غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

حينئذ من قبيل الوصف والحال ونحوهما من سائر القيود للموضوع ، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أن التّقييد بها لا يدلّ على أزيد من اختصاص الحكم الّذي كان المتكلّم بصدد بيانه بالموضوع المقيّد ، وأمّا ما زاد على هذا المقدار فهو مسكوت عنه نفيا وإثباتا ، يمكن أن يكون ويمكن أن لا يكون ليس له مقام إثبات أصلا ، فغاية ما يستفاد من التّقييد بالغاية في مثل المثال أنّ السّير المقيّد بكونه من البصرة إلى الكوفة واجب ، وأمّا نسخ هذا الحكم عن البدء بالكوفة فهو ممّا لا يقتضيه الكلام أصلا نفيا وإثباتا ، ولعلّ هذا الفرق بين المقامين هو المنشأ لما كتب في الكفاية من التّفصيل إلّا بينهما ، أنّه يمكن أن يقال أن انتفاء الحكم عن ما بعد الغاية في مثل «كلّ شىء لك حلال» ليس لأجل مفهوم الغاية فيه ، بل من جهة تقييد الحكم بما يكون كالضّد أو النقيض له ، فإنّ العلم بالحرمة أو القذارة أو النّهي لا يجامع الحكم بالحلّيّة أو الطّهارة أو البراءة ، وكذا في كلّ مورد تكون الغاية ضدّا أو نقيضا أو ما يستلزم أحدهما للمغيّا لا يمكن بقاؤه بعدها لأنّه قضيّة التّضاد أو التّناقض ، فلو أريد التّفصيل بين الصّورتين ينبغي أن يذكر مثال لا تكون غاية الحكم فيه بمنزلة الضّد أو النّقيض له بأن لا تكون غايته عقلا ، كما لو فرض أنه ورد وجوب الصّوم مستمرّ إلى اللّيل أو عدم وجوبه مستمرّ إلى تبيين الصّبح ، وفي أمثال هذا يمكن منع المفهوم على نحو يقال في صورة كون الغاية من قبيل الغاية للموضوع طابق النّعل إلّا بالنّعل أن يقال أن ظاهر القضيّة وضعا أو إطلاقا بقرينة الحكمة ، فيما إذا كانت الغاية للحكم كونها غاية ، لنسخه واقعا ، فلو فرض بقاؤه بعدها كذلك لزم كونها كاذبة ، فلا بدّ من الالتزام فيها حينئذ بالمفهوم ، بخلاف ما لو كانت الغاية غاية للموضوع ، فإنّ غاية ما يستفاد منها حينئذ كونها من قبيل الوصف أو الحال ونحوهما من القيود ، و

٤٦١

التّقييد بها لا يدلّ على أزيد من كون الحكم الّذي كان المتكلّم بصدد بيانه بذلك الكلام مختصّا بالموضوع المضيّق المقيّد بها لا أنّها تدلّ على كون الحكم الواقعي مختصّا بذلك الموضوع الخاصّ المقيّد.

وبعبارة الأخرى : إنّما يدلّ على أن الحكم ثابت لذلك الموضوع الخاصّ ، وأمّا أنّ ما عداه فهل هو أيضا محكوم بذلك الحكم أم لا؟ فلا يدلّ عليه فلا يناقضه ثبوت نسخه لما بعد الغاية واقعا ، فإنّه حقيقا موضوع آخر وإثبات حكم لموضوع لا يقتضي نفيه عن ما عداه ، وهذا هو الفارق بين الصّورتين ، ومحصّله ظهور القضيّة في الأولى وضعا أو انصرافا في أنّ المغيى مطلق نسخ الحكم الواقعي لا نسخ حكمه الواقعي الّذي كان المتكلّم بصدد بيانه ، وبعبارة الأخرى ظهورها في بيان الحكم الواقعي بجميع شراشره وحدوده وأطرافه لا بعضها أي مقدار وقطعة منها وهو ثبوتها فيما قبل الغاية ، وأمّا فيما بعدها فلم يكن المطلق في مقام إثباته وبيانه بذلك الكلام وعدم ظهورها في الصّورة الثّانية في بيان نسخ ما كان بذلك الموضوع المغيّى بالغاية الخاصّة من الحكم واقعا لا أزيد ، فلا يقتضي انتفاءه عن ما بعد الغاية لأنّه موضوع آخر كغير محل الوصف أو الحال أو نحوها ممّا لا تقتضي التّقييد به انتفاء نسخ الحكم عن غير ما قيّد به.

