غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

حد وجوب ذي المقدّمة موجبا لاستحقاق الثّواب والعقاب على الموافقة والمخالفة ، والوجوب الذي هو محل الكلام في المقام هذا النحو من الوجوب ، ولا قائل بوجوب المقدّمة كذلك سوى المحقق القمي (قدس‌سره) على ما ببالي فلو قلنا بوجوب المقدّمة أيضا لا يصح أن يجعل وجوبها داعيا على العمل ، إذ عرفت أن الوجوب الذي يجعل داعيا عليه غير هذا النّحو من الوجوب ، وعلى تقدير تسليم ذلك كلّه ، نقول : مضافا إلى أن الالتزام بهذا يقتضي الالتزام بأن جميع العبادات مركبة من أجزاء خارجية أركانيّة وجزء قلبي جناني ، وهذا كما ترى وبأن الأمر تعلق بما كان مركبا من جزء غير اختياري ، فإن فعل الصّلاة مثلا وإن كان اختيارا إلّا أن المفروض أن الأمر لم يتعلق بها بنفسها بل بها بداعي امتثال أمرها ، والدّاعي ليس إلّا الإرادة وهي غير اختيارية.

سلّمنا : أنّها اختياريّة في بعض الأحيان ، إلّا أنّها ليست كذلك مطلقا وإلّا لتسلسلت كما لا يخفى ، فلا بد أن ينتهي إلى ما لا بالاختيار ، فيلزم صحّة تعلّق الأمر بأمر غير اختياري ولو في بعض الأحيان ، وهذا غير ممكن ، والمقصود إثبات السّالبة الجزئيّة في مقابل الموجبة الكلّية أنّ الاتيان بجزء الواجب بداعي وجوبه ، إنّما يصح في ضمن إتيان الواجب بداعي وجوبه ، ولا يمكن الإتيان بالواجب الذي فرض كونه مركبا عن قصد الامتثال بداعي امتثال أمره ، لأن أحد أجزائه قصد الامتثال فهو لا يمكن إيجاده أيضا بقصد الامتثال.

إن قلت : أنّ ما ذكرت إنّما هو على تقدير وحدة الأمر ، وأمّا إذا كان أمران تعلق أحدهما بنفس الصلاة مثلا والآخر باتيانها بداعي أمرها فلا يلزم شيء من المحاذير ، فلنا أن نلتزم بأن الآمر لما رأى أنه لا يتمكن من أن يتوصل بتمام غرضه

١٨١

ومقصوده في العبادات بأمر واحد ، فلذا احتال على المكلّف فوجه إليه خطابا آخر بإتيان ما أمره به أوّلا بداعي أمره وامتثاله وصلة إلى تمام غرضه ، فإنّه حسب الفرض لا يحصل بأمره الأوّل.

قلت : مع أن هذا مجرد فرض لا واقعية له قطعا لأنّ العبادات ليست إلّا كالتّوصليات من الواجبات والمستحبات في أنّه ليس فيها إلّا أمر واحد ، غاية الأمر أنّه يدور الثّواب والعقاب في التّعبديات مدار الإتيان ، بقصد الامتثال وجودا وعدما ، بخلاف التّوصليات فإن استحقاق الثّواب فيها يدور مدار الإتيان بها بقصد الامتثال ، وأمّا استحقاق العقاب فيها فيدور مدار مجرد ترك الموافقة ، فلو أتى بها لا بقصد الامتثال لا يستحق ثوابا ولا عقابا ، وقد أشرنا الى وجه هذا التّفرقة بينهما ، وسيأتي إن شاء الله توضيحه.

إن الأمر الأوّل لا يخلو إمّا أن يمكن إسقاطه بمجرد موافقته ولو لا بقصد الامتثال ، كما هو قضية الأمر الثّاني فإن المفروض أنه من قبيل التّعدّد المطلوبي لا من قبيل المقيد للأوّل وإلّا لكان وجوده كالأوّل بل هو عينه فيعود المحذور كما كان ، أو لا يمكن إسقاطه كذلك. إن أمكن الإسقاط فللمأمور أن يحتال مع الأمر بموافقة أمره الأوّل فقط بدون قصد امتثاله إذ لا يبقى حينئذ محل وموضوع لموافقة أمره الثّاني ، فلا يتوسل إلى تمام غرضه بتوجيهه إلى المأمور ، وإن لم يمكن الإسقاط ، فينبغي أن يسأل عن وجهه ولم لا يسقط؟ هل له وجه سوى عدم حصول غرض الآمر بمجرد الموافقة حيث أنه تعلق بتكميل العبد وتقربه منه وهو لا يحصل إلّا بإتيانه بالمأمور به على نحو قربى كإتيانه به بقصد الامتثال مثلا ، فإنّه يوجب تكميل العبد وتقريبه إلى المولى ، فإن كان هذا هو الوجه ، نقول : العقل مستقل بأنّه يجب على العبد في مقام

