السيّد علي الحسيني الميلاني
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥
بالرحمة هنا المطر ... » (١).
الرابع : إنّ تأنيث النار ليس تأنيثا حقيقيا ، وتأنيث المؤنث غير الحقيقي ليس بلازم ، كما نصّ عليه الرازي نفسه ، إذ قال بتفسير قوله تعالى : ( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) « المسألة الثانية : لقائل أن يقول : الجمع مؤنث ، فكان ينبغي أن يقال : يحرّفون الكلم عن مواضعها. والجواب : قال الواحدي : هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده ، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ويمكن أن يقال : كون الجمع مؤنثا ليس أمرا حقيقيا ، بل هو أمر لفظي ، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزا » (٢).
وقال بتفسير ( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) « المسألة الرابعة : ـ لقائل أن يقول : مقتضى علم الإعراب أن يقال : إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث؟ وذكروا في الجواب عنه وجوها « الأول » : إن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي ، وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة. « الثاني » قال الزجاج : إنما قال قريب لأن الرحمة والغفران والعفو والانعام بمعنى واحد ، فقوله : إن رحمة الله قريب بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب ، فأجري حكم أحد اللفظين على الآخر. « الثالث » قال النضر بن شميل : الرحمة مصدر ، ومن حق المصادر التذكير كقوله : ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ). وهذا راجع إلى قول الزجاج ، لأن الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره. قال الشاعر : « ان السماحة والمروة ضمنا ... » قيل : المراد بالسماحة السخاء ، وبالمروة الكرم ... » (٣).
وأمّا قول الرازي : « لأن اسم المكان إذا وقع خبرا لم يؤنث » فهو في نفسه
__________________
(١) الأشباه والنظائر ١ / ١٨٥.
(٢) تفسير الرازي ١٠ / ١١٧.
(٣) تفسير الرازي ١٤ / ١٣٦.
كلام صحيح ، لكنه يتنافى مع ما تقدم منه من الحكم بكون استواء التذكير والتأنيث من خصائص أفعل التفضيل ، فما ذكره هنا اعتراف ببطلان دعواه الاختصاص المذكور.
وأما قوله : « وقال صاحب الكشاف على جهة التقريب ... » فإن أراد من قوله « على جهة التقريب » تقريب الزمخشري المعنى المقصود إلى الأفهام فلا عائبة فيه ولا يخالف المقصود ولا ينافيه ، وإن أراد نفي أن يكون ذلك المعنى هو المراد حقيقة فيكذّبه قول صاحب الكشاف الذي نقله الرازي أيضا وهو : « حقيقته محراكم ... » فإنه يدل دلالة صريحة على أن ما ذكره على طريقة الحقيقة التي هي بالإذعان والتصديق حقيقة.
وما ذكره الزمخشري من احتمال كون معنى « المولى » هو « الناصر » لا يضعّف استدلالنا ، لأنّا ندّعي جواز إرادة « الأولى » من « المولى » ومجيئه بهذا المعنى ولا ننفي أن يكون بمعنى آخر ، وتجويز كون « المولى » هنا بمعنى « الناصر » لا ينفي جواز مجيئه بمعنى « الأولى » كما هو واضح.
وأما قول الرازي : « وعن الحسن البصري : « هي مولاكم » أي أنتم توليتموها في الدنيا ... » فلا يصادم مطلوبنا ، بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتولي » أيضا يفيد المطلوب.
كما أن ما ذكره بقوله : « وقيل أيضا : المولى يكون بمعنى العاقبة ... » لا ينافي المطلوب واستدلالنا بالآية الكريمة.
٤ ـ شبهة الرازي حول بيت لبيد
وقال الرازي : « وأما بيت لبيد ، فقد حكي عن الأصمعي فيه قولان أحدهما : إن المولى فيه اسم لموضع الولي كما بيّنّا ، أي كلا من الجانبين موضع المخافة ، وإنما جاء مفتوح العين تغليبا لحكم اللام على الفاعل ، على أن الفتح في المعتل الفاء قد جاء كثيرا ، منه : موهب وموحد وموضع وموحل. والكسر في المعتل
اللاّم لم يسمع إلاّ في كلمة واحدة وهي مأوى.
الثاني : إنه أراد بالمخافة الكلاب ، وبمولاها صاحبها ».