نعم ، في هذه الصّورة إطلاق الحكم إنّما يفيد فيما إذا شكّ في كونه نفسيّا أو غيريا أو تعيينيّا أو تخييريا أو عينيّا أو كفائيّا ونحو ذلك ، وأمّا إذا شكّ في أنّه هل كان ثابتا لما بعد الغاية. وبعبارة الأخرى ، لموضوع آخر أم لا. فلا يفيد ، ولكن مع هذا لك منع الفرق بين الصورتين وإنكار ظهور إطلاق الحكم في الصّورة الأولى في كونه مسوقا لبيان تمام مراتب ما كان في الواقع لا قطعة ومرتبه منه ، بدعوى أنّ احتمال إرادة كلّ

٤٦٢

من الأمرين من الإطلاق في عرض الآخر لكونه قابلا لأن يراد من المطلق من غير مزية لأحدهما عن الآخر ، فلا وجه لانصراف المطلق أو ظهوره إطلاقا وبقرينة الحكمة في خصوص الأوّل إلّا أن يدّعي إن إرادة الثّاني خاصّة محتاجة إلى القرينة لكونه من قبيل الزّائد بالنّسبة إلى الأوّل ، فتحصل ممّا ذكرنا أنّ التّفصيل بين الصّورتين مبني على ثبوت هذا الفرق بينهما ، فإنّ أمكن إثباته فهو ، وإلّا فلا فرق بينهما في أن كلا منهما لا يقتضي انتفاء نسخ الحكم المذكور عن ما بعد الغاية ، لأنّ حالها حال الوصف والحال ونحوهما في أنّ التّحديد بها لا يقتضي أزيد من ثبوت الحكم لذلك الموضوع المحدود بتلك الحدود ، وأمّا ما أعداه فحكمه مسكوت عنه نفيا وإثباتا لعدم ثبوت وضع لها للدلالة على الانتفاء عن ما عداه وعدم قرينة عامّة ملازمة لها تقتضي ذلك ، لأنّ فائدة التّحديد غير منحصرة فيه ، فله فوائد كثيرة كلّها محتملة ، فتخصيص واحد منها محتاج إلى مرجّح فلا مفهوم للغاية ، هذا حكم ما بعد الغاية أي ما بعد مدخول إلى وحتّى ، وأمّا حكم نفسها ، أعني مدخولهما ، ففيه خلاف آخر كما أشرنا إليه في العنوان ، قيل بدخولها في المغيّى وقيل بخروجها عنه ، وقيل بالتّفصيل بين حتّى وإلى ، إلى غير ذلك من التّفاصيل ، والحقّ أنّ موارد الاستعمالات مختلفة في الدّخول تارة والخروج اخرى ، لا في خصوص اللّغة العربيّة ، بل في غيرها من الفارسيّة وغيرها ، فيما يرادف لفظة «إلى وحتّى» في تلك اللّغات ، فاستكشاف الدّخول أو الخروج محتاج إلى القرينة المعيّنة ، فلا مفهوم للغاية من هذه الجهة أيضا.

هذا فيما كانت الغاية غاية للموضوع ، وأمّا فيما كانت غاية للحكم فينبغي تحرير الخلاف فيها هكذا ، هل يقتضي انقطاع الحكم عن الغاية أو ارتفاعها عنها أو

٤٦٣

يقتضي أزيد من ثبوته إليها؟ وأمّا انقطاعه وارتفاعه عنها فلا يدلّ عليه. وعلى أي حال الكلام هنا الكلام فيما تقدّم إن قلنا أنّ قضيّة الإطلاق أي الحمل على كون الغاية غاية لتمام مراتب الحكم لا مقدار وقطعة منه ، فيقتضي انتفاءه عن الغاية ، وإلّا فحالها حال ما إذا كانت الغاية غاية للموضوع في عدم الدّلالة على الانتفاء عنها.

وكيف كان ، في كلتا الصّورتين إن قيل بالدّخول فتكون الغاية محكومة بحكم المنطوق ، وإن قيل بعدمه يكون حكمها حكم ما بعد الغاية ، فيجري فيها الخلاف المتقدّم كلّ على مذهبه.

