحضوره في ذهن السّامع يصح حمل محموله عليه واسناده إليه من دون حاجة الى توسيط ما يحكي عنه بيان ما ويدلّ عليه ، ضرورة أن صحة الحمل لا يحتاج الى أزيد من وجود الموضوع في ذهن السّامع ، وهما يتحققان بمجرد التّلفظ ، فلا حاجة الى التّصريح بما نحكي عنه ، بخلاف سائر القضايا فإن وجود موضوعاتها لا يتحقق بنفس اللّفظ ، فلو أراد المتكلّم الاخبار عن ما هو محمول عليها واقعا لا يصح حمله ولا يكون كلامه تاما إلّا إذا كان مشتملا على أجزاء ثلاثة : موضوع ، ومحمول ، ورابطة تكون هي حاكية عن واقعياتها. وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه وسائر القضايا.

فنحصل ممّا ذكرناه : أن لفظ زيد في مثل «زيد لفظ» لم يستعمل في شخص نفسه ، بل إنما ذكر ليوجد موضوع القضية خارجا ، وهو تشخص هذا اللّفظ ويخطر في ذهن السّامع ليحمل عليه بما يخصه ككونه لفظا. ومن الواضح أن هذا ليس من قبيل استعمال اللّفظ في معنى.

وبما ذكرناه : تبين أنّه يمكن الالتزام بكون إطلاق اللّفظ وإرادة نوعه وصنفه منه أيضا من هذا القبيل ، بأن يقال : أن اللّفظ حينئذ لم يستعمل في نوعه أو صنفه وحاكيا عنه كي يكونان من قبيل اللّفظ والمعنى ، وإلّا جرى الإشكال فيه حرفا بحرف ، إذ عليه يكون شخص اللّفظ مصداقا لمعناه فيتّحد معه فيلزم من إسناده إليه أحد المحذورين من اتّحاد الدّال والمدلول ، أو تركب القضية من جزءين ، بل إنما القي الى المخاطب ليوجد شخصه خارجا ويخطر في ذهن السّامع من دون توسيط لفظ آخر حاك عنه ليحكم عليه بما هو حكمه كلّيّة ، فيكون إسناده إليه من أجل أنه

٤٢

مصداق له لا من أجل أنه خصوص جزئيّة. نعم لا يصح هذا الالتزام في القسم الثّالث أعني ما لو أطلق اللّفظ واريد به مثله كما في قولك «ضرب فعل ماض) أو موضوع لكذا ، فإنه أريد به مثله ، ولا يشمل نفسه لأنه في هذا الكلام اسم لا فعل ماض ، ولا موضوعا لمعناه فلا يصح فيه أن يقال : أنه القي الى المخاطب ليوجد خارجا ويخطر في ذهن السّامع ليحمل عليه بما هو حكم شخصه وكلّية ، فلا بدّ من الالتزام فيه بانه استعمل في مثله بان يكون هو لفظ وذاك معناه كي يصح الحمل والاسناد.

فتحصل مما ذكرناه أن غير هذا القسم من الاطلاقات مشتركة في جريان الاشكال والجواب عنه. وأقول يحتمل أن يكون مراد صاحب الفصول من الجزءين في قوله : أو تركب القضية من جزءين الموضوع والمحمول ، بأن يكون محصل كلامه هكذا ، إن كان اللّفظ دالا على شخص نفسه لزم اتحاد الدّال والمدلول وإن لم يكن دالا عليه بأن لا تكون له دلالة على شيء أصلا كما حمله عليه شيخنا العلامة ، بل بأن يكون دالا على غيره لزم تركب القضية من موضوع ومحمول ، بناء على أن المنسوب إليه في القضيّة اللّفظيّة لا يكون إلّا ما كان الموضوع حاكيا عنه ودالا عليه ، وذلك لأن مدلول اللّفظ حينئذ لا يكون موضوعا لما حمل عليه في القضية ، أعني قوله لفظ وما اريد به وهو شخص نفسه لا يكون مدلولا عليه ، فعلى التّقديرين لا نسبة في البين. وهذا الاحتمال في كلام وإن لم يكن صحيحا في نفسه أيضا إلّا أنه لا يتوجه عليه بعض ما اورده عليه الاستاذ «أدام الله أيامه» كما لا يخفى.