وجوه دفعها
وما ذكره حول بيت لبيد المستشهد به على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » يندفع بوجوه :
الأول : إن حكاية القولين المذكورين عن الأصمعي في بيت لبيد لا ينافي الاستشهاد به على المطلوب المذكور ، لأن أبا عبيدة قد استشهد به على ذلك ، وهو أفضل من الأصمعي بلا كلام ، وقد اعترف بذلك الأصمعي نفسه كما تقدّم.
الثاني : إنّه قد استشهد بهذا البيت ـ بالاضافة إلى أبي عبيدة ـ جماعة من كبار الأئمة ، كالزجاج والأخفش والرماني كما ذكر الرازي نفسه ذلك ، كما أن ثعلب فسر « المولى » فيه بـ « الأولى » كما صرح به الزوزني في شرح المعلّقات ، ولا ريب في تقدم ما ذكره هؤلاء الأئمة على ما تفرّد به الأصمعي.
الثالث : لقد علمت سابقا تفسير الجوهري والثعلبي وعمر القزويني والخفاجي وغيرهم « المولى » في هذا البيت بـ « الأولى » ، وقد نص بعضهم على أن الوجوه الأخرى المذكورة له لا تخلو من الضعف.
الرابع : أن نقول : إما أن القولين المحكيين عن الأصمعي ينافيان تفسير أبي عبيدة وإمّا لا ، فإن كانا ينافيان تفسيره كان بين قولي الأصمعي تناف أيضا ، بخلاف تفسير أبي عبيدة والزّجاج والأخفش والرماني وثعلب وغيرهم ، إذ لم يحك عنهم في البيت ما ينافي هذا التفسير ، وإن لم يكن بين القولين والتفسير تناف وتعارض ولا فيما بين القولين أنفسهما ، بل يمكن الجمع بين الجميع بنحو من الأنحاء كان ذكر القولين في مقابلة تفسير الأئمة عبثا.
الخامس : لقد قدح الرازي في كتابه ( المحصول ) ـ كما نقل عنه السيوطي ـ في الأصمعي ، وأسقطه عن الاعتبار في نقل اللغة في الكتاب المذكور ، وهذا نص
كلامه : « وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة ومشهورا بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها ».
وأما قول الرازي : « والكسر في المعتل اللام لم يسمع إلاّ في كلمة واحدة وهي مأوى » فكلام أجرأه الحق على لسانه ، لأنه يبطل ما تقدّم منه من إنكاره مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » بسبب عدم مجيء « المفعل » في المواد الأخرى بمعنى « الأفعل ».
٥ ـ شبهات حول الشواهد الأخرى
لم يكن الشاهد على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » منحصرا بتفسير أبي عبيدة وغيره للآية الكريمة ، وببيت لبيد العامري ، بل هناك شواهد أخرى على مجيء « المولى » من الكتاب والسنة وأشعار العرب ، وقد ذكرها الرازي مع شبهات له حولها وتأويلات ومحامل لها ، حتى تكون أجنبية عن مورد الاستدلال والاستشهاد ، ونحن ننقل نصّ كلامه ثم نتبعه بدفع شبهاته :
قال الرازي : « وأما قوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) معناه : ورّاثا يلون ما تركه الوالدان. وقال السدي في قوله : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) أي العصبة ، وقيل : بني العم ، لأنهم الذي يلونه في النسب وعليه قول الحارث :
زعموا أن من ضرب
العسير |
|
موال لنا وإنا
الولاء |
وقال أبو عمرو : الموالي في هذا الموضع بنو العم.
وأما قول الأخطل :
فأصبحت مولاها من الناس بعده.
وقوله :
لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.
وقوله :
موالي حق يطلبون به.
فالمراد بها الأولياء.
ومثله قوله عليهالسلام : مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي لله ورسوله.
وقوله عليهالسلام : أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها. فالرواية المشهورة مفسرة له.
وقوله : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) أي : وليهم وناصرهم ( وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) أي : لا ناصر لهم. هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين.
فقد تلخص مما قلنا : إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ».