وأقول : لا ملازمة ، فيمكن لأحد أن يقول بثبوت المفهوم للغاية بالنّسبة إليها خاصّة ، وينكره بالنّسبة إلى ما بعدها ، أو يقول بعدم المفهوم بالنّسبة إليها خاصّة ويثبّته بالنّسبة إلى ما بعدها ، اللهم إنّ أن يقال : لا قائل كذلك وإن أمكن القول به.

* * *

٤٦٤

الفصل الرّابع

هل للجملة الاستثنائيّة مفهوم

أي دلالة على الحصر واختصاص الحكم سلبا كان أو إيجابا بالمستثنى منه وانتفائه عن المستثنى ، فيفيد الاستثناء من النّفي إثبات الحكم للمستثنى ، كقولك «ما جاءني أحد إلّا زيد» ومن الإثبات نفي الحكم عنه كقولك «جاءني القوم إلّا زيدا» كما هو المعروف بين أهل العربيّة أم لا؟ كما عن أبي حنيفة مستدلا بمثل «لا صلاة إلّا بظهور ، أو إلّا بفاتحة الكتاب» حيث أنّه لو كان له مفهوم ودلالة على ما ذكر لاقتضى كون الصّلاة الواجدة للطّهور أو الفاتحة صلاة ، وإن كانت فاقده لغيرها من الأجزاء والشّرائط وليست كذلك قطعا وإجماعا ، فلا يكون مدلوله أزيد من بيان أنّ الصّلاة لا تكون صلاة بدون الطّهارة أو الفاتحة ، وأمّا أنّها معهما مطلقا تكون صلاة أو لا ، فهو مسكوت عنه. قولان ، أقواهما الأوّل ، بل لا ينبغي الشّك فيه لأنّ المتبادر منه عند الإطلاق قطعا ، ولعلّ وجه نظر المخالف هو أنّ الاستثناء بمنزلة التّقييد للمستثنى كأنّه قيل في مثل المثالين بدل (إلّا زيد) (غير زيد) بطريق الوصف والتّقييد ، وكما أن تقييد موضوع الحكم بقيد أو وصف لا يقتضي الانتفاء عند

٤٦٥

الانتفاء ، فكذلك في الاستثناء ، فالمستفاد منه في مثل المثالين ليس إلّا عدم دخول زيد في حكم المستثنى ، وأمّا أنّ حكمه موافق له أو مخالف أو مردّد فيه بعد في نظر المتكلّم فهو مسكوت عنه نفيا وإثباتا.

وعلى هذا فلو صرّح المتكلّم بعد قوله : «جاءني القوم إلّا زيدا» بمجيئه أيضا لكنّ بنحو خاص من المجيء من الرّكوب أو المشى أو نحوهما أو تردّده في مجيئه لم يكن منافيا لما ذكره أوّلا ، ولكن لا شبهة في كون هذا المعنى خلاف ما هو المتبادر من الجملة الاستثنائيّة في أي لغة كانت ، ولذا لم يحك خلاف في ذلك إلّا عن المخالف ، واستدلاله بمثل : لا صلاة إلّا بطهور ، ضعيف جدّا.

أمّا أوّلا : فلظهوره عرفا في كون مسوقا لبيان إنّ الصّلاة لا تكاد تتحقّق ولا يمكن أن تكون صلاة على مذهب الصّحيحي أو جامعة لما يعتبر فيها من الأجزاء والشّرائط والموانع عن مذهب الأعمي أو مأمورا بها مع الطّهور أو الفاتحة ، ومن الواضح أن دلالته على هذا صحيح ولا محذور فيه قطعا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم الدّلالة لأجل القرينة القطعيّة كما في مثل لا صلاة إلّا بطهور ممّا لا ينكره القائل بالدّلالة ، ولو انضمّ إليه دعوى أنّه يستند إلى إطلاق الجملة لا إلى القرينة فهي ممنوعة ، لأنّها مساوقة لإنكار الدّلالة مطلقا من غير خصوصيّة في مثل المثال المذكور ، وبالجملة إن كان المراد أنّ عدم الدّلالة فيه لأجل خصوصيّة فيه معلومة من ضرورة أو إجماع فلا يجدي في مقام الاستدلال ، وإن كان المراد أنّه لأجل عدم دلالة الجملة عليه مطلقا فهو ممنوع ، ولا اختصاص حينئذ بالمثال المذكور.

