السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥
بل إنّ ظاهر كلمات المحققين من النحاة صحة تركيب « هو أولى » و « هما أوليان » ، فإنّهم قد صرّحوا بجواز حذف « من ومجرورها » بعد اسم التفضيل ، ولهم على ذلك شواهد من الكتاب وأشعار العرب : قال الأزهري : « وقد تحذف من مع مجرورها للعلم بهما ، نحو : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) أي من الحياة الدنيا. وقد جاء الإثبات والحذف في : ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) أي منك. وإلى ذلك أشار الناظم بقوله :
وأفعل التفضيل
صله أبدا |
|
تقديرا أو لفظا
بمن إن جرّدا |
وأكثر ما تحذف من مع المفضول إذا كان أفعل خبرا في الحال أو في الأصل ، فيشمل خبر المبتدأ وخبر كان وان وثاني مفعولي ظن وثالث مفاعيل أعلم ... » (١).
وقال الرضي : « وإذا علم المفضول جاز حذفه غالبا إن كان أفعل خبرا كما يقال لك : أنت أسن أم أنا؟ فتجيب بقولك : أنا أسن. ومنه قوله : الله أكبر ... ويجوز أن يقال في مثل هذه المواضع : إن المحذوف هو المضاف إليه ، أي أكبر كلّ شيء ... ويجوز أن يقال : إن من مع مجرورة محذوف ، أي أكبر من كلّ شيء ... » (٢).
والأعجب من كل ذلك غفلة الرازي عن صيغة التكبير الذي يفتتح به الصلاة في كل صباح ومساء.
١٣ ـ وجوه بطلان منع « هو أولى الرجل ».
وأما قول الرازي : « وتقول : هو مولى الرجل ومولى زيد ولا تقول هو أولى الرجل ولا أولى زيد » فيبطله وجوه :
__________________
(١) التصريح في شرح التوضيح ٢ / ١٠٢.
(٢) شرح الكافية : مبحث أفعل التفضيل.
الأول : إذا كان ملاك التركيب لدى الرازي هو العقل لا الوضع ، فأيّ استحالة عقلية تلزم من هذا التركيب؟
الثاني : إنّ إضافة « أولى » إلى « رجل » و « زيد » جائزة بحسب القاعدة في علم النحو ، لأن استعمال اسم التفضيل مضافا هو أحد طرق استعماله ، كما صرح به النحويون بأجمعهم من غير خلاف. فأيّ مانع من إضافة « أولى » وهو اسم تفضيل إلى « زيد » و « الرجل »؟
الثالث : إنه بالاضافة إلى جواز هذا الاستعمال بحسب القاعدة ، فقد وقع هذا الاستعمال وورد في حديث نبوي مذكور في الصحيحين ،
ففي باب ميراث الولد من أبيه وأمه من كتاب الفرائض من صحيح البخاري :
« حدّثنا موسى بن إسماعيل [ قال ] حدّثنا وهيب [ قال ] حدّثنا ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس [ رضي الله عنهما ] عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر » (١).
وقد أخرجه في باب ميراث الجد مع الأب والأخوة (٢).
وفي باب ابني عم أحدهما أخ للأم والآخر زوج (٣).
وأخرجه مسلم في صحيحه حيث قال : « حدّثنا عبد الأعلى بن حماد ـ وهو النرسي ـ [ قال ] نا وهيب عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر.
حدّثنا أمية بن بسطام العيشي [ قال ] نا يزيد بن زريع [ قال ] نا روح بن القاسم عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ألحقوا الفرائض بأهلها فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر.
__________________
(١) صحيح البخاري ٨ / ١٨٧.
(٢) نفس المصدر ٨ / ١٨٨.
(٣) نفس المصدر ٨ / ١٩٠.
حدّثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع وعبد بن حميد ـ واللفظ لابن رافع ـ قال إسحاق نا وقال الآخران أنا عبد الرزاق قال أنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله [ تعالى ] فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر » (١).