بيان اندفاع هذه الشبهات
وهذه الشبهات لا تبطل استدلال الشيعة واستشهادهم بهذه الشواهد ، وقد ذكر الرازي في كلامه أيضا ما لم يستشهد به الشيعة أصلا ، ونحن نبيّن كل ذلك فنقول :
أمّا تفسير « المولى » في قوله تعالى : ( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) بـ « الوارث » فقد علمت آنفا ـ من نقل الرازي نفسه ـ أن أبا علي الجبائي قد فسر « المولى » في الآية بوارث هو أولى به اي بالمتروك ، وهذه عبارته : « والمعنى : إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به. وسمى الله تعالى الوارث المولى ... » وقد قال الرازي بعد هذا الوجه والوجوه الأخرى المذكورة في الآية المباركة : « وكلّ هذه الوجوه حسنة محتملة » ، وقول الرازي هنا : « ورّاثا يلون ما تركه الوالدان » لا ينافي ذلك الوجه ، لأن الوارث هم أولى بما تركه مورثوهم.
وأمّا ذكره قوله تعالى : ( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) فلا وجه له ، لعدم استشهاد الإمامية بهذه الآية على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى ».
ومثله قول الحارث ... نعم ذكر السيد المرتضى في كتاب ( الشافي في
الامامة ) عن غلام ثعلب في شرح هذا البيت : أن من معاني « المولى » هو « السيد » وإن لم يكن مالكا ، وإنه قد فسر « المولى » بـ « الولي ». فالسيد المرتضى طاب ثراه بصدد إثبات أن « السيد » « والولي » من معاني « المولى » ولم يحتج بهذا البيت أصلا حتى يذكره الرازي في جملة شواهد الامامية على ما يذهبون إليه.
وأمّا حمله « المولى » في قول الأخطل : فأصبحت مولاها ...
وقوله : لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.
وقول الشاعر : موالي حق يطلبون به.
على « الأولياء » فلا يضرّ ما نحن بصدده ، لأن « الولي » أيضا بمعنى « الأولى » كما صرح به المبرد. ولفظتا « أصبحت » و « بعده » قرينتان تدلان على أن المراد هو « الأولى بالتصرف ».
كما أن الشطر الثاني من البيت ـ وهو كما في ( الشافي ) :
( وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا ) قرينة أخرى على أن المراد من « المولى » هو « الأولى بالتصرف ».
وأمّا قول الشاعر : ( موالي حق يطلبون به ) فشطره الثاني هو : ( فأدركوه وما ملّوا وما تعبوا ) وفيه قرائن على أن المراد من « موالي حق » هم الذين يكونون أولى بحقوقهم.
وأمّا حديث : ( مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله ) فليس مما يستشهد به الامامية ، فذكره هنا عبث.
وأمّا حمل « المولى » في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها ) على « الولي » للرواية المشهورة المفسرة له فلا يضر بالاستشهاد به ، لأن المراد من « الولي » فيه هو « ولي الأمر » كما قال ابن الأثير : « ومنه الحديث : أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل. وفي رواية وليها. أي متولي أمرها ».
وأمّا ذكره الآية المباركة : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) فلا وجه له ، لعدم استشهاد الامامية بها.
فظهر بما ذكرنا بطلان قوله : « فقد تلخص بما قلنا : إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ». والحمد لله رب العالمين.
عود إلى كلام الدهلوي
قوله : « يعني النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم ، لا أن لفظة المولى بمعنى الأولى ».
أقول : عجبا!! إن أبا عبيدة ينص على أن المراد من « المولى » في الآية الكريمة هو « الأولى » ، ثم يستشهد لذلك ببيت لبيد ، ويصرّح بأن « المولى » فيه هو « الأولى » كذلك ، فكيف يقبل من ( الدهلوي ) هذا التحكم والتزوير؟!
ما الدليل على كون الصلة « بالتصرف »؟
قوله : « الثاني : إن كان « المولى » بمعنى « الأولى » فجعل صلته « بالتصرف » في أي لغة؟ ».
أقول : إن أراد ( الدهلوي ) عدم جواز جعل « بالتصرف » صلة لـ « الأولى » فهذا توهم فضيح ، لأن ثبوت مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » كاف للمطلوب ، وجعل « بالتصرف » صلة له هو بحسب القرائن المقامية كما سيجيء إن شاء الله تعالى.