١٨٢

إسقاط الأمر إتيانه بالمأمور به على وجه يسقط به غرض المولى لاستحالة سقوط أمره بدون حصول غرضه ، وإلّا لم يكن موجبا لحدوثه ، فلا يبقى حاجة إلى التّوسل إلى غرضه بتعدّد الأمر ، ضرورة أنه على هذا التّقدير يصير هذا الأمر الثّاني إرشاديّا لا مولويّا ، والأمر الإرشادي ثابت عقيب كلّ أمر ولا اختصاص له بالأوامر التّعبديّة ، فعلى أي تقدير الاحتيال المذكور لا يدفع المحذور ، والذي يحسمه هو ما عرفت من أن اعتبار التّقرب في العبادات إنّما هو لأجل كونه محصلا للغرض من الأمر منها حيث أن العقل مستقل بوجوب الإطاعة على العبد أي باتيانه بالمأمور به على وجه يحصل به غرض المولى ، فإذا فرض أن غرض الشارع من الأمر بالعبادات لا يحصل إلّا باتيانها على وجه التّقرب ، فيجب بحكم العقل الإتيان بها كذلك تحصيلا للغرض ، فدائرة حصول الغرض من الأمر بها أضيق من دائرة متعلق الأمر بخلاف التّوصليات ، فإن دائرة حصول الغرض من الأمر فيها إمّا أن تكون أوسع من دائرة متعلق الأمر كما هو الغالب فيها ، أو تكونان متساويين ، ومن هنا يحصل الفرق بين التّوصليات والتّعبديات حيث أن العقل لا يوجب على المكلّف سوى إسقاط الغرض من الأمر وهو في أغلب التّوصليات تعلق بمجرد حصول الفعل في الخارج ولو عن غير المكلّف ولا باختياره وتسبيب منه ، بل وإن كان الفاعل غير مكلّف أصلا كتطهير النّجاسات فإنّه وإن ورد مثل قوله عليه‌السلام «اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه» إلّا أن الغرض منه حصول الانغسال مطلقا ، فلذا يحكم بالإجزاء فيها بمجرد وجود المأمور به في الخارج ، وفي بعضها تعلق بتحصيل الفعل من المكلّف مطلقا وإن لم يأت به بداع قربي ، فلا يجزي إلّا إذا كان المكلّف هو المباشر للفعل مطلقا وإن خلى عن التّقرب ، وأمّا في التّعبديات فقد

١٨٣

تعلق بخصوص تحصيل الفعل من المكلّف بداع قربي كإتيانه به بقصد الامتثال فلا يجزي إلّا إذا أتى به المكلّف بداع قربي. وبالجملة حيث أن حصول الغرض من الأمر أضيق دائرة من متعلقه في العبادات ، فلذا يستقل العقل بلزوم الإتيان بها على وجه قربي تحصيلا للغرض ، بخلاف التّوصليات ، فإن الغرض فيها يحصل بدون ذلك وإن فرض أنه في بعضها لا يحصل إلّا إذا كان المكلّف هو المباشر للفعل ، فلذا يحكم بالإجزاء فيها بمجرد وجود الفعل في الخارج مطلقا أو من خصوص المكلّف على اختلاف الموارد.

فإن قلت : إذا كان حصول الغرض من الأمر أخص وأضيق دائرة من متعلقه في العبادات على ما فرضت ، فأي فائدة في الأمر بها ، فإن فائدة الأمر ليس إلّا البعث والتّحريك إلى ما يحصل الغرض ، فإذا فرض أن مجرد موافقة الأمر في العبادات لا يكفي في حصول الغرض ، بل لا بد فيها من إتيانها بنحو خاص كإتيانها بداع قربى فيكون تعلق الأمر بها لغوا.

قلت : سلمنا أنه ليس الغرض من الأمر سوى التّوصل إلى الغرض بموافقة الأمر ، لكن نقول لا يوجب عدم كفاية مطلق الموافقة في تحصيل الغرض كون الأمر حينئذ لغوا ، إذ يكفي في كونه ذا فائدة أن يكون له دخل في حصوله ، بل إذا فرض أن الأمر لا يمكن من تعليق أمره بتمام ما يحصل به غرضه كما في المقام بناء على عدم إمكان اعتبار قصد القربة في متعلق الأمر شرعا كما هو المفروض ، فلا محيص من الالتزام بكون الأمر حينئذ ذا فائدة ، إذ لولاه لم يهيأ ولم يعد شيئا بما يتوصل به إلى غرضه وبعده يهيأ ما يكون قادرا على تهيئته وإعداده وتمهيده وما زاد عليه مما له دخل في حصول الغرض خارج عن قدرته واختياره ، فإنّه حسب الفرض بحكم

١٨٤

العقل وبيانه ، وأي فائدة أعظم من هذا في صحة الأمر ، فلا يكون لغوا كما لا يخفى.

هذا كلّه على تقدير كون قصد القربة عبارة عن الإتيان بالمأمور به بقصد امتثال الأمر ونحو ذلك ممّا ينشأ من الأمر ، وأمّا بناء على كونه عبارة عن الإتيان بالمأمور به بداع قربي ككونه راجحا شرعا وذا مصلحة أو محبوبا لله تعالى ونحو ذلك ممّا ينشأ عنه الأمر ، فقد عرفت أنه لا محذور في أخذه واعتباره في المأمور به شرعا على حد سائر الأجزاء والشّرائط ، إلّا أن خصوص هذا المعنى لما لم يكن بمعتبر في العبادة قطعا لقيام الإجماع بل الضّرورة من الدين على جواز الاقتصار فيها على التّقرب بمعناه الآخر أي بقصد الامتثال وبداعي على الأمر وإن لم يكن لهذا الدّاعي داع آخر من اشتمال العمل المأتي به على الحسن الشّرعي أو المصلحة ونحوهما من وجوه القرب بمعناه الآخر ، فيكشف عن عدم اعتبار هذا المعنى وأخذه في متعلق الأمر ، بها إذ لو أخذ فيه فكيف يقع العمل عبادة لو أتى به بقصد الامتثال خاصّة بحيث لم يكن التقرب بمعناه الآخر داعيا عليه ولا داعيا على الدّاعي عليه للإخلال به حينئذ مع أنّه معتبر فيه شرعا شرطا أو شطرا فيلزم بطلانه ، مع انه صحيح إجماعا وضرورة ، بل هذان الإجماع والضّرورة كاشفان عن كون متعلق الأمر في العبادات هو ذواتها وأن التّقرب المعتبر فيها غير مأخوذ في متعلق الأمر بها ، فإن التّقرب بمعنى قصد الامتثال إذا لم يعقل أخذه في متعلق الأمر تعيينا كما هو المفروض ، كذلك لم يعقل أخذه فيه تخييرا ضرورة ، فالإجماع والضرورة على كفاية الإتيان بالعمل بقصد الامتثال ووقوعه بمجرد هذا القصد عبادة كاشفان عن كون متعلق الأمر في العبادات هي ذوات الأفعال وإن التّقرب المعتبر فيها بجميع أفراده معنى لا يعقل أخذه في متعلق الأمر بها.

