غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي

غاية الأصول في شرح كفاية الأصول

المؤلف:

السيّد علي السيّد آقا ميري الدزفولي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: انتشارات وفائي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥٦

مورد الاجتماع ، فيعمل فيه بقواعد التّرجيح بين المقتضيات المتزاحمات ولا يبعد الالتزام به.

«الأمر الثّامن»

قد تقدّم أن مورد الاجتماع على القول بجوازه محكوم فعلا بكلا الحكمين ، ويترتّب عليه لوازمهما فله أن يأتي به بقصد القربة وبداعي الأمر ، ولو أتى به كذلك وإن كان عبادة كأن صلّى في الدّار المغصوبة مع المندوحة عن فعلها في غيرها بداعي الأمر كان صحيحا ومسقطا له وموجبا لاستحقاق الثّواب على امتثاله واستحقاق العقاب أيضا على مخالفة النّهي لأنّه حسب الفرض كان متمكّنا من عدم مخالفته بفعل الواجب في ضمن غير الفرد المحرّم ومع هذا أتى به ضمنه فقد عصاه بسوء اختياره ، وبالجملة ، على القول بالجواز لا إشكال في حصول الامتثال بفعله لوجود المقتضي وعدم المانع ، وكذا على القول بالامتناع مع ترجيح جانب الأمر ، إلّا أنّه عليه لا معصية ولا عقوبة.

وربّما يتوهّم المنع ، بدعوى أنّ تعلّق الأمر به يكون نقضا للغرض من النّهي فيستحيل صدوره عن الحكيم بيان ذلك أنّ المصالح والمفاسد الّتي تستتبعها الأحكام من قبيل الأغراض ، ومفروض الكلام في المقام ما كانت للمكلّف مندوحة بأن كان متمكّنا من امتثال كلّ من الأمر والنّهي ولكنّه بسوء اختياره جمع بينهما في المجمع ، ومن الواضح أنّ المكلّف في هذه الصّورة يتمكّن من تحصيل غرضيه من الأمر والنّهي بأن يعمّم دائرة متعلّق نهيه للمجمع ويضيق دائرة متعلّق أمره بأن يخرجه عن تحته لعدم تمكن المأمور حينئذ من تحصيل غرض الأمر بفعل

٣٢١

المجمع ، فإذا أبقاه تحت الطّبيعة المأمور بها وإن كانت في أقصى مراتب المصلحة ، والطّبيعة المنهي عنها في أدنى مراتب المفسدة ، كان هذا نقضا لغرض النّهي لوضوح أنّه لو رخص في تحصيل غرض الأمر بفعل المجمع يلزمه التّرخيص في ترك تحصيل غرض النّهي ، وهذا قبيح لا يصدر عن الحكيم ، ولذا لو دار علاج بعض الأمراض بين شرب دواء لا يتضرّر به أصلا وبين شرب الدّواء آخر ينفع في دفع المرض ولكنّه يورث ضررا آخر لا يرتكب العاقل شرب الثّاني ، بل يختار الأوّل ، والمجمع وإن كان يحصل غرض الأمر لما فيه من جهة المصلحة ، إلّا أنّه يفوت غرض النّهي لما فيه من جهة المفسدة ، فلا بدّ للمولى الحكيم من إخراجه عن تحت الطّبيعة المأمور بها تحصيلا لكلّ من غرضيه ، وإن راجعنا إلى العقلاء نجدهم كذلك في أفعالهم الاختيارية وأوامرهم لا يختارون لتحصيل أغراضهم فعل ما فيه جهة مفسدة مع تمكّنهم من تحصيلها بفعل ما لا يفسده به ولا يأمرون عبيدهم إلّا بما كان محصّلا للغرض من الأمر بحيث لا يعمّمون متعلّقه لما كان مصداقا لما نهوا عنه أيضا.

نعم ، إن كانت ذلك الفرد ممّا لا يمكن تحصيل غرض الأمر إلّا بفعله وفرض كونه من غرض النّهي صحّ الأمر به حينئذ كما لو حبس في المكان المغصوب وفرض أن جهة الأمر بالصّلاة ومصلحتها غالبة على جهة النّهي عن الغصب ومفسدته فإنّه لا محذور حينئذ في الأمر بها ، إذ بعد تزاحم الجهتين والفرضين يكون مقتضي الأمر بها أقوى ، فهو يؤثّر ، ولكنّ المجمع الّذي يختاره المكلّف في مقام الامتثال ليس من هذا القبيل حسب الفرض فلا بدّ من أن يكون خارجا عن ما تعلّق به الأمر ، وإلّا لكان الأمر به ولو تخييرا بينه وبين سائر الأفراد نقضا لغرض النّهي أيضا ، فما عن المشهور من وقوع التّزاحم بين الجهات وحصول الكسر والانكسار على القول

٣٢٢

بالامتناع في المجمع وإمكان بقاء جهة الأمر فيه فقط ليس واقعا في محلّه.

والجواب عنه : أنّه إنّما يتوجّه لو كانت المصالح والمفاسد الّتي تستتبعها الأحكام من قبيل الأغراض الخارجيّة لنا في أفعالنا الاختياريّه وأوامرنا في كونها صادرة لأجل الاستكمال ، ولكنّها ليست كذلك ، فإنّه تبارك وتعالى غني على الإطلاق ، وإنّما يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر ، بل هي بمنزلة العدل والإحسان والفحشاء والمنكر ، وبعبارة الاخرى ، هي ما يكون ملاك حكم العقل في الأفعال الاختياريّة بالتّحسين والتّقبيح ، إذ كلّ فعل الاختياري بجميع ما فيه من الجهات إذا عرض على العقل الكامل الوافي بها ، فإمّا أن يحكم بقبح فاعله أي باستحقاقه اللّوم والذّم عليه فيكون قبيحا أو لا فيكون حسنا باختلاف مراتبه حسب اختلاف جهاته وفي اقتضاء الإيجاب أو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة ، وهما بهذين المعنيين متضادان لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد ، فالمجمع لا محالة يقع فيه التّزاحم بين الجهات والكسر والانكسار ، وبعد ذلك إمّا أن يكون قبيحا لأجل غلبة جهات قبحه فيختص به النّهي ، وإمّا أن يكون حسنا لأجل غلبة جهات حسنه ، فإذا فرض أنّه يمكن أن تكون جهة الحسن فيه غالية ، فإن كانت بمرتبة تقتضي الإيجاب فأيّ مانع من تعلق الأمر به تخييرا بينه وبين سائر الأفراد ، وإن لم يكن مثلها في مرتبة حسنها ، حيث أنّ جهات حسنها لا تكون مزاحمة بجهات اخرى بخلافه ، إلّا أن مجرّد هذا لا يوجب خروجه عن تحت الطّبيعة المأمور بها إن لم يكن على حد سائر الأفراد ، فما نسب إلى مشهور من حصول الكسر والانكسار في المجمع وإمكان بقاء جهة الأمر فيه واقع في محلّه ، والإشكال عليهم إنّما نشأ من قياس المصالح والمفاسد الّتي تستتبعها الأحكام الشّرعيّة