فإن زعم الرازي أنا نمنع إضافته إلى المفرد المعرفة. فنقول : إن لاسم التفضيل عند إضافته معنيين ، ولا يجوز إضافته إلى المفرد المعرفة بناء على أحدهما دون الآخر ، قال ابن الحاجب : « فإذا أضيف فله معنيان ، أحدهما ـ وهو الأكثر ـ أن تقصد به الزيادة على من أضيف إليه ، وشرطه أن يكون منهم ، نحو زيد أفضل الناس ، ولا يجوز يوسف أحسن أخوته. والثاني : أن تقصد زيادة مطلقة ويضاف للتوضيح ... ».
وقال الرضي في شرحه : « قوله : والثاني أن يقصد زيادة مطلقة. أي يقصد تفضيله على كل من سواه مطلقا ، لا على المضاف إليه وحده ، وإنما تضيفه إلى شيء لمجرد التخصيص والتوضيح ، كما تضيف سائر الصفات ، نحو : مصارع مصر ، وحسن القوم ، مما لا تفصيل فيه ، فلا يشترط كونه بعض المضاف إليه ، فيجوز بهذا المعنى أن تضيفه إلى جماعة هو داخل فيهم نحو قولك : نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل قريش ، بمعنى أفضل الناس من بين قريش. وأن تضيفه إلى جماعة من جنسه ليس داخلا فيهم ، كقولك : يوسف أحسن أخوته ، فإنّ يوسف لا يدخل في جملة أخوة يوسف ، بدليل أنك لو سئلت عن عدد إخوته لم يجز لك عدّه فيهم ، بلى يدخل لو قلت : أحسن الأخوة ، أو أحسن بني يعقوب. وأن تضيفه إلى غير جماعة نحو : فلان أعلم بغداد ، أي أعلم ممن سواه وهو مختص ببغداد ، لأنّها منشؤه أو مسكنه ، وإن قدّرت المضاف أي أعلم أهل بغداد فهو مضاف إلى جماعة يجوز أن يدخل فيهم » (٢).
__________________
(١) صحيح مسلم ٥ / ٥٩ ـ ٦٠.
(٢) شرح الكافية ـ مبحث أفعل التفضيل.
أقول : وعلى هذا فمتى أريد من « أولى » التفضيل والزيادة المطلقة ـ لا الزيادة على من أضيف إليه فقط ـ جازت إضافته إلى « الرجل » و « زيد » ، لأجل مجرد التخصيص والتوضيح.
١٤ ـ جواب منع « هما مولى رجلين ».
وأما قول الرازي : « هما أولى رجلين ، وهم أولى رجال ، ولا تقول : « هما مولى رجلين ولا هم مولى رجال » فهو توهم تدفعه كلمات المحققين الماضية ، الدالة على أن الترادف لا يقتضي المساواة في جميع الأحكام.
على أنه لا تلزم أيّة استحالة عقلية من هذا الاستعمال ، بناء على ما ذكره الرازي من كون مدار الاستعمال والإطلاق هو العقل لا الوضع.
١٥ ـ منع « هو أولاه » و « هو أولاك » غير مسلّم
وأمّا قوله : « ويقال : هو مولاه ومولاك ، ولا يقال : هو أولاه وأولاك » فغير مسلّم ، فإنه إذا كان الغرض هو التفضيل المطلق جاز إضافة اسم التفضيل إلى المفرد المعرفة لمجرد التخصيص والتوضيح ، وعليه فلا مانع من إضافته إلى الضمير أيضا. وقال ابن حجر العسقلاني بشرح « فما بقي فهو لأولى رجل ذكر » نقلا عن السهيلي : « فإن قيل : كيف يضاف « أي أولى » للواحد وليس بجزء منه؟ فالجواب : إذا كان معناه الأقرب في النسب جازت إضافته وإن لم يكن جزءا منه ، كقوله صلّى الله عليه وسلّم في البر « برّ أمّك ثم أباك ثم أدناك » (١).
وقد أضيف في هذا الحديث « أدنى » ـ وهو اسم تفضيل ـ إلى الضمير.