١٨٥

لا يقال : لعل الوجه في ذلك هو أنّه يجب عقلا على العبد في مقام إطاعة المولى إذا كان متعلق أمره ذا وجوه وعناوين قصدية تعلق الأمر به لواحد منها كضرب اليتيم تأديبا لا تعذيبا أن يأتي بالمأمور به لوجهه وعنوانه الذي تعلق به الأمر تفصيلا أو إجمالا ، ومن الممكن أن يكون متعلق الأمر في العبادات ذا وجوه وعناوين تعلق الأمر به لواحد منها وهو غير معلوم لنا تفصيلا ، إلّا أنه لما قام الإجماع والضرورة على كفاية الإتيان بها بداع قربي مطلقا ، أمّا بداعي الأمر وامتثاله أو بداعي رجحانها وحسنها شرعا أو محبوبيتها له تعالى أو كونها ذات مصلحة ونحو ذلك من هذا أن ذلك الوجه والعنوان الذي تعلق الأمر به كلّما كان يتحقق بأي واحد من هذه الدّواعي القربيّة بلا تفاوت بينها أصلا فالإتيان بالواجب بأي واحد من الدّواعي إتيان به بوجهه وعنوانه الذي تعلق به الأمر إجمالا وإن لم يكن بمعلوم لنا تفصيلا.

لأنّه يقال : إنّما يصحّ هذا فيما لو كان المأمور به في نفسه ومع قطع النّظر عن الأمر ذا وجوه وعناوين تعلق الأمر به بواحد منها ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فإن الإتيان بالواجب بداعي الأمر وبقصد امتثاله وإن كان من الوجوه المقربة ، إلّا أنه ليس على حد سائر الوجوه والدواعي القربية وفي عرضها ، فإنّه متأخر عن الأمر تكونه ناشئا عنه ، فلهذا لا يعقل أخذه في متعلق الأمر ، بخلاف سائر الدّواعي فإنّها بالعكس ، فلهذا يعقل أخذها في متعلق الأمر فليس حاله حالها وكم فرق واضح بينهما. هب أنّ الأوامر بالعبادات قضايا طبيعيّة وإنّه تكفي في صحة التّكليف وجود القدرة حال الامتثال لا حال التكلّف ، إلّا أنه مع هذا لا يعقل أخذ قصد الامتثال في متعلق الأمر لأن المكلّف وإن كان يتمكن بعد الأمر من الاتيان بنفس المأمور به

١٨٦

كالصّلاة بداعي الأمر وبقصد امتثاله ، إلّا أن إتيانه به كذلك يستلزم الخلف ، فإنّه يتوقف على كون نفس العمل متعلق للأمر لوضوح أنه لو كان كذلك أمكن فعله بداعي أمره ، وأمّا لو كان متعلق الأمر العمل بقصد امتثال أمره كما هو المفروض والمدعى فلا أمر به بنفسه كي يجعل ذلك الأمر داعيا على الاتيان به ، وقد تقدم الكلام في ذلك مستوفي. فانحصر الوجه في اعتبار التّقرب في العبادات بعد إثبات أنه ليس على حد سائر ما يعتبر ويؤخذ في متعلق الأمر بها شرعا شطرا أو شرطا فيما ذكرناه وهو أنه إنّما اعتبر فيها لأجل كونه محصلا للغرض من الأمر بها حيث أنه قد تعلق بتكميل العبد وتقريبه إلى الله تعالى ، فهو يحصل بجميع الوجوه والدّواعي القربيّة من غير فرق بينها ، ولا محذور في هذا الوجه أصلا ، فإن العقل مستقل بأنه يجب على العبد الإطاعة أي الاتيان بالمأمور به على وجه يحصل به غرض الأمر ، فإذا فرض أن غرض الشّارع من الأمر بالعبادات لا يحصل إلّا بإتيانها بداع قربي مطلقا بقصد الإتيان أو بداعي حسنها شرعا أو محبوبيتها وإن لم تكن بمطلوبة فعلا كفعل غير الامر من المزاحمين ، فلا بدّ من الالتزام بأنه يجب على المكلّف إتيانها بداع قربي مطلقا وإنّها لو أتى بها كذلك كانت مجزية من غير فرق بين الدّواعي القربة أصلا.

المقام الرّابع : لما عرفت الوجه في اعتبار التّقرب في العبادات وإنه ليس ممّا يمكن أخذه في متعلق الأمر بها ، فإذا ثبت وجوب شيء أو استحبابه ودار بين كونه توصليّا أو تعبديّا فلا وجه لاستظهار توصليته بأصالة الإطلاق أي بإطلاق متعلق الأمر ومادته وإن كان واردا في مقام البيان وتمّت فيه سائر مقدمات الحكمة لما عرفت فى المقام الأوّل من أن التّمسك بالإطلاق في دفع قيد شك في اعتباره إنّما يصحّ

١٨٧

إذا كان ذلك القيد ممّا يمكن تقييد المطلق به وإذا فرض أن اعتبار التّقرب لا يمكن أخذه في متعلق الأمر بالعبادات وتقييده به فلا مجال لاستظهار عدم اعتباره بأصالة الإطلاق كما لا يخفى.

ومن هذا القبيل أيضا نيّة الوجه والتّميز في العبادات لأنهما يجيئان من قبل الأمر كالتّقرب فلو اعتبرا فيها لكان اعتبارهما لأجل دخلهما في حصول الغرض من الأمر بها كالتّقرب ، فلا يعقل أن نؤخذ شيء منهما في متعلق الأمر ، فلا وجه لاستظهار حد من اعتبارهما أيضا ما حالة الإطلاق ، وبالجملة لا مجال لجريان أصالة الإطلاق في كلّ ما له دخل في حصول الغرض من الأمر ممّا لم يعقل أخذه في متعلقه ، نعم تجري فيه قاعدتان نظير أصالة الإطلاق.