* * *

٤٣

الأمر الخامس

الالفاظ موضوعة لمعانيها

من حيث هي هي لا من حيث كونها مرادة

لا ريب في أن الالفاظ موضوعة لمعانيها من حيث هي هي لا من حيث كونها مرادة بأن يكون الارادة من مقوماتها ومأخوذة فيها شطرا أو شرطا ، وكذلك المعاني المستعمل فيها الالفاظ هي ذواتها لا من حيث مرادة للافظيها ، لأن إرادة المعنى وضعا أو استعمالا إنّما تكون من مقومات الوضع أو الاستعمال كما عرفت سابقا ، فلا يعقل أخذها قيدا أو جزء للموضوع له أو المستعمل فيه لتأخر مرتبة (١) كونه موضوعا له أو مستعملا فيه عن مرتبة إرادة الوضع له أو الاستعمال فيه ، نعم يمكن ذلك بارادة اخرى سوى تلك الارادة حين الوضع أو الاستعمال ، ومن الواضح عدمهما خارجا فلا يكون الموضوع له ولا المستعمل فيه إلّا ذوات المعاني مجردة عن كونها مرادة. نعم يصح أن يحمل المراد عليها بالحمل الشائع الصّناعي بأن يقال أن المعاني مراد للمتكلّم أو الواضع ، ولا يقتضي هذا كون الارادة مأخوذة فيها كما لا يخفى.

__________________

(١). وأقول الاولى أن يقال لتوقف صيرورته موضوعا له أو مستعملا فيه على تصوره وإرادته ليوضع له أو مستعمل فيه اللفظ ، لمحرره.

٤٤

وبالجملة : ما ادعيناه بديهي بحسب الوجدان غير محتاج الى برهان ، ومع هذا يمكن أن يستدل عليه أيضا بأن الالفاظ لو كانت موضوعة أو مستعملة في المعاني بقيد أنّها مرادة يلزم عدم صحّة الحمل والاسناد في الجمل مطلقا الا بالتّجريد وإلغاء هذه الخصوصيّة أعني خصوصية كونها مرادة ، ضرورة أن الموضوع والمحمول في مثل زيد انسان أو قائم ذات زيد ونفس القيام ، الانسانيّة الخارجيين المحكيّين بلفظهما لا بما هما مرادان لأنّهما حينئذ من متباينان ، وكذلك المسند والمسند إليه في مثل «ضرب عمرو» هو ذات زيد الخارجي ونفس الضرب ، وكذلك إلّا بقيد أنّهما مرادان لكمال المباينة بينهما حينئذ ، فكيف يصح الاسناد؟ وكذلك يلزم في عامة الالفاظ أن يكون الوضع عاما والموضوع له خاصا وإن كان من المفاهيم الكلّية كأسماء الاجناس ، فإنّهما لأجل اعتبار هذه الخصوصية فيها ، أعني كونهما مرادة للافظين تصير جزئية وإن كانت مع قطع النّظر عن اعتبرها فيها كلّيّة.

هذا وقد يتوهّم من كلام العلمين المحققين الشّيخ الرّئيس والمحقق الطّوسي أن الدّلالة تتبع الارادة مصيرهما الى أن الالفاظ مستعملة في المعاني بما هي مرادة أو موضوعة لها كذلك ، وليس كما توهّم فإن كلامهما ناظر جهة اخرى وفي مقام آخر ، وذلك لأن للالفاظ دلالتان تصورية وهي كون سماعهما موجبا لإحظار المعاني وانسباقها الى ذهن السّامع وتصديقيّة وهي كون سماعهما موجبا مضافا الى ما ذكر لتصديق السّامع وإذعانه بأن معانيها مرادة للمتكلّم بحيث يرتب عليها آثارها من الاقرار والشهادة والاخبار والانشاء ونحوها ، فهذه المرتبة هي حقيقة الدّلالة لأنها الغرض الاصلي من وضع الالفاظ والفائدة المهمّة من الكلام مطلقا إخبارا كان أو إنشاء ويترتب آثار الكلام إلّا عليها ، والمرتبة الاولى لا تتوقف على أزيد من العلم