على أنّ الملاك لدى الرازي هو تجويز العقل كما تقدّم مرارا ، ولا استحالة في إضافة اسم التفضيل إلى الضمير عقلا.
__________________
(١) فتح الباري ١٥ / ١٤.
ثم إنّ الرازي قال في خاتمة كلامه : « وهذا الوجه فيه نظر مذكور في الأصول ».
فنقول له : أيها المجادل الغفول ، الآتي بكل كلام مدخول! إذا كان عندك في هذا الوجه نظر مذكور في الأصول ، فلم أتعبت النفس بتزوير هذا الهذر والفضول! الذي يردّه المنقول وتأباه العقول! وتبطله إفادات المحققين الفحول؟! وبما ذكرنا ظهر بطلان قول ( الدهلوي ) : « وهو منكر بالإجماع ».
على أنّ الرازي قد قال في وجوه إثبات مجيء « الباء » للتبعيض كما هو مذهب الشافعي : « الثاني : النقل المستفيض حاصل بأن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض ، فوجب أن يكون إقامة حرف « الباء » مقام « من » جائزا. وعلى هذا التقدير يحصل المقصود ».
فنقول : لا ريب في جواز « فلان مولى لك ». وبناء على ما ذكره من أن حروف الجر يقام بعضها مقام بعض ، يجب أن يكون إقامة حرف « من » مقام اللام « جائزا » وأن يستعمل « فلان مولى منك » بدل ( فلان أولى منك ) وعلى هذا التقدير يحصل المقصود.
* * *
وجوه بطلان شبهة
إن قول أبي عبيدة بيان لحاصل معنى الآية
وشبهات أخرى
قوله :
« وأيضا : فإنّ تفسير أبي عبيدة بيان لحاصل معنى الآية ... ».
أقول : هذا باطل لوجوه :
١ ـ لم يقل هذا أحد من أهل العربية
إن ( الدهلوي ) قد نسب هذا القول إلى جمهور أهل العربية ، مع أن أحدا منهم لم يقله ، بل إنّ الأصل في هذه الشبهة هو الرازي كما سيأتي ، وقد ذكر من ترجم للرازي أنه لم يكن له اطلاع في علوم العربية ، قال ابن الشحنة : « وكانت له اليد الطولى في العلوم خلا العربية » (١).
٢ ـ لو كان كذلك فلما ذا خطّئوا أبا زيد كما زعم؟
إنه لو أمكن حمل تفسير أبي عبيدة على ما ذكر ، فلما ذا خطّأ جمهور أهل العربية أبا زيد في تفسيره الذي تبع فيه أبا عبيدة ـ حسب زعم ( الدهلوي ) ـ؟ ولما ذا
__________________
(١) روضة المناظر ـ حوادث سنة ٦٠٦.
لم يحملوا تفسيره على هذا المعنى كذلك؟
٣ ـ لم ينفرد أبو عبيدة بهذا التفسير
إنه وإن كان الأصل في هذه الشبهة هو الرازي ، لكن الرازي اعترف بأنّ جماعة من أئمة اللغة والتفسير يفسّرون الآية كذلك ، وليس أبو عبيدة منفردا به ، قال الرازي بعد عبارته السابقة : « وأما الذي نقلوا عن أئمة اللغة أن « المولى » بمعنى « الأولى » فلا حجة لهم ، وإنما يبيّن ذلك بتقديم مقدمتين ـ.
إحداهما : إن أمثال هذا النقل لا يصلح أن يحتج به في إثبات اللغة ، فنقول : أن أبا عبيدة وإن قال في قوله تعالى : ( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) هي أولى بكم. وذكر هذا أيضا : الأخفش والزجاج وعلي بن عيسى ، واستشهدوا ببيت لبيد ، ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق ، لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه ، والأكثرون لم يذكروه إلاّ في تفسير هذه الآية أو آية أخرى مرسلا غير مسند ، ولم يذكروه في الكتب الأصلية من اللغة ، وليس كل ما يذكر في التفاسير كان ذلك لغة أصلية ، ألا تراهم يفسرون اليمين بالقوة في قوله تعالى : ( وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ). والقلب بالعقل في قوله ( لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ ). مع أن ذلك ليس لغة أصلية ، فكذلك ههنا » (١).
