نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

وجوه إبطال النقض بلزوم

استعمال ( مولى منك ) في موضع ( أولى منك )

١٤١
١٤٢

قوله :

« قائلين بأنه لو صح هذا القول لزم جواز أن يقال « مولى منك » في موضع « أولى منك » ، وهو باطل منكر بالإجماع ».

أقول :

هذا الكلام باطل من وجوه :

١ ـ نسبته إلى الجمهور كذب

فأوّل ما فيه : إن نسبة هذا النقض إلى جمهور أهل العربية كاذبة ، فالله حسيب ( الدهلوي ) على هذه الأكاذيب الفاضحة والدعاوي الباطلة.

٢ ـ الأصل فيه هو الرازي

بل الأصل في هذا الكلام الباطل هو الرازي وأتباعه ، الذين لا يد لهم في علم العربية ولا نصيب ، ولو كان لهم أدنى مناسبة بذلك لما تفوّهوا به ، ولذا أعرض عنه الكابلي ، فلم يذكره ولم يورّط نفسه.

١٤٣

ثمّ إنّ هذه الشبهة مذكورة مع جوابها في أوائل الكتب التي يدرسها المبتدئون مثل ( سلّم الثبوت ) و ( شروحه ) ، ولكن ( الدهلوي ) قد غفل عن ذلك لشدة انهماكه في الخرافات ، وسعيه وراء إنكار الحقائق بالشبهات.

٣ ـ نص كلام الرازي

ولمّا كان كلام ( الدهلوي ) هذا ملخصّا لكلام الفخر الرازي فإنّا نورد نص عبارة الرازي في ( نهاية العقول ) في هذا المقام ، ثم نشرع في استيصال شبهاته بالتفصيل ، فيكون كلام ( الدهلوي ) هباء منثورا ، وهذه عبارة الرازي بعينها :

« ثانيهما : إن ( المولى ) لو كان يجيء بمعنى ( الأولى ) لصح أن يقرن بأحدهما كل ما يصح قرنه بالآخر ، لكنه ليس كذلك ، فامتنع كون المولى بمعنى الأولى.

بيان الشرطية : إن تصرف الواضع ليس إلاّ في وضع الألفاظ المفردة للمعاني المفردة ، فأما ضمّ بعض تلك الألفاظ إلى البعض ـ بعد صيرورة كلّ واحد منها موضوعا لمعناه المفرد ـ فذلك عقلي. مثلا إذا قلنا « الإنسان حيوان » فإفادة لفظة « الإنسان » للحقيقة المخصوصة بالوضع ، وإفادة لفظ « الحيوان » للحقيقة المخصوصة أيضا بالوضع. فأمّا نسبة الحيوان إلى الإنسان بعد المساعدة على كون كل واحد من هاتين اللفظتين موضوعة للمعنى المخصوص ، فذلك بالعقل لا بالوضع.

وإذا ثبت ذلك فلفظة « الأولى » إذا كانت موضوعة لمعنى ، ولفظة « من » موضوعة لمعنى آخر ، فصحة دخول أحدهما على الآخر لا يكون بالوضع بل بالعقل.

وإذا ثبت ذلك فلو كان المفهوم من لفظة « الأولى » بتمامه من غير زيادة ولا نقصان هو المفهوم من لفظة « المولى » ، والعقل حكم بصحة اقتران المفهوم من لفظة « من » بالمفهوم من لفظة « الأولى » ، وجب صحة اقترانه أيضا بالمفهوم من لفظة « المولى » ، لأن صحة ذلك الاقتران ليست بين اللفظتين بل بين مفهوميهما.

١٤٤

بيان أنّه ليس كلّما يصح دخوله على أحدهما صح دخوله على الآخر أنه لا يقال : « هو مولى من فلان » كما يقال : « هو أولى من فلان » ، ويصح أن يقال : « هو مولى » و « هما موليان » ولا يصح أن يقال : « هو أولى » بدون « من » و « هما أوليان ». وتقول : « هو مولى الرجل » و « مولى زيد » ولا تقول : « هو أولى الرجل » ولا « أولى زيد » ، ولا تقول : « هما أولى رجلين » و « هم أولى رجال » ، ولا تقول : « هما مولى رجلين » ولا « هم مولى رجال » ، ويقال : « هو مولاه ومولاك » ولا يقال : « هو أولاه وأولاك ».

لا يقال : أليس يقال « ما أولاه »؟ لأنا نقول : ذاك أفعل التعجب ، لا أفعل التفضيل. على أن ذاك فعل وهذا اسم ، الضّمير هناك منصوب وهنا مجرور.

فثبت بهذين الوجهين أنه لا يجوز حمل المولى على ( الأولى ).

وهذا الوجه فيه نظر مذكور في الأصول ».

٤ ـ الرد على كلام الرازي بالتفصيل

وكلام الرازي هذا يشتمل على مكابرات وأباطيل كثيرة ، نوضّحها فيما يلي بالتفصيل :

(١) قوله : « إن تصرف الواضع ليس إلاّ في وضع الألفاظ المفردة للمعاني المفردة ، فأما ضمّ بعض تلك الألفاظ إلى البعض ـ بعد صيرورة كل واحد منهما موضوعا لمعناه المفرد ـ فذلك أمر عقلي » ادّعاء محض ولم يذكر له دليلا.

(٢) قوله : « مثلا ـ إذا قلنا الإنسان حيوان ... » فرار من ذكر الدليل على الدعوى ، ومن الواضح أن ذكر المثال يكون بعد الدليل ، ولا يغني التمثيل عن الدليل بحال من الأحوال.

(٣) قوله : « فأما نسبة الحيوان إلى الإنسان بعد المساعدة على كون كل واحد من هاتين اللفظتين موضوعة للمعنى المخصوص فذلك بالعقل لا بالوضع » خبط وذهول ، إذ الكلام في ضمّ بعض الألفاظ المفردة إلى البعض الآخر ، كما هو

١٤٥

صريح كلامه سابقا حيث قال : « فأمّا ضمّ بعض تلك الألفاظ إلى البعض بعد صيرورة كل واحد منهما موضوعا لمعناه المفرد فذلك أمر عقلي ». ومن المعلوم أن ضمّ بعض الألفاظ إلى البعض عبارة عن التركيب بين الألفاظ بحسب القواعد في ذلك اللسان ، كضم الفعل إلى الفاعل ، والمضاف إلى المضاف اليه ، والمبتدأ إلى الخبر ... وهكذا ... وضمّ بعض الألفاظ إلى البعض هو بحسب الاستعمال والنطق ، وأنا نسبة الحيوان إلى الإنسان فهو بحسب التصور والتعقل ، فالتمثيل بهذا المثال لذاك المعنى تهافت وذهول ، لأن كلامنا في صحة اقتران لفظ بلفظ في الاستعمال ، وليس الكلام في نسبة المفاهيم والمصاديق ، وكون الأول من الأمور المنقولة والثاني من الأمور المعقولة غير مخفي على أحد ، كما لا يخفى بطلان قياس أحدهما على الآخر.

(٤) قوله : « وإذا ثبت ذلك فلفظة ... ».

ما الذي ثبت؟! الذي ذكره أمران ، أحدهما ادعاء ، والآخر تمثيل ، فأما الدعوى المحضة فلا تثبت أمرا ، وأما التمثيل فكذلك إن كان مطابقا للممثل له ، فكيف بهذا المثال الذي ذكره ، البعيد عن الممثل له غاية البعد؟!

(٥) إن قياس معنى « من » على معنى « الإنسان » و « الحيوان » من البطلان بمكان ، لأن كلا من اللفظتين مستقلّة بالمفهومية ، بخلاف « من » فإنّ معناها غير مستقل ، ولا مناسبة بين المستقل وغير المستقل.

(٦) « فصحة دخول أحدهما على الآخر لا يكون بالوضع بل بالعقل » من غرائب المجازفات وعجائب التقوّلات ، لا تجده في أبسط كتاب من كتب النحو ، ولا يتفوّه به أحد من أصاغر الطلبة ، ولو صح ما ذكره لبطل الكثير من القواعد النحوية ، ووقع الاختلال العظيم في المحاورات العرفية ...

إنه يجب حذف الخبر في مواضع ذكرها النحويون ... قال الشيخ ابن الحاجب في ( الكافية ) : « وقد يحذف المبتدأ لقيام قرينة جوازا كقول المستهل :

١٤٦

الهلال والله. والخبر جوازا مثل : خرجت فإذا السبع. ووجوبا فيما التزم في موضعه غيره مثل : لو لا زيد لهلك عمر ، ومثل : ضربي زيدا قائما ، ومثل : كل رجل وضيعته ، ومثل : لعمرك لأفعلنّ كذا ».

ولو كان ضم بعض الألفاظ إلى بعض بالعقل لا بالوضع ، لم يكن وجه لوجوب حذف الخبر في هذه المواضع الأربعة ، لعدم لزوم أي استحالة عقلية من ذكره فيها.

ويجب حذف فعل المفعول المطلق سماعا وقياسا ، قال ابن الحاجب : « وقد يحذف الفعل لقيام قرينة جوازا ، كقولك لمن قدم : خير مقدم. ووجوبا سماعا نحو : سقيا ورعيا ، وخيبة وجدعا ، وحمدا وشكرا ، وعجبا. وقياسا في مواضع ، منها : ما وقع مثبتا بعد نفي أو معنى نفي داخل على اسم لا يكون خبرا عنه ، أو وقع مكررا نحو : ما أنت إلاّ سيرا ، وما أنت إلاّ سير البريد ، وإنما أنت سيرا ، وزيد سيرا سيرا. ومنها : ما وقع تفصيلا لأثر مضمون جملة متقدمة مثل ( فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً ) ومنها : ما وقع للتشبيه علاجا بعد جملة مشتملة على اسم بمعناه وصاحبه مثل : مررت به فإذا له صوت صوت حمار وصراخ صراخ الثكلى. ومنها : ما وقع مضمون جملة لا محتمل لها غيره نحو : له عليّ ألف درهم اعترافا ، ويسمى تأكيدا لنفسه. ومنها : ما وقع مضمون جملة لها محتمل غيره مثل : زيد قائم حقا ويسمى تأكيدا لغيره. ومنها : ما وقع مثنى مثل لبيك وسعديك ».

ولو كان ضمّ بعض الألفاظ إلى بعض والتركيب بينها بالعقل لا بالوضع ، لم يمتنع ذكر الفعل في هذه المواضع ، لعدم لزوم أي استحالة عقلية من ذلك.

وقد يجب حذف الفعل العامل في المفعول به ، قال ابن الحاجب : « وقد يحذف الفعل لقيام قرينة جوازا نحو : زيدا لمن قال : من أضرب؟ ووجوبا في أربعة مواضع : الأول سماعي نحو : أمرا ونفسه. و ( انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ) وأهلا وسهلا ... ». ولو كان التركيب بين الألفاظ دائرا مدار حكم العقل لجاز ذكر الفعل في هذه المواضع.

١٤٧

وقال السيوطي : « الأصول المرفوضة ، منها : جملة الاستقرار الذي يتعلق به الظرف الواقع خبرا. قال ابن يعيش : حذف الخبر الذي هو استقر ومستقر ، وأقيم الظرف مقامه وصار الظرف هو الخبر ، والمعاملة معه ، ونقل الضمير الذي كان في الاستقرار إلى الظرف ، وصار مرتفعا بالظرف ، كما كان مرتفعا بالاستقرار ، ثم حذف الاستقرار وصار أصلا مرفوضا ، لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه بالظرف.

ومنها : خبر المبتدأ الواقع بعد لو لا ، نحو : لو لا زيد لخرج عمر ، وتقديره لو لا زيد حاضرا. قال ابن يعيش : ارتبطت الجملتان ، وصارتا كالجملة الواحدة ، وحذف خبر المبتدأ من الجملة الأولى ، لكثرة الاستعمال ، حتى رفض ظهوره ولم يجز استعماله.

ومنها : قولهم افعل هذا أمّا لا. قال ابن يعيش : ومعناه : إنّ رجلا أمر بأشياء يفعلها فتوقف في فعلها فقيل له : افعل هذا إن كنت لا تفعل الجميع ، وزادوا على إن ما وحذف الفعل وما يتصل به ، وكثر حتى صار الأصل مهجورا.

ومنها : قال ابن يعيش : بنو تميم لا يجيزون ظهور خبر لا المثبتة ويقولون هو من الأصول المرفوضة. وقال الأستاذ أبو الحسن بن أبي الربيع في شرح الإيضاح : الإخبار عن سبحان الله يصح كما يصح الإخبار عن البراءة من السوء ، لكن العرب رفضت ذلك ، كما أن « مذاكير » جمع لمفرد لم ينطق به ، وكذلك « لييلية » تصغير لشيء لم ينطق به ، و « أصيلان » تصغير لشيء لم ينطق به ، وإن كان أصله أن ينطق به ، وكذلك « سبحان » إذا نظرت إلى معناه وجدت الإخبار عنه صحيحا ، لكنّ العرب رفضت ذلك ، وكذلك « لكاع ولكع » وجميع الأسماء التي لا تستعمل إلاّ في النداء ، إذا رجعت إلى معانيها وجدت الإخبار ممكنا فيها ، بدليل الإخبار عمّا هي في معناه ، لكن العرب رفضت ذلك.

وقال أيضا في قولك زيدا أضربه : ضعف فيه الرفع على الابتداء ، والمختار النصب ، وفيه إشكال من جهة الإسناد ، لأن حقيقة المسند والمسند إليه ما لا يستقل الكلام بأحدهما دون صاحبه ، واضرب ونحوه يستقل به الكلام وحده ،

١٤٨

ولا تقدر هنا أن تقدر مفردا تكون هذه الجملة في موضعه ، كما قدرت في زيد ضربته. فان قلت : فكيف جاء هذا مرفوعا وأنت لا تقدر على مفرد يعطي هذا المعنى؟ قلت : جاء على تقدير شيء رفض ولم ينطق به ، واستغنى عنه بهذا الذي وضع مكانه ، وهذا وإن كان الأصل فيه بعد إذا أنت تدبّرته وجدت له نظائر ، ألا ترى أن « قام » أجمع النحويون على أن أصله قوم ، وهذا ما سمع قط فيه ولا في نظيره فكذلك زيد أضربه كأن أضربه وضع موضع مفرد مسند إلى زيد على معنى الأمر ، ولم ينطق قط به ويكون كقام.

وقال أيضا : مصدر عسى لا يستعمل وإن كان الأصل لأنه أصل مرفوض » (١).

أقول : وهذا القدر كاف للرد على ما ادعاه الرازي وارتضاه أتباعه.

(٧) قوله : « وإذا ثبت فلفظة « الأولى » إذا كانت موضوعة لمعنى ولفظة « من » موضوعة لمعنى آخر ، فصحة دخول أحدهما على الآخر لا يكون بالوضع بل بالعقل ». واضح البطلان ، لأن اقتران « من » بـ « الأولى » مأخوذ من النقل والسماع ، وإلاّ لجاز اقتران غيره من الحروف مثل « عن » و « على » و « إلى » و « في ». فأيّ مانع عقلا من أن يقال : « زيد أولى من عمرو » أو يقال : « زيد أولى على عمرو »؟

وممّا يؤيّد ما ذكرنا من كون اقتران « من » بـ « أولى » مأخوذا من الاستعمال والوضع كلام الشيخ خالد الأزهري في أحكام أفعل التفضيل وهذا نصه :

« والحكم الثاني فيما بعد أفعل : أن تؤتي « من » الجارة للمفضول كما تقدّم من الأمثلة ، وهي عند المبرد وسيبويه لابتداء الارتفاع في نحو أفضل منه وابتداء الانحطاط في نحو شرّ منه. واعترضه ابن مالك بأنها لا تقع بعدها « إلى » واختار أنها للمجاوزة ، فإنّ معنى زيد أفضل من عمرو : جاوز زيد عمرا في الفضل. واعترضه في المغني : بأنها لو كانت للمجاوزة لصح في موضعها « عن ». ودفع بأن

__________________

(١) الأشباه والنظائر ١ / ٧٠ ـ ٧١.

١٤٩

صحة وقوع المرادف موقع مرادفه إنما يكون إذا لم يمنع من ذلك مانع ، وهاهنا منع مانع وهو الاستعمال ، فإن اسم التفضيل لا يصاحب من حروف الجر إلاّ « من » خاصة » (١).

(٨) لقد نصّ المحقّقون من أهل اللغة والنحو على عدم جواز تركيب مّا في لغة ، من غير أن يسمع لذلك التركيب نظائر ، قال السيوطي : « قال أبو حيان في شرح التسهيل : العجب ممن يجيز تركيبا مّا في لغة من اللغات من غير أن يسمع من ذلك التركيب نظائر. وهل التراكيب العربية إلاّ كالمفردات العربية؟ فكما لا يجوز إحداث لفظ مفرد كذلك لا يجوز في التراكيب ، لأن جميع ذلك أمور وضعيّة ، والأمور الوضعيّة تحتاج إلى سماع من أهل ذلك اللسان ، والفرق بين علم النحو وبين علم اللغة : أن علم النحو موضوعه أمور كليّة ، وموضوع علم اللغة أشياء جزئية ، وقد اشتركا معا في الوضع » (٢).

وقد نقل السيوطي هذا عن القرافي ونقل عن غيره أنه عزاه إلى الجمهور.

قلت : وعلى هذا فكيف يجوز القول بأن اقتران لفظ بلفظ آخر يكون بالعقل فقط؟

(٩) قوله : « وإذا ثبت ذلك ... ».

قلت : أي شيء ثبت؟ إنه لم يسبق هذا إلاّ قوله : « فصحة دخول أحدهما على الآخر لا يكون بالوضع بل بالعقل » وقد عرفت أنه ادعاء محض ، بل عرفت بطلانه.

(١٠) قوله : « وجب صحة اقترانه أيضا بالمفهوم من لفظة « المولى » ، لأن صحة ذلك الاقتران ليس بين اللفظتين بل بين مفهوميهما ».

أقول : هذا الكلام يناقض ما تقدّم منه ، لأنه قد ادعى أنه لو كان ( المولى )

__________________

(١) التصريح في شرح التوضيح. مبحث أفعل التفضيل.

(٢) المزهر ١ / ٢٨.

١٥٠

بمعنى ( الأولى ) لزم صحة أن يقال « فلان مولى من فلان » ، لكنه بهذا الكلام ينفي ذاك اللزوم ، لأنه يقول بأن الاقتران ليس بين اللفظتين ، بل إن مفهوم قوله : « بل بين مفهوميهما » هو أن الاقتران ليس إلاّ بين المفهومين ، مع أن مورد الإلزام في كلامه السابق وأصل الدعوى هو الاقتران بين اللفظين ، فقد قال سابقا : « وثانيهما : إنّ « المولى » لو كان يجيء بمعنى « الأولى » لصحّ أن يقترن بأحدهما كلّ ما يصح قرنه بالآخر » بل ذلك هو صريح الجملة الأخرى من كلامه وهي قوله : « فأمّا ضمّ بعض تلك الألفاظ إلى البعض » وهكذا قوله : فلفظة « الأولى » إذا كانت موضوعة لمعنى ولفظة من ... » ، وهو أيضا صريح الجملة اللاحقة من كلامه : « .... لا يقال : هو مولى من فلان ، كما يقال هو أولى من فلان ».

فظهر بطلان قوله : « لأن صحة ذلك الاقتران ليس بين اللفظتين بل بين مفهوميهما » من كلامه نفسه سابقا ولا حقا.

ثم إنّه لم يوضّح مراده من أن الاقتران بين المفهومين لا بين اللفظتين ، وأيّ نفع له في هذا الكلام الفارغ؟ أو أيّ ضرر على خصمه فيه؟!

وصول الكلام إلى النقض الذي أخذه ( الدهلوي )

وأما قوله : « بيان أنّه ليس كلما يصح دخوله على أحدهما يصح دخوله على الآخر ... » ففيه : أنّه أوّل دليل ذكره على هذه الدعوى قوله : « إنه لا يقال هو مولى من فلان كما يقال هو أولى من فلان » ولم يدخل في هذا المثال « من » على « الأولى » ، كما لا يدلّ على عدم جواز دخولها على « المولى » ، بل إنّ « من » فيه متأخرة عن « الأولى ».

وأما قوله : « لا يقال : هو مولى من فلان ، كما يقال هو أولى من فلان » فهذا ما ذكره ( الدهلوي ) هنا ، ونحن وإن بينّا فساد مقدمات هذا الاستدلال ـ المستلزم لفساده ـ نذكر وجوها على بطلانه استنادا إلى كلمات الرازي وكبار محققي علماء اللغة والنحو من مشاهير أهل السنة :

١٥١

١ ـ إن كان الاقتران بالعقل فلا مانع

لقد ذكر الفخر الرازي أنّ صحة اقتران لفظ بلفظ هو بالعقل لا بالوضع ، وعلى هذا الأساس فلا مانع من أن يقال : « هو مولى من فلان » كما يقال « هو أولى من فلان ».

٢ ـ جواب شارحي المقاصد والتجريد عن النقض

لقد أجاب شارح المقاصد وشارح التجريد عن هذه الشبهة بأنّ ( المولى ) اسم بمعنى ( الأولى ) ، لا أنه وصف بمنزلته حتى يعترض بعدم كون ( المولى ) من صيغ اسم التفضيل ، وأنه لا يستعمل استعماله.

وقد تقدّم نصّ عبارتهما سابقا ، كما أورد صاحب ( بحر المذاهب ) عبارة شارح التجريد للردّ على توهّم صاحب المواقف وشارحها.

٣ ـ بقاء ( المولى ) على معناه الأصلي عند جماعة

وقال الزمخشري والبيضاوي والخفاجي وغيرهم ببقاء ( المولى ) الوارد بمعنى ( الأولى ) على أصله وهو الظرفيّة ، وعليه ، فلا يلزم أن يكون استعمال ( المولى ) مثل استعمال ( الأولى ) وان كان بمعناه ، حتى لو ثبت جواز إقامة المرادف مقام مرادفه ، لأن جواز ذلك مشروط بعدم إرادة معنى الظرفية من ( المولى ) ، مثلا : « مئنة » ظرف مأخوذ من « أنّ » يقال : « فلان مئنة للكرم » والجار والمجرور يتعلّق به ، كما يقال « البلد الفلاني مجمع للعلماء » لكن لا يجوز استعماله مثل استعمال « إنه لكريم » ، فلا يقال : « زيد مئنة لكريم » مع أنه و « إن زيدا لكريم » بمعنى واحد.

٤ ـ بطلان النقض من كلام ( الدهلوي ).

لقد أبطل ( الدهلوي ) كلمات الرازي هذه بنفسه من حيث لا يشعر ، فقد

١٥٢

ذكر بجواب الاستدلال بجملة « ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم » بأنّ « الأولى » هنا مشتقة من « الولاية » بمعنى المحبة ، يعني : ألست أحب إلى المؤمنين من أنفسهم ... فنقول : إن معنى هذا الكلام كون « الأولى » مرادفا « للأحب » ، مع أن استعمال اللفظتين ليس واحدا ، لأن صلة « أولى » هي « الباء » كما في هذا الكلام النبوي في هذا الحديث الشريف ، وصلة « أحب » هي « إلى » كما قال ( الدهلوي ) نفسه.

فلو كان من اللازم اتحاد المترادفين في الاستعمال للزم جواز أن يقوم « أولى إليه » مقام « أحبّ اليه » في كل كلام ، وهو غير مسموع ... إذن ... كما أن عدم اقتران « إلى » مع « أولى » ليس بقادح في مجيئه بمعنى « الأحبّ » كما يدعي ( الدهلوي ) ، فكذلك لا يقدح عدم اقتران « من » بـ « المولى » في كون « المولى » بمعنى « الأولى ».

٥ ـ بطلان النقض من كلام الرازي

لقد عدل الفخر الرازي عن لجاجه ورجع إلى صوابه في كتاب ( المحصول ) وقبل الحق الحقيق بالقبول ، فقد قال جلال الدين المحلّي « والحق وقوع كلّ من الرديفين أي اللفظين المتّحدي المعنى مكان الآخر ، إن لم يكن تعبّد بلفظه ، أي يصح ذلك في كلّ رديفين بأن يؤتى بكل منهما مكان الآخر في الكلام ، إذ لا مانع من ذلك ، خلافا للإمام الرازي في نفيه ذلك مطلقا ، أي من لغتين أو لغة ، قال : لأنك لو أتيت مكان من في قولك مثلا : خرجت من الدار بمرادفها بالفارسية أي « أز » بفتح الهمزة وسكون الزاي ، لم يستقم الكلام ، لأن ضم لغة إلى أخرى بمثابة ضم مهمل إلى مستعمل. قال : وإذا عقل ذلك في لغتين فلم لا يجوز مثله في لغة. أي لا مانع من ذلك. وقال : إن القول الأول أي الجواز الأظهر في أول النظر والثاني الحق ».

وإن هذا الرأي من الرازي مذكور في كتاب سلّم العلوم وشروحه.

١٥٣

لكن من دأب المتعصب العنيد أن يخالف الحق مكابرة ، وينكره لغرض إبطال استدلال خصمه!!

٦ ـ اعتراف الرازي بأنّ هذا الوجه فيه نظر

لقد ذكر الرازي في آخر كلامه الذي شحنه بالأباطيل بأنّ « هذا الوجه فيه نظر مذكور في الأصول » يعني أن الحق ما ذهب إليه في المحصول من منع القول بلزوم وقوع أحد المترادفين مقام الآخر.

أقول : فإذا كان هذا الوجه مردودا ، فأيّ وجه لذكره مع هذا التطويل؟

والأغرب من ذلك استحسان الاصفهاني والإيجي والشريف الجرجاني وابن حجر المكي والبرزنجي والسهارنفوري الوجه المردود مع عدم تعرضهم لكونه مردودا منظورا فيه كما اعترف الرازي نفسه!! ثم جاء ( الدهلوي ) فرحا مستبشرا فقلّد الرازي في ذكره ، وغضّ النظر عن وجه النظر فيه ، مخالفا للكابلي الذي أعرض عن ذكر النقض من أصله لعلمه بوهنه وبطلانه.

٧ ـ قول المحققين بعدم وجوب قيام أحد المترادفين مقام الآخر

وكما أن القول بوجوب قيام أحد المترادفين مقام الآخر ممنوع عند الرازي في ( المحصول ) ومنظور فيه عنده في ( نهاية العقول ) ، فإنّ سائر المحققين من أهل السنة يذهبون إلى هذا المذهب ، ويصرّحون بعدم وجوب ذلك. فقد قال القاضي محب الله البهاري في ( سلّم العلوم ) : « ولا يجب قيام كلّ مقام الآخر وإن كانا من لغة ، فإن صحة الضم من العوارض ، يقال : صلّى عليه ، ولا يقال دعا عليه ».

وقد تبعه على ذلك شرّاح كتابه ( مسلّم الثبوت ) وأقاموا الأدلة على هذا القول فليرجع إليها.

١٥٤

وقد تقدّم نص كلام الشيخ خالد الأزهري من محققي النحاة (١).

وقال رضي الدين الأسترآبادي ـ وهو من محققي النحاة أيضا ـ في مبحث أفعال القلوب : « ولا يتوهّم أن بين علمت وعرفت فرقا من حيث المعنى كما قال بعضهم. فإنّ معنى علمت أن زيدا قائم وعرفت أن زيدا قائم واحد ، إلاّ أن عرف لا ينصب جزئي الاسمية كما ينصبهما علم ، لا لفرق معنوي بينهما ، بل هو موكول إلى اختيار العرب ، فإنهم قد يخصّون أحد المتساويين في المعنى بحكم لفظي دون الآخر ».

وقال أيضا ـ بعد أن ذكر إلحاق أفعال عديدة بصار : « وليس إلحاق مثل هذه الأفعال بصار قياسا بل سماعا ، ألا ترى أن انتقل لا يلحق به مع أنه بمعنى تحوّل ».

٨ ـ من أمثلة عدم قيام أحد المترادفين مقام الآخر

لقد مثّل البهاري لعدم الجواز بأن « دعا » لا يقوم مقام « صلّى » ، وعرفت أنّ « عرف » لا يقوم مقام « علم » وأن « انتقل » لا يقوم مقام « تحوّل ».

لكن أمثلة امتناع قيام أحد المترادفين مقام الآخر كثيرة جدّا ، إلاّ أن الوقوف على طرف منها يستلزم التتبع لكلمات علماء الفن ومعرفة اللغات والألفاظ ، والرازي وأتباعه بعيدون عن ذلك ، ونحن نشير هنا إلى بعض تلك الأمثلة والموارد :

فمنها : الفروق الموجودة بين « حتى » و « إلى » مع أنهما متساويان في الدلالة على الغاية ، كدخول « إلى » على المضمر بخلاف « حتى » ، ووقوع الأول في موضع الخبر مثل : والأمر إليك ، بخلاف الثاني ...

ومنها : الفروق بين « الواو » و « حتى العاطفة » وهي ثلاثة فروق كما في ( مغني

__________________

(١) توجد ترجمته في الضوء اللامع ٣ / ١٧١ وغيره.

١٥٥

اللبيب ) و ( الأشباه والنظائر ) نقلا عنه.

ومنها : الفروق بين « إلاّ » و « غير » وهما بمعنى واحد. قال السيوطي « ذكر ما افترق فيه إلاّ وغير. قال أبو الحسن الآبدي في شرح الجزولية : افترقت إلاّ وغير في ثلاثة أشياء أحدها : إنّ غيرا يوصف بها حيث لا يتصور الاستثناء وإلاّ ليست كذلك ، تقول : عندي درهم غير جيّد. ولو قلت عندي درهم إلاّ جيد لم يجز. الثاني : إنّ إلاّ إذا كانت مع ما بعدها صفه لم يجز حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ، فتقول : قام القوم إلاّ زيدا. ولو قلت : قام إلاّ زيد لم يجز ، بخلاف غير ، إذ تقول : قام القوم غير زيد وقام غير زيد. وسبب ذلك إنّ إلاّ حرف لم يتمكن في الوصفية فلا يكون صفة إلاّ تابعا ، كما أن « أجمعين » لا يستعمل في التأكيد إلاّ تابعا. الثالث : إنك إذا عطفت على الاسم الواقع بعد إلاّ كان إعراب المعطوف على حسب المعطوف عليه ، وإذا عطفت على الاسم الواقع بعد غير جاز الجر والحمل على المعنى » (١).

ومنها : الفروق بين « عند » و « لدن » و « لدى » ، وهي في ستة أشياء كما في ( الأشباه والنظائر ).

ومنها : الفروق بين « المصدر » و « أن مع صلتها » وهي في اثني عشر شيء ، كما يظهر بالرجوع إلى ( الأشباه والنظائر ).

ومنها : الفروق بين « أم » و « أو » وكلاهما يستعمل للترديد ، وهي في أربعة أشياء ، كما في ( الأشباه والنظائر ) عن ابن العطار.

ومنها : الفروق العديدة بين ألفاظ الإغراء وألفاظ الأمر ، ذكرها السيوطي في ( الأشباه والنظائر ) نقلا عن الأندلسي.

ومنها : الفروق بين « هل » و « همزة الاستفهام » وهي كما في ( الأشباه والنظائر ) عن ابن هشام ـ في عشرة أشياء.

__________________

(١) الأشباه والنظائر ٢ / ١٧٩.

١٥٦

ومنها : الفروق بين « أيان » و « حتى » يظهر من ( الأشباه والنظائر ) أنها في ثلاثة أشياء.

ومنها : الفروق بين « كم » و « كأيّن » وهي كما يفهم من ( مغني اللبيب ) في خمسة أشياء.

هذا ، ولا يتوهّم أن الموارد المذكورة غير مشتركة في المادة بخلاف « المولى » و « الأولى » فإنهما من مادة واحدة ، لأن كلام الرازي ليس من جهة الاشتراك في المادة ، لأن صريح كلامه لزوم اتحاد المترادفين في الاستعمال بسبب اتحادهما في المعنى من غير دخل للاتحاد في المادة في هذا الباب.

على أنّا وجدنا مترادفين مشتركين في المادة مع تنصيص المحققين وأئمة اللغة بعدم جواز استعمال أحدهما في مقام الآخر ، ففي ( الصحاح ) : « ويقال : يا نومان للكثير النوم ولا تقل : رجل نومان. لأنه يختص بالنداء » (١).

وفي ( الصحاح ) أيضا : « وقولهم في النداء : يأفل مخففا إنما هو محذوف من يا فلان لا على سبيل الترخيم ، ولو كان ترخيما لقالوا : يا فلا. وربما قيل ذلك في غير النداء للضرورة. قال أبو النجم : في لجّة أمسك فلانا عن فل » (٢).

هذا وقد أجاب الشهيد التستري رحمه‌الله عن هذه الشبهة في وجوه ردّ كلام صاحب المواقف بقوله : « ومنها : ان مجيء مفعل بمعنى أفعل مما نقله الشارح الجديد للتجريد عن أبي عبيدة من أئمة اللغة ، وأنه فسّر قوله تعالى : ( هِيَ مَوْلاكُمْ ) بأولاكم. وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : أيّما امرأة نكحت بغير إذن مولاها أي الأولى بها والمالك لتدبيرها. ومثله في الشعر كثير ، وبالجملة استعمال المولى بمعنى المتولي والمالك للأمر والأولى بالتصرف شائع في كلام العرب منقول عن أئمة اللغة ، والمراد إنه اسم لهذا المعنى لا صفة بمنزلة الأولى ليعترض بأنه

__________________

(١) الصحاح : نوم.

(٢) المصدر نفسه : فلن.

١٥٧

ليس من صيغة اسم التفضيل ، وانه لا يستعمل استعماله.

وأيضا كون اللفظين بمعنى واحد لا يقتضي صحة اقتران كل منهما في الاستعمال بما يقترن به الآخر ، لأنّ صحة اقتران اللفظ باللفظ من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعاني ، ولأنّ الصلاة مثلا بمعنى الدعاء والصلاة إنما تقترن بعلى والدعاء باللام يقال : صلّى عليه ودعا له ، ولو قيل : دعا عليه لم يكن بمعناه. وقد صرّح الشيخ الرضي بمرادفة العلم والمعرفة مع أن العلم يتعدى إلى مفعولين دون المعرفة ، وكذا يقال إنك عالم ولا يقال إن أنت عالم ، مع أن المتّصل والمنفصل هاهنا مترادفان كما صرّحوا به ، وأمثال ذلك كثير ».

وفي كتاب ( عماد الإسلام ) ما نصه : « قد صرّح الشيخ الرضي بمرادفة العلم والمعرفة ، مع أن العلم يتعدى إلى مفعولين دون المعرفة ، وكذا يقال : إنك عالم ولا يقال إن أنت عالم ، مع أن المتصل والمنفصل هاهنا مترادفان كما صرّحوا به وأمثال ذلك كثير.

وبوجه آخر : قد مرّ في مبحث الرؤية من كتاب التوحيد ما يندفع به كلام الرازي هذا ، وحاصله : إن اقتران اللّفظ باللفظ من عوارض الألفاظ لا من عوارض المعنى ، فيجوز أن يكون من عوارض لفظ « الانتظار » ما لم يكن من عوارض « النظر » الذي هو بمعناه ، وهكذا بالعكس ، لتحقق التغاير اللفظي بينهما.

وأيضا : جاء « بصر بي » ولم يجيء « نظر بي » و « رأى بي ». وهكذا على قول الأشاعرة جاء : « نظر إليه » ولم يجيء « بصر إليه ».

وأيضا : لو تم دليلك لزم أن يصح « نظرته » كما صح « رأيته » ، والحال أن الرازي حكم ببطلانه في مبحث الرؤية ، وصح « ان أنت عالم » كما صح « إنّك عالم » ، وصح « جاءني إلاّ زيد » كما صح « غير زيد » وجاز « عندي درهم إلاّ جيّد » كما صح « عندي غير درهم جيد ». مع أن إلاّ بمعنى غير في الأمثلة ، وصرّح بعدم صحتها صاحب المغني.

١٥٨

وبالجملة ، لا يليق بمن يكون ملقبا بإمام الأشاعرة أن يدّعي أمرا خلافا للواقع ترويجا لمذهبه ».

٩ ـ عدم جريان القياس في اللغة

لقد تسالم المحققون من العلماء على أنه لا يجري القياس في اللغة ، وذلك غير خاف على من نظر في كتبهم ووقف على كلماتهم ، وقال السيوطي : « قال الكيا الهراسي في تعليقه : الذي استقر عليه آراء المحققين من الأصوليين أن اللغة لا تثبت قياسا ولا يجري القياس فيها » (١).

١٠ ـ لا يعارض الظن القطع

ولو فرضنا جريان القياس في اللغة ، فإنّ غاية ما يفيده القياس هو الظن ، لكن مفاد نصوص الأساطين المثبتين لمجيء « المولى » بمعنى « الأولى » هو القطع ، ولا يعارض الظن القطع قطعا.

١١ ـ الشهادة على النفي غير مسموعة

إن حاصل هذا النقض المردود والشبهة المدحوضة هو نفي مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » ، وهذه شهادة على النفي ، وقد نصّ الرازي نفسه أيضا في مثل هذا المقام على أن الشهادة على النفي غير مقبولة. قال الرازي : « عابوا عليه ـ أي على الشافعي ـ قوله الباء في قوله تعالى : ( وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) تفيد التبعيض ، ونقلوا عن أئمة اللغة أنهم قالوا لا فرق بين : وامسحوا برؤسكم ، وبين قوله : وامسحوا رؤسكم. والجواب : قول من قال أنه ليس في اللغة أن الباء للتبعيض شهادة على النفي فلا تقبل ... » (٢).

__________________

(١) المزهر ١ / ٣٧.

(٢) مناقب الشافعي.

١٥٩

١٢ ـ عدم جواز « هو أولى » و « هما أوليان » غير مسلّم

وذكر الرازي أنه لا يجوز قول « هو أولى » و « هما أوليان ». ولكنّا لا نسلّم هذا القