نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

بالرحمة هنا المطر ... » (١).

الرابع : إنّ تأنيث النار ليس تأنيثا حقيقيا ، وتأنيث المؤنث غير الحقيقي ليس بلازم ، كما نصّ عليه الرازي نفسه ، إذ قال بتفسير قوله تعالى : ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) « المسألة الثانية : لقائل أن يقول : الجمع مؤنث ، فكان ينبغي أن يقال : يحرّفون الكلم عن مواضعها. والجواب : قال الواحدي : هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده ، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ويمكن أن يقال : كون الجمع مؤنثا ليس أمرا حقيقيا ، بل هو أمر لفظي ، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا » (٢).

وقال بتفسير ( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) « المسألة الرابعة : ـ لقائل أن يقول : مقتضى علم الإعراب أن يقال : إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث؟ وذكروا في الجواب عنه وجوها « الأول » : إن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي ، وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة. « الثاني » قال الزجاج : إنما قال قريب لأن الرحمة والغفران والعفو والانعام بمعنى واحد ، فقوله : إن رحمة الله قريب بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب ، فأجري حكم أحد اللفظين على الآخر. « الثالث » قال النضر بن شميل : الرحمة مصدر ، ومن حق المصادر التذكير كقوله : ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ). وهذا راجع إلى قول الزجاج ، لأن الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره. قال الشاعر : « ان السماحة والمروة ضمنا ... » قيل : المراد بالسماحة السخاء ، وبالمروة الكرم ... » (٣).

وأمّا قول الرازي : « لأن اسم المكان إذا وقع خبرا لم يؤنث » فهو في نفسه

__________________

(١) الأشباه والنظائر ١ / ١٨٥.

(٢) تفسير الرازي ١٠ / ١١٧.

(٣) تفسير الرازي ١٤ / ١٣٦.

١٨١

كلام صحيح ، لكنه يتنافى مع ما تقدم منه من الحكم بكون استواء التذكير والتأنيث من خصائص أفعل التفضيل ، فما ذكره هنا اعتراف ببطلان دعواه الاختصاص المذكور.

وأما قوله : « وقال صاحب الكشاف على جهة التقريب ... » فإن أراد من قوله « على جهة التقريب » تقريب الزمخشري المعنى المقصود إلى الأفهام فلا عائبة فيه ولا يخالف المقصود ولا ينافيه ، وإن أراد نفي أن يكون ذلك المعنى هو المراد حقيقة فيكذّبه قول صاحب الكشاف الذي نقله الرازي أيضا وهو : « حقيقته محراكم ... » فإنه يدل دلالة صريحة على أن ما ذكره على طريقة الحقيقة التي هي بالإذعان والتصديق حقيقة.

وما ذكره الزمخشري من احتمال كون معنى « المولى » هو « الناصر » لا يضعّف استدلالنا ، لأنّا ندّعي جواز إرادة « الأولى » من « المولى » ومجيئه بهذا المعنى ولا ننفي أن يكون بمعنى آخر ، وتجويز كون « المولى » هنا بمعنى « الناصر » لا ينفي جواز مجيئه بمعنى « الأولى » كما هو واضح.

وأما قول الرازي : « وعن الحسن البصري : « هي مولاكم » أي أنتم توليتموها في الدنيا ... » فلا يصادم مطلوبنا ، بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتولي » أيضا يفيد المطلوب.

كما أن ما ذكره بقوله : « وقيل أيضا : المولى يكون بمعنى العاقبة ... » لا ينافي المطلوب واستدلالنا بالآية الكريمة.

٤ ـ شبهة الرازي حول بيت لبيد

وقال الرازي : « وأما بيت لبيد ، فقد حكي عن الأصمعي فيه قولان أحدهما : إن المولى فيه اسم لموضع الولي كما بيّنّا ، أي كلا من الجانبين موضع المخافة ، وإنما جاء مفتوح العين تغليبا لحكم اللام على الفاعل ، على أن الفتح في المعتل الفاء قد جاء كثيرا ، منه : موهب وموحد وموضع وموحل. والكسر في المعتل

١٨٢

اللاّم لم يسمع إلاّ في كلمة واحدة وهي مأوى.

