نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

استلزام الأفضلية للإمامة

والأفضلية تستلزم الامامة كما بينا ذلك بالتفصيل في ( المنهج الأول ) ، وسنوضحه في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى ... ولكن لا بأس يذكر كلمات بعض أساطين أهل السنة الصريحة في لزوم كون الخليفة أفضل الناس ، وأنه لا يجوز خلافة المفضول مع وجود الأفضل منه في الأمة :

قال ابن تيمية : « أمّا جمهور الناس ففضّلوا عثمان ، وعليه استقرار أهل السنة ، وهو مذهب أهل الدين ومشايخ الزهد والتصوف وأئمة الفقهاء ، كالشافعي وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه ، وهو أصح الروايتين عن مالك وعليها أصحابه. قال مالك : لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها ، وقال الشافعي وغيره : إنه بهذا السبب قصد وإلى المدينة الهاشمي ضرب مالك ، وجعل طلاق المكره سببا ظاهرا ، وهو أيضا مذهب جماهير أهل الكلام : الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة.

وقال أيوب السختياني : من لم يقدّم عثمان على علي فقد أزرى المهاجرين والأنصار ، وهكذا قال أحمد بن حنبل وأبو الحسن الدار قطني وغيرهما. إنهم اتفقوا على تقديم عثمان ، ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدّم عثمان هل يعدّ مبتدعا على قولين ، هما روايتان عن أحمد ، فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد.

فأمّا الطريق التوفيقي فالنص والإجماع ، أمّا النص ففي الصحيحين عن ابن عمر قال : كنا نقول ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حي : أفضل أمة النبي بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان. وأما الإجماع فالنقل الصحيح قد ثبت : إن عمر جعل الأمر شورى في ستة ، وأنّ ثلاثة تركوه لثلاثة : عثمان وعلي وعبد الرحمن ، وأن الثلاثة اتفقوا على أن عبد الرحمن يختار واحدا منهما ، وبقي عبد الرحمن ثلاثة أيام حلف أنه لم ينم فيها كثير نوم يشاور المسلمين ، وقد اجتمع بالمدينة أهل الحلّ والعقد حتى أمراء الأمصار ، وبعد ذلك اتفقوا على مبايعة عثمان بغير رغبة ولا

٣٦١

رهبة ، فيلزم أن يكون هو الأحق ، ومن كان هو الأحق كان هو الأفضل ، فإن أفضل الخلق من كان أحق أن يقوم مقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر.

وإنما قلنا يلزم أن يكون هو الأحق ، لأنه لو لم يكن ذلك للزم إمّا جهلهم وإما ظلمهم ، فإنه إذا لم يكن أحق وكان غيره أحق فإن لم يعلموا ذلك كانوا جهّالا ، وإن علموه وعدلوا عن الأحق إلى غيره كانوا ظلمة ، فتبيّن أن عثمان إن لم يكن أحق لزم إما جهلهم وإما ظلمهم ، وكلاهما منتف ، أمّا أولا فلأنهم أعلم بعثمان وعلي منّا ، وأعلم بما قاله الرسول فيهما منا ، وأعلم بما دلّ عليه القرآن في ذلك منّا ، ولأنهم خير القرون فيمتنع أن نكون نحن أعلم منهم بمثل هذه المسائل ، مع أنهم أحوج إلى علمها منّا ، فإنّهم لو جهلوا مسائل أصول دينهم وعلمنا نحن لكنا أفضل منهم ، وذلك ممتنع.

وكونهم علموا الحق وعدلوا عنه أعظم وأعظم ، فإن ذلك قدح في عدالتهم ، وذلك يمنع أن يكونوا خير القرون بالضرورة ، ولأن القرآن قد أثنى عليهم ثناء يقتضي غاية المدح ، فيمتنع إجماعهم وإصرارهم على الظلم الذي هو ضرر في حق الأمة كلها ، فإن هذا ليس ظلما للممنوع من الولاية بل هو ظلم لكن من منع نفعه عن ولاية الأحق بالولاية ، فإنه إذا كان راعيان أحدهما هو الذي يصلح للرعاية ويكون أحق بها ، كان منعه من رعايتها يعود بنقص الغنم حقها في نفعه ، ولأن القرآن والسنة دلّ على أن هذه الأمة خير الأمم وأن خيرها أوّلوها ، فإن كانوا مصرّين على ذلك لزم أن تكون هذه الأمة شر الأمم ، وأن لا يكون أوّلوها خيرها ، ولأنا نحن نعلم أن المتأخرين ليسوا مثل الصحابة ، فإن كان أولئك ظالمين مصرّين على الظلم ، فالأمة كلّها ظالمة ، فليست خير الأمم.

وقد قيل لابن مسعود لمّا ذهب إلى الكوفة : من وليتم؟ قال : وليّنا أعلانا ذا فوق ولم نأل. وذو الفوق هو السهم ، يعني أعلانا سهما في الإسلام.

فإن قيل : قد يكون عثمان الأحق بالامامة وعلي أفضل منه.