لكن ( الدهلوي ) يحاول إسدال الستار على هذه الحقيقة الراهنة ، فيدعي أن جمهور أهل العربية يحملون تفسير أبي عبيدة على انه بيان للمعنى لا تفسير ، وكأن أبا عبيدة منفرد بهذا التفسير ، وقد رأينا أن مخترع هذه الشبهة ـ وهو الرازي ـ يعترف بأن جماعة آخرين يفسرون الآية كذلك.
وأما قول الرازي : « ولكن ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق » فساقط جدا. إذ لا طريق لنا إلى معرفة مفاهيم الألفاظ إلاّ بتنصيصات أئمة اللغة ، فإن
__________________
(١) نهاية العقول ـ مخطوط.
حملت كلماتهم على التساهل سقطت عن الحجية ، وبطلت الاستدلالات والحجج ، بل إنّ كلام الرازي هذا خير وسيلة وذريعة للملحدين وجحدة الدين في إنكار حقائق الدين الإسلامي ، إذ متى أريد إلزامهم بأمر من أمور الدين استنادا إلى تصريحات اللغويين كان لهم أن يقولوا : « ذلك تساهل من هؤلاء الأئمة لا تحقيق » ، بل يكون اعتراضهم أقوى ، واعتذارهم عن القبول والتسليم أبلغ ، لأنهم يخالفون أئمة اللغة في الدين أيضا ، بخلاف الرازي فإنه وإيّاهم من أهل ملة واحدة ... وبذلك ينهدم أساس دين الإسلام ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
هذا ، ولا عجب من تأييد الرازي للملحدين ، فقد عرفت من تصريح الذهبي (١) أن للرازي تشكيكات على دعائم الإسلام ، وفي ( لسان الميزان ) (٢) عن الرازي أن عنده شبهات عديدة في دين الإسلام ، وأنه كان يبذل غاية جهده في تقرير مذاهب المخالفين والمبتدعين ، ثم يتهاون ويتساهل في دفعها والجواب عنها.
٤ ـ الأصل في هذه الدعوى أيضا هو الرازي
ثم إنّ الأصل في هذه الشبهة أيضا هو الرازي كما عرفت من كلامه السابق ، وقال بتفسير قوله تعالى : ( مَأْواكُمُ النَّارُ ) ما نصه :
« وفي لفظ « المولى » هاهنا أقوال ـ أحدها : قال ابن عباس : مولاكم أي مصيركم. وتحقيقه : إن المولى موضع « الولي » وهو القرب. فالمعنى : إن النار هي موضعكم الذي تقربون منه وتصلون إليه.
والثاني : قال الكلبي : يعني أولى بكم ، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة. واعلم : أن هذا الذي قالوه معنى وليس بتفسير للّفظ ، لأنه لو كان « مولى »
__________________
(١) ميزان الاعتدال ٣ / ٣٤٠.
(٢) لسان الميزان ٤ / ٤٢٦.
و « أولى » بمعنى واحد في اللغة لصحّ استعمال كل واحد منهما في مكان الآخر ، فكان يجب أن يصح أن يقال : « هذا مولى من فلان » كما يقال : « هذا أولى من فلان » ويصح أن يقال : « هذا أولى فلان » كما يقال : « هذا مولى فلان ». ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنى وليس بتفسير.
وإنما نبّهنا على هذه الدقيقة لأن الشريف المرتضى لمّا تمسّك في إمامة علي بقوله [ عليهالسلام ] : « من كنت مولاه فعلي مولاه » قال : أحد معاني « مولى » أنه « أولى » واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية بأن مولى معناه أولى. وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه ، لأن ما عداه إمّا بيّن الثبوت ككونه ابن العم والناصر ، أو بيّن الانتفاء كالمعتق والمعتق ، فيكون على التقدير الأول عبثا ، وعلى التقدير الثاني كذبا.