على أن صريح كلام التفتازاني والقوشجي ـ الذي أورده صاحب بحر المذاهب أيضا ـ هو شيوع مجيء « المولى » بمعنى « الأولى بالتصرف » في كلام العرب ، وأن ذلك منقول عن أئمة اللغة.
بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتصرف في الأمر » و « متولي الأمر » و « ولي الأمر » و « المليك » ـ كما ظهر لك كلّ ذلك سابقا ـ يكفينا لاثبات المرام.
مجمل واقعة الغدير
وإن أراد ( الدهلوي ) أنه إن كان « المولى » بمعنى « الأولى » فما الدليل على
كون المراد منه في حديث الغدير هو « الأولوية في التصرف »؟
فيظهر جوابه من النظر فيما وقع يوم غدير خم ، ومجمله ـ كما تفيد روايات القوم ـ أن الله تعالى أوحى إلى رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم بأن يبلّغ الناس بأن عليا عليهالسلام مولاهم ، فخشي صلىاللهعليهوآلهوسلم أن تقع الفتنة بين الناس إن بلغهم ذلك ، فشكى إلى ربه عزّ وجلّ وحدته وقلة أصحابه المخلصين وأن القوم سيكذبونه ، فأوحى الله تعالى إليه : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فنزل صلىاللهعليهوآلهوسلم بغدير خم وليس بالموضع اللائق للنزول ، وكان يوما هاجرا جدّا يستظل الناس فيه بأرديتهم ودوابّهم ، ثم أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم فقمّ ما كان هنالك من شوك وصنع له منبر من أقتاب الإبل ، وكان عدد الحاضرين في ذلك اليوم مائة وعشرين ألف نسمة ، وقد علم الجميع بأن هذا آخر اجتماع لهم من هذا القبيل ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوشك أن يدعى إلى ربه ، فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم ، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان ، فلما اجتمعوا صعد المنبر وأخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون فقال :
يا أيّها الناس! قد نبأني اللطيف الخبير أنه لن يعمّر نبي إلاّ مثل عمر الذي قبله (١) ، وإني أوشك أن أدعى فأجيب ، وإني مسئول وأنتم مسئولون ، فما ذا أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك الله خيرا. قال : ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن جنته حق وناره حق ، وأن الموت حق ، وأن البعث بعد الموت حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا : بلى نشهد بذلك. قال : اللهم اشهد. فقال :
أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى. قال : إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين ، وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنت مولاه فعلي مولاه. ثم
__________________
(١) هذه الجملة وردت في بعض ألفاظ الحديث عند القوم ، وفيها كلام كما لا يخفى.
قال : اللهم وال من والاه وعاد من عاداه ، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه ، وانصر من نصره واخذل من خذله ، وأدر الحق معه حيث دار.
ثم أمر صلىاللهعليهوآلهوسلم بالتمسك بالثقلين الكتاب والعترة ، وذكر أنهما لن يفترقا حتى يردا الحوض.
فلمّا انتهى صلىاللهعليهوآلهوسلم من خطبته نزلت الآية : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي.
ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنين عليهالسلام ، وممن هنّأه في مقدّم الصحابة أزواج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم والشيخان أبو بكر وعمر ، وقال حسان بن ثابت أبياته المعروفة. كما ستعرف ذلك كلّه بالتفصيل.
وبعد ، فلا أظن أن عاقلا يحمل هذه الخطبة المقترنة بهذه الأمور ، على أمر سوى الامامة العظمى والخلافة الكبرى بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وبهذه البحوث التي تراها يتضح لك مدى تعصّب القوم للهوى ومخالفتهم للحق ، حتى أنهم قد يلتجئون إلى الكذب والافتراء ، ويتذرّعون بالشبهات الواهية ويتفوّهون بما لا طائل تحته ، فكأنهم آلوا على أنفسهم جحد الحق وتقوية الباطل مهما كلّف الأمر ... وستتضح لك تلك الحقيقة أكثر فأكثر من خلال البحوث الآتية إن شاء الله تعالى ، والله المستعان.
* * *
من وجوه
دلالة حديث الغدير
(١)
نزول قوله تعالى
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ
من وجوه دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنين عليهالسلام نزول قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) في واقعة يوم غدير خم.
ذكر بعض من روى ذلك
وقد روى ذلك جماعة من كبار أئمة أهل السنة ، ومشاهير أعيان علمائهم ومنهم :
١ ـ ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي.
٢ ـ أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي.
٣ ـ أحمد بن موسى بن مردويه.
٤ ـ أحمد بن محمد الثعلبي.
٥ ـ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني.
٦ ـ أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي.
٧ ـ مسعود بن ناصر السجستاني.
٨ ـ عبد الله بن عبيد الله الحسكاني.
٩ ـ ابن عساكر علي بن الحسن الدمشقي.
١٠ ـ فخر الدين محمد بن عمر الرازي.
١١ ـ محمد بن طلحة النصيبي الشافعي.
١٢ ـ عبد الرزاق بن رزق الله الرسعني.
١٣ ـ حسن بن محمد النيسابوري.
١٤ ـ علي بن شهاب الدين الهمداني.
١٥ ـ علي بن محمد المعروف بابن الصبّاغ المالكي.
١٦ ـ محمود بن أحمد العيني.
١٧ ـ عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.
١٨ ـ محمد محبوب عالم.
١٩ ـ الحاج عبد الوهاب بن محمد.
٢٠ ـ جمال الدين عطاء الله بن فضل الله الشيرازي.
٢١ ـ شهاب الدين أحمد.
٢٢ ـ الميرزا محمد بن معتمد خان البدخشي.
(١)
رواية ابن أبي حاتم
قال جلال الدين السيوطي : « أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال : نزلت هذه الآية : ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب » (١).
__________________
(١) الدر المنثور ٢ / ٢٩٨.
ترجمة ابن أبي حاتم
١ ـ الذهبي : « عبد الرحمن العلامة الحافظ يكنى أبا محمد ، ولد سنة أربعين ومائتين أو إحدى وأربعين. قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم : كان رحمهالله قد كساه الله نورا وبهاء يسر من نظر إليه ... وكان بحرا لا تكدره الدلاء. روى عنه : ابن عدي ، وحسين ابن علي التميمي ، والقاضي يوسف الميانجي ، وأبو الشيخ ابن حيان ، وأبو أحمد الحاكم ، وعلي بن عبد العزيز بن مدرك ... وخلق سواهم.
قال أبو يعلى الخليلي : أخذ أبو محمد علم أبيه وأبي زرعة ، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال ، صنّف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار. قال : وكان زاهدا يعدّ من الأبدال.
وقال الرازي المذكور في ترجمة عبد الرحمن : سمعت علي بن محمد المصري ـ ونحن في جنازة ابن أبي حاتم ـ يقول : قلنسوة عبد الرحمن من السماء ، وما هو بعجب رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق.
وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول : ما رأيت أحدا ممّن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط.
وسمعت عباس بن أحمد يقول : بلغني أن أبا حاتم قال : ومن يقوى على عبادة عبد الرحمن؟ لا أعرف لعبد الرحمن ذنبا.
وسمعت عبد الرحمن يقول : لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ثم كتبت الحديث.
قال الخليلي : يقال إن السنّة بالري ختمت بابن أبي حاتم.
قال الامام أبو الوليد الباجي : عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ ... » (١).
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٣.
٢ ـ الذهبي أيضا : « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد ، شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس ... ولد سنة أربعين ، وارتحل به أبوه ، وأدرك الأسانيد العالية ... قال أبو يعلى الخليلي : أخذ علم أبيه وأبي زرعة ...
قلت : كتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المتقنة في الحفظ ، وكتابه في التفسير عدة مجلّدات ، وله مصنف كبير في الرد على الجهمية يدل على إمامته ... » (١).
٣ ـ جمال الدين الأسنوي : « كان إماما في التفسير والحديث والحفظ ، زاهدا ، أخذ عن أبيه وجماعة ، وروى الكثير ، وصنّف الكتب النفيسة ، منها كتاب في مناقب الشافعي. ذكره ابن الصلاح في طبقاته ولم يؤرخ وفاته. توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. ذكره الذهبي في العبر » (٢).
٤ ـ الأسنوي أيضا : « كان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال زاهدا يعدّ من الأبدال. أخذ عن جماعة من أصحاب الشافعي ، وصنّف في الفقه وغيره كالجرح والتعديل وكتاب العلل ومناقب الشافعي ... » (٣).
٥ ـ ابن قاضي شهبة : « أحد الأئمة في الحديث والتفسير والعبادة والزهد والصلاح ، حافظ ابن حافظ ، أخذ عن أبيه وأبي زرعة ، وصنف الكتب المهمة كالتفسير الجليل المقدار ، عامته في أربع مجلّدات عامته آثار مسندة ... قال يحيى ابن مندة : صنف المصنف في ألف جزء. وتوفي سنة سبع ـ بتقديم السين ـ وعشرين وثلاثمائة. قارب التسعين » (٤).
٦ ـ جلال الدين السيوطي : « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد شيخ
__________________
(١) تذكرة الحفاظ ٣ / ٤٦.
(٢) طبقات الشافعية ١ / ٤١٦.
(٣) نفس المصدر.
(٤) طبقات الشافعية ١ / ١١٢.
الإسلام أبو محمد ... قال الخليلي : أخذ علم أبيه وأبي زرعة ... قال ابن السبكي في الطبقات : حكي أنه لمّا هدم بعض سور طوس احتيج في بنائه إلى ألف دينار ، فقال ابن أبي حاتم لأهل مجلسه الذين كان يلقي إليهم التفسير : من رجل يبني ما هدم من هذا السور وأنا ضامن له عند الله قصرا؟ فقام إليه رجل من العجم فقال : هذه ألف دينار واكتب لي خطّك بالضمان. فكتب له رقعة بذلك وبني ذلك السور.
وقدر موت ذلك الأعجمي ، فلمّا دفن دفنت معه تلك الرقعة ، فجاءت ريح فحملتها ووضعتها في حجر ابن أبي حاتم وقد كتب في ظهرها : قد وفينا بما وعدت ، ولا تعد إلى ذلك.
مات في محرم سنة ٣٢٧ » (١).
٧ ـ البدخشاني : « هو من كبار الحفاظ » (٢).
التزامه في التفسير بأصح ما ورد
ثم إنّه قد ثبت أن ابن أبي حاتم قد التزم في تفسيره بإخراج أصحّ ما ورد في تفسير كلّ آية ، وقد نصّ على ذلك السيوطي في ( اللآلي المصنوعة ) حيث قال بعد حديث : « وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ، وقد التزم أن يخرج فيه أصحّ ما ورد ، ولم يخرج فيه حديثا موضوعا البتّة ».
وقال في ( الإتقان ) بعد أن ذكر تفسير السدي : « ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئا لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد » (٣).
__________________
(١) طبقات الحفاظ : ٣٤٥.
(٢) تراجم الحفاظ ـ مخطوط.
(٣) الإتقان في علوم القرآن ٢ / ١٨٨.
تنبيه
ذكر سيف الله الملتاني في كتابه الذي سماه ( تنبيه السفيه ) في جواب رواية للكشي من أصحابنا طاب ثراه حول زرارة بن أعين : « وأيضا ، في هذه الرواية أن أبا جعفر خاطب زرارة بقوله : فإنّك والله أحبّ الناس إلي ومن أصحاب أبي عليهالسلام إليّ حيّا وميتا ، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام إلى آخره. والحال أنه قد روى ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه ما رأى زرارة أبا جعفر ».
أقول : فكيف تكون رواية ابن أبي حاتم هذه حجة ـ مع أنها عن سفيان الثوري المعلوم حاله ـ ولا تكون روايته في تفسير تلك الآية الكريمة حجة؟ أفيجوز أن يقال بأن رواية ابن أبي حاتم حجة على الإمامية في تكذيب رواية لأحد علمائهم ، أما روايته في فضل أمير المؤمنين عليهالسلام فليست بحجة على أهل السنة؟!
(٢)
رواية أبي بكر الشيرازي
روى نزول الآية المذكورة في غدير خم في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) كما ذكر ابن شهر آشوب طاب ثراه (١) حيث قال في كتاب ( المناقب ) وعنه في ( بحار الأنوار ) :
__________________
(١) توجد ترجمته في :
الوافي بالوفيات ٤ / ١٦٤ مع التصريح بكونه صدوق اللهجة.
البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة : ٢٤٠.
بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة ١ / ١٨١.