ومن هنا ظهر ضعف الاستدلال لإثبات الدّلالة بقبول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلام

٤٦٦

من قال كلمة التّوحيد ، أعني «لا إله إلا الله» بتقريب أنّها لو لم تدلّ على الحصر لم يكن وجه لقبول إسلام من قال بها ، وجه الضّعف إمكان دعوى أنّها في مقام الإيمان بالله ، والتّوحيد ظاهرة فيه ، فكان قبول قول من قال بها لأجل احتفافها بالقرينة الحاليّة ، فلا يكون دليلا على المدّعي ، ولو ادّعي أن دلالتها عليه لأجل ظهور إطلاق الكلام فيه لا لأجل القرينة ، نقول : أنّ هذا مسلّم ، ولكن لم يكن لخصوصها شهادة ودلالة على المدّعى كما لا يخفى ، فالأولى في الاستدلال ما ذكرناه من دعوى التّبادر والانسباق عند الإطلاق مطلقا من غير فرق بين كلمة التّوحيد وغيرها ، نعم ، الكلام في أنّ الدّلالة ، مذكورة هل هي بالمفهوم بمعنى أنّها لازم خصوصيّة المعنى الّذي أخذ في طرف المستثنى منه ، بأن يدّعى أن مجموع الجملة الاستثنائيّة يدل على أنّ الحكم إيجابا كان أو سلبا مختصّا ومنحصرا بالمستثنى منه ، حيث أنّ لازم هذا كون حكم المستثنى خارجا عنه ، وكون حكمه ، مخالفا لحكمه أو بالمنطوق بمعنى أنّها بإزاء كلمة الاستثناء خاصّة لا مجموع الجملة ، بأن يدّعى أنّ ما قبل كلمة الاستثناء لا يدلّ على أزيد من ثبوت الحكم إيجابا كان أو سلبا للمستثنى منه ، وهي تدلّ على ثبوت الحكم المخالف بالمستثنى كأنّها جملة دالّة عليه ، ولعلّ هذا هو المرتكز في الأذهان ، فيه قولان.

ولا يخفى ، أنّ هذا الخلاف ممّا لا تظهر ثمرة عمليّة عليه لعدم اختصاص كلّ من المفهوم والمنطوق بأثر خاصّ شرعي كي يرتّب عليه عند تشخيصه ، أنّه لو اريد بيان ما هو الحقّ والواقع بحسب الاصطلاح لم يكن الأوّل بعيدا ، بل لا بدّ من الالتزام به بعد تسليم مقدّمتين : كون كلمة الاستثناء من الحروف ، وكون المعاني الحرفيّة غير مستقلّة بالمفهوميّة لأنّها من أحوال معاني أطرافها القائمة بها ذهنا قيام

٤٦٧

العرض بالجوهر خارجا ، إذ على هذا لا تكاد تكون كلمة الاستثناء بمنزلة جملة بحيث يكون «إلّا زيد» بمعنى : جاء زيد ، أو ما جاء زيد ، مع النّفي في مثل : جاءني القوم إلّا زيد ، فلا بدّ بعد فرض الدّلالة من الالتزام بالأوّل ، نعم لو منع من المقدّمتين أو أحدهما أمكن الالتزام بالثّاني ، وأمّا الإشكال في دلالة كلمة التّوحيد على الحصر والجواب عنه فكما كتب في الكفاية.

وممّا يفيد الحصر كلمة «إنّما» بكسر الهمزة لتصريح أهل اللّغة والعربيّة بذلك ، وتبادره منها قطعا عند أهل العرف والمحاورة ، فتكون موضوعة لذلك لأنّ تنصيص أهل اللّغة وتبادر المعنى عندهم من علائم الوضع والحقيقة ، وليس الوجه تركبها من كلمة «أنّ وما» الكافّة كما يتوهّم ، ضرورة أنّ قضيّة هذا أن لا يكون فرق بين قول القائل ، أنّ زيدا جاء ، وبين قوله : إنّما زيدا جاء ، مع وضوح الفرق بينهما في أن المتبادر من الأوّل هو تأكيد إثبات المجيء لزيد ، ومن الثّاني تخصيصه وحصره حقيقيّا أو إضافيّا باختلاف الموارد به.