الأولى : إذا كان الأمر في مقام بصدد بيان تمام ما له دخل في حصول غرضه وإن لم يكن له دخل في متعلقه وسكت في ذلك المقام ولم يبيّن دخل ما شك في دخله في حصول الغرض كالتّقرب كان سكوته حينئذ قرينة على عدم دخله فيه ، وإلّا لكان سكوته حينئذ نقضا لغرضه ومنافيا لحكمته ، فعدم البيان في ذلك المقام بيان للعدم ، لوجود ملاك أصالة الإطلاق فيه كما هو واضح ، وأمّا إذا لم يحرز ذلك المقام وشكّ في أن الأمر هل كان بصدد بيان كلّ ما له دخل في حصول غرضه من الأمر أم لا. فالمرجع حينئذ أصالة الاشتغال لا أصالة البراءة حتى عند من قال بالبراءة العقليّة عند الشّك في اعتبار ما أمكن دخله في متعلق الأمر من الأجزاء والشّرائط كشيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) وذلك لأن الشّك حينئذ ليس في أصل التّكليف ولا في اعتبار شيء في متعلقه لأن المكلّف به بجميع أجزائه وشرائطه مقطوع به حسب الفرض ، بل إنّما هو في طريق الإطاعة وكيفيّة الخروج عن العهدة والمرجع في هذا

١٨٨

الباب ليس إلّا العقل ، وهو مستقل بأنّه إذا دار الأمر في الإطاعة وهي الإتيان بالامر على وجه يحصل به غرض المولى هل يحصل بمجرد موافقة الأمر والاتيان بالمأمور به مطلقا أو لا يحصل إلّا بالاتيان به على وجه قربي كإتيانه وإتيان الأمر وبقصد الامتثال مثلا كان اللازم على العبد الإتيان بالمأمور على هذا الوجه تحصيلا للقطع بالبراءة ، فلو أقتصر في مقام الإطاعة على مجرد الموافقة وبدون قصد القربة واتفقت المخالفة يصح عليها العقاب والمؤاخذة ، ضرورة أنه مع القطع بالتّكليف واستقلال العقل بلزوم تحصيل القطع بالبراءة لم يكن العقاب والمؤاخذة على المخالفة عقابا بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان.

فإن قلت : سلّمنا أنه لا مجال حينئذ لجريان البراءة العقلية ، لكن نقول ما المانع من جريان البراءة الشّرعيّة لعموم أدلتها لحديث الرفع ونحوه؟ ومع فرض عمومها لا مجال لقاعدة الاشتغال عقلا إذ يستكشف من عمومها إنه ليس أمر فعلي بما شكّ في اعتباره في المأمور به فلا يبقى حينئذ نورد ولقاعدة الاشتغال العقلي.

قلت : إن عموم أدلة البراءة الشّرعيّة لا يشمل إلّا ما كان بيد الشّارع وضعا ورفعا فإنّه القابل لرفعه شرعا ، والمفروض أن التّقرب المعتبر في العبادات ممّا لا يعقل أخذه في متعلق الأمر بها لا بأمر ولا بأمرين حسب ما عرفت القول فيه تفصيلا ، وإنّما حكم باعتباره العقل من حيث أنّه محصل للغرض من الأمر المتعلق بذواتها ، فليس وضعه ولا رفعه بيد الشّارع من حيث أنه شارع ، فإذا شك في اعتباره في مورد ولا يمكن الحكم بنفيه بأدلة البراءة الشّرعيّة فالمرجع أصالة الاشتغال عقلا لعدم ما هو محكم عليها شرعا.

ولا يتوهّم أن القول بكون المرجع حينئذ أصالة الاشتغال عقلا ينافي ما تقدم في

١٨٩

القاعدة من الحكم بعدم اعتبار مثل قصد القربة عند الشّك في اعتباره ، وذلك لأن الشّك البدوي وإن كان موجودا في مورد القاعدة ، إلّا أنّه يزول وينقلب إلى العلم بعدم الاعتبار بعد ملاحظة مقدمات الحكمة في موردها ، وأمّا في مورد جريان الاشتغال فالشّك فيه باق إلى التّالي ، فلذا كان المرجع فيه أصالة الاشتغال ، ونظير هذا التوهّم والجواب عنه يجريان في القاعدة كما لا يخفى.

الثّانية : إذا كان ما لا يمكن أخذه في متعلق الأمر وشك في دخله في حصول الغرض من الأمر مما يغفل عنه غالبا ولا يلتفت إليه كثيرا كي يشك في اعتباره ، فعلى الآمر بيانه لو كان له دخل في حصول غرضه واقعا ، إذ لو سكت حينئذ لأخل بما هو همّه وغرضه ولم يأت بما تقتضيه حكمته ووظيفته ، فسكوته حينئذ قرينة قطعيّة على عدم دخله في حصول غرضه ، ومن هذا الباب احتمال اعتبار قصد الوجه والتّميز في حصول الغرض من الأمر بالعبادات ، فإنّهما ممّا يغفل عنه عامة النّاس ، وليس في اعتبارهما فيها عين ولا أثر في الأخبار والآثار ، فيمكن القطع من هذا الجهة بعدم اعتبارهما في العبادة وأن احتمله بعض الخاصّة ، فتدبّر جيدا.