وأمّا نحن فقد بيّنا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضوع معنى لا تفسير ، وحينئذ يسقط الاستدلال » (١).
٥ ـ خدشة النيسابوري لكلام الرازي
ولكن ما أسلفنا من البحوث كاف لإسقاط وإبطال هذا الكلام ، على أنه قد بلغ من السقوط والهوان حدّا لم يتمكن النيسابوري من السكوت عليه ، بالرغم من متابعته للرازي في كثير من المواضع ، قال النيسابوري ما نصه : « هي مولاكم قيل : المراد أنها تتولى أموركم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار. وقيل أراد هي أولى بكم ، قال جار الله : حقيقته هي محراكم ومقمنكم. أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ، كما قيل : هو مئنة الكرم ، أي مكان لقول القائل إنه لكريم.
قال في التفسير الكبير : هذا معنى وليس بتفسير اللفظ من حيث اللغة ، وغرضه أن الشريف المرتضى لمّا تمسّك في إمامة علي بقوله صلّى الله عليه وسلّم :
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٩ / ٢٢٧ ـ ٢٢٨.
من كنت مولاه فهذا علي مولاه ، احتج بقول الأئمة في تفسير الآية : إن « المولى » معناه « الأولى » وإذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه ، لأن ما عداه بيّن الثبوت ككونه ابن العم والناصر ، أو بيّن الانتفاء كالمعتق والمعتق ، فيكون على التقدير الأول عبثا ، وعلى التقدير الثاني كذبا. قال : وإذا كان قول هؤلاء معنى لا تفسيرا بحسب اللغة سقط الاستدلال.
قلت : في هذا الاسقاط بحث لا يخفى » (١).
* * *
__________________
(١) تفسير النيسابوري ٢٧ / ٩٧.
شبهات أخرى
هذا ، وقد بقيت شبهات أخرى في هذا المقام ، نذكرها مع وجوه دفعها إتماما للمرام :
١ ـ عدم ذكر بعض اللغويين هذا المعنى
فالشبهة الأولى : إنه وإن ذكر جماعة من أئمة اللغة هذا المعنى ، إلاّ أنّ بعضهم لم يذكروه. ذكر هذه الشبهة الفخر الرازي حيث قال : « لأن الأكابر من النقلة مثل الخليل وأضرابه لم يذكروه ».
وجوه دفعها
وهذه الشبهة مندفعة بوجوه :
الأول : لا اعتبار بالنفي الصريح في مقابلة الإثبات ، فكيف بعدم الذكر والسكوت؟ إن صحت النسبة إلى الخليل؟
والثاني : إنّ كتاب « العين للخليل » موصوف بالاضطراب والتصريف
الفاسد ، قال أحمد بن الحسين الجاربردي بعد ذكر بيت جاء فيه لفظة « أمهتي » « والهاء زائدة ، لأنّ أما فعل بدليل الأمومة في مصدره وأمات في جمعه » ثم قال بعد بيت جاء فيه لفظة « أمات » : « وأجيب عن ذلك بمنع أن أما فعل والهاء زائدة ، وسنده : إن الهاء يجوز أن يكون أصلا ، لما نقل خليل بن أحمد في كتاب العين من قولهم « تأمهت » بمعنى : اتخذت أما. هذا يدل على أصالة الهاء ».
ثم قال : « قال في شرح الهادي : الحكم بزيادة الهاء أصح لقولهم : أم بنية الأمومة. وقولهم : « تأمهت » شاذ مسترذل » قال : « في كتاب العين من الاضطراب والتصريف الفاسد ما لا يدفع » (١).
فإذا كان هذا حال ( كتاب العين ) بالنسبة إلى ما ورد فيه ، فكيف يكون عدم ورود معنى فيه سندا لإنكاره؟!
الثالث : إنه بالاضافة إلى ما تقدم فقد قدح طائفة من كبار المحققين في « كتاب العين » كما لا يخفى على من راجع ( المزهر ) و ( كشف الظنون ) (٢).
الرابع : لقد صرح الرازي نفسه بإطباق الجمهور من أهل اللغة على القدح في ( العين ) فقد قال السيوطي في ( المزهر ) : « أوّل من صنف في جمع اللغة الخليل ابن أحمد. ألّف في ذلك كتاب العين المشهور. قال الامام فخر الدين الرازي في المحصول : أصل الكتب المصنفة في اللغة كتاب العين ، وقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه ».
فالعجب من الرازي يقول هذا ثم يحتج بعدم ذكر الخليل ( الأولى ) في جملة معاني ( المولى ) ... وإذا كان ذلك رأي الجمهور من أهل اللغة فلا ينفع دفاع السيوطي عن ( العين ).
الخامس : دعواه عدم ذكر أضراب الخليل هذا المعنى للفظ المذكور كذب
__________________
(١) شرح الجار بردي على الشافية لابن الحاجب ١٤٩ ـ ١٥٠.
(٢) كشف الظنون ٢ / ١٤٤٢.
واضح ، فإن ( أبا زيد ) من أضرابه ومعاصريه ـ بل ذكر المترجمون له تقدّمه على الخليل كما تقدم ـ قد ذكر ذلك ، كما اعترف به الخصوم حتى ( الدهلوي ) ، وفسر ( أبو عبيدة ) لفظة « المولى » بـ « الأولى » كما اعترف به الجماعة حتى الرازي نفسه ، و ( أبو عبيدة ) من أضراب الخليل ومعاصريه ، بل أفضل منه كما علم من تراجمه ، وكذلك ( الفراء ) من معاصريه وقد فسّر « المولى » بـ « الأولى ».
فثبت كذب الرازي في هذه الدعوى.
السادس : لقد فسر محمد بن السائب الكلبي « المولى » بـ « الأولى » ، وقد توفي الكلبي سنة (١٤٦) فهو متقدم على الخليل المتوفى سنة (١٧٥) وقيل (١٧٠) وقيل (١٦٠) كما ذكر السيوطي (١).
السابع : لقد علمت مما تقدم أن جماعة كبيرة من مشاهير الأئمة الأساطين ـ غير من ذكرنا ـ قد أثبتوا مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » ، واستشهدوا لذلك بشعر لبيد ، فعدم ذكر الخليل ذلك ـ إن ثبت ـ لا يليق للاحتجاج بعد إثبات هؤلاء الأثبات للمعنى المذكور.
الثامن : لقد علمت سابقا أن البخاري ذكر للمولى خمسة معان ، فقال ابن حجر وغيره بأن أهل اللغة يذكرون له معان أخرى غيرها. فمن هنا يظهر أن عدم ذكر البخاري لتلك المعاني لا ينفي ثبوتها ، فكذلك عدم ذكر الخليل « الأولى » ضمن معاني « المولى » ـ على تقدير تسليم ذلك ـ غير قادح في ثبوته ، لأن غيره من الأئمة قد ذكروه.
ثم قال الرازي : « والأكثرون لم يذكروه إلاّ في تفسير هذه الآية أو آية أخرى ».
وهذا الكلام فيه كفاية لأهل الدراية.
قال : « مرسلا غير مسند ».
__________________
(١) بغية الوعاة ١ / ٥٦٠.
ويدفعه ما تقدم في دفع دعواه أن ذلك معنى لا تفسير.
قال : « ولم يذكروه في الكتب الأصلية ».
ويدفعه : تصريح ابن الأنباري ومحمد بن أبي بكر الرازي بكون « الأولى بالشيء » من جملة معاني « المولى ». بل ورود تفسيره بهذا المعنى في ( الصحاح للجوهري ) وهو من الكتب الأصلية في اللغة بلا ريب.
وأمّا قوله : « ألا تراهم يفسرون اليمين بالقوة ... » فيفيد جواز استعمال « المولى » بمعنى « الأولى » مثل استعمال « اليمين » بمعنى « القوة » و « القلب » بمعنى « العقل ».
ثم قال الرازي : ما نصه : « وثانيها : ـ إن أصل تركيب ( ول ي ) يدل على معنى القرب والدنو ، يقال : وليته وأليه واليا ، أي دنوت منه ، وأوليته إياه : أدنيته ، وتباعدنا بعد ولي. ومنه قول علقمة :
وعدت عواد دون وليك تشعب.
وكل مما يليك ، وجلست مما يليه ، ومنه : الولي وهو المطر الذي يلي الوسمي ، والولية : البرذعة لأنها تلي ظهر الدابة ، وولي اليتيم والقتيل وولي البلد ، لأن من تولّى الأمر فقد قرب منه. ومنه قوله تعالى : ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) من قولهم : ولاه ركبته ، أي جعلها مما يليه. وأما ولىّ عني إذا أدبر فهو من باب ما يثقل الحشو فيه للسلب ، وقولهم : فلان أولى من فلان أي أحق ، أفعل التفضيل من الوالي أو الولي كالأدنى والأقرب من الداني والقريب ، وفيه معنى القرب أيضا ، لأن من كان أحق بالشيء كان أقرب إليه ، والمولى اسم لموضع الولي ، كالمرمى والمبنى لموضع الرمي والبناء ».
أقول : هذه المقدمة لا علاقة لها بمطلوب الرازي الذي هو نفي مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » أصلا ، لأن حاصل هذا الكلام هو كون أصلا تركيب « ولي » دالا على معنى القرب ، وكون « المولى » اسما لموضع الولي ، وهذان الأمران لا دلالة فيهما على نفي مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » أبدا ، وإلاّ لزم أن لا يكون
« المعتق » و « المعتق » وغيرهما من معاني « المولى » أيضا.
٢ ـ تفسير أبي عبيدة يقتضي أن يكون للكفار في الجنة حق
ثم قال الرازي : « وإذا ثبت هاتان المقدمتان فلنشرع في التفصيل قوله :
إن أبا عبيدة قال في قوله تعالى : ( مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ ) معناه : هي أولى بكم. قلنا : إنّ ذلك ليس حقيقة بوجهين أحدهما : إن ذلك يقتضي أن يكون للكفار في الجنة حق ، إلاّ أن النار أحق ، لأن ذلك من لوازم أفعل التفضيل وإنه باطل ».
وجوه دفعها
وهذه الشبهة حول تفسير أبي عبيدة يدفعها وجوه :
الأول : إنه يحتمل أن يكون المعنى : نار جهنم أولى بإحراق الكفّار من نار الدنيا ، لا أن المراد أولوية النار بهم من الجنة.
الثاني : إنه لمّا كان زعم الكفار استحقاقهم دخول الجنة ، فإنه بهذا السبب يثبت أولوية النار بهم من الجنة أيضا. قال نجم الأئمة الرضي الأسترآبادي : « ولا يخلو المجرور بمن التفضيلية من مشاركة المفضل في المعنى ، إمّا تحقيقا نحو : زيد أحسن من عمرو ، أو تقديرا كقول علي عليهالسلام : « لئن أصوم يوما من شعبان أحب إليّ من أن أفطر يوما من رمضان ». لأن إفطار يوم الشك الذي يمكن أن يكون من رمضان محبوب عند المخالف ، فقدّره عليهالسلام محبوبا إلى نفسه أيضا ، ثم فضّل صوم شعبان عليه ، فكأنّه قال : هب أنه محبوب عندي أيضا ، أليس صوم من شعبان أحبّ منه. وقال عليهالسلام : « اللهم أبدلني بهم خيرا منهم » أي في اعتقادهم لا في نفس الأمر ، فإنّه ليس فيهم خير ، « وأبدلهم بي شرا مني » أي في اعتقادهم أيضا ، وإلاّ فلم يكن فيه عليهالسلام شر. ومثل قوله تعالى ( أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ) كأنهم لما اختاروا موجب النار. ويقال في
التهكّم : أنت أعلم من الحمار ، فكأنّك قلت : إن أمكن أن يكون للحمار علم فأنت مثله مع زيادة ، وليس المقصود بيان الزيادة ، بل الغرض التشريك بينهما في شيء معلوم انتفاؤه من الحمار » (١).
الثالث : إن المستفاد من الأحاديث العديدة هو أن لكل واحد من المكلّفين مكانا في الجنّة ومكانا في النار. وقال الرازي نفسه بتفسير قوله تعالى : ( أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ ) « وهاهنا سؤالات ـ السؤال الأول : لم سمّي ما يجدونه من الثواب والجنة بالميراث ، مع أنه سبحانه حكم بأن الجنة حقّهم في قوله : ( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ )؟ الجواب من وجوه :
الأول : ما روي عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم ـ وهو أبين ما يقال فيه : وهو : أنّه لا مكلّف إلاّ أعدّ الله له في النار ما يستحقه إن عصى ، وفي الجنة ما يستحقه إن أطاع ، وجعل لذلك علامة ، فإذا آمن منهم البعض ولم يؤمن البعض صار [ منزل ] منازل من لم يؤمن كالمنقول ، وصار مصيرهم إلى النار الذي لا بدّ معها [ معه ] من حرمان الثواب كموتهم ، فسمي ذلك ميراثا لهذا الوجه » (٢).
٣ ـ لو كان الأمر كما ذكر أبو عبيدة لقيل هي مولاتكم
ثم قال الرازي : « ثانيهما : لو كان الأمر كما اعتقدوا في أن « المولى » هاهنا بمعنى « الأولى » لقيل هي مولاتكم ... ».
وجوه دفعها
وهذه شبهة أخرى حول تفسير أبي عبيدة ، وهي مندفعة بوجوه :
__________________
(١) شرح الكافية ـ مبحث أفعل التفضيل.
(٢) تفسير الرازي ٢٣ / ٨٢.
الأول : لقد نسي الرازي أو تناسى إصراره على لزوم التساوي بين المترادفين في جميع الاستعمالات ، فإنه بناء على ذلك لا يبقى مورد لهذه الشبهة ، لأنه إذا كان « المولى » بمعنى « الأولى » جاز استعمال كل منهما مكان الآخر ، فإذا وقع « الأولى » خبرا لمبتدأ كان المذكر والمؤنث فيه على حد سواء فكذلك « المولى » الذي بمعناه يستوي فيه المذكر والمؤنث في صورة وقوعه خبرا ، فالشبهة مندفعة بناء على ما ذهب إليه وألحّ عليه.
الثاني : دعوى اختصاص استواء التذكير والتأنيث باسم التفضيل كذب صريح وغلط محض ، لثبوت الاستواء المذكور في مواضع أخر ، قال ابن هشام :
« الغالب في « التاء » أن تكون لفصل صفة المؤنث من صفة المذكر كقائمة وقائم ، ولا تدخل هذه التاء في خمسة أوزان ، أحدها : فعول ، كرجل صبور بمعنى صابر وامرأة صبور بمعنى صابرة ، ومنه : ( وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ) والثاني : فعيل بمعنى مفعول ، نحو رجل جريح وامرأة جريح. والثالث : مفعال كمنحار ، يقال رجل منحار وامرأة منحار ، وشذ ميقانة. والرابع : مفعيل كمعطير ، وشذ امرأة مسكينة ، وسمع امرأة مسكين. والخامس : مفعل كمغشم ومدعى » (١).
الثالث : إنّ تذكير المؤنث بحمل أحدهما على الآخر شائع في الاستعمال كتأنيث المذكر ، قال السيوطي : « الحمل على المعنى. قال في الخصائص : اعلم أن هذا الشرح غور من العربية بعيد ومذهب نازح فسيح. وقد ورد به القرآن وفصيح الكلام منثورا ومنظوما ، كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث ، وتصور معنى الواحد في الجماعة والجماعة في الواحد ، وفي حمل الثاني على لفظ قد يكون عليه الأول ، أصلا كان ذلك اللفظ أو فرعا وغير ذلك ، فمن تذكير المؤنث قوله تعالى : ( فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ) أي هذا الشخص ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ ) لأن الموعظة والوعظ واحد. ( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) أراد
__________________
(١) التوضيح في شرح الألفية بشرح الأزهري ٢ / ٢٨٦ ـ ٢٨٧.