وممّا ذكرنا ظهر ضعف ما قيل من أنّه لا سبيل لنا إلى ذلك ، فإنّ موارد استعمال هذه اللّفظة مختلفة ، ولا يعلم بما هو مرادف لها في عرفنا حتّى يستكشف منها ما هو المتبادر منها ، بخلاف ما هو بأيدينا من الألفاظ المترادفة قطعا لبعض الكلمات العربيّة كما في أداة الشّرط ، وذلك لأنّ التّبادر الّذي يكون من علائم الوضع حسبما قدّمناه وعرّفته في محلّه لا اختصاص له بحصوله عند المستعلم ، بل لو علم بحصوله عند أهل العرف والمحاورة والمعرفة باللّغة كما في المقام كان أيضا علامة الوضع قطعا ، إلّا أنّ يكون مراد القائل أنّه لمّا لم يكن إلى ذلك سبيل في المقام فينحصر طريق الاستعلام في وجدان المرادف لها في عرفنا ، كي يستكشف معناها الحقيقي

٤٦٨

عنه ، وحيث لا مرادف لها في عرفنا فلا طريق ولا سبيل إلى استعلام المعنى الحقيقي بعد اختلاف الاستعمالات ، وعلى هذا فلا يتوجّه عليه ، إلّا أنّه بعد فرض تنصيص أهل اللّغة بذلك لا مجال أيضا للتّأمّل فيه ، أنّ ينكره أيضا.

وممّا ادّعى عنه يفيد الحصر كلمة «بل» الإضرابية وما يرادفها ، والكلام هنا في مقامين ، تارة في مقام الثّبوت وواقع الإضراب ، واخرى في مقام الإثبات والدّلالة عليه.

«المقام الأوّل»

في مقام الثّبوت وواقع الأضراب يتصوّر على أقسام :

منها : ما كان لأجل أنّ المضرب عنه إنّما أتى به غلطا من غفلة أو لهو ونسيان أو سبق لسان ، فيضرب بكلمة الأضراب عنه إلى ما قصد بيانه حقيقة.

ومنها : ما كان لأجل التّأكيد وتنبيه المخاطب وماهيّة لبيان حكم المضرب إليه فيكون ذكر المضرب عنه كالتّوطئة والتّمهيد لذلك.

ومنها : ما كان لأجل أنّ السّبب الدّاعي إلى إثبات الحكم للمضرب عنه ما كان صالحا له وما اقتضاه. لا أنّه اقتضى إثبات عدمه له كان المتكلّم بعد إثباته للمضرب عنه يلتفت الى ذلك فيضرب عن مقام إثباته له بإثباته للمضرب إليه من غير تعرّض لبيان حكم المضرب عنه نفيا وإثباتا.

ومنها : ما كان لأجل أنّ السّبب الدّاعي إلى إثبات الحكم للمضرب عنه إنّما كان صالحا لإثباته للمضرب إليه خاصّة ، فيكون الإضراب حينئذ ردّ عمّا حكم به سابقا ، وإبطالا لما أثبته أوّلا ، ولا يخفى أنّ هذه الأقسام كلّها مشتركة في إثبات

٤٦٩

الحكم للمضرب إليه ، أنّ الأخير منها مختصّ بأنّه عمد فيه إلى إثبات الحكم للمضرب عنه أوّلا ، وإلى إبطاله والرّدع عنه ثانيا ، ولذا يفيد الحصر ويكون له مفهوم قطعا ، وهو نفي الحكم عن المضرب عنه لأنّه لازم خصوصيّة الحكم الّذي أثبته للمضرب إليه ، وهي إثباته له على وجه الاختصاص والانحصار ، بخلاف ما قبله ، إذ ليس لواحد منها مقام إثبات لحكم المضرب عنه حقيقة لأنّه أثبته في الأوّل غلطا ، وفي الثّاني توطئة وتمهيدا ، وفي الثّالث وإن عمد إليه إلّا أنّه بدا له والتفت بعد ذلك إلى أن السّبب الدّاعي إليه إنّما كان صالحا لإثباته للمضرب إليه لا أزيد ، فيكون حكم المضرب عنه مسكوتا عنه نفيا وإثباتا ، فلا يفيد شىء من الأقسام السّابقة على الأخير الحصر ، أعني نفي الحكم المثبت للمضرب إليه عن المضرب عنه.

«المقام الثّاني»

هل كلمة الإضراب ظاهر عند إطلاقها في القسم الأخير فتفيد الحصر أم لا؟ فتكون مجملة ، الظّاهر هو الثّاني لاختلاف موارد استعمالاتها وأقسامها في مقام الثّبوت والواقع كما عرفت ، فتعيين كلّ واحد منها يحتاج إلى قرينة معيّنة وإن كانت عامّة وهي في المقام مفقودة ، فدلالة كلمة الإضراب على الحصر مشكلة.