الثاني : إنه أراد بالمخافة الكلاب ، وبمولاها صاحبها ».

وجوه دفعها

وما ذكره حول بيت لبيد المستشهد به على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » يندفع بوجوه :

الأول : إن حكاية القولين المذكورين عن الأصمعي في بيت لبيد لا ينافي الاستشهاد به على المطلوب المذكور ، لأن أبا عبيدة قد استشهد به على ذلك ، وهو أفضل من الأصمعي بلا كلام ، وقد اعترف بذلك الأصمعي نفسه كما تقدّم.

الثاني : إنّه قد استشهد بهذا البيت ـ بالاضافة إلى أبي عبيدة ـ جماعة من كبار الأئمة ، كالزجاج والأخفش والرماني كما ذكر الرازي نفسه ذلك ، كما أن ثعلب فسر « المولى » فيه بـ « الأولى » كما صرح به الزوزني في شرح المعلّقات ، ولا ريب في تقدم ما ذكره هؤلاء الأئمة على ما تفرّد به الأصمعي.

الثالث : لقد علمت سابقا تفسير الجوهري والثعلبي وعمر القزويني والخفاجي وغيرهم « المولى » في هذا البيت بـ « الأولى » ، وقد نص بعضهم على أن الوجوه الأخرى المذكورة له لا تخلو من الضعف.

الرابع : أن نقول : إما أن القولين المحكيين عن الأصمعي ينافيان تفسير أبي عبيدة وإمّا لا ، فإن كانا ينافيان تفسيره كان بين قولي الأصمعي تناف أيضا ، بخلاف تفسير أبي عبيدة والزّجاج والأخفش والرماني وثعلب وغيرهم ، إذ لم يحك عنهم في البيت ما ينافي هذا التفسير ، وإن لم يكن بين القولين والتفسير تناف وتعارض ولا فيما بين القولين أنفسهما ، بل يمكن الجمع بين الجميع بنحو من الأنحاء كان ذكر القولين في مقابلة تفسير الأئمة عبثا.

الخامس : لقد قدح الرازي في كتابه ( المحصول ) ـ كما نقل عنه السيوطي ـ في الأصمعي ، وأسقطه عن الاعتبار في نقل اللغة في الكتاب المذكور ، وهذا نص

١٨٣

كلامه : « وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة ومشهورا بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها ».

وأما قول الرازي : « والكسر في المعتل اللام لم يسمع إلاّ في كلمة واحدة وهي مأوى » فكلام أجرأه الحق على لسانه ، لأنه يبطل ما تقدّم منه من إنكاره مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » بسبب عدم مجيء « المفعل » في المواد الأخرى بمعنى « الأفعل ».

٥ ـ شبهات حول الشواهد الأخرى

لم يكن الشاهد على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » منحصرا بتفسير أبي عبيدة وغيره للآية الكريمة ، وببيت لبيد العامري ، بل هناك شواهد أخرى على مجيء « المولى » من الكتاب والسنة وأشعار العرب ، وقد ذكرها الرازي مع شبهات له حولها وتأويلات ومحامل لها ، حتى تكون أجنبية عن مورد الاستدلال والاستشهاد ، ونحن ننقل نصّ كلامه ثم نتبعه بدفع شبهاته :

قال الرازي : « وأما قوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) معناه : ورّاثا يلون ما تركه الوالدان. وقال السدي في قوله : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) أي العصبة ، وقيل : بني العم ، لأنهم الذي يلونه في النسب وعليه قول الحارث :

زعموا أن من ضرب العسير

موال لنا وإنا الولاء

وقال أبو عمرو : الموالي في هذا الموضع بنو العم.

وأما قول الأخطل :

فأصبحت مولاها من الناس بعده.

وقوله :

لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.

١٨٤

وقوله :

موالي حق يطلبون به.

فالمراد بها الأولياء.

ومثله قوله عليه‌السلام : مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي لله ورسوله.

وقوله عليه‌السلام : أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها. فالرواية المشهورة مفسرة له.

وقوله : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) أي : وليهم وناصرهم ( وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) أي : لا ناصر لهم. هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين.

فقد تلخص مما قلنا : إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ».