٣٢٣

بالأغراض الخارجة لنا وليست كذلك ، هذا ثمّ نقول : توكيدا لما تقدم انّ الأحكام الشّرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد والحسن والقبح العقليين ، ولذا يقال أنّ الواجبات السّمعيّة الطاف في الواجبات العقليّة ، بل قيل والقائل على ببالي سلطان العلماء «قده» أنّها إرشاديّة محضة الى ما في متعلقاتها من المصالح والمفاسد والحسن والقبح العقليين ، ولكن هذا ممنوع ، فإنّ مجرّد وجود جهة الإرشادية في المأمور به لا يوجب كون الأمر به إرشاديّا محضا لا مولويّا ، ضرورة أنّه يصحّ للمولى الطّبيب أن يأمر عبده المريض بشرب دواء فيه صلاحه مولويّا ، فلا مانع من كون الأحكام الشّرعيّة كذلك.

ولا شبهة في أنّ مصالح والمفاسد والحسن والقبح العقليين تختلف بالوجوه والاعتبارات وفي أنّ هذه ما لم تكن ملتفتا إليها لا تكون مؤثرة ، ولذا نقول بصحّة عبادة الجاهل القاصر ومن بحكمه من الغافل والنّاسي والمضطر ونحوهم ممن يكون معذورا عقلا ، كما أشرنا اليه وسيأتي تحقيقه إن شاء الله ، وفي أنّ مجرّد وجود جهة من الحسن والمصلحة في فعل اختياري لا يوجب كونه حسنا ما لم تكن غير مزاحمة بجهة اخرى ، أو غالبة عليها ، كما أنّ مجرّد وجود جهة من القبح والمفسدة في فعل اختياري لا يوجب كونه قبيحا ما لم تكن غير مزاحمة بجهة اخرى أو غالبة عليها ، فإذا اجتمعت في فعل جهات مختلفة فلا يتصف بشيء من الحسن والمصلحة أو القبح والمفسدة ، إلّا بعد كون جهاته بعد المزاحمة وحصول الكسر والانكسار غالبة على جهات الأخر ، فإذا فرض أنّ جهات الحسن والمصلحة في المجمع في بعض الموارد تكون غالبة على جهات قبحه ومفسدته بحيث يكفى المقدار الباقي منها في اقتضاء الإيجاب ، فلا مانع من شمول متعلق الأمر له وإن كان أنقص حسنا و

٣٢٤

مصلحة من سائر الأفراد ، ولا ننكر هذا ولا ندعي انّه مثلها في جميع الجهات ، بل المدعى أنّه لو كان المجمع كسائر الأفراد في الاشتمال على مقدار من الحسن والمصلحة تكفي في الإيجاب فلا مانع من تعلق الأمر به ، بل لا بدّ منه وإن اختلفت الأفراد ، ولذا يكون بعضها أفضلها وبعضها أوسطها وبعضها في مرتبة اصل الطّبيعة ، بل ربّما يكون بعضها أنقص ممّا في أصل الطّبيعة لأجل مصادقة ما فيه من مصلحة أصل الطّبيعة ببعض الجهات الطّارية المنقصة ، فيكون مكروها وإن كان واجبا كالصّلاة في الحمام بأحد معاني الكراهة في العبادة كما سيأتي بيانها إنشاء الله ، إلّا أنّ الجميع لما كانت مشتركة في الاشتمال على ما يقتضي الإيجاب مع اختلاف مراتبها حسنا ومصلحة ، فلا مانع من تعميم دائرة متعلق الأمر لها ، بل لا بدّ من ذلك إذ لو أخرج فرد منها وإن كان أوفى الأفراد واختص به النّهي لزم تعلقه بما لم يكن قبيحا وذا مفسدة ، بل بما كان حسنا وذا مصلحة.

فانقدح ممّا ذكرنا : صحّة ما عن المشهور من وقوع الكسر والانكسار بين الجهات المجتمعة في المجمع وإمكان بقاء جهة الوجوب فيه بالأخرة واقع في محله ولا يقاس حاله على حال الأغراض الشّخصيّة ، فانّ مواردها مختلفة ، ولذا لا يصحّ اختيار فعل فيه غرض لكن يفوت به غرض آخر ، فيما إذا تمكّن من تحصيل كلا الغرضين في مقام الاستكمال والاستعلاج باختيار فعل آخر يحصل به أحد الغرضين ولا يفوت به الآخر ، نعم لو اجتمعت الأغراض في مورد واحد بأن كان في فعل شيء غرض وفي تركه غرض آخر لا محالة يتصادم الغرضان حينئذ ، ويقدم منهما ما هو الأقوى والأهم ، واجتماع الجهات في المجمع حيث أنّه واحد من هذا القبيل ، فلا محاله تتزاحم فيه الجهات ويقع الكسر الانكسار بينهما فإن بقي فيه ما