وممّا ادّعى أنّه يفيد الحصر أيضا تعريف المسند إليه بالام في مثل قولك : الأمير زيد والرّجل عمرو. والتّحقيق أنّه لا يقتضيه إلّا بمعونة القرينة ، لعدم مساعدة دليل عليه بمقتضى القواعد العربيّة ، وذلك لأنّ إفادة مثل التّركّب المذكور والحصر لا يخلو من أن يكون لأحد وجوه.

٤٧٠

أحدها : أن يكون لأجل وضع لمجموع الجملة بهيئتها التّركبيّة ولو لأجل تقديم ما حقّه التّأخير. ويضعف هذا بأن الالتزام به مع أنّه لا دخل له بما ذكروه في العنوان من أن تعريف المسند إليه يفيد الحصر متوقّف على وضع على حدة للمركبات سوى وضع المفردات ، وقد عرفت منعه في أوّل الكتاب في بعض مقدّماته.

وثانيها : أن يكون لأجل وضع اللام للاستغراق لوضوح أنّه عليه يكون مفاد القضيّة إثبات الطّبيعة الواحدة بجميع ما له من الخصوصيّات والوجودات بشىء ، كما في قولك : التّوكل على الله سبحانه والأئمّة عليهم‌السلام من قريش ، ومن الواضح أنّ قضيّة هذا عدم وجود لها في غيره ، وهذا معنى الحصر. ويضعف هذا أيضا بما سيجيء تحقيقه إنشاء الله من أن اللّام ظاهرة في التّعريف للاستغراق : وحيث أن مدخولها الجنس وهو مع قطع النّظر عن ما يطرأ عليه من اللّام والتّنوين موضوع للطّبيعة المبهمة المبرّاة من لحاظ الوجود والوحدة والكثرة ، فلا تفيد إلّا تعريف الجنس ، والإشارة إليه ، وإثبات الجنس كذلك بشيء لا يفيد حصره فيه واختصاصه به ، كيف ولو أفاد والحصر حينئذ لزم اختلاف مدلول مدخولها باختلاف دخول اللّام عليه وعدمه ، فلا بدّ من الالتزام حينئذ ، إمّا بتجوّز (١) في المدخول بناء على كونها خاصّة تفيد الاستغراق ، فتكون حينئذ قرينة على إرادة العموم منه لا الطّبيعة المهملة المبهمة الّتي تكون موضوعة له ، وإمّا بوضع للمركّب فيهما للاستغراق وشىء منهما لا سبيل إلى إثباته.

وبالجملة : إن لم تكن اللّام ظاهرة في تعريف الجنس لا تكون ظاهرة في الاستغراق ، وإذا لم تكن ظاهرة في الاستغراق فلا تفيد الحصر إلّا فيما اريد من

__________________

(١) يمكن فرض الحقيقة كما لا يخفى

٤٧١

مدخولها الطّبيعة المطلقة المرسلة بنحو الإطلاق والإرسال وبوجودها السّعي بشراشره ، إذ لا تفاوت بين إرادة هذا المعنى وبين إرادة الأمور والاستغراق إلّا يسيرا ، وهو كون خصوصيّات الأفراد ملحوظة مع ملاحظة الطّبيعة عند إرادة الاستغراق ، وعند إرادة هذا المعنى لا تكون ملحوظة سوي نفس الطّبيعة بوجودها السّعي ، وهذا التّفاوت لا يوجب تفاوتا بينهما في إفادة كلّ منهما الحصر كما لا يخفى ، وإثبات إرادة هذا المعنى متوقّف على ورود الكلام في مقام البيان وجريان مقدّمات الحكمة ، فاستفادة الحصر منه على هذا التّقدير لا تكون إلّا في هذا المقام.

وثالثها : أن يكون لأجل الحمل بناء على أن الأصل فيه هو الحمل الأوّلي الذّاتي الّذي يكون ملاكه اتّحاد طرفي القضيّة بحسب المفهوم والحقيقة ، كقولك «الإنسان حيوان ناطق» ونحوه في سائر الحدود والمعرّفات حيث أنّ قضيّته حينئذ الحصر كما لا يخفى.