«المبحث الخامس»

إطلاق الصّيغة وإن قلنا بظهورها في الوجوب إطلاقا إذا ورد في مقام البيان يقتضي حملها على الوجوب النّفسي العيني التعييني ، وكذا إن قلنا بظهورها في الاستحباب يحمل إطلاقها على الاستحباب النّفسي العيني التّعييني ، لأنّ كلّ واحد من هذه الوجوبات أو الاستحبابات مع ما يقابلها وإن كان معينا ومحدودا بحدّ على حده ولذا كان واحد منها قسيما لما يقابله لا قسما منه ، إلّا أن كلّ واحد من

١٩٠

الوجوب أو الاستحباب الغيري والتّخييري والكفائي في نظر العرف مرتبة ناقصة من أصل الوجوب أو الاستحباب وتقييد له وتضييق لدائرته ، بخلاف الوجوب أو الاستحباب النّفسي العيني التّعييني ، فإن كان الآمر الحكيم في مقام البيان ولم ينصب قرينة على إرادة شيء ممّا يقابلها يحمل إطلاق الصّيغة في كلامه على إرادة المأمور به مطلقا ، سواء كان وجوب شيء آخر استحبابه أم لا ، وسواء أتى بشيء آخر أم لا ، وسواء أتى به غيره أم لا ، كما لا يخفى.

«المبحث السّادس»

وقع الخلاف بين القائلين بظهور الصّيغة في الوجوب وضعا أو انصرافا في أنها إذا وقعت عقيب الحظر ، أو في مقام توهمه هل هي ظاهرة في الإباحة المطلقة ، كما نسب إلى المشهور ، أو الإباحة الخاصّة كما عن بعض أو المشهور ، أو في الوجوب أيضا ، كما عن بعض العامة ، أو فيما كان ثابتا في ذلك المورد قبل تعلق النّهي به أن علق الأمر بزوال علّة النّهي ، كما عن بعض أو غير ذلك؟ إلى أقوال.

ومفروض الكلام في المقام ما لو كانت الصّيغة غير محفوفة بقرينة سوى وقوعها عقيب الحظر أو في مقام توهّمه ، فمرجع ما عدا القول بظهورها في الوجوب إلى أن مجرد وقوعها كذلك هل يكون قرينة عامة صارفة لها عمّا كانت ظاهرة فيه وموجبة لظهورها في الإباحة المطلقة أو الخاصة أو غيرهما على اختلاف الأقوال بحيث يكون هذا بمنزلة قرينتين صارفة ومعيّنة أم لا. ولا مجال للتّمسك بموارد الاستعمالات ، إذ قل مورد منها ينفك عن قرينة أخرى موجبة لظهورها في الوجوب أو الإباحة والتّبعية ولعلّها هي المنشأ لاختلاف الأقوال ، ومع فرض

١٩١

التّجريد عنها كما هو المفروض يمكن رفع ظهورها حينئذ في غير الوجوب لعدم ما يوجب صرفها عنه ، وكفى بذلك دليلا اختلاف الأقوال ، ويمكن التّفصيل بين القول بظهورها في الوجوب وضعا وبين القول بظهورها فيه انصرافا بالالتزام ببقاء ظهورها فيه على الأوّل دون الثّاني نظرا إلى أنه على الثّاني يمكن تعويل المتكلّم المطلق على هذه القرينة في إرادة الإباحة مثلا منها ، بخلاف الأوّل ، إذ ليس له ذلك إلّا مع دلالة أخرى.

إلّا أن الأقوى عدم الفرق بين القولين من هذه الجهة ومع تسليم عدم ظهورها في الوجوب حينئذ نمنع ظهورها في الإباحة الخاصة أو التّبعيّة ، وبعبارة أخرى لو سلّمنا كون الوقوع عقيب الحظر قرينة صارفة للصّيغة على الوجوب لكن نمنع كونها معينة لإرادة بشيء ممّا ذكروه فتبقى حينئذ مجملة بين ما عدا الوجوب والحرمة من الأحكام الثّلاثة الباقية غير ظاهرة في واحدة منها ، فالمرجع الأصول وهي ، تختلف بحسب الموارد كما لا يخفى.

«المبحث السّابع»

الحقّ أن صيغة الأمر عند تجرّدها عن القرينة لا تدلّ على المرّة والتّكرار فإن المتبادر منها ليس إلّا طلب إيجاد مطلق الطّبيعة المأمور بها من غير اعتبار خصوصية فيها من المرّة والتّكرار ، فلا دلالة لها على شيء منهما لا بحسب الهيئة ولا بحسب المادة ، ولو ثبت التّكرار في بعض الموارد كما في الصّوم والصّلاة والزّكاة أو المرّة في بعضها كما في الحج ، فلا يوجب هذا دلالة لها على شيء منها كما لا يخفى ، ولا حاجة في مقام الاستدلال مضافا إلى التّبادر إلى ما قيل من أن الصّيغة مركبة من

١٩٢

مادة وهيئة ومادتها مأخوذة من المصدر المجرد عن اللام والتّنوين وهو لا يدل إلّا على الطّبيعة مجرّدة عن اعتبار خصوصية منها من الزّمان والمكان والمرّة والتّكرار ونحوها اتفاقا على ما عن السّكاكي وهيئتها لا تدلّ على أزيد من الطّلب ، فلا تدل الصّيغة على المرّة أو التّكرار لا بمادتها ولا بهيئتها ، وذلك لأن المصدر لا يكون مادة لسائر المشتقات بأن تكون مأخوذة منه على نحو جرّ لفظ من آخر بالضّرورة ، فليس هو بهذا المعنى أصلا ومادة لها قطعا. نعم مادة المصدر أعني حروفه موجهة في المشتقات إلّا أنّ هذا لا يقتضي كونه أصلا لها يمكن العكس كما لا يخفى ، وليس لها من دون أن تكون مصوغة ومتهيأة بصيغة المصدر وهيئته معنى ، بل لها مع الهيئة معنى لوضوح أن لحروف الضاد والراء والباء ما لم تصر مصوغة بصيغة الضرب لا يكون معنى أصلا ، فالمصدر صيغة كسائر الصّيغ له ، ولكلّ منها مادة وهيئة وبدون انضمامهما لا يكون له ولا لها معنى أصلا ، فلا يكون هو أصلا لها ولا العكس. نعم يعني المصدر محفوظ في المشتقات مثلا بمعنى «أضرب» أطلب منك الضّرب ، فمعناه لا لفظه محفوظ في صيغة الأمر ، وهكذا في سائر الصّيغ ، إلّا أن هذا لا يقتضي كون المصدر أصلا لها ، ولو اريد من أصالة لها هذا المعنى أي كون معناه محفوظا فيها نقول : أن هذا لا يقتضي عدم دلالة الصيغة على المرّة أو التّكرار بناء على أن المصدر المجرد عن اللام والتّنوين لا يدلّ إلّا على الطبيعة ، ضرورة أن محفوظيّة معنى المصدر في المشتقات مع كونه هو الطّبيعة المطلقة لا تنافي اعتبار خصوصيته زائدة فيها ، كيف والأمر كذلك؟ لوضوح مخالفة معنى كلّ صيغة ، معنى المصدر ، فالفعل الماضي مثلا يدل على الزّمان الماضي مع أن مصدره مطلق بالنّسبة إليه ، وهكذا سائر المشتقات بالنّسبة إلى الخصوصيات المستفادة منهما فيمكن أن يدعى أن صيغة