٣٢٥

يكفي في الإيجاب فلا بدّ من تعميم دائرة متعلق الأمر له والإلزام تعلق النّهي بما فيه الجهة المقتضية للإيجاب لا الحرمة هذا حال الامتثال على القول بالامتناع مع ترجيح جانب الأمر ، وأمّا مع ترجيح جانب النّهي فإن كان الواجب من التّوصليات فلا إشكال في كون المجمع مسقطا للأمر به لا لأجل كونه امتثالا له ، بل لأجل كونه محصلا للغرض منه ولا يعقل بقاء الأمر مع انتفاء الغرض لأنّه بقاء وارتفاع دائر مداره وجودا وعدما ، وإلّا لم يكن مؤثرا فيه حدوثا ، وإن كان من التّعبديّات فالإتيان بالمجمع مع الالتفات الى حرمته فعلا لا يكون مسقطا للأمر بوجهين : عدم تأتي قصد القربة بفعله حينئذ وعدم كونه صالحا لأن يتقرب به لعدم وجود جهة الحسن والمصلحة فيه فيصدر قبيحا ، فلا يكون مسقطا ، وكذا مع عدم الالتفات إلى حرمته فعلا عن تقصير إذ حينئذ وإن أمكن فعله بقصد القربة إلّا أنّه يصدر عنه مبغوضا عليه ، فكيف يكون مسقطا للأمر؟ وأمّا مع عد الالتفات إلى حرمته عن قصور ، كما لو صلّى في الدّار المغصوبة جهلا بالموضوع أو بالحكم عن قصور أو نسيان له فيسقط به الأمر لحصول قصد القربة عنه بفعل ما يصلح لأن يتقرب به لاشتماله على جهة الحسن والمصلحة مع عدم صدوره عنه مبغوضا عليه لأجل الجهل بحرمته قصورا ، فيحصل به الغرض من الأمر فلا محالة يسقطه وإن لم يكن امتثالا له بناء على تبعيّة الأحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد في مقام تأثيرها للأحكام الواقعية إذ عليه يكون الفرد المأتي المجمع به خارجا عن أفراد الطّبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها ، لأنّه بعد تزاحم الجهات وحصول الكسر والانكسار فيه واقعا لا يكون إلّا ذا مفسدة حسبما هو قضية ترجيح جانب

٣٢٦

الحرمة ، فلا يصحّ تعلق الأمر به كي يكون فعله امتثالا له ، وأمّا على القول بتبعية الأحكام لما هو الأقوى من الجهات في مقام تأثيرها للأحكام الفعليّة كما هو الأقوى بأن لا يكون تزاحم بينها إلّا في هذا المقام فلا مانع من شمول متعلق الأمر له أيضا ، إذ عليه لا يكون المؤثر منها فعلا إلّا ما علم منها ، والمفروض أنّ جهة مفسدته غير ملتفت إليها ، فلا يكون في مقام التّأثير الفعلي إلّا حسنا وذا مصلحة ، فلا مانع من دخوله تحت الطّبيعة المأمور بها ، فيكون الإتيان به امتثالا له كما لا يخفى ، بل لو قيل بالوجه الاوّل وأنّه لا يكفي في سقوط الأمر العبادي الإتيان بما تعلق به بداعي ملاكه من الحسن والمصلحة ومحبوبية بل يعتبر في أن يؤتى به بداعي الأمر وبقصد امتثاله ، أمكن أن يقال هنا كما تقدّم نظيره في مسألة الضّد تصحيحا له بأنّه يصحّ أن يؤتى به كذلك ، وإن لم يكن من أفراد الطّبيعة المأمور بها بما هي مأمور بها ، فإنّه لما لم يكن في نظر العقل فرق بينه وبين سائر الأفراد في توفية الغرض من الأمر بالطّبيعة ، بل ربّما يكون أوفى منها في ذلك لوجود المناط والمقتضي فيه ، وفيما إذا لم يكن له سوى إسقاط الأمر فله أن يأتي بهذا الفرد بداعي الأمر ولأجله كسائر الأفراد لأنّه مسقط له مثلها حسب الفرض ، فيمكن أن يكون داعيا على فعله ، لكن هذا انّما يصح كما تقدّم نظيره في تلك المسألة أيضا بناء على انّه يكفي في مقام العمل الإتيان به بداعي الأمر مطلقا لا بداعي خصوص الأمر المتعلق به ، إذ على هذا حيث لا أمر به حسب الفرض فلا يمكن أن يؤتى به بداعيه. وأقول إن أتى به بداعي الأمر فسقوطه به حقّ كما افيد ، وإن أتى به بقصد الامتثال فالحكم بسقوطه به حينئذ غير سديد ، لأنّ ما يصحّ لأن يكون داعيا على فعله وهو الإتيان

٣٢٧

به بداعي الأمر غير واقع ، وما وقع داعيا عليه وهو الامتثال غير صالح لأن يكون داعيا عليه ، إذ لا أمر به حسب الفرض ، فكيف يصحّ أن يؤتي به بقصد امتثاله بعينه؟ حكمه حكم ما لو أتى به بداعي الأمر وقلنا بأنّه لا يكفي مجرد ذلك ، بل يعتبر في مقام العمل الإتيان به بداعي خصوص الأمر المتعلق بنفس المأتي به ، ولأجل ما ذكرنا في سقوط الأمر بفعل المجمع مع عدم الالتفات الى حرمته عن قصور حكم الأصحاب بصحّة الصّلاة في الدّار المغصوبة نسيانا مطلقا أو جهلا بالموضوع ، بل بالحكم إن كان عن قصور مع أنّ جلّهم قائلون بالامتناع وتقدم جانب الحرمة ، وانقدح ايضا أنّ استحقاق الثواب عليه حينئذ من قبيل استحقاقه على الإطاعة على بعض الوجوه لا على الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة.