٣٦٢

قيل : أولا هذا السؤال لا يمكن أن يورده أحد من الامامية ، لأن الأفضل عندهم أحق بالإمامة ، وهذا قول الجمهور من أهل السنة. وهنا مقامان : إمّا أن يقال : الأفضل أحق بالإمامة لكن يجوز تولية المفضول إمّا مطلقا وإما للحاجة. وإمّا أن يقال : ليس كل من كان أفضل عند الله يكون هو الأحق بالإمامة. وكلاهما منتف هاهنا.

أمّا الأول فلأن الحاجة إلى تولية المفضول في الاستحقاق كانت منتفية ، فإن القوم كانوا قادرين على تولية علي ، وليس هناك من ينازع أصلا ، ولا يحتاجون إلى رغبة ولا رهبة ، ولم يكن هناك لعثمان شوكة تخاف ، بل التمكن من تولية هذا كان كالتمكن من تولية هذا. فامتنع أن يقال : ما كان يمكن إلاّ تولية المفضول ، وإذا كانوا قادرين ـ وهم يتصرفون للأمة لا لأنفسهم ـ لم يجز لهم تفويت مصلحة الأمة من ولاية الفاضل ، فإن الوكيل والولي المتصرف لغيره ليس له أن يعدل عما هو أصلح لمن ائتمنه ، مع كونه قادرا على تحصيل المصلحة ، فكيف إذ كانت قدرته على الأمرين سواء. وأما الثاني فلأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أفضل الخلق ، وكلّ من كان به أشبه فهو أفضل ممن لم يكن كذلك ، والخلافة كانت خلافة نبوة لم تكن ملكا ، فمن خلف النبي وقام مقام النبي كان أشبه بالنبي ، ومن كان أشبه بالنبي كان أفضل ، فالذي يخلفه أشبه به من غيره ، والأشبه به أفضل ، فالذي يخلفه أفضل » (١).

وقال حسن بن محمد الطيبي بشرح حديث « لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره » قال : « هذا دليل على فضله على جميع الصحابة ، فإذا ثبت هذا ثبت خلافته ، لأن خلافة المفضول مع وجود الفاضل لا تصح » (٢).

وقال علي بن سلطان الهروي القاري : « وأولى ما يستدل به على أفضلية

__________________

(١) منهاج السنة ٤ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) الكاشف ـ شرح المشكاة ـ مخطوط.

٣٦٣

الصديق رضي‌الله‌عنه في مقام التحقيق نصبه صلّى الله عليه وسلّم لامامة الأنام مدة مرضه في الليالي والأيام ، ولذا قال أكابر الصحابة : رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا! ثم إجماع جمهورهم على نصبه للخلافة ومتابعة غيرهم أيضا في آخر أمرهم ، ففي الخلاصة رجلان في الفقه والصلاح سواء ، إلاّ أن أحدهما أقرأ ، فقدّم أهل المسجد الآخر فقد أساؤا ، وكذا لو قلدوا القضاء رجلا وهو من أهله وغيره أفضل منه ، وكذا الوالي. وأمّا الخليفة فليس لهم أن يولوا الخلافة إلاّ أفضلهم ، وهذا في الخلفاء خاصة ، وعليه إجماع الامة » (١).

وقد نص شاه ولي الله الدهلوي على لزوم أفضلية الخليفة ، ولهذا ألف كتاب ( قرة العينين في تفضيل الشيخين ).

دلالة الحديث على الامامة من وجه آخر

ويدل إباء الحارث بن النعمان الفهري عن قبول كون أمير المؤمنين عليه‌السلام « المولى » ـ حتى أنه دعا على نفسه بقوله : اللهم إن كان هذا حقا ... ـ على أن مدلول قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « من كنت مولاه فعلي مولاه » أمر عظيم ومنصب جسيم لم ينله أحد أبدا ، ولو كان المراد من « المولى » هو « الناصر » أو « المحب » أو غير ذلك لما كان يمتنع الحارث عن قبول ذلك ، ولما صعب عليه الخضوع له والإذعان به.

من وجوه دلالته على الامامة تكذيب ابن تيمية إياه

ولما كان حديث نزول الآية الكريمة : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) في شأن الحارث بن النعمان الفهري في واقعة حديث الغدير ، من أوضح الأدلة والبراهين على دلالة حديث الغدير على إمامة أمير

__________________

(١) شرح الفقه الأكبر ١١٣ ـ ١١٤.

٣٦٤

نبيّن مواضع بطلانها :

« الوجه الثالث ـ أن نقول : في نفس هذا الحديث ما يدل على أنه كذب من وجوه كثيرة ، فإنّ فيه أن رسول الله لمّا كان بغدير يدعى خمّا نادى الناس فاجتمعوا ، فأخذ بيد علي وقال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وإن هذا شاع وطار بالبلاد ، وبلغ ذلك النعمان بن الحارث الفهري ، وأنه أتى النبي على ناقة وهو بالأبطح ، وأتى وهو في ملأ من أصحابه ، فذكر أنهم قبلوا أمره بالشهادتين والصلاة والزكاة والصيام والحج ، قال : لم ترض بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضّله علينا وقلت : من كنت مولاه فعلي مولاه ، وهذا منك أو من الله؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : هو من أمر الله ، فولّى الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره فقتله وأنزل الله : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ ) الآية.

فيقال لهؤلاء الكذابين : أجمع الناس على أن ما قاله النبي صلّى الله عليه وسلّم بغدير خم كان حين مرجعه من حجة الوداع ، والشيعة تسلّم هذا وتجعل ذلك اليوم عيدا ، وهو اليوم الثامن عشر من ذي الحجة والنبي بعد ذلك لم يرجع إلى مكة ، بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة ، وعاش تمام ذي الحجة والمحرم والصفر ، وتوفي في أوّل ربيع الأوّل.

وفي هذا الحديث يذكر أنه قال هذا بغدير خم ، وشاع في البلاد ، وجاء الحارث وهو بالأبطح والأبطح بمكة. فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم.

وأيضا : فإنّ هذه السورة ـ سورة سأل سائل ـ مكيّة باتفاق أهل العلم ، نزلت بمكة قبل الهجرة ، فهذه نزلت قبل غدير خم بعشر سنين أو أكثر من ذلك ، المؤمنين عليه‌السلام ، لم يجد ابن تيمية سبيلا إلى الجواب عنه إلاّ تكذيبه ، وهذا وجه آخر يؤكّد دلالة هذا الحديث على المطلوب ، ولنذكر عين عبارة ابن تيمية ثم

٣٦٥

فكيف يكون نزلت بعد ذلك؟

وأيضا فقوله تعالى : ( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) في سورة الأنفال ، وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق ، قبل غدير خم بسنين كثيرة.

وأيضا : فأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي بمكة قبل الهجرة ، كأبي جهل وأمثاله ، وإنّ الله ذكّر نبيه بما كانوا يقولونه ( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) أي أذكر قولهم اللهم. كقوله : ( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ ) ونحو ذلك. فأمر بأن يذكر ما تقدم. فدلّ على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة.

وأيضا : فإنّهم لمّا استحقوا من الله أنه لا ينزل عليهم العذاب ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم فيهم فقال تعالى : ( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ ) قال الله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) واتفق الناس على أن أهل مكة لم ينزل عليهم حجارة من السّماء لما قالوا ذلك.

وأيضا : فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل ، ومثل هذا ما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ، ولو أن الناقل طائفة من أهل العلم ، ولمّا كان هذا لا يرويه أحد من المصنفين في العلم لا المسند ولا الصحيح ولا الفضائل ولا التفسير ولا السير ونحوها ، إلاّ ما يروى بمثل هذا الاسناد المنكر علم أنه كذب باطل.

وأيضا : فقد ذكر في هذا الحديث إن هذا القائل آمن بمباني الإسلام الخمس ، وعلى هذا فقد كان مسلما لأنه قال : فقبلناه منك ، ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي لم يصبه هذا.

وأيضا : فهذا الرجل لا يعرف في الصحابة ، بل هو من جنس الأسماء التي

٣٦٦

تذكرها الطرقية » (١).

فنقول في جوابه : إنّ توهّم بطلان هذا الحديث مندفع بوجوه :

١ ـ الحديث في تفسير الثعلبي

لقد أورد الثعلبي الحديث في تفسيره ، وهذا يدل على صحة هذا الحديث واعتباره ، لما عرفت من جلالة قدر الثعلبي واعتبار تفسيره ( الكشف والبيان ) لدى أئمة أهل السنة وعلمائهم الأعلام.

بل لقد نصّ الثعلبي ـ وهو الثقة الأمين عندهم ـ في خطبة تفسيره المذكور على أنّ تفسيره « كتاب جامع مهذب يعتمد وفي علم القرآن عليه يقتصر » وأنه قد صنفه بعد « سؤال قوم من الفقهاء المبرزين والعلماء المخلصين والرؤساء المحتشمين » وأنه « كتاب شامل كامل مهذب ملخص مفهوم منظوم ، استخرج من زهاء مائة كتاب مجموعات مسموعات سوى ما التقطته من التعليقات والأجزاء ، وتلقفته عن أفواه المشايخ الكبار وهم قريب من ثلاثمائة شيخ » قال : « نسقته بأبلغ ما قدرت عليه من الإيجاز والترتيب ، ولفقته بغاية التنقيب والتهذيب.

وينبغي لكلّ مؤلّف كتابا في فن قد سبق إليه أن لا يعدم كتابه بعض الخلال التي أنا ذاكرها : إما استنباط شيء كان مغفلا ، أو جمعه إن كان متفرقا ، أو شرحه إن كان غامضا ، أو حسن نظم وتأليف أو إسقاط حشو وتطويل. وأرجو أن لا يخلو هذا الكتاب عن هذه الخصال التي ذكرت. والله الموفق لإتمام ما نويت وقصدت ».

٢ ـ من رواته سفيان بن عيينة

إن « سفيان بن عيينة » من مشاهير الأئمة الموثوقين ، والأئمة المعتمدين عند أهل السنّة ، وإليك بعض كلماتهم في توثيقه ومدحه والثناء عليه باختصار :

١ ـ النووي : « سفيان بن عيينة ... روى عنه : الأعمش ، والثوري ،

__________________

(١) منهاج السنة ٤ / ١٣.

٣٦٧

ومسعر وابن جريج ، وشعبة ، وهمام ، ووكيع ، وابن المبارك ، وابن المهدي ، والقطان ، وحماد بن زيد ، وقيس بن الربيع ، والحسن بن صالح ، والشافعي ، وابن وهب ، وأحمد بن حنبل ، وابن المديني ، وابن معين ، وابن راهويه ، والحميدي ، وخلائق لا يحصون من الأئمة. وروى الثوري عن القطان عن ابن عيينة.

واتفقوا على إمامته وجلالته وعظم مرتبته ...

ولد سفيان سنة ١٠٧ وتوفي يوم السبت غرة رجب سنة ١٩٨ » (١).

٢ ـ الذهبي : « العلاّمة الحافظ شيخ الإسلام. كان إماما حجة حافظا واسع العلم كبير القدر ... » (٢).

٣ ـ الذهبي أيضا : « الامام أبو محمّد سفيان بن عيينة الهلالي مولاهم ، الكوفي ، شيخ الحجاز. قال الشافعي : لو لا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز ، وقال ابن وهب : لا أعلم أحدا أعلم بالتفسير منه. وقال أحمد العجلي : كان حديثه نحوا من سبعة آلاف حديث ولم يكن له كتاب.

وكان ثبتا في الحديث. وقال بهز بن أسد : ما رأيت مثل ابن عيينة ، فقيل :

ولا شعبة؟ قال : ولا شعبة. وقال أحمد : ما رأيت أحدا أعلم بالسنن منه » (٣).

٤ ـ الذهبي أيضا : « أحد الأعلام ، ثقة ثبت حافظ إمام » (٤).

٥ ـ اليافعي : « وفي أول رجب منها توفي شيخ الحجاز وأحد الأعلام ، أبو محمّد سفيان بن عيينة الهلالي مولاهم الكوفي ، الحافظ ، نزيل مكة ، وله إحدى وتسعون سنة ، وحج سبعين حجة. قال الشافعي : لو لا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز ، وقال ابن وهب : لا أعلم أحدا أعلم بالتفسير من ابن عيينة. وقال أحمد بن حنبل : ما رأيت أحدا أعلم بالسنن من ابن عيينة. وقال غيرهم من

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٢٢٤.

(٢) تذكرة الحفاظ ١ / ٢٦٢.

(٣) العبر حوادث ١٩٧.

(٤) الكاشف ١ / ٣٧٩.

٣٦٨

العلماء : كان إماما عالما ثبتا ورعا مجمعا على صحة حديثه ... » (١).

٣ ـ الحديث في وسيلة المآل

إن ذكر صحاب كتاب ( وسيلة المآل ) هذا الحديث في كتابه المذكور ، من الوجوه الدالة على اعتباره ، لما سيأتي من التزامه بإيراد الأحاديث المعتبرة من الأحاديث التي صحّحها العلماء في هذا الكتاب.

وبمثل هذا صرح بعض العلماء الآخرين ، الذين رووا هذا الحديث في كتبهم ، كالسمهودي في ( جواهر العقدين ) ، وسبط ابن الجوزي في ( تذكرة الخواص ) ، والزرندي في ( نظم درر السمطين ) ، والشيخاني القادري في ( الصراط السوى ).

٤ ـ السكوت على الحديث بعد نقله دليل القبول

لقد ذكر ( الدهلوي ) في الباب الرابع من كتابه ( التحفة ) أن السكوت على حديث بعد نقله ـ وإن كان عن طريق المخالفين في الاعتقاد ـ دليل على التسليم به وقبوله.

وعلى هذا الأساس ، فلأن نقل هذه الكثرة من العلماء المشاهير من أهل السنة لهذا الحديث وسكوتهم عن الطعن فيه ، دليل على تصحيحهم له وقبولهم إياه ، لا سيما وأنهم يروونه في كتبهم عن طرقهم لا عن طريق المخالفين لهم.

وقد وافق رشيد الدين الدهلوي استاذه ( الدهلوي ) على هذا الذي ذكره ونص عليه.

__________________

(١) مرآة الجنان حوادث سنة ١٨٩.

٣٦٩

الجواب عن شبهات ابن تيمية

وإذ قد عرفت اعتبار حديث نزول الآية : ( سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ ) في حق الحارث بن النعمان في واقعة غدير خم ، وثبت بطلان دعوى ابن تيمية بطلان الحديث المذكور وكذبه ، نشرع في الجواب عن شبهات هذا المتعصب العنيد حول هذا الحديث ودفعها بايجاز :

١ ـ ليس « الأبطح » بمكة فحسب

فأوّل ما قاله ابن تيمية هو إنه : « أجمع الناس على أن ما قاله النبي بغدير خم كان حين مرجعه من حجة الوداع ... والنبي بعد ذلك لم يرجع إلى مكة ، بل رجع من حجة الوداع إلى المدينة ... وفي هذا الحديث يذكر أنه قال هذا بغدير خم وشاع في البلاد ، وجاء الحارث وهو بالأبطح والأبطح بمكة ، فهذا كذب جاهل لم يعلم متى كانت قصة غدير خم ».