ويضعّف : هذا الوجه أيضا بكون الأصل في الحمل هو المتعارفي الّذي يكون ملاكه اتّحاد الطّرفين في الوجود الخارجي بنحو من الاتّحاد فإنّه الشّائع المتعارف دون غيره ، وإثبات شىء لشيء بهذا النّحو من الحمل الشّائع الصّناعي المتعارفي لا يقتضي الاختصاص والانحصار ، فإنّه لا يفيد أزيد من اتّحاد المسند إليه مع المسند في الوجود الخارجي ، ومن الواضح أن مجرّد هذا لا يفيد الانحصار ، لأنّ الفرد الخارجي متّحد مع الطّبيعي ، مع أن اتّحاده معه لا ينافي اتّحاده مع غيره من الأفراد ، لما عرفت مرارا من أن نسبة الطّبيعي إلى الأفراد نسبة الأب الواحد إلى الأولاد لا نسبة الآباء إلى الأولاد ، فكما أنّ ابوّة زيد مثلا لأحد ولده لا ينافي ابويته لغيره منهم ، كذلك اتّحاد الطّبيعي مع فرد من أفراده لا ينافي اتّحاده مع الآخر.

٤٧٢

فتحصل ممّا ذكرنا ، أنّ استفادة الحصر من القضيّة الحمليّة عند كون المسند إليه فيها معرّفا متوقّفة على ظهورها فيه بحسب الهيئة التّركيبيّة أو في الاستغراق بأحد الوجهين المتقدمين أو في كون الحمل أوليّا ، قد عرفت ضعف الكلّ وعدم تماميّة شىء منها بمقتضى القواعد ، فلا تفيد المفهوم مع احتفافها بقرينة حاليّة أو مقاليّة ، وبما ذكرنا ظهر ما في كلام غير واحد من الأعلام في المقام وما وقع منهم فيه من النّقض والإبرام.

* * *

٤٧٣

الفصل الخامس

الحقّ وفاقا للادلّة أنّه لا مفهوم للقب :

بمعنى أنّه لا يدلّ على انتفاء نسخ الحكم الثّابت له عن غيره ، وأمّا انتفاء شخصه عنه فهو عقلي ليس بمفهوم بشىء من الدّلالات ، أي دلالة لمثل «زيد عادل أو موجود» على عدم عدالة غيره أو عدم وجوده ، والمراد به ما يجعل أحد أركان الكلام من الفاعل والمفعول والمبتدأ والخبر ، وكذلك الحقّ أنّه لا مفهوم للعدد وما يشبهه من المقادير إلّا إذا ورد في مقام التّحديد ، وحينئذ فلا بدّ من أن يلاحظ أنّه هل اريد به التّحديد في طرف الأقل خاصّة كما في قوله : «إذا كان الماء قدر كر لم ينجّسه شيء» ، فلا تقدح الزّيادة حينئذ بخلاف النّقيصة وفي كلا الطّرفين ، كما لو فرض أنّه اريد من ثلاث تسبيحات الواجبة في الصّلاة ذلك ، وحينئذ تقدح الزيادة كالنّقيصة ، لأنّ مرجع الزّيادة حينئذ إلى النّقيصة كما هو واضح ، أو في طرف الأكثر خاصّة فتقدح الزّيادة لأنّه قضيّة التّحديد ، إلّا أنّه أيضا لا يجوز الاقتصار على الأقلّ لعدم الدّليل عليه لا لأجل الدّليل على عدمه ، وبعبارة الاخرى ، لأجل عدم الموافقة لما اخذ في المنطوق لا لأجل الدّلالة على عدمه بالمفهوم ، فكم فرق بين

٤٧٤

المعنيين (١) ومن هنا ظهر حكم ما لو شك في أنّه هل اريد به التّحديد في كلّا الطّرفين أو أحدهما أم لا؟ فإنّه لا يجوز الاقتصار على الأقلّ لعدم الدّليل عليه وعدم الموافقة لما أخذ في المنطوق ، ولكن لا تقدح الزّيادة لأنّ الأصل عدم قدحها فيه ، فاختلاف حكمي الزّيادة والنّقصية حينئذ لأجل اختلاف ما هو قضيّة الأصل فيهما لا لأجل ثبوت المفهوم في طرف الأقلّ كما هو معلوم والله العالم والحمد الله وصلّى الله على محمّد وآله ، ختم في ٢٢ جمادي الأولى من سنة ١٣٢٨.

__________________

(١) وأقول : لا يخفى أنّ ما ذكر لبيان الحكم هذه الأقسام إنّما يجري منها إذا كان متعلّق الحكم فيها أمرا وجوديّا كما في الأمثلة المذكورة فيها ولعلّه المراد وإلّا فيشكل جريانها فيما إذا كان عدمها كما لا يخفى بعد التّأمّل والله العالم ، لمحرّره.