«إذا عرفت المقدّمات»

فاعلم أنّ الحقّ هو القول بالامتناع وفاقا للمشهور ، وتوضيح وجهه على وجه يتضح به فساد ما قيل أو يقال من وجوه الاستدلال سائر الأقوال يتوقف على تمهيد مقدّمات :

الأولى : أنّه لا شبهة في أنّ الاحكام الخمسة متضادة في مقام الفعليّة والبلوغ الى مرتبة البعث أو الزّجر أو التّرخيص حتّى الوجوب مع الاستحباب مع اشتراكهما في طلب الفعل ، والحرام مع المكروه مع اشتراكهما في طلب التّرك ، فإنّهما بتمام حدّيهما مستحيلا الاجتماع ، كما تقدّم. نعم يمكن اجتماعهما ملاكا لكن لا يؤثر ملاك الاستحباب مع ملاك الوجوب إلّا تأكده ، فيضمحل فصل الاستحباب ويصير الفعل حينئذ واجبا مؤكّدا ، وكذلك لا يؤثر ملاك الكراهة مع ملاك الحرمة إلّا

٣٢٨

تأكدها فيضمحل فصل الكراهة ويصير الفعل حينئذ حراما مؤكّدا.

وبالجملة الأحكام الخمسة في مقام الفعليّة والبلوغ الى مرتبة البعث أو التّرخيص فعلا متضادة بداهة ثبوت المنافاة والمنافرة التّامّة بين البعث الى فعل واحد في زمان معين والزّجر عنه في ذلك الزّمان وإن لم يكن بينهما التّضاد في مقام الاقتضاء والإنشاء واقعا قبل البلوغ الى مرتبة الفعليّة ، فاجتماع الأمر والنّهي الفعليين في واحد مستحيل في نفسة لا من جهة أنّه يستلزم التّكليف بالمحال كي يقتضي جوازه عند من يقول بجواز التّكليف بغير المقدور.

الثّانية : هل الأحكام متعلقة بأفعال المكلّفين وما هو صادر ومجعول ومتحقّق حقيقة فى الخارج منهم بحيث يصحّ أن تقع الاشارة الحسيّة عليه أو بأساميها وعناوينها ومفاهيمها المنتزعة عنها انتزاعا صحيحا لا انتزاع الأنياب من الأغيال ، وبعبارة اخرى بما هو الأصيل ومنشأ الآثار والمشار إليه في الخارج ويصحّ أن يمدح أو يذم فاعله وجاعله عليه من الوجود على القول بأصالته أو الماهيّة على القول بأصالتها ، أو بما هو المنتزع والمخترع عنه في العناوين والمفاهيم والاعتبارات والإضافات الّتي تكون من قبيل خارج المحمول. وبعبارة الثّالثة : بالمعنونات من أي مقولة وحقيقة كانت أو بالعناوين والاعتبارات الّتي تكون منوطة بيد اختراع المخترع ذهنا وتصوّرا وإن لم يكن فاعلا كالملكيّة والزّوجيّة والفوقيّة والتّحتيّة والحرّية والرّقيّة والمغصوبيّة ونحوها ممّا لا يكون بحذائه شيء خارجا ويكون من قبيل خارج المحمول.

لا ينبغي الارتياب في كونها متعلّقه بالاولى ، لأنّها القابلة لتعلّق الحبّ والبغض والبعث أو الزّجر والمدح أو الذّم عليها عقلا دون غيرها من الأسامي كما هو

٣٢٩

واضح ، ولا من العناوين والمفاهيم المنتزعة ، نعم ، هي مقدورات ومجدّدات لموضوعات الأحكام وبها يمتاز كلّ موضوع عن ما عداه ، ولذا قلنا في المقدّمات أن الواحد الجنس إذا قسم وفصل كالسّجود لله تعالى وللصم خارج عن محلّ الكلام في المقام ، فإنّهما وإن اندرجا تحت واحد أعني جنس السّجود مثلا ، إلّا أنّ كلّ واحد منهما بحسب عنوانه وجود غير وجود الآخر ، فلا محذور من الاجتماع الحكمين فيه كذلك ، وبالجملة متعلّقات الأحكام هي المعنونات من أي مقولة وحقيقة كانت بعناوينها ، وإنّما تؤخذ منها العناوين ليتميّز ما تعلّق الحكم والغرض منه به فيها لا بما هي هي وبأنفسها وعلى حيالها ، فالعناوين مقدورات ومحددات لمتعلّقات الأحكام لا بأنفسها متعلّقات لها ، والظّاهر أنّ هذا المقدّمة أيضا بديهيّة.

الثّالثة : قد عرفت أنّ العناوين والمفاهيم المنتزعة من قبيل المقدورات والمحدّدات لمتعلّقات الأحكام وهي أن كانت متعدّدة ، فهل يوجب تعدّدها تعدّد المتعلّق لو كان واحدا وجودا ، تنثلم بها بساطته لو كان بسيطا ذاتا وماهيّة أم لا ، بل يبقى على وحدة وجوده وبساطة ماهيّته وحقيقة؟

الحقّ هو الثّاني ، ضرورة أنّه يمكن انتزاع مفاهيم كثيرة وعناوين عديدة من وجود واحد وموجود فارد بسيط لا كثرة فيه من جهة بل بسيط على الإطلاق مع بقاء وحدته وعدم انثلام بساطته على الإطلاق ومن جميع الجهات كالواجب تعالى ، فإنّه على بساطة ذاته المقدّسة كذلك تصدق عليها مفاهيم كثيرة من صفاته الجلاليّة والجماليّة له الأسماء الحسنى والأمثال العليا حيث أنّه بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الأحد جلّ اسمه وتعالى شأنه ، ولا فرق فيما ذكرنا بين القول بأصالة الوجود أو الماهيّة فإن الموجود بوجود واحد لا يعقل تعدّد ماهيّته وحقيقته

٣٣٠

واندراجه تحت مقولتين بمجرّد صدق مفهومين وعنوانين عليه سواء فرض طبيعيّا أو شخصيّا ، إذ لا فرق بينهما من هذه الجهة كما عرفت آنفا ، ولذا قلنا أنّ الواحد الجنس إذا لم يفصل ولم يقسم كالواحد الشّخصي داخل في حريم النّزاع ، فإنّ كلّ فرد منه حينئذ موجود بوجود واحد تعلّق به الحكم ، إمّا بوجوده السعي على القول الطّبيعي أو بوجوده الشّخصي على القول الفردي ، فيكون كالواحد الشّخصي مجمعا بين الحكمين فيجري فيه كلّ من القولين إن كان تعدّد العنوان يوجب تعدّد المعنون لم يكن فرق فيه بين فرضه طبيعيّا أو شخصيا فيجوز الاجتماع وإن لم يكن تعدّد العنوان موجبا لتعدّد المعنون لم يكن فرق فيه أيضا بين فرضه طبيعيّا وشخصيّا.