وهذا كلام من لم يعلم معنى « الأبطح » فظنّ أنه بمكة فقط ، ولا يقال لغيرها أبطح ، وهذا باطل جدّا ، فليس المراد من الأبطح في هذا الحديث أبطح مكة ، ولا أن الأبطح منحصر بأبطح مكة. بل قال الجوهري : « الأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى ، والجمع الأباطح والبطاح أيضا على غير القياس. قال الأصمعي : يقال بطاح وبطح كما يقال عوام وعوم حكاه أبو عبيدة ، والبطيحة والبطحاء مثل الأبطح ، ومنه بطحاء مكة » (١).

وقال أبو الفتح ناصر بن عبد السيد المطرزي : « البطحاء مسيل ماء فيه رمل وحصى ، ومنها بطحاء مكة : ويقال له الأبطح أيضا ، وهو من الأبطح النبط » (٢).

__________________

(١) الصحاح : بطح.

(٢) المغرب في ترتيب المعرب : بطح.

٣٧٠

وقال الفيروزآبادي : « والبطح ككتف والبطيحة والبطحاء والأبطح : مسيل واسع فيه دقاق الحصى. ج أبطاح وبطاح وبطائح ، وتبطح السيل اتسع في البطحاء. وقريش البطاح الذين ينزلون بين أخشبي مكة » (١).

وقال ابن الأثير : « وفي حديث عمر أنه أوّل من بطح المسجد وقال : ابطحوه من الوادي المبارك ، أي ألقي فيه البطحاء وهو الحصى الصغار ، وبطحاء الوادي وأبطحه حصاه اللين في بطن المسيل ، ومنه الحديث : إنه صلى بالأبطح يعني أبطح مكة مسيل واديها ، ويجمع على البطاح والأباطح ، ومنه قيل : قريش البطاح هم الذين ينزلون أباطح مكة وبطاحها » (٢).

وقال السيوطي : « وأبطح مكة مسيل واديها ، الجمع بطاح وأباطح ، وقريش البطاح الذين ينزلون أباطح مكة » (٣).

وقال الفتني : « صلّى بالأبطح أي مسيل وادي مكة » (٤).

وقال الشيخ حسن البوريني بشرح قول ابن الفارض :

« أسعد أخي وغنّني بحديث من

حل الأباطح إن رعيت إخائي »

قال : « والأباطح جمع الأبطح ، وهو مسيل واسع فيه دقاق الحصى » (٥).

وقال الشيخ عبد الغني النابلسي بشرحه : « كنى بمن حلّ الأباطح عن الروح الذي هو من أمر الله المفتوح منه في الأجسام الانسانية الكاملة العرفان » (٦).

__________________

(١) القاموس المحيط : بطح.

(٢) النهاية الاثيرية : بطح.

(٣) النثير في مختصر النهاية لابن الأثير : بطح.

(٤) مجمع البحار : بطح.

(٥) شرح ديوان ابن الفارض للبوريني.

(٦) شرح ديوان ابن الفارض.

٣٧١

وكذا قال البوريني بشرح قول ابن الفارض :

« يا ساكني البطحاء هل من عودة

أحيى بها يا ساكني البطحاء » (١)

وقوله :

« وإذا وصلت إلى ثنّيات اللوى

فانشد فؤادا بالأبيطح طاحا » (٢)

وقال القاضي أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن محمّد بن مرزوق بشرح قول البوصيري :

« وأحيت السنّة البيضاء دعوته

حتى حكت غرة في الأعصر الدهم

بعارض جاد أو خلت البطاح بها

سيب من اليم أو سيل من العرم »

قال : « والأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى ، والجمع الأباطح والبطاح أيضا على غير قياس ، وبطاح بطح كعوام عوم ، والبطيحة والبطحاء مثل الأبطح ، ومنه بطحاء مكة وبطائح النبط بين العراقين ، وتبطح السيل اتسع في البطحاء » (٣).

وقال سعد الدين التفتازاني : « وقد تحصل الغرابة بتصرف في الاستعارة العامية كما في قوله :

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا

وسالت بأعناق المطي الأباطح

جمع أبطح ، وهو مسيل الماء فيه دقاق الحصى » (٤).

بل لقد استعمل « الأبطح » استعمال اسم الجنس في أشعار العرب

__________________

(١) شرح ديوان ابن الفارض ٢ / ٢٢.

(٢) المصدر ٢ / ٤١.

(٣) الاستيعاب في شرح البردة البوصيرية.

(٤) شرح مختصر تلخيص المفتاح : ١٨٨.

٣٧٢

الجاهلين ، ففي قصيدة عمرو بن كلثوم ـ ( وهي القصيدة الخامسة من القصائد السبع المعلّقات ) ـ :

« يدهدون الرءوس كما تدهدي

حزاورة بأبطحها الكرينا »

قال شارحه الزوزني : « الحزور الغلام الغليظ الشديد ، والجمع الحزاورة.

يقول : يدحرجون رؤس أقرانهم كما يدحرج الغلمان الغلاظ والشداد الكرات في مكان مطمئن ».

وقال بشرح قوله.

« وقد علم القبائل من معد

إذا قبب بأبطحها بنينا »

قال : « يقول : قد علمت قبائل معد إذا بنيت قبابها بمكان أبطح ، والقبب والقباب جمع قبة » (١).

شعر حيص بيص وترجمته

ومن الشواهد شعر حيص بيص في قصة ذكرها ابن خلكان بترجمته ، وهذا نص ما حكاه : « وقال الشيخ نصر الله بن مجلى مشارف الصناعة بالمخزن ـ وكان من ثقات أهل السنة ـ رأيت في المنام علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه فقلت له : يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ثم يتم على ولدك الحسين يوم الطف ما تمّ؟ فقال : أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت : لا. فقال : اسمعها منه.

ثم استيقظت فبادرت إلى دار حيص بيص ، فخرج إليّ ، فذكرت له الرؤيا ، فشهق وأجهش بالبكاء ، وحلف بالله إن كانت خرجت من فمي أو خطي

__________________

(١) شرح المعلقات للزوزني : ١١٣ ـ ١١٤.

٣٧٣

إلى أحد ، وإن كنت نظمتها إلاّ في ليلتي هذه ـ ثم أنشدني :

ملكنا فكان العفو منا سجية

فلمّا ملكتم سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما

غدونا على الأسرى نعفو ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح »

و « حيص بيص » هذا شاعر مشهور ، وفقيه شافعي ، عنونه ابن خلكان بقوله : « أبو الفوارس سعد بن محمّد بن سعد بن الصيفي التميمي ، الملقب شهاب الدين المعروف بحيص بيص ، الشاعر المشهور ، كان فقيها شافعي المذهب ، تفقه بالري على القاضي محمّد بن عبد الكريم الوزان ، وتكلّم في مسائل الخلاف ، إلاّ أنه غلب عليه الأدب ونظم الشعر وأجاد فيه مع جزالة لفظه ، وله رسائل فصيحة بليغة. ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني في كتاب الذيل وأثنى عليه ، وحدّث بشيء من مسموعاته ، وقرأ عليه ديوانه ورسائله ، وأخذ الناس عنه أدبا وفضلا كثيرا ، وكان من أخبر الناس بأشعار العرب واختلاف لغاتهم ...

وكانت وفاته ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة ٥٧٤ ببغداد ... » (١). وذكره أيضا أبو محمّد اليافعي وأثنى عليه كذلك. ثم أورد القصة المذكورة (٢).

وقد أوردها أيضا الشيخ أحمد الخفاجي بترجمة قطب الدين محمّد بن أحمد المكي النهرواني (٣) والمحبي بترجمة عبد الله بن قادر (٤).

وإذ عرفت أن « الأبطح » اسم لمطلق المسيل الذي فيه دقاق الحصى ، وليس

__________________

(١) وفيات الأعيان ٢ / ١٠٦ ـ ١٠٨.

(٢) مرآة الجنان حوادث ٥٧٤.

(٣) ريحانة الأدب ١ / ٤١٤ ـ ٤١٥.

(٤) خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر.

٣٧٤

اسما لمكان خاص بمكة الكريمة ، لم يبق عندك ريب في صحة ما جاء في الحديث المذكور ، وبطل ما أورده ابن تيمية من هذه الناحية ، إذ لا مانع من إطلاق هذا الاسم على بعض الأودية بالمدينة المنورة.

بل لقد كانت في هذه البلدة الطيبة مواضع تسمى بهذا الاسم ، فقد قال نور الدين السمهودي في كتاب ( خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى ) : في بقاعها وآطامها وبعض أعمالها وأعراضها وجبالها : « البطحاء ، يدفع فيها طرف عظم الشامي وما دبر من الصلصلين ، وتدفع هي من بين الجبلين في العقيق » (١) ...

فمن هذه العبارة يعلم أن هناك مكانا مسمى بهذا الاسم في المدينة المنورة وهو معروف به ، وقد علمت سابقا من عبارات اللغويين أن البطحاء والأبطح بمعنى واحد.

كما يتضح ذلك من كلام ابن الحاجب حيث قال : « والصفة نحو عطشي على عطاش ، ونحو حرما على حرامي ، ونحو بطحاء على بطاح » وقال الجاربردي بشرحه : « ثم ذكر الممدود كبطحاء وهي مسيل واسع فيه دقاق الحصى ومنه بطحاء مكة » (٢).

وقال السيوطي بشرح قول الفرزدق :

« تنح عن البطحاء إنّ قديمها

لنا والجبال الراسيات القوارع »

قال : « والبطحاء الموضع الواسع ، وأراد هنا ببطحاء : مكة » (٣).

فظهر أنه لا مانع من إطلاق « الأبطح » على « بطحاء المدينة المنورة ».

وقال السمهودي بعد أن نقل قول أبي عبيدة في بيان العقيق : « وقال غيره : أعلى أودية العقيق النقيع ، وصدور العقيق ما دفع في النقيع من قدس وما أقبل

__________________

(١) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى : ٢٤٦.

(٢) شرح الشافعية ٩٠ ـ ٩١.

(٣) شرح شواهد مغني اللبيب ١ / ١٤.

٣٧٥

من الحرة ويقال له : بطاويح فيصب ذلك في النقيع على أربعة برد من المدينة في يمانيها » (١).

بل هناك في المدينة المنورة موضع اسمه « الأبطح » وبه صرح الحسين بن معين الميبدي بشرح قول أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« يهددني بالعظيم الوليد

فقلت أنا ابن أبي طالب

أنا ابن المجبل بالأبطحين

وبالبيت من سلفي غالب

فلا تحسبني أخاف الوليد

ولا أنني منه بالهائب » (٢)

٢ ـ لا مانع من تكرر نزول الآية

واعترض ابن تيمية على حديث سفيان بن عيينة بأن سورة سأل سائل مكية ، فكيف يقال بأنها نزلت في شأن الحارث بن النعمان في واقعة غدير خم؟! وهو اعتراض باطل جدا ، فإنه لا مانع عن القول بنزول هذه السورة مرتين ، بأن تكون قد نزلت بمكة مرة ، وفي الواقعة المذكورة مرة أخرى ، ولقد ذكر علماء أهل السنة احتمال تكرر النزول بالنسبة إلى آيات كثيرة من القرآن الكريم.

قال جلال الدين السيوطي : « النوع الحادي عشر : ـ ما تكرر نزوله ـ صرّح جماعة من المتقدّمين والمتأخرين بأنّ من القرآن ما تكرر نزوله. قال ابن الحصار : قد يتكرر نزول الآية تذكيرا وموعظة ، وذكر من ذلك خواتيم سورة النحل ، وأول سورة الروم. وذكر ابن كثير منه آية الروح ، وذكر قوم منه الفاتحة ، وذكر بعضهم منه قوله : ( ما كان النبي والذين آمنوا ) الآية.

وقال الزركشي في البرهان : قد ينزل الشيء مرتين ، تعظيما لشأنه وتذكيرا

__________________

(١) خلاصة الوفا بأخبار دار المصطفى : ٢٣٦.

(٢) الفواتح ـ شرح ديوان أمير المؤمنين : ١٩٧.

٣٧٦

عند حدوث سببه خوف نسيانه. ثم ذكر منه آية الروح وقوله : ( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) الآية. قال : فإنّ سورة الأسراء وهود مكيّتان وسبب نزولهما يدل على أنهما نزلا بالمدينة ، ولهذا أشكل ذلك على بعضهم ولا إشكال ، لأنها نزلت مرة بعد مرة. قال : وكذلك ما ورد في سورة الإخلاص من أنها جواب المشركين بمكة ، وجواب لأهل الكتاب بالمدينة ، وكذلك قوله تعالى : ( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) الآية.

قال : والحكمة في هذا كلّه : إنّه قد يحدث سبب من سؤال أو حادثة تقتضي نزول آية ، وقد نزل قبل ذلك ما يتضمنها ، فيوحى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم تلك الآية بعينها تذكيرا لهم بها ، وبأنها تتضمن هذه.

تنبيه : قد يجعل من ذلك الأحرف التي تقرأ على وجهين فأكثر ، ويدل له ما أخرجه مسلم من حديث أبي : إنّ ربي أرسل إليّ أن أقرأ القرآن على حرف ، فرددت إليه أن هوّن على أمتي ، فأرسل إليّ أن اقرأ على حرفين ، فرددت إليه أن هوّن على أمّتي ، فأرسل إليّ أن اقرأه على سبعة أحرف. فهذا الحديث يدل على أن القراآت لم تنزل من أول وهلة ، بل مرة بعد أخرى.

وفي جمال القراء للسخاوي ـ بعد أن حكى القول بنزول الفاتحة مرتين ـ : فإن قيل : فما فائدة نزولها مرة ثانية؟ قلت : يجوز أن يكون نزلت أول مرة على حرف واحد ، ونزلت في الثانية ببقية وجوهها ، نحو ملك ومالك ، والسراط والصراط ، ونحو ذلك انتهى.

تنبيه ـ أنكر بعضهم كون شيء من القرآن تكرر نزوله ، كذا رأيته في كتاب الكفيل بمعاني التنزيل ، وعلّله بأنه تحصيل ما هو حاصل ، لا فائدة فيه. وهو مردود بما تقدم من فوائده ، وبأنه يلزم منه أن يكون كلّما نزل بمكة نزل بالمدينة مرة أخرى ، فإن جبرئيل عليه‌السلام كان يعارضه القرآن كل سنة. وردّ بمنع الملازمة ، وبأنه لا معنى للانزال إلاّ أن جبرئيل كان ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقرآن لم يكن نزل به من قبل فيقرؤه إياه. وردّ منع اشتراط قوله لم يكن

٣٧٧

نزل به من قبل » (١).

وقد بحث السيوطي عن هذا الموضوع في مقام ذكر تعدد أسباب النزول حيث قال : « الحال السادس : أن لا يمكن ذلك فيحمل على تعدّد النزول وتكرّره ... » (٢).

٣ ـ ما ذكره ابن تيمية حول آية : ( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ ... )

ومن العجيب قول ابن تيمية بعد ما تقدم : « وأيضا فقوله تعالى : ( وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ) في سورة الأنفال ، وقد نزلت عقيب بدر بالاتفاق قبل غدير خم بسنين كثيرة ، وأيضا ، فأهل التفسير متفقون على أنها نزلت بسبب ما قاله المشركون للنبي بمكة قبل الهجرة كأبي جهل وأمثاله ... فدل على أن هذا القول كان قبل نزول هذه السورة ».

فإنّه ليس في حديث سفيان بن عيينة ذكر لنزول هذه الآية المباركة في واقعة غدير خم ... فهذا كلام من لا يعقل ما يقول.

٤ ـ قوله تعالى : ( وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ ). لا ينفي العقاب على الإطلاق.

ثم قال ابن تيمية : « وأيضا ، فإنهم لمّا استحقوا من الله أن لا ينزل عليهم العذاب ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم فيهم فقال تعالى : ( إِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ ... وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ... ).

والجواب : إن تلك الآية الشريفة لا تنفي تعذيبهم على الإطلاق ، فلقد وقع العذاب عليهم بنصّ الكتاب والروايات ، وقد قال تعالى بعد هذه الآية

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن ١ / ٣٥.

(٢) الإتقان ١ / ٣٣.

٣٧٨

نفسها : ( وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ) فلو كانت تلك الآية الكريمة دالة على رفع العذاب على الإطلاق ، للزم التناقض بينها وبين هذه الآية المتصلة بها.

ومن هنا قال الرازي : « واعلم أنه تعالى بيّن في الآية الأولى أنه لا يعذّبهم ما دام الرسول فيهم. وذكر في هذه الآية أنه يعذّبهم. وكأن المعنى أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم. ثم اختلفوا في هذا العذاب فقال بعضهم : لحقهم هذا العذاب المتوعد به يوم بدر ، وقيل بل يوم فتح مكة » (١).

٥ ـ بطلان جعل هذه الآية من جنس آية أصحاب الفيل

ثم قال : « وأيضا ، فلو كان هذا آية لكان من جنس آية أصحاب الفيل ، ومثل هذا ما تتوافر الهمم والدواعي على نقله ... » وهذا قياس فاسد ، إذ كيف يقاس تعذيب رجل واحد بتعذيب جماعة كبيرة جاءت لهدم الكعبة وإبادة خدّامها ومن حولها؟! إن تلك الواقعة مما تتوافر الهمم على نقله ، بخلاف واقعة تعذيب رجل واحد ، فإنّ توفر الدواعي على نقله ممنوع ، وإلاّ لزم بطلان جميع المعاجز النبوية التي لم تنقل إلينا بالتواتر.

وأيضا ، لقد كانت الدواعي متوفرة على إخفاء قصة الحارث بن النعمان ، بخلاف قصة أصحاب الفيل. فانقطع القال والقيل.

٦ ـ بطلان دعوى دلالة الحديث على إسلام الحارث

وأما قوله : « وأيضا ، فقد ذكر في هذا الحديث إن هذا القائل آمن بمباني الإسلام الخمس ، وعلى هذا فقد كان مسلما لأنه قال : فقبلناه منك ومن المعلوم

__________________

(١) تفسير الرازي ١٥ / ١٥٩.

٣٧٩

بالضرورة أن أحدا من المسلمين على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصبه هذا ». فمن طرائف الخزعبلات.

أمّا أوّلا : فلأن هذا الحديث كما يتضمن قبول الحارث للمباني المذكورة كذلك يتضمن كفره وارتداده بقوله : أللهم إن كان ما يقوله محمّد حقا ...

وأما ثانيا فلو سلّمنا كونه مسلما ، فمن أين دعوى العلم الضروري بأن أحدا من المسلمين على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يصبه هذا؟

٧ ـ الحارث بن النعمان من الصحابة

ثم انتهى ابن تيمية إلى القول بأن « هذا الرجل لا يعرف في الصحابة بل هو من جنس الأسماء التي تذكرها الطرقيّة » وهذا الكلام باطل أيضا.

فأوّل ما يبطله كلام نفسه ، إذ ذكر أن الحارث آمن بمباني الإسلام الخمس ثم قال : « وعلى هذا فقد كان مسلما ... » فهو إذن من الصحابة المسلمين عند ابن تيمية.

وثانيا : لقد قلنا سابقا إن هذا الحديث يدل على ارتداد الحارث وكفره ، وهو بذلك يخرج من عداد الصحابة ، لأن من شرائط الصحابي موته على الإسلام ، ومن خرج عن الإسلام لا يعدّ في الصحابة البتة ، ولا يذكره المصنفون في الصحابة أبدا.

وثالثا : ولو وافقنا ابن تيمية جدلا وقلنا بعدم خروج الحارث عن الإسلام ومن عداد صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما تفوه به ، فما الدليل على حصر المصنفين واستقصائهم لأسماء جميع الصحابة في كتبهم؟ بل الأمر على العكس من ذلك ، فإنهم قد نصّوا على أنهم لم يتمكنوا من الوقوف على العشر من أسامي الصحابة ، وإليك نصّ عبارة ابن حجر العسقلاني في خطبة ( الاصابة ) :

« أما بعد ، فإنّ من أشرف العلوم الدينية علم الحديث النبوي ، ومن أجلّ معارفه تمييز أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ممن خلف بعدهم. وقد جمع

٣٨٠