١٩٣

الأمر تدلّ على المرّة أو التّكرار إمّا بمادتها أو بهيئتها ، وبالجملة لا تنافي بين القول بأن المصدر لا يدلّ إلّا على الماهيّة وأن معناه محفوظ في معنى الأمر ، وبين القول بأن صيغة الأمر تدلّ بمادتها أو بهيئتها على المرّة أو التّكرار.

فانقدح ممّا ذكرناه : إن ما في الفصول من أن الاتفاق على أن المصدر المجرد لا يدلّ إلّا على الطّبيعة المطلقة يوجب كون النّزاع في المسألة في مدلول الهيئة لا المادة ليس في محله ، إذ بعد ما عرفت من أن المصدر لا يكون مادة لصيغة الأمر وغيرها بل هو صيغة مثلها فلأحد أن يقول أن لصيغة الأمر مادة هيئة ولأجل أحدهما تدلّ على المرّة أو التّكرار كما لا يخفى.

فإن قلت : فما معنى ما اشتهر من أن المصدر أصل في الكلام.

قلت : مع أنّه محل الكلام معناه إن الذي وضع أولا بالوضع الشّخصي ثمّ بملاحظته وضع نوعا أو شخصا سائر الصّيغ الّتي تناسبه مما جمعه معها مادة لفظ أي حروف متصورة فيه وفي منها بصورة ومعنى كذلك هو المصدر أو الفعل على الخلاف.

أقول : على تقدير تعدّد الوضع في المشتقات كما هو مبني باستدلال المستدل وهو صاحب المعالم وكلام صاحب الفصول «قدس‌سرهما» لا يخلو ، إمّا أن يلتزم تعدّد أوضاع مواد الصّيغ بحسب تعدّدها كأوضاع هيئاتها بإن يدعي أن كلّ مادة من مواد الصّيغ موضوعة بوضع على حده كهيئته ، وإمّا أن يلتزم بوضع واحد لمواد الصّيغ بأن يدعي أن حروف الضّاد والرّاء والباء هذا التّركب مثلا في أي هيئة من هيئات الصّيغ اتفقت موضوعة لمعنى الضّرب وهكذا سائر الموارد.

على الثّاني : لا محيص من الالتزام بما ذكره صاحب الفصول «ره» إذ لا يلتزم

١٩٤

أحد بأن مادة جميع الصّيغ من المصدر والمشتقات يدلّ على المرّة أو التّكرار ولا يصحّ الالتزام بهذا قطعا ، ويشهد لما ذكرنا مضافا إلى وضوحه الاتفاق المحكي عن السكاكي من عدم دلالة المصدر والمجرد عن اللام والتّنوين إلّا على الطّبيعة المطلقة ، فلا بدّ من أن يكون النّزاع في المسألة في مدلول هيئة الصّيغة لا مادتها كما هو موحي صاحب الفصول «ره».

وعلى الأوّل : يمكن أن يكون النّزاع في المسألة في مدلول المادة أو الهيئة ، إلّا أنه خلاف التّحقيق ، إذ لا حاجة إلى تكثير أوضاع مواد الصّيغ بحسب عددها ، للواضع أن يقتصر على وضع واحد لمادة الجميع ، فلو كان حكيما كما هو مفروض الكلام لكان يختار الوضع الواحد وإلّا لارتكب اللغو والعبث ، ولعل هذا مما لا ينكره أحد وعليه فلا بدّ من كون النّزاع في مدلول الهيئة دون المادة كما لا يخفى.

ثمّ أنّه هل المراد بالمرّة والتّكرار في المقام الدّفعة والدّفعات أو الفرد والأفراد؟

التّحقيق أنه يمكن وقوع النّزاع فيهما بكلا المعنيين وإن كان لفظهما ظاهرا في الأوّل وربّما يتوهم اختصاصه ما بالاوّل بزعم أنه لو اريد الفرد والأفراد لكان الأنسب ، بل اللازم عدم أفراد هذا البحث وجعله من تتمّة المسألة الآتية من أن الأمر هل يتعلق بالطّبيعة أو الفرد؟ فيقال هناك وعلى تقدير تعلقه بالفرد : هل يقتضي التّعلق بالفرد الواحد أو الأفراد أو لا يقتضي شيئا منهما؟ وأمّا لو اريد الدّفعة والدّفعات فلا علقة وارتباط بين المسألتين ، فيناسب أفراد كلّ منهما بالبحث ، ولكنه فاسد ، لأن المراد بالطّبيعة على القول بتعلق الأمر بها هي الطّبيعة باعتبار وجودها اللّمي باعتبار وجودها في الخارج لا الطبيعة من حيث هي هي فإنّها ليست إلّا هي ، لا مطلوبة ولا مبغوضة ولا موجودة ولا معدومة ، وهي بهذا