إذا عرفت ما مهدناه من المقدّمات ، عرفت أن اجتماع الوجوب والحرمة الفعليين في المجمع كما يصدق عليه عنوانا الصّلاة والغصب من الحركات والسّكنات الصّلاتيّة الواقعة في الدّار المغصوبة في نفسه محال ، لأنّه واحد وجودا وماهيّة ولا تعدّد فيه إلّا بحسب الوجه والعنوان وليس هو متعلّق التّكليف حسب المقدّمة الثّانية ، ولا تعدّده موجبا لتعدّده حسب المقدّمة الثّالثة إذ حسبما عرفت فيها ليس العنوان إلّا مفهوما ذاتيّا يلاحظ لأجل كونه معيارا ومقدارا لمقدار ما يوافق المقصود ويتعلّق به الغرض من الطّبيعة الّتي تعلّق بها التّكليف فلا يؤثّر تعدّده في جواز اجتماع الحكمين في واحد أي المجمع ، لبداهة التّضاد بين الأحكام الفعليّة حسب المقدّمة الأولى ، وإن شئت توضيح هذا فقايس اجتماع الحكمين المتضادين فيه باجتماع ضدّين حسيّين فيه. افرض أن طبيعة الغصب مطلقا مثلا تستلزم البط بدل الحرمة ، وطبيعة الصّلاة مطلقا تستلزم السّرعة عوض الوجوب ، فهل يمكن اجتماع البط والسّرعة في المجمع الذي يكون إلّا حركة واحدة مثلا أم لا؟ ومن

٣٣١

البديهي أن هذا غير ممكن فكذلك اجتماع الحكمين فيه لبداهة التّضاد بينهما ، ولا فرق فيما ذكرنا بين وجود المندوحة في المجمع بأن كان المكلّف متمكنا من امتثال الأمر في ضمن فرد آخر غير المجمع وعدمها ، إلّا في لزوم التّكليف بالمحال في صورة عدم المندوحة وعدم لزومه في صورة وجودها ، وهذا محذور آخر على مذهب من ينكر التّكليف بغير المقدور ، وهب إنّا نتكلّم على مذهب الأشعري الّذي يجوز التّكليف بغير المقدور ونصرف النّظر عن هذه الجهة هل عند عدم المندوحة غائلة لزوم التّكليف المحال ترتفع أو باقية ، فإن كانت باقية فلا فرق في امتناع الاجتماع بين هذا الصّورة وصورة وجود المندوحة ، ولذا ذكرنا في المقدّمات أنّه لا يعتبر في موضوع المسألة وجودها ، فإن الجهة الّتي هي العمدة في المسألة وهي لزوم اجتماع الضدّين في المجمع وعدمه فيه لا يتفاوت بين الصّورتين كما لا يخفى ، ولا فرق أيضا فيما ذكرنا بين القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع أو الأفراد حسبما مرّ تحقيقه غير مرّة ومع هذا ربّما يتوهّم أنّ المهمّ في المقام تحقيق هذا بدعوى أنّه على القول بتعلّقها بالطّبائع لا مانع من الاجتماع لتعدد متعلّقي الأمر والنّهي طبيعة في المجمع ، ولذا قال لا حاجة إلى المقدّمة الثّالثة وكأنّه توهّم أمرين وإن كان كلامه قاصرا عن إفادة مرامه.

أحدهما : كون الطّبيعي الّذي يتعلّق به التّكليف غير الفرد ولا عينه ، بل يكون الفرد محصّلا له ووافيا لغرضه نظير أداء الدّين بغير جنسه ، فيكون الطّبيعي مطلقا باقيا على كلّيّته لعدم اتّحاده مع الفرد الخارجي.

وثانيهما : كون الطّبيعيين اللذين تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النّهي في مثل الصّلاة في الدّار المغصوبة عنوانا الصّلاة والغصب.

٣٣٢

وكلا التّوهمين فاسد ، ويتّضح فسادهم بتوضيح المقدمة الثّالثة ، فتارة نتكلم في مقام رفع التّوهم باللّسان العلمي واخرى بغيره.

أمّا بالأوّل : فنقول لا شبهة في أنّ متعلّق التّكليف هو الطّبيعي الصادر عن المكلّف أعني ما يوجد في الخارج بإيجاده ويكون ما بحذاء مفهوم الوجود على القول بأصالته أو مفهوم الماهيّة على القول بأصالتها ، وشغل الطّبيعي ووظيفته أنّه متى وجد في موطن الذّهن ينتزع عنه الكليّة من حيث قبوله للصّدق على كثيرين ، ومتى وجد في موطن الخارج ينتزع عنه الجزئيّة من حيث عدم قبوله للصّدق على كثيرين ،. لكنّه في أي موطن وجد يكون عين الموجود فيه حقيقة ومتّحد معه خارجا أو ذهنا لا أنّهما متغايران ، والفرد محصّل لغرضه ومقدّمة لوجوده على ما إدّعاه الرّجل الهمداني ، ولذا تجتمع فيه الأضداد من الكثرة والوحدة ونحوهما ، لأنّ كلّ وجود منه في الذّهن أو الخارج مغاير لوجوده الآخر فيه ، ولذا قلنا أنّ نسبته إلى الأفراد نسبة الآباء إلى الأولاد لا نسبة الأب الواحد إلى الأولاد ، فلا يكاد يتفاوت القول بتعلّق التّكليف بالطّبيعي أو الفرد إلّا في كون الخصوصيّات المنضمة إليه خارجة عن متعلّق التّكليف من قبيل اللوازم للمطلوب أو المبغوض على القول الأوّل ، وداخله فيه من قبيل الأجزاء والمقومات للمطلوب أو المبغوض على الثّاني ، وعلى القولين لا يتفاوت الطّبيعي الّذي تعلّق به التّكليف عن الفرد الخارجي وجودا وماهيّة وليس في موطن الخارج إلّا وجود واحد وماهيّة واحدة وإلّا لم يكن الممكن مركبا زوجيا من وجود وماهيّة ، وهذا ممّا لا إشكال ولا خلاف فيه ، إنّما الخلاف في أنّ الأصيل فيهما ما هو؟ هل الوجود أو الماهيّة؟ وليس متعلّق التّكليف الطّبيعي الذّهني قطعا كي يقال أن طبيعيا الصّلاة والغصب مثلا في الذهن