٤٥

بالوضع أو القرينة ضرورة حصولها بمجرد سماع الالفاظ ولو من مثل الجدار أو النّائم أو المغمي عليه ونحوهما ممن ليس له قصد وشعور واختيار ، بخلاف هذه فإنها تتوقف مضافا إلى ما يتوقف عليه الاولى على إحراز كون المتكلّم قاصدا للمعاني وبصدد إفادتها بالالفاظ بظاهرها أو صريحها حقيقة أو مجازا أو كناية ، صادقا كان أو كاذبا ، ضرورة أنّه لو لا ثبوت شيء واقعا لم يعقل إثباته والكشف عنه والدّلالة عليه ، ولو انكشف الخطأ وتبين أن المتكلّم لم تكن له إرادة وبصدد الافادة لما استفيد من كلامه وإن لم يكن خاليا عن الارادة بالمرّة لم تكن له حقيقة الدّلالة وواقعها ، غاية الأمر أنه تخيلها السّامع وتوهّما ثمّ انكشف له عدمها واقعا ولا نريد إثبات الملازمة بين ثبوتها في اعتقاد والسّامع وبين ثبوتها واقعا ، ضرورة إمكان التّفكيك من الطّرفين ، بل نريد أن إثباتها في نظر السّامع متوقف على إحرازه ولو خطأ وتخيلا أن المتكلّم له ارادة وبصدد والافادة ، فظاهر كلامه أو صريحه نحو الحقيقة أو المجاز أو الكناية ، وهذا مما لا ريب فيه فتبعية الدّلالة بهذا المعنى للارادة حقّ لا محيص عنه وكلام المحققين العلمين من أهل العقول ناظر الى هذا المعنى أجنبي عن ما حمله عليه صاحب الفصول «ره» والعجب منه إنّه كيف رضي بحمل كلامهما على ما حمله عليه مع أنّهما ليسا في ذلك المقام ، ويشهد لما ذكرناه أنّهما ذكرا هذا الكلام في مقام الجواب عن النّقض الذي أورد على حدي المطابقة والتّضمن ، وهو أن اللّفظ إذا كان مشتركا بين الكلّ والجزء واستعمل فيه يصدق عليه أنّه تمام ما وضع له وأنّه جزؤه فيصدق على الدّلالة عليه حدا المطابقة والتّضمن أو أجابا عن هذا النّقض بأنّ الدّلالة تتبع الارادة ، وتوضيح جوابهما أن الدّلالة الّتي هي المقسم للمطابقة والتّضمن الدّلالة الّتي تتبع الارادة ، وحيث أن إرادة الجزء من

٤٦

اللّفظ المشترك بينه وبين الكلّ لا يتصور فيها إلّا وجه واحد إمّا أن تكون على وجه الاستقلال أو على وجه التّبعية ، ولا يمكن اجتماع الارادتين فالدّلالة التّابعة لها أيضا لا تكون إلّا واحدة إن كانت على الوجه الأوّل فالدّلالة مطابقة ، وإن كانت على الوجه الثّاني فالدّلالة تضمن فلا تجمعان في مورد كي يصدق عليه الحدّان ولا يخفى أن هذا الكلام لا يدلّ على أنّهما جعلا الارادة جزء من المستعمل فيه أو الموضوع له في جميع الالفاظ كما فهم صاحب الفصول «قده».

* * *

٤٧

الأمر السّادس

في المركبات

هل للمركبات وضع أخر غير وضع المفردات ومنها الهيئات الحاصلة لمواد المركبات كما قد يتوهّم من بعض العبائر أم لا؟ الحقّ هو الثّاني ، إذ بعد وضع المفردات بجميع أجزائها من المواد والهيئات في جميع الجمل اسمية كانت أو فعلية ، إخبارية كانت أو إنشائيّة وخصوصيات الهيئات الموجبة لإفادة مزايا وإضافات في المعاني كالقصر والتأكيد مثلا لا يبقى معنى آخر يحتاج في فهمه الى وضع المركبات بإزائه ، ضرورة إنّه إذا فرض أن الواضع في الجمل الاسميّة وضع لفظ المبتدأ والخبر شخصا أو نوعا لمعنيهما ووضع أيضا هيئة تركبهما نوعا للدلالة على الدّوام والثبوت مثلا ، وكذلك خصوصياتها من كون المبتدأ معرقا باللام أو مؤخرا عن الخبر لإفادة الحصر مثلا ، وهكذا سائر خصوصيات الهيئات الطارئة على المبتدأ والخبر الموجبة لإفادة إضافات في أصل المعنى المشترك بين جميع الهيئات ، إذ لا بدّ من الالتزام بوضع نوعي لهذه الخصوصيات مضافا الى وضع أصل الهيئات ، وكذلك في الجمل الفعليّة وضع لفظا الفعل ومتعلقاته شخصا أو نوعا

٤٨

لمعنيهما ووضع هيئة تركيبهما للدّلالة على التّجدد والحدوث مثلا وخصوصيات هيئاتها من تقديم الفعل أو متعلقاته لإفادة إضافات في أصل المعنى المشترك بين جميع الهيئات ، فأيّ معنى يبقى بعد يحتاج في فهمه وإفادته الى وضع المركبات بإزائه فوضع المركبات ستغني عنه بعد وضع المفردات ، لأنه واف بتمام الغرض المرام كاف في إفادة تمام المقصود من الكلام ، مع أنه لو كان للمركبات وضع على حده أيضا يلزم التّكرار في الوضع زمن إفادة المراد مرّتين ، تارة بملاحظة وضع المفردات أحاديا واخرى بملاحظة وضعها بجملتها أي المركبات وهذا بديهي الفساد لعل المخالف أراد بوضع المركبات وضع الهيئات على حده غير وضع المفردات بموادها ، فإن أراد هذا فنعم الوفاق ، وإلّا ففيه ما لا يخفى.

* * *

٤٩

الأمر السّابع

في علائم الوضع

من علائم الوضع والحقيقة تبادر المعنى وانسباقه الى الذّهن من نفس اللّفظ بدون القرينة ، ضرورة أنه لو لا وضعه له لم يكن وجه لتبادره منه بنفسه ، لا يقال : أن تبادر المعنى في اللّفظ متوقف على العلم بالوضع ، إذ مع عدمه لا يتبادر المعنى منه : فلو كان العلم بالوضع متوقفا على التّبادر أيضا يلزم الدّور ، لأنه يقال : الموقوف والموقوف عليه متعدّد مطلقا سواء جعل العلامة التّبادر الحاصل عند المستعلم أو عند غيره من أهل المحاورة العالم بأوضاع اللغة. أمّا على الثاني فواضح ، لأنّ العلم الذي يتوقف على التّبادر إنّما هو علم المستعلم والعلم الذي يتوقف التّبادر عليه إنّما هو علم العالم باللّغة وأوضاعها ، فلا اتحاد فلا دور ، أما على الأول فلان الموقوف هو علم المستعلم تفصيلا بالوضع والموقوف عليه هو علمه به إجمالا لارتكازه في ذهنه وإن لم يلتفت إليه تفصيلا ، والعلم التّفصيلي الموقوف على التّبادر مع العلم الاجمالي الارتكازي الذي يتوقف عليه التّبادر متعدّدان ، فلا دور. ونظير هذا الاشكال والجواب عنه المذكوران في الاستدلال بالشكل الاوّل مع أنه بديهي

٥٠

الانتاج ولذا يرجع إليه سائر الاشكال في مقام الاستنتاج كقولك العالم متغيّر وكلّ متغير حادث حيث يقال : أن العلم بكلّية الكبرى كحدوث كلّ متغيّر متوقف على العلم بالنّتيجة ، كحدوث العالم لأنّها من جزئياتها فلو كان العلم بالنّتيجة متوقفا على العلم بالكبرى أيضا لانّها إحدى جزئي القياس الذي تتوقف عليه النّتيجة يلزم الدور.

ويجاب عنه : بتغاير العلمين الاجمال والتّفصيل ، العلم التّفصيلي بالنّتيجة متوقف على العلم بالمقدّمتين ، والعلم بكلّية الكبرى يتوقف على العلم بالنّتيجة لكن على وجه الإجمال كالعلم بحدوث العالم لا بما هو عالم ، بل بما هو بعنوان أنّه متغيّر فيتغاير العلمان ، فلا دور. وهكذا يقال في المقام ، فإن انسباق الحيوان المفترس من لفظ الأسد في قول القائل «رأيت اسدا» بدون احتفافه بقرينة كقوله : يرمي أو في الحمام ، إنّما يكون لأجل العلم الاجمالي الذي كان مرتكزا في الذهن ، ولكن العلم التّفصيلي بأن لفظ الأسد حقيقة في هذا المعنى متوقف على الالتفات الى هذا التّبادر وانسباق المعنى الى الذّهن الناشئ من الامر الارتكازي فيه وإن لم يكن ملتفتا إليه وهذا هو المراد بالعلم الاجمالي.

وبالجملة : الانسان قد يعلم بشيء ولكن لا يعلم بعلمه ، كما أنّه قد يرى شيئا أو يسمعه ولكن لا يعلم ولا يلتفت الى رؤيته وسماعه ، ولذا ربما ينفي علمه أو رؤيته أو سماعه مع أنه عالم أو رائي أو سامع حقيقة فللإنسان بالنّسبة إلى معلوماته علمان : تفصيلي وإجمالي ، والموقوف منهما في المقامين هو التّفصيلي ، والموقوف عليه فيهما هو الاجمالي الارتكازي ، فلا اسما وفلا اتحاد.

هذا فيما لو علم كون التّبادر عند العالم بالوضع مستندا إلى نفس اللّفظ ممّا لا

٥١

اشكال فيه ، ولو شكّ في أن التّبادر عنده هل هو مستند الى نفس اللّفظ أو الى القرينة فهل تجدي أصالة عدم القرينة في المقام كما ربّما يتوهّم أم لا؟ الحقّ هو الثاني ، فإن القدر المتيقن من اعتبارها عند العقلاء إنّما هو فيما إذا شكّ في أن المتكلّم هل أراد المعنى الحقيقي من اللّفظ أو المجازي واعتمد في ذلك على قرينة حاليّة أو مقاليّة لم تكن معلومة ، فإن بناءهم وسيرتهم في هذا المقام على حمل اللّفظ على معناه الحقيقي ، وهذا هو المراد باعتبار أصالة عدم القرينة ، وأمّا إذا علم مراد المتكلّم لأهل المحاورة والعالمين باوضاع اللّغة ولكن شكّ في أن تعيّن المراد لهم ، هل كان مستندا الى نفس اللّفظ كي يكشف عن التّبادر عندهم فيكون علامة كون اللّفظ حقيقة في ذلك المعنى أم كان مستندا الى قرينة عامة أو خاصة كانت موجودة عندهم ولكنّها غير معلومة لنا ، فلا يعلم حينئذ بناء وسيرة على إجراء أصالة عدم القرينة لإثبات التّبادر الكاشف عن الحقيقة ، ولا دليل آخر سوى بناء العقلاء على اعتبارها ، فلا تجدي أصالة عدم القرينة في المقام. وكم فرق بينه وبين ذلك المقام ، فاعتبارها فيه لا يستلزم اعتبارها في المقام.

ومن علائم الوضع والحقيقة عدم صحة سلب المعنى المستعمل فيه عن اللّفظ بمعناه الحقيقي في الجملة ، كما أن صحّة سلبه عنه علامة كونه مجازيا له في الجملة ، وتفصيل ذلك : إن عدم صحّة سلب المعنى المستعمل فيه عن المعنى الحقيقي ، وبعبارة أخرى صحة حمله عليه بالحمل الاولي الذّاتي الذي كان علمه كه اتحاد المحمول والمحمول عليه مفهوما علامة اتّحاد المعنيين كالانسان والبشر ، فإنه يصح حمل كلّ منهما على الآخر ولا يصح سلبه عنه ، فيكشف عن كون المعنى المستعمل فيه حقيقي لكلّ منها ، فعدم صحة السّلب وصحّة الحمل بهذا النّحو علامة الحقيقة

٥٢

في الطّرفين ، وإن كان بالحمل الشّائع الصّناعي الذي كان ملاكه اتّحادا الطّرفين في الوجود الخارجي بنحو من الاتحاد كان علامة لكون المحمول عليه من مصاديق المحمول وأفراده الحقيقية فيما اذا كان المحمول عليه جزئيا والمحمول كلّيا ، نحو : زيد إنسان. فلا يكون عدم صحّة السّلب وصحّة الحمل بهذا المعنى إلّا علامة لكون إطلاق المحمول كالانسان على المحمول عليه الذي هو من مصاديقه كزيد حقيقة اذا لم يكن الاطلاق عليه على وجه الخصوصية ، فالعلاقة في هذا الحمل من أحد الطّرفين بخلاف في الاول فإنّها من الطّرفين. وأمّا صحّة سلب المعنى المستعمل فيه عن المعنى الحقيقي فهو بالحمل الاولى علامة عدم اتحادهما بحسب المفهوم ، وبالحمل الصّناعي علامة عدم اتحادهما في الوجود الخارجي ، فهذا المقدار يحصل العلم به وإن لم نقل بأن إطلاق اللّفظ على ذلك المعنى من باب المجاز في الكلمة ، بل قلنا بأنه من باب الحقيقة ، وإن التّصرف فيه في أمر عقلي كما ذهب اليه الكسائي في باب الاستعارة ، واشكال الدّور المتقدم في التّبادر جار هنا أيضا ، وحاصله أن العلم بصحة الحمل وعدمها متوقف على معرفة المعنى الحقيقي والمجازي ، فلو كان معرفتهما متوقفا على العلم بصحة الحمل وعدمها يلزم الدّور الجواب ، ومحصله أن الموقوف والموقوف عليه متغايران ، إمّا بحسب الاجمال والتّفصيل إذا لوحظت العلامة بالنّسبة الى المستعلم خاصّة ، وإمّا بحسب الشّخص (١) اذا لوحظت بالنّسبة الى المستعلم والعالم كما في التّبادر.

وربّما يذكر الاستطراد وعدمه من علائم الحقيقة والمجاز ويقال : أنّ المعنى

__________________

(١) تصور العلم الإجمالي دون التّفصيلي في الحمل الاولي كي يندفع به الدّور لا يخلو من الاشكال ، لمحرره.

٥٣

المستعمل فيه إن كان بحيث يصحّ استعمال اللّفظ فيه مطلقا وعلى وجه الاطراد فهو علامة كونه حقيقيا له ، وإن لم يصح استعماله فيه إلّا نادرا واتفاقا فهو علامة كونه مجازيا له ولعل هذا بملاحظة أن أنواع العلائق المذكورة في المجازات كالسّببية والمسببية والمجاورة والمشابهة ونحوها لا تصحح الاستعمال ، بل مقدار خاص منها يصححه على ما ذكروه ، وكذا على المختار في باب المجاز في أن صحته ليست بالوضع بل بالطّبع ، وتكفي فيه المناسبة ، حيث إنا لا نقول به بل مطلق المناسبة يكفي في صحّة الاستعمال تجوزا ، بل مقدار خاص منها يعتبر في صحته وبملاحظة خصوص ما يصحح الاستعمال من أنواع العلائق على ما ذكروه والمناسبة على ما ذكرناه المجاز أيضا مطرد كالحقيقة ، وربّما كان أكثر وقوعا واستعمالا من الحقيقة كما لا يخفى.

وبالجملة : لا اطّراد ولا في جعل الاطراد علامة للحقيقة ولا لعدمه علامة للمجاز ، ويمكن أن يكون المعنى الحقيقي على وجه لا يحتاج الى استعمال اللّفظ فيه أصلا أو اتفاقا ، ويمكن أن يكون المعنى المجازي على وجه يصح معه استعمال اللّفظ فيه مطردا ، فلا اطّراد لكلّ تا العلامتين ، نعم لو اضيف الى الاطّراد قيد من غير تأويل أو بلا قرينة أو على وجه الحقيقة ونحوها يصير مطّردا ، لأنه يقتضي اختصاصه بالحقيقة إلّا أنه يأتي في إشكال الدّور المتقدم ، ضرورة أن هذا النحو من الاطراد متوقف على العلم بالوضع ، فلو كان العلم بالوضع متوقفا عليه أيضا لزم الدّور ، لا يمكن دفعه في المقام بما تقدم في التّبادر ، لوضوح أنه مع العلم بكون الاستعمال بلا قرينة أو بلا تأويل أو على وجه الحقيقة لا يبقى اشتباه أصلا حتى يحتاج في رفعه الى استعلام حال الاستعمال بالاطّراد أو بغيره ، لأن معرفة هذه

٥٤

الضّمائم لا تتحقق إلّا عند العلم بالحقيقة تفصيلا ، فلو كان العلم التّفصيلي بها متوقفا على هذه الضّمائم المتوقفة على العلم بها تفصيلا لزم الدّور. وبالجملة الموقوف والموقوف عليه في المقام هو العلم التفصيلي خاصة فلا يندفع الدّور.

* * *

٥٥

الأمر الثّامن

في أحوالات اللفظ

للّفظ أحوال خمسة كلّها على خلاف الاصل : التّجوز والإضمار والنّقل والاشتراك والتّخصيص ، إذا دار الأمر بين واحد منها وبين الحقيقة قدّمت عليه إلّا مع قرينة صارفة عنها إليه ، لتقدم أصالة الحقيقة عليها ، وإذا دار الأمر بينها فالاصوليون عقدوا لذلك بابا وذكروا فيه ترجيح بعضها على بعض وجوها لا تكفي بأنفسها للتّرجيح لأنّها اعتبارية غالبية كترجيح التّخصيص على غيره شيوعه وكثرته بالنّسبة إليه ، ولا ينبغي الاعتماد عليها مطلقا حتى فيما لم توجب الظّهور في المعنى إذ لا دليل على اعتبارها كذلك بل لا بدّ من الاقتصار على ما يوجب الاظهريّة لاحدهما ، سواء كان على طبق تلك المرجحات الّتي ذكروها أو على خلافها ، لأن هذا هو القدر المعلوم من بناء العقلاء الذي هو المدرك لاعتبار الظّهورات في باب الالفاظ ، ولا معنى لاعتبار تلك المرجحات عندهم تعبدا ، وبالجملة الملاك للتّرجيح هو أقوائية الظّهور لأحد المتعارضين ، وحيث أن هذا غير منضبط فلا بدّ أن تلاحظ في كلّ مقام خصوصيات الكلام المكتنفة به من القرائن الحالية أو المقالية الموجبة لأظهريته المستندة الى نفسه ، فإن وجدت رجح

٥٦

بها وإلّا فلا وجه للتّرجيح بالمرجحات الخارجيّة والمرجحات الّتي ذكروها ما لم توجب الاظهريّة ، فإن أرادوا التّرجيح بها مطلقا ، ففيه ما لا يخفى ، إذ لا وجه له ، وإن أرادوا أنّها توجب الأظهريّة مطلقا بأن لا يكون لهم نزاع في الكبرى ، فله وجه إلّا أن الشأن في إثبات الصّغرى إذ لم يكن أوقر كما ذكروه ، ضرورة وقوع التّخلف في بعض المقامات ، فعلى أي حال لا يستقيم ما ذكروه على كلّيته.

* * *

٥٧

الأمر التّاسع

في ثبوت الحقيقة الشّرعية وعدمه

اختلفوا في ثبوت الحقيقة الشّرعية وعدمه على أقوال ، وقبل الخوض في تحقيق المسألة ينبغي تبيان مقدّمة وهي : أنه كما يمكن الوضع التّعييني في الواضع بلسانه كأن يقول : سمّيت ابني زيدا ، أو وضعت أو عينت هذا اللّفظ لهذا المعنى ، كذلك يمكن بالقائه اللّفظ الى المخاطب واستعماله في معنى غير مسبوق لوضع أصلا على وجه يري ويفهم أنه في مقابل المعنى وحاك عنه وقالب له على نحو يكون من القسم الأول من الوضع ، كأن يقول : جئني بزيد ابني ، ويريد بنفس هذا الاستعمال وضع زيد لابنه ، وهذا النّحو من الاستعمال وإن كان لا بدّ فيه من نصب القرينة ، إلّا أنه ليس من قبيل نصب القرينة في المجاز ، لأنه للدّلالة على الوضع لا للدّلالة على إرادة المعنى كما في المجاز. وعدم اتصاف هذا النّحو من الاستعمال الغير المسبوق بالوضع بشيء من الحقيقة والمجاز غير قادح ، لأنه ممّا يقبله الطّبع ولا يستهجنه ولا يعتبر في صحة الاستعمال أزيد من هذا كما تقدم إن هو الا نظير استعمال اللّفظ في صنفه أو نوعه فإنه أيضا لا يتصف بشيء منهما مع أنه صحيح قطعا.

٥٨

إذا عرفت المقدّمة فاعلم أن دعوى الوضع تعينا على الوجه الأوّل في الألفاظ المتداولة في لسان الشّارع كالصّلاة والزّكاة والصّوم والحج ونحوها بعيدة جدا ، بل ممّا ينبغي القطع بخلافه ، كما أن دعواه على الوجه الثّاني قريبة كذلك ، ومدعيه غير مجازف ، بل للحق مصادف لتبادر المعاني الشرعيّة منها في محاوراته مع أن كونها مجازات لغوية فرع وجود العلاقة المصححة للاستعمال بينها وبين معانيها اللغوية ، وهي بينهما مفقودة أيّ علاقة بين الصّلاة بمعنى الدعاء والذي هو معناها اللغوي وبين معناها الشرعي؟ ومجرد اشتماله على الدعاء لا يثبت ما يعتبر من علاقة الجزء والكلّ بين المعنيين كما هو واضح. وهكذا الكلام في مثل الزّكاة والحج والصّوم. هذا بناء على أن معانيها شرعيّة مستحدثة في شريعتنا ، وأمّا بناء على ثبوتها في الشّرائع السّابقة كما يدلّ عليه قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وقوله تعالى (أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) وقوله تعالى (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) وغير ذلك من الآيات والاخبار فألفاظها ليست بحقائق شرعية ، بل حقائق لغوية ، لأن اختلاف معانيها بحسب اختلاف الشّرائع في اعتبار ما يعتبر منها شطرا أو شرطا ليس إلّا كاختلافهما في شريعتنا بحسب اختلاف حالات المكلّفين من الاختيار والاضطرار والحضر والسّفر والذّكر والنّسيان والعلم والجهل ونحوها ، وسيأتي إن شاء الله في مسألة الصّحيحي والأعمّي أن هذه الاختلافات لا توجب اختلافها في الحقيقة لأنّها من قبيل الاختلاف في المصاديق والمحققات ، وربّما يقال كما قيل أن ثبوت هذه الحقائق في الشّرائع السّابقة كما هو قضية الآيات لا يدلّ على كون هذه الالفاظ موضوعة بازائها في تلك الشّرائع لاحتمال كون الألفاظ الموضوعة لها فيها غيرها ، فاختصاصها بازائها لعله كان

٥٩

بوضع مستحدث من الشّارع في هذه الشّريعة وإن كانت حقائقها ثابتة أيضا في الشّرائع السّابقة. وعلى هذا التّقدير تكون حقايق شرعيّة لا لغويّة وهذا القول وإن أمكن عقلا إلّا أنه بعيد جدا ، إذ من المستبعد كذلك مع فرض وجود هذه المعاني وهذه الالفاظ المأنوسة المألوفة في الشّرائع السّابقة عدم وضعها لها فيها وأنه إنّما حدث في هذه الشّريعة ، غاية الامر أن تكون لها أسامي اخرى من العبرانية أو السّريانية أيضا كما أن لمعنى الصّلاة في هذه الشّريعة اسم آخر حتى في صدرها كلفظة نماز في اللغة الفارسيّة ، وهذا لا يقتضي أن لا تكون موضوعة لها في تلك الشّرائع ، نعم في الشّرائع الّتي لم تكن فيها اللغة العربية بالمرّة لا محيص من الالتزام بتأخر وضع هذه الالفاظ العربية عنها ، ولا يخفى أن وجود هذا الاحتمال (١) أعني إمكان ثبوت هذه المعاني في الشّرائع السّابقة كما أنه ينافي ثبوت الحقيقة الشرعية بالوضع التعييني كذلك ينافي ثبوتها بالوضع التعيني كما هو واضح ، فالقول به مع هذا الاحتمال في غاية الاشكال ، والأدلة الّتي اقيمت على ثبوتها لو تمت دلالتها في غير هذه الجهة إلّا أنّها من هذه الجهة غير صالحة للاستدلال ومع قطع النظر عنه فلو منع من حصول الحقيقة الشّرعية في لسان النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أن الانصاف أن منعها في لسانه ولسان تابعيه مكابرة.

وتظهر ثمرة النّزاع في المسألة في الالفاظ الصّادرة عن الشّارع مجردة عن القرينة يجب حملها على معانيها اللغوية على القول بعدم الثبوت ، وعلى معانيها الشّرعية على القول بالثّبوت لكن فيما علم تأخر الاستعمال عن تاريخ الوضع ، وأمّا إذا جهل

__________________

(١) وأقول هذا الاحتمال. إن كان ينافي القول بثبوت الحقيقة الشّرعيّة إلّا أنّه يوافق في الثّمرة العملية في لزوم حمل هذه الألفاظ على معانيها الشّرعيّة سواء كانت على القول بها أو حقائق لغوية على الاحتمال ولعل هذا هو الوجه الامر في الكفاية ، لمحرره.

٦٠