١٩٥

الاعتبار غير قابلة لتعلق الطّلب بها قطعا ، وحيث أن وجود الطّبيعة في الخارج ليس إلّا عين وجود أفرادها فتعلق الأمر حتى على القول بتعلقه بالطبيعة هي الافراد ، غاية الأمر أنه على هذا القول خصوصيات الأفراد وشخصياتها خارج عن متعلق الأمر وإن كانت ملازمة له ، فإن الشّيء ما له يتشخص لم يوجد ، بخلاف القول بتعلق الأمر بالأفراد فإن خصوصياتها وتشخصاتها عليه داخلة في متعلقه ومن مقوماته ، ومن الواضح أن هذا المقدار من الفرق لا يقتضي أفراد هذه المسألة من تلك المسألة على القول الأوّل دون الثّاني ، إذ لا علقة بين المسألتين على كلا القولين ، ويصح النّزاع عليهما في دلالة الأمر على المرّة والتّكرار بكلا المعنيين ، أمّا على القول الأوّل فواضح كما هو مفروغ عنه ، وأمّا على القول الثّاني فلما عرفت من أن المراد بالطّبيعة وجودها اللّمي وهو عين وجود أفرادها ، فلو اريد بالمرّة والتّكرار في المسألة الفرد والأفراد يكون مرجع النّزاع فيها إلى أن الطّبيعة هل لها دلالة على أن المراد من ذلك الوجود اللّمي وجود واحد أو وجودات أو لا دلالة لها على شيء منهما.

أقول : الأولى أن يتوهّم هكذا وهو أن الظّاهر جريان النّزاع في المسألة على كلا القولين في تلك المسألة مع أنه لو اريد بالمرّة وتكرار الفرد والأفراد كان النّزاع في المسألة منافيا للقول يتعلق إلّا بأمر الطّبيعة في تلك المسألة فيكون النّزاع هنا متفرعا على أحد القولين هناك وحيث أن هذا خلاف الظّاهر فيكشف عن كون المراد بالمرّة والتّكرار الدّفعة والدّفعات كي يجري الخلاف في. المسألة على كلا القولين في تلك. المسألة وجوابه.

الجواب : وملخصه أن القائل بتعلق الأمر بالطّبيعة لا ينكر تعلقه بالفرد ، لأن

١٩٦

المراد بها وجودها اللّمي وهو عين وجود الفرد ، بل إنّما ينكر تعلق الأمر بتشخصات الفرد فإنّها وإن كانت ملائمة للمطلوب خارجا إلّا إنّها خارجة عنه على هذا القول ، فلا تنافي بينه وبين القول بالفرد أو الافراد في المقام ، فيجري النّزاع هنا على كلا القولين هناك كما لا يخفى.

تلبية : على القول بالمرّة لا شبهة في حصول الامتثال بها وإنّه لا مجال لإتيان بالمأمور به ثانيا ، وهكذا على أن يكون أيضا بنحو الامتثال ، فإن الامتثال بعد الامتثال من قبيل تحصيل الحاصل وهو محال ، وأمّا على المختار من عدم دلالة الصّيغة على شيء من المرّة والتّكرار فلا يخلو إمّا أن تكون واردة في مقام الإهمال أو الإجمال أو في مقام البيان فعلى ، الأوّل كان المرجح هو الأصل ، وعلى الثّاني فلا شبهة أيضا في حصول الامتثال بالمرّة وجواز الاقتصار عليها إنما الاشكال في أنه هل للمكلّف حينئذ اختيار التّكرار أيضا فإن قضية إطلاق الصيغة هو التّخيير بينه وبين المرّة لا لزوم الاقتصار عليها ، أم ليس له إلّا اختيارها؟

التّحقيق أنّ قضية الإطلاق لا يقتضي إلّا جواز الاتيان بالطّبيعة المأمور بها في ضمن فرد أو أفراد دفعة واحدة لا جواز الاتيان بها دفعة أو دفعات ، فإن الاتيان بها في ضمن الأفراد ليس إلّا كإيجادها في ضمن الفرد في أنه نحو من الامتثال ، فللمأمور الخيار بينهما بلا إشكال ، بخلاف الاتيان بها مرّة أخرى أو دفعات ، ضرورة إنه مع الاتيان بها مرّة يحصل الامتثال ، ومعه يسقط الأمر قهرا ، فلا يبقى مجال للإتيان بها ثانيا على أن يكون امتثالا آخرا ويكون هو مع الإتيان بها أوّلا امتثالا واحدا وبالجملة إطلاق الأمر لا يقتضي إلّا لزوم الموافقة كيف ما اتفقت وهي تحصل بالإتيان بالمأمور به في المرّة الأولى ، فلا محالة يسقط الأمر به مطلقا

١٩٧

عباديّا كان أو توصليّا ، ومعه لا يبقى مجال للإتيان به ثانيا بداعي الامتثال أصلا ، فلو أتى به كذلك كان تشريعا محرما سواء كان المأمور به عباديّا أو توصليّا ، لكن هذا فيما لو كان الامتثال ومجرد الموافقة علّة تامة لحصول الغرض من الأمر ، فإن حقيقته وروحه منوطة بحصوله ، فإذا كان مجرد الموافقة محصلا له فلا محالة يسقط الأمر ، ومعه لا يبقى مجال للإتيان بالمأمور به ثانيا بداعي الامتثال.