٣٣٣

اثنان فلا مانع من الاجتماع على القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع ، وذلك لأنّ الطّبيعي الذّهني من مقولة الكيف لا الفعل ، والطّبيعي الّذي يكون متعلّق التّكليف فيما هو محطّ النّظر في المقام ما يكون من مقولة الفعل الصّادر عن المكلّف ، نعم ، قد يؤخذ الطّبيعى الذّهني أيضا متعلّق لحكم كإخطار النّية في الصّلاة على القول باعتباره فيها إلّا أنّه ليس محل البحث في المقام ، مع أنّه أيضا عين ما يوجد في الذّهن ومتّحد معه حقيقة.

فانقدح ممّا ذكرنا : أنّ الطّبيعي الّذي يكون متعلّق التّكليف سواء كان من الأفعال الخارجيّة والكيفيّات النّفسانيّة الصّادرة عن المكلّفين ليس بكلّي كما توهّم كي يقال أنّه على القول بتعلّق التّكليف به يكون متعلّقا الأمر والنّهي في المجمع متعدّدا ، فيجوز الاجتماع فيه ، لما عرفت من أنّه عين الفرد خارجيّا كان أو ذهنيّا متّحد معه حقيقة ووجودا.

سلّمنا : أنّه كلّي ، لكن نقول أن طبيعي مثل الحركات الصّلاتيّة الواقعة في الدّار المغصوبة ليس عنوانا الغصب والصّلاة كي يقال أنّهما اثنان ، بل المعنون ، فإنّ العنوان عنوان له ، أي طريق ومرآة وآلة لملاحظته ليحدّد ويقدّر ويعيّن به ، فلا يلاحظ العنوان باستقلاله وعلى حياله ، بل لا يكون إلّا كالاسم في أنّه لا يلاحظ إلّا لأجل الكشف والحكاية عن متعلّق التّكليف من الطّبيعة بحيث يكون لحاظه فانيا في لحاظه فناء اللّفظ في المعنى والحاكي في المحكي عنه والمرآة في المرئي والمعنى والحرفي في المعني الاسمي ، فهو غير قابل لأن يتعلّق به الحبّ والبغض والبعث والزّجر والحسن والقبح عند العقل ، فلا يكون إلّا محدّدا ومقدّرا لمتعلّق التّكليف ، ومن المعلوم أنّ طبيعي مثل الحركات الصّلاتيّة الواقعة في المكان المغصوب من أي

٣٣٤

مقولة كانت شىء واحد وجودا وماهيّة وإن صدق عليها عنوانا الصّلاة والغصب ، فلو اجتمع الحكمان فيه لزم اجتماع الضّدين في واحد وجودا وماهيّة.

وأمّا باللّسان الغير العلمي فنقول : لا شبهة في أنّ الإنسان إذا راجع إلى وجدانه يقطع بأن متعلّق التّكليف ليس إلا ما يصدر عن المكلّف ويوجد بإيجاده سواء سمّي بالوجود أو بالماهيّة ، بالطّبيعي أو بالفرد ، ولذا لو سئل العامي الّذي لا يعرف الاصطلاح أنّه ما متعلّق التّكليف؟ يقول : هو ما يصدر عن المكلّف ويوجد بإيجاده من غير أن يسميه بالوجود أو الماهيّة ، بالطّبيعي أو الفرد ، ولذا لم يكن خطاب في البين وأراد المولى الأبكم مثلا أن يبعث عبده ومن في حكمه إلى ما يكون مطلوبا له بحمله على فعله أو يشير إليه على وجه يعرفه ، فلا مدخليّة للعناوين كالأسامي والإشارات إلّا في كونها إنّما تلاحظ تعيينا وتعرفة لما هو المطلوب حقيقة لا أنّه تلاحظ بأنفسها وعلى حيالها كما لا يخفى على من راجع إلى وجدانه ، ومعلوم أن الصّادر عن المكلّف في المجمع ككلّ جزء يصدق عليه عنوانا الصّلاة والغصب من أجزاء الصّلاة الواقعة في الدّار المغصوبة ليس إلّا حركة واحدة وجودا وماهيّة ما شئت فسمّه به من الوجود أو الماهيّة من الطّبيعي أو الفرد ، ضرورة أنّه باختلاف أساميه لا تختلف حقيقته ، فتبيّن أن العناوين كالأسامي غير قابلة لتعلّق الأحكام بها وإنّ تعلّقها بالأفراد وبالطّبائع لا يوجب فرقا في حكم المسألة ، فالمقدّمة الثّالثة محتاج إليها.

وملخّص الكلام في المقام أن ما يتصوّر ويتعقّل أن يكون متعلّق التّكليف أحد أمور ثلاثة والعناوين والماهيّة بحسب وجودها الذّهني والماهيّة بحسب وجودها الخارجي ولا رابع ، لأن الأسامي غير قابلة لتعلّق التّكليف بها بالضّرورة ، كذا

٣٣٥

الماهيّة بما هي هي فإنّها كذلك ، ليست إلّا هي غير موجودة ولا معدومة ولو سئل عنها كذلك عن طرفي النّقيض يجاب بأنّها مسلوبة الطّرفين.