٤٧٥
٤٧٦

المقصد الرّابع

العامّ والخاصّ

وفيه

فصول

٤٧٧
٤٧٨

الفصل الأوّل

في مفهوم العام

اعلم أنّ العام بحسب مفهومه العام ومع قطع النّظر عن مصاديقه ممّا لم يتعلّق به حكم من الأحكام ، لا الأحكام الشرعيّة كما هو واضح ، ولا الأحكام الّتي يأتي الكلام فيها في المباحث الآتية ، من قبيل أن العام هل له صيغة تخصّه أم لا؟ وأنّه بعد التّخصيص صحّة فيما بقي أم لا؟ ونحو ذلك ، فإنّ هذه الأحكام إنّما تثبت لمصاديق العام لا لمفهومه بعمومه ، فمتعلّق الأحكام ما يقال ويحمل عليه العامّ بالحمل الشّائع الصّناعي لا الحمل الأوّلي ، ومن هنا تبيّن أنّ ما ذكروه تعريفا له ليس من قبيل الحدّ بيانا لما هو حقيقة وماهيّة ، لعدم تعلّق غرض به أصلا مع أنّه مفهوما ومصداقا أجلى ممّا ذكروه تعريفا له ، والمعرّف لا بدّ من أن يكون أجلى من المعرّف ، بل كان من قبيل التّعريف اللّفظي شرحا لما يكون بمفهومه منطبقا على المصاديق ، والغرض منه مجرّد الإشارة به إليه في المقام كي يرتّب عليه ما له من الأحكام الآتية ، ولذا يجعل صدق ذلك المعنى الّذي جعل معرّفا على فرد وعدم صدقه على آخر المقياس في الإشكال على تلك التّعاريف بعدم الاطّراد أو الانعكاس ، لوضوح أنّه لو كان

٤٧٩

لو كان الغرض تعريف الماهيّة والحقيقة لم يصحّ جعل المقياس المصاديق ، فيقال : أنّ المعرّف يعمّ ما لا ينبغي أن يعمّه أو لا يعمّ ما ينبغي أن يعمّه.

فانقدح أن الإشكالات الّتي ذكروها على التّعاريف في المقام بعدم الاطراد أو الانعكاس غير واقع في محلّها ، إذ عرفت أن الغرض منها ليس بيان الماهيّة حقيقة بل الإشارة إلى ما يكون جامعا بين المصاديق ولأجل وضوح العام مفهوما ومصداقا لم نتعرّض لذكر تعريف له ، فإنّه أوضح منه ، بل أوضح الأشياء ، فكلّ ما يذكر معرّفا له يكون منه أخفى ، مع أنّه يعتبر في المعرّف أن يكون أجلى.

وكيف كان قد يتعلّق الحكم بأفراد العامّ على أن يكون كلّ واحد على سبيل الاستقلال موضوعا له فيتعدّد بحسب تعدّدها ، فلو أتى ببعضها دون بعض فقد أمتثل التّكليف وعصاه بالاعتبارين ، وقد يتعلّق الحكم بالأفراد على أن يكون مجموعها موضوعا واحدا له بحيث لو أخلّ بواحد منها لما امتثل أصلا ، وقد يتعلّق الحكم بالأفراد على أن يكون كلّ واحد على البدل موضوعا له ، فيكون الإتيان به موجبا لصدق الامتثال والإطاعة وسقوط التّكليف بالمرّة ، ولأجل هذه الاعتبارات قسموا العام إلى أقسام : الاستغراقي والمجموعي والبدلي.

وهل هذه الأقسام أطوار مختلفة للعام بحيث تكون هي بأنفسها ومع قطع النّظر عن كيفيّة تعلّق الحكم به مختلفات كما يوهمه ظاهر تقسيمهم له بها ، أو لا تكون كذلك ، بل العام وهو شمول المفهوم واستيعابه واستغرافه لجميع ما ينطبق عليه يكون بمعنى واحد في الكلّ ، إنّما الاختلاف في كيفيّة تعلّق الحكم به.

الظّاهر هو الثّاني ، ويشهد له أن هذه لو كانت بأنفسها مختلفات لأمكن وجودها وتصوّرها مع قطع النّظر عن كيفيّة تعلّق الحكم بالعام ، مع أنّا لا نجد

٤٨٠