بيان اندفاع هذه الشبهات

وهذه الشبهات لا تبطل استدلال الشيعة واستشهادهم بهذه الشواهد ، وقد ذكر الرازي في كلامه أيضا ما لم يستشهد به الشيعة أصلا ، ونحن نبيّن كل ذلك فنقول :

أمّا تفسير « المولى » في قوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) بـ « الوارث » فقد علمت آنفا ـ من نقل الرازي نفسه ـ أن أبا علي الجبائي قد فسر « المولى » في الآية بوارث هو أولى به اي بالمتروك ، وهذه عبارته : « والمعنى : إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به. وسمى الله تعالى الوارث المولى ... » وقد قال الرازي بعد هذا الوجه والوجوه الأخرى المذكورة في الآية المباركة : « وكلّ هذه الوجوه حسنة محتملة » ، وقول الرازي هنا : « ورّاثا يلون ما تركه الوالدان » لا ينافي ذلك الوجه ، لأن الوارث هم أولى بما تركه مورثوهم.

وأمّا ذكره قوله تعالى : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) فلا وجه له ، لعدم استشهاد الإمامية بهذه الآية على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى ».

ومثله قول الحارث ... نعم ذكر السيد المرتضى في كتاب ( الشافي في

١٨٥

الامامة ) عن غلام ثعلب في شرح هذا البيت : أن من معاني « المولى » هو « السيد » وإن لم يكن مالكا ، وإنه قد فسر « المولى » بـ « الولي ». فالسيد المرتضى طاب ثراه بصدد إثبات أن « السيد » « والولي » من معاني « المولى » ولم يحتج بهذا البيت أصلا حتى يذكره الرازي في جملة شواهد الامامية على ما يذهبون إليه.

وأمّا حمله « المولى » في قول الأخطل : فأصبحت مولاها ...

وقوله : لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.

وقول الشاعر : موالي حق يطلبون به.

على « الأولياء » فلا يضرّ ما نحن بصدده ، لأن « الولي » أيضا بمعنى « الأولى » كما صرح به المبرد. ولفظتا « أصبحت » و « بعده » قرينتان تدلان على أن المراد هو « الأولى بالتصرف ».

كما أن الشطر الثاني من البيت ـ وهو كما في ( الشافي ) :

( وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا ) قرينة أخرى على أن المراد من « المولى » هو « الأولى بالتصرف ».

وأمّا قول الشاعر : ( موالي حق يطلبون به ) فشطره الثاني هو : ( فأدركوه وما ملّوا وما تعبوا ) وفيه قرائن على أن المراد من « موالي حق » هم الذين يكونون أولى بحقوقهم.

وأمّا حديث : ( مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله ) فليس مما يستشهد به الامامية ، فذكره هنا عبث.

وأمّا حمل « المولى » في قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها ) على « الولي » للرواية المشهورة المفسرة له فلا يضر بالاستشهاد به ، لأن المراد من « الولي » فيه هو « ولي الأمر » كما قال ابن الأثير : « ومنه الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل. وفي رواية وليها. أي متولي أمرها ».

وأمّا ذكره الآية المباركة : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) فلا وجه له ، لعدم استشهاد الامامية بها.

١٨٦

فظهر بما ذكرنا بطلان قوله : « فقد تلخص بما قلنا : إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ». والحمد لله رب العالمين.

عود إلى كلام الدهلوي

قوله : « يعني النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم ، لا أن لفظة المولى بمعنى الأولى ».

أقول : عجبا!! إن أبا عبيدة ينص على أن المراد من « المولى » في الآية الكريمة هو « الأولى » ، ثم يستشهد لذلك ببيت لبيد ، ويصرّح بأن « المولى » فيه هو « الأولى » كذلك ، فكيف يقبل من ( الدهلوي ) هذا التحكم والتزوير؟!

ما الدليل على كون الصلة « بالتصرف »؟

قوله : « الثاني : إن كان « المولى » بمعنى « الأولى » فجعل صلته « بالتصرف » في أي لغة؟ ».

أقول : إن أراد ( الدهلوي ) عدم جواز جعل « بالتصرف » صلة لـ « الأولى » فهذا توهم فضيح ، لأن ثبوت مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » كاف للمطلوب ، وجعل « بالتصرف » صلة له هو بحسب القرائن المقامية كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

على أن صريح كلام التفتازاني والقوشجي ـ الذي أورده صاحب بحر المذاهب أيضا ـ هو شيوع مجيء « المولى » بمعنى « الأولى بالتصرف » في كلام العرب ، وأن ذلك منقول عن أئمة اللغة.

بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتصرف في الأمر » و « متولي الأمر » و « ولي الأمر » و « المليك » ـ كما ظهر لك كلّ ذلك سابقا ـ يكفينا لاثبات المرام.

مجمل واقعة الغدير

وإن أراد ( الدهلوي ) أنه إن كان « المولى » بمعنى « الأولى » فما الدليل على

١٨٧

كون المراد منه في حديث الغدير هو « الأولوية في التصرف »؟

فيظهر جوابه من النظر فيما وقع يوم غدير خم ، ومجمله ـ كما تفيد روايات القوم ـ أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يبلّغ الناس بأن عليا عليه‌السلام مولاهم ، فخشي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تقع الفتنة بين الناس إن بلغهم ذلك ، فشكى إلى ربه عزّ وجلّ وحدته وقلة أصحابه المخلصين وأن القوم سيكذبونه ، فأوحى الله تعالى إليه : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فنزل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خم وليس بالموضع اللائق للنزول ، وكان يوما هاجرا جدّا يستظل الناس فيه بأرديتهم ودوابّهم ، ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقمّ ما كان هنالك من شوك وصنع له منبر من أقتاب الإبل ، وكان عدد الحاضرين في ذلك اليوم مائة وعشرين ألف نسمة ، وقد علم الجميع بأن هذا آخر اجتماع لهم من هذا القبيل ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوشك أن يدعى إلى ربه ، فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ، فلما اجتمعوا صعد المنبر وأخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون فقال :

يا أيّها الناس! قد نبأني اللطيف الخبير أنه لن يعمّر نبي إلاّ مثل عمر الذي قبله (١) ، وإني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني مسئول وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك الله خيرا. قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن جنته حق وناره حق ، وأن الموت حق ، وأن البعث بعد الموت حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا : بلى نشهد بذلك. قال : اللهم اشهد. فقال :

أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى. قال : إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه. ثم

__________________

(١) هذه الجملة وردت في بعض ألفاظ الحديث عند القوم ، وفيها كلام كما لا يخفى.

١٨٨

قال : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار.

ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتمسك بالثقلين الكتاب والعترة ، وذكر أنهما لن يفترقا حتى يردا الحوض.

فلمّا انتهى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبته نزلت الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي.

ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وممن هنّأه في مقدّم الصحابة أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشيخان أبو بكر وعمر ، وقال حسان بن ثابت أبياته المعروفة. كما ستعرف ذلك كلّه بالتفصيل.

وبعد ، فلا أظن أن عاقلا يحمل هذه الخطبة المقترنة بهذه الأمور ، على أمر سوى الامامة العظمى والخلافة الكبرى بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبهذه البحوث التي تراها يتضح لك مدى تعصّب القوم للهوى ومخالفتهم للحق ، حتى أنهم قد يلتجئون إلى الكذب والافتراء ، ويتذرّعون بالشبهات الواهية ويتفوّهون بما لا طائل تحته ، فكأنهم آلوا على أنفسهم جحد الحق وتقوية الباطل مهما كلّف الأمر ... وستتضح لك تلك الحقيقة أكثر فأكثر من خلال البحوث الآتية إن شاء الله تعالى ، والله المستعان.

* * *

١٨٩
١٩٠

من وجوه

دلالة حديث الغدير

١٩١
١٩٢

(١)

نزول قوله تعالى

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

١٩٣
١٩٤

من وجوه دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين عليه‌السلام نزول قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) في واقعة يوم غدير خم.

ذكر بعض من روى ذلك

وقد روى ذلك جماعة من كبار أئمة أهل السنة ، ومشاهير أعيان علمائهم ومنهم :

١ ـ ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي.

٢ ـ أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي.

٣ ـ أحمد بن موسى بن مردويه.

٤ ـ أحمد بن محمد الثعلبي.

٥ ـ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني.

٦ ـ أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي.

٧ ـ مسعود بن ناصر السجستاني.

٨ ـ عبد الله بن عبيد الله الحسكاني.

١٩٥

٩ ـ ابن عساكر علي بن الحسن الدمشقي.

١٠ ـ فخر الدين محمد بن عمر الرازي.

١١ ـ محمد بن طلحة النصيبي الشافعي.

١٢ ـ عبد الرزاق بن رزق الله الرسعني.

١٣ ـ حسن بن محمد النيسابوري.

١٤ ـ علي بن شهاب الدين الهمداني.

١٥ ـ علي بن محمد المعروف بابن الصبّاغ المالكي.

١٦ ـ محمود بن أحمد العيني.

١٧ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.

١٨ ـ محمد محبوب عالم.

١٩ ـ الحاج عبد الوهاب بن محمد.

٢٠ ـ جمال الدين عطاء الله بن فضل الله الشيرازي.

٢١ ـ شهاب الدين أحمد.

٢٢ ـ الميرزا محمد بن معتمد خان البدخشي.

(١)

رواية ابن أبي حاتم

قال جلال الدين السيوطي : « أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب » (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٢ / ٢٩٨.

١٩٦

ترجمة ابن أبي حاتم

١ ـ الذهبي : « عبد الرحمن العلامة الحافظ يكنى أبا محمد ، ولد سنة أربعين ومائتين أو إحدى وأربعين. قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم : كان رحمه‌الله قد كساه الله نورا وبهاء يسر من نظر إليه ... وكان بحرا لا تكدره الدلاء. روى عنه : ابن عدي ، وحسين ابن علي التميمي ، والقاضي يوسف الميانجي ، وأبو الشيخ ابن حيان ، وأبو أحمد الحاكم ، وعلي بن عبد العزيز بن مدرك ... وخلق سواهم.

قال أبو يعلى الخليلي : أخذ أبو محمد علم أبيه وأبي زرعة ، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال ، صنّف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار. قال : وكان زاهدا يعدّ من الأبدال.

وقال الرازي المذكور في ترجمة عبد الرحمن : سمعت علي بن محمد المصري ـ ونحن في جنازة ابن أبي حاتم ـ يقول : قلنسوة عبد الرحمن من السماء ، وما هو بعجب رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق.

وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول : ما رأيت أحدا ممّن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط.

وسمعت عباس بن أحمد يقول : بلغني أن أبا حاتم قال : ومن يقوى على عبادة عبد الرحمن؟ لا أعرف لعبد الرحمن ذنبا.

وسمعت عبد الرحمن يقول : لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ثم كتبت الحديث.

قال الخليلي : يقال إن السنّة بالري ختمت بابن أبي حاتم.

قال الامام أبو الوليد الباجي : عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ ... » (١).

__________________

(١) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٣.

١٩٧

٢ ـ الذهبي أيضا : « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد ، شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس ... ولد سنة أربعين ، وارتحل به أبوه ، وأدرك الأسانيد العالية ... قال أبو يعلى الخليلي : أخذ علم أبيه وأبي زرعة ...

قلت : كتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المتقنة في الحفظ ، وكتابه في التفسير عدة مجلّدات ، وله مصنف كبير في الرد على الجهمية يدل على إمامته ... » (١).

٣ ـ جمال الدين الأسنوي : « كان إماما في التفسير والحديث والحفظ ، زاهدا ، أخذ عن أبيه وجماعة ، وروى الكثير ، وصنّف الكتب النفيسة ، منها كتاب في مناقب الشافعي. ذكره ابن الصلاح في طبقاته ولم يؤرخ وفاته. توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. ذكره الذهبي في العبر » (٢).

٤ ـ الأسنوي أيضا : « كان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال زاهدا يعدّ من الأبدال. أخذ عن جماعة من أصحاب الشافعي ، وصنّف في الفقه وغيره كالجرح والتعديل وكتاب العلل ومناقب الشافعي ... » (٣).

٥ ـ ابن قاضي شهبة : « أحد الأئمة في الحديث والتفسير والعبادة والزهد والصلاح ، حافظ ابن حافظ ، أخذ عن أبيه وأبي زرعة ، وصنف الكتب المهمة كالتفسير الجليل المقدار ، عامته في أربع مجلّدات عامته آثار مسندة ... قال يحيى ابن مندة : صنف المصنف في ألف جزء. وتوفي سنة سبع ـ بتقديم السين ـ وعشرين وثلاثمائة. قارب التسعين » (٤).

٦ ـ جلال الدين السيوطي : « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد شيخ

__________________

(١) تذكرة الحفاظ ٣ / ٤٦.

(٢) طبقات الشافعية ١ / ٤١٦.

(٣) نفس المصدر.

(٤) طبقات الشافعية ١ / ١١٢.

١٩٨

الإسلام أبو محمد ... قال الخليلي : أخذ علم أبيه وأبي زرعة ... قال ابن السبكي في الطبقات : حكي أنه لمّا هدم بعض سور طوس احتيج في بنائه إلى ألف دينار ، فقال ابن أبي حاتم لأهل مجلسه الذين كان يلقي إليهم التفسير : من رجل يبني ما هدم من هذا السور وأنا ضامن له عند الله قصرا؟ فقام إليه رجل من العجم فقال : هذه ألف دينار واكتب لي خطّك بالضمان. فكتب له رقعة بذلك وبني ذلك السور.

وقدر موت ذلك الأعجمي ، فلمّا دفن دفنت معه تلك الرقعة ، فجاءت ريح فحملتها ووضعتها في حجر ابن أبي حاتم وقد كتب في ظهرها : قد وفينا بما وعدت ، ولا تعد إلى ذلك.

مات في محرم سنة ٣٢٧ » (١).

٧ ـ البدخشاني : « هو من كبار الحفاظ » (٢).

التزامه في التفسير بأصح ما ورد

ثم إنّه قد ثبت أن ابن أبي حاتم قد التزم في تفسيره بإخراج أصحّ ما ورد في تفسير كلّ آية ، وقد نصّ على ذلك السيوطي في ( اللآلي المصنوعة ) حيث قال بعد حديث : « وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ، وقد التزم أن يخرج فيه أصحّ ما ورد ، ولم يخرج فيه حديثا موضوعا البتّة ».

وقال في ( الإتقان ) بعد أن ذكر تفسير السدي : « ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئا لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد » (٣).

__________________

(١) طبقات الحفاظ : ٣٤٥.

(٢) تراجم الحفاظ ـ مخطوط.

(٣) الإتقان في علوم القرآن ٢ / ١٨٨.

١٩٩

تنبيه

ذكر سيف الله الملتاني في كتابه الذي سماه ( تنبيه السفيه ) في جواب رواية للكشي من أصحابنا طاب ثراه حول زرارة بن أعين : « وأيضا ، في هذه الرواية أن أبا جعفر خاطب زرارة بقوله : فإنّك والله أحبّ الناس إلي ومن أصحاب أبي عليه‌السلام إليّ حيّا وميتا ، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام إلى آخره. والحال أنه قد روى ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه ما رأى زرارة أبا جعفر ».

أقول : فكيف تكون رواية ابن أبي حاتم هذه حجة ـ مع أنها عن سفيان الثوري المعلوم حاله ـ ولا تكون روايته في تفسير تلك الآية الكريمة حجة؟ أفيجوز أن يقال بأن رواية ابن أبي حاتم حجة على الإمامية في تكذيب رواية لأحد علمائهم ، أما روايته في فضل أمير المؤمنين عليه‌السلام فليست بحجة على أهل السنة؟!

(٢)

رواية أبي بكر الشيرازي

روى نزول الآية المذكورة في غدير خم في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) كما ذكر ابن شهر آشوب طاب ثراه (١) حيث قال في كتاب ( المناقب ) وعنه في ( بحار الأنوار ) :

__________________

(١) توجد ترجمته في :

الوافي بالوفيات ٤ / ١٦٤ مع التصريح بكونه صدوق اللهجة.

البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة : ٢٤٠.

بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة ١ / ١٨١.

٢٠٠