أمّا الأوّل : فلا يصحّ ، لما عرفت من أن العناوين غير ملحوظة بأنفسها وعلى حيالها بل لأجل كونها آلة ومرآتا لملاحظة ما هو المقصود وموافق للغرض ممّا يصدر ويتحقّق في الخارج ، سواء قيل بأنّه الوجود أو الماهيّة فهو متعلّق التّكليف دونها ، لأنّها مفاهيم كليّة انتزاعية ليست حقيقة إلّا مقدّرات له ، ولحاظها فان في لحاظه فناء الحاكي في المحكي عنه والمرآة في المرئي ، فالمعنونات ، وبعبارة الاخرى مصاديق العناوين متعلّقات الأحكام ، ولأجل كونها بالنّسبة إلى المعنونات الّتي هي متعلّقات الأحكام من قبيل المفاهيم والمصاديق وقع الاشتباه في المقام فتوهّم أنّها بأنفسها متعلّقات الأحكام فإن اشتباه المصداق بالمفهوم غير عزيز يقع كثيرا حتّى بين الأعلام ، وقد نبهنا في غير مقام على كثير من مواردها.

ومن هنا انقدح أيضا أنّه ليس متعلّق التّكليف فيما محطّ النّظر في المقام أعني التّكاليف المتعلّقة بأفعال الجوارح الماهيّة بحسب وجودها الذّهني ، ضرورة أنّها كالعناوين في كونها آلة لملاحظة ما تعلّق به الغرض في الأفعال الخارجيّة الصّادرة عن المكلّفين ، نعم ، قد يتعلّق الغرض بها بعضها وعلى حيالها كما في التّكليف المتعلّق بأفعال القلب والنّيّات ، فيكون متعلّقه حينئذ الماهيّة بحسب وجودها الذّهني ، إلّا أنّها حينئذ أيضا وجود لها وإن كان ظرفه الذّهن وليس المدّعى أنه لا يمكن تعلّق تكليف بالماهيّة بحسب وجودها الذّهني ، أصلا ، بل المدّعي أن متعلّق التّكليف مطلقا الماهيّة بحسب الوجود ، غاية الأمر أنّه قد يكون من أفعال الجوارح فيتعلّق التّكليف حينئذ بالماهيّة بحسب وجودها الخارجي ، وقد يكون من أفعال القلب

٣٣٦

والجوانح فيتعلّق التّكليف حينئذ بالماهيّة بحسب وجودها في الذّهن ، إلّا أنّ محطّ النّظر في المقام هو القسم الأوّل فتعيّن الثّالث ، وهو كون متعلّق التّكليف الماهيّة بحسب وجودها الخارجي.

لا يقال إنّك قلت العناوين خارجة عن متعلّق التّكليف ، فكيف تقول هنا متعلّق التّكليف الماهيّة بحسب وجودها بالخارجي؟ إذ الوجود أمر انتزاعي ، فلم تدخله في متعلّق التّكليف؟

لأنّا نقول : إنّه قد عرفت أنّه لا بدّ في كلّ مورد من تعيين ما هو المقصود ويوافق الغرض ، ولا يمكن ذلك إلّا بتحديده بالمفاهيم الذّهنيّة ، ولو ذكر اللّفظ فإنّما هو أيضا لأجل ذلك ، حيث أنّه بمدلوله يوجب تحديد ما تعلّق الغرض ، فإذا فرض أن ما هو متعلّقه لا حدّ له إلّا هذا المفهوم الانتزاعي أي الوجود ، فلا بدّ في مقام التّكليف من لحاظه ، ضرورة أنّه ما لم يتصوّر متعلّقه بتمام حدّه لا يمكن تعلّق التّكليف والبعث إليه أو الزّجر عنه ، وهذا واضح ، فلا منافات بين قولنا هنا بأن متعلّق التّكليف هو الماهيّة بحسب وجود الخارجي ، وبين قولنا أنّ العناوين خارجة عن متعلّق التّكليف ، ولا فرق فيما ذكرنا بين القول بأصالة الوجود ، بين القول بأصالة الماهيّة ، لأنّ المقصود أنّ التّكليف إنّما تعلّق بما يصدر ويتحقّق في الخارج حقيقة في مقابل ما لا يوجد إلّا في الذّهن من المفهوم الذّهني ، ومن الواضح أنّ هذا لا يتفاوت على القول بأصالة الوجود أو الماهيّة ، ولا فرق أيضا بين القول بتعلّق التّكليف بالطّبيعي أو الفرد حسبما عرفت مرارا من أن التّفاوت بين القولين لا يكاد يحصل إلّا في كون الخصوصيّات الخارجيّة المنضمة إلى الطّبيعة خارجة عن متعلّق التّكليف أو داخله فيه ، فعلى القولين متعلّق الحبّ والبغض كالحسن والقبح العقليين ليس إلّا ما هو

٣٣٧

المتأصّل في الصدور ، والجعل والتّحقيق في الخارج ، إمّا بخصوصياته كما هو قضيّة أحد القولين ، أو بدونها ، كما هو قضيّة القول الآخر ، وذلك لما تقدّم من أنّ الطّبيعي ليس إلّا عين الفرد الخارجي وجودا أو ماهيّة لا أنّ الفرد غيره ولكنّه يفي بغرضه نظير أداء الدّين بغير جنسه ، بداهة أنّ من تعلّق غرضه بفعل من أفعال نفسه او عبده ففعله هو أو عبده بأمره به لم يفعل إلّا نفس ما تعلّق به الغرض لا أنّه فعل ما يفي بغرضه ، وهذا بديهي لمن راجع إلى وجدانه في الأفعال الواقعة على طبق غرضه من نفسه أو عبده.