وبالجملة : العبرة في سقوط الأمر بإسقاط الغرض منه لا بفعل ما تعلق به ، ولذا لو كان حصول الغرض أوسع دائرة مما تعلق به الأمر يسقط بغيره كما في التّوصليات ، فإن الغرض من الأمر بها تعلق بمجرد وجودها في الخارج ، ولذا لو أتى بها غير المكلّف بها وإن لم يكن مكلّف كحيوان مثلا يسقط الأمر بها عن المكلّف ، ولو كان حصول الغرض أضيق دائرة مما تعلق به الأمر لم يسقط إلّا بفعل ما يحصّله كما في التّعبديات ، فإن الغرض من الأمر بها لا يحصل إلّا بإتيانها بداعي قربي ، والتّقرب لا يعقل أخذه في متعلق الأمر حسب ما عرفت تفصيل القول فيه آنفا ، فلذا لا يسقط الأمر بها بمجرد موافقته بفعل المأمور به مطلقا ، بل إنما يسقط إذا أتى به بداعي قربي ، فإذا فرض أن مجرد الامتثال والموافقة في مورد كان علّة تامّة لحصول الغرض من الأمر فلا محالة يسقط بفعله ، ومع سقوطه لا يبقى مجال لامتثاله كما لا يخفى.

وأمّا إذا لم يكن الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض بتمامه بأن كان الإتيان بالمأمور به من بعض مقدّماته كما إذا أمر المولى بإتيان الماء ليشرب أو يتوضأ فأتى به العبد ولم يشرب أو لم يتوضأ به بعد فللعبد حينئذ تبديل الامتثال بإتيان فرد آخر أحسن بل مطلقا وإن كان الثّاني أدنى كما كان له ذلك قبله ، ولعل من هذا القبيل

١٩٨

إعادة الصلاة جماعة حيث إنّها شرعت ووردت فيها وأنّه يختار أحدهما إذ من هذه الجهة لتشريعها يعلم أن إحدى الصّلاتين تكون ذات مصلحة ملزمة وليست في الأخرى مصلحة أصلا حتّى على وجه الاستحباب وإلّا لم يكن وجه حينئذ لاختيار أفضلهما ، بل لا بدّ من اختيار كليهما كما لا يخفى ، فيعلم من هذه الجهة أن تمام الغرض لم يحصل بعد امتثاله ولذا كان له تبديله بفرد آخر لعلّه يكون أفضل وسيأتي ، توضيح هذا في مسألة الإجزاء إن شاء الله تعالى.

وأقول : ما أفاده قبل الاستدراك في التّوصليات حقّ ، وأمّا في التّعبديات فلا ، لأن تعيين الفرد من الطّبيعة المأمور بها منها ليس إلّا بقصد المكلّف ، لوضوح أن الإتيان به بدون قصد القربة ليس من أفرادها ، فتعيين الفرد فيهما وانطباقه عليها ليس قهريا كما في التّوصليات ، بل بيده وبقصده ، وإذا كان الأمر فيها كذلك فما المانع من شمول المطلق فيها للتّكرار ، لأنّه أحد مصاديقه فللمكلّف اختياره بأن يأتي بفردين أو أزيد على التّدريج بقصد امتثال الطّبيعة مثلا إذا ورد الأمر بمطلق الذّكر أو التّسبيحة في الرّكوع أو السّجود وقلنا بأنّه يجب قصد القربة في إجزاء الصّلاة ، فللمصلّي اختيار التّكرار بأن ينوي إتيان الواجب عليه في ضمنه على أن يكون الإتيان بالذّكر أو التّسبيحة وهو المراد بالتّكرار فردا واحدا من الامتثال ، لعدم صدق المطلق وانطباقه على الإتيان الأوّل قهرا ولا قصدا كي يلزم سقوط الأمر حينئذ ويكون الإتيان بالثّاني من قبيل الامتثال بعد الامتثال كما في التّوصّليات ، فلا مانع من كون كليهما حينئذ نحوا من الامتثال فله اختياره ، نعم يتفرع على هذا أنّه لو نوى الامتثال في ضمن المرّة أو التّكرار وشرع في العمل هل له العدول عن ما نواه وشرع فيه إلى الآخر أم لا؟ بناء على أنّه يجب عليه تعيين أحدهما قبل

١٩٩

الشّروع ، ولو قلنا بأنّه يكفي الإتيان به بقصد ما في الذّمّة مطلقا أو أن تعيينه لا يوجب تعينه ، بل له العدول بعد التّعيين أيضا كان حاله حال التّوصليات ، إذ بعد الفراغ من العمل في ضمن المرّة يحصل الامتثال قهرا ، ومعه يسقط الأمر فلا يقتضي الإتيان به ثانيا بقصد الامتثال كما لا يخفى.

«المبحث الثّامن»

الحقّ أنّه كما لا دلالة للصّيغة على المرّة والتّكرار كذلك لا دلالة لها على الفور والتّراخي ، لأن المتبادر منها طلب إيجاد الطّبيعة المطلقة لا المقيدة بشيء منهما ، فإن كانت واردة في مقام البيان جاز التّمسك بإطلاقها لإثبات جواز التّراخي ، وإن كانت واردة في مقام الإهمال أو الإجمال فالمرجع سائر الأصول ، فإذا دار الأمر بين الفور والتّراخي بهذا النّحو بأن احتمل تقيد الأمر بالفور بحيث لو أخل به وأتى بالمأمور به تراخيا كان لغوا ، وكذا احتمل تقيده بالتّراخي بحيث لو أخل به وأتى بالمأمور به فورا كان أيضا لغوا كان المرجع حينئذ أصالة الاحتياط ، لأنه من قبيل دوران الأمر بين المتباينين كما هو واضح ، وإذا دار الأمر بين الفور والتّراخي بأن احتمل تقيد الأمر بالفور فقط بأن علم أن الإتيان بالمأمور به فورا مجز ولكن شكّ في أن الإتيان به فيما بعده هل يجزي أيضا أم لا؟ كان المرجع حينئذ أصالة البراءة ، لأنّه من قبيل دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين ، والمرجع فيه البراءة الشّرعيّة لعموم حديث الرّفع ونحوه ، فيجوز الإتيان به على وجه التّراخي إذا لم يفرض استقلال العقل بوجوب الفور.

وكذا الحكم لو شكّ في وجوب الفور على نحو التّعدّد المطلوبي بأن احتمل تعلق

٢٠٠