ومن هنا انقدح أنّه لا يكون فرق فيما ذكرنا من لزوم محذور اجتماع الضدّين في المجمع لو اجتمع الحكمان فيه بين كون وجوبه تعيينيّا أو تخييريّا ، إذ لا بدّ من كون دائرة عنوان متعلّق الأمر على وجه يعمّ ويسع قوس المجمع ، وإلّا لم تتحقّق مسألة الاجتماع ، وبعد فرضه كذلك تتحقّق فيه جهتان : إن لوحظ اعتبار أنه عين طبيعة متعلّق الأمر ومتّحد معها وجودا أو ماهيّة حسبما عرفت يصحّ أن يقال أنّ وجوبه تعييني ، وإن لوحظ باعتبار أنه أحد الأفراد الّتي تصدق عليها إذ للمكلّف أن يأتي بغيره منها يصحّ أن يقال أن وجوبه تخييري ، إلّا أنّ هذين اللّحاظين لا يوجبان تفاوتا في واقع وجوبه ، بل تفاوتا في اسمه بحسب الاصطلاح ، ومجرّد اختلافه لا يوجب تفاوتا في حقيقة الشّيء وواقعه ، فلا فرق في لزوم اجتماع الضّدين في المجمع بين كون وجوبه تعيينيا أو تخييريا بحسب الاصطلاح.

نعم إذا كان وجوبه تعيينيّا بحسب الاصطلاح بأن لا يمكن امتثال الأمر بدونه يلزم محذور آخر على القول بالامتناع من التّكليف بالمحال ، إلّا أنّك عرفت في المقدّمات أن المهمّ في المقام وعمدة الوجه فيه هي الجهة الاولى ، أعني كون اجتماع

٣٣٨

الحكمين في المجمع هل هو في نفسه محال فلا يجوز الاجتماع أو ليس بمحال فيجوز الاجتماع ، ولذا قلنا في المقدّمات أنّه لا تعتبر المندوحة في موضوع المسألة فيجري النّزاع أيضا فيما لا مندوحة فيه ، وبعبارة الاخرى ، لا يعتبر في المحل النّزاع أن تكون النّسبة بين عنوانين متعلّق الأمر والنّهي العموم المطلق أو العموم من وجه ، بل يجري وإن كانت النّسبة بينهما التّساوي ، غاية الأمر أنّه فيما إذا كان بينها التّساوي يلزم محذور آخر من التّكليف بالمحال ، فعلى مذهب من يجوز التّكليف به وقوع هذه الجهة وعدمها لا يوجبان تفاوتا في الجهة الّتي هي المحلّ النّزاع.

أقول : وبما أفاده الأستاذ العلّامة : «أدام الله تعالى أيّامه» من عدم الفرق بين كون وجوب المجمع تعيينيّا أو تخييريّا في الجهة الّتي هي العمدة في المقام انقدح أنّه لا فرق أيضا في تحريمه بين كونه تعيينيّا أو تخييريّا على نحو ما أفاده في طرف الوجوب بعينه كما لا يخفى ، فاجتماع الوجوب والحرمة مطلقا سواء كانا تعيينيين أو تخيريين أو مختلفين يستحيل في نفسه ، نعم فيما إذا كانا تعيينيين كما أنّه يكون محالا في نفسه يكون أيضا تكليفا بالمحال ، فعلى القول بعدم جوازه يلزم امتناع الاجتماع من جهتين.

هنا توهّمات اخرى أشار إليها وإلى وجه فسدها في الكفاية لم يتعرّض لها ولدفعها تفصيلا عند المباحثة.

منها : ابتناء القولين في المسألة على تعدّد وجود الجنس والفصل وعدم تعدّدهما فيه ، بتوهّم أنّ العنوانين المتصادقين على المجمع من قبيل الجنس والفصل له. ووجه فساده ينقدح ممّا افيد من كون العناوين مطلقا مفاهيم انتزاعيّة خارجة عن حقيقة الشّيء بخلاف الجنس والفصل فإنّهما جزءاه كذلك بحسب التّحليل العقلي.

٣٣٩

ومنها : أنّه على القول بتعلّق الأحكام بالطّبائع يجوز الاجتماع إذ عليه لا يكون متعلّقا الأمر والنّهي متّحدا أصلا لا في مقام تعلّق البعث والزّجر ولا في مقام إطاعة الأمر وعصيان النّهي بإتيان المجمع بسوء الاختيار.

أمّا في المقام الأوّل : فلتعدّدهما بما هما متعلّقان للإيجاب والتّحريم وإن كان متّحدين فيما خارج عنهما بما هما كذلك.

وأمّا في المقام الثّاني : فلسقوط الأمر بالإطاعة والنّهي بالمعصية بمجرّد الإتيان بالمجمع ، فلا اجتماع بين الحكمين من واحد أصلا. ووجه مسألة ابتنائه على تعلّق الأحكام بالعناوين بمجرّدها وقد انقدح ممّا افيد أيضا عدم كونها بأنفسها قابلة لتعلّق الأحكام بها ، فهي متعلّقات بالمعنونات والمعنون في المجمع واحد ، فلو اجتمع الحكمان فيه لزم اجتماع الضدّين في واحد.

ومنها : أنّ الفرد مقدّمة لوجود الطّبيعي الّذي تعلّق به الأمر أو النّهي ، ولا ضير في كون المقدّمة محرّمة في صورة عدم الانحصار واختيارها بسوء الاختيار ، ووجه فساده أيضا ما افيد من أنّ الفرد عين الطّبيعي في الخارج ومقدّمة له وإلّا لزم كونهما اثنين بحسب الوجود ولا تعدّد فيه كما هو واضح ، مع أنّه إنّما يجدي لو لم يكن المجمع واحدا ماهيّة ، وقد انقدح ممّا افيد كونه بحسبها واحدا أيضا ، فلا يجوز اجتماع الحكمين فيه وإن كانا غيريين ومقدّميين لما تقدّم في المقدّمات من أنّ الأحكام بأسرها وبجميع أقسامها متضادّة ، وحيث أنّ فساد هذه التّوهّمات يظهر ممّا أفاده آنفا ، لذا لم يتعرّض لنقلها وبيان فسادها تفصيلا عند المباحثة ، وكيف كان فنرجع إلى ما أفاده «دام ظلّه».

ثمّ أنّه قد استدلّ على جواز الاجتماع بوجوه.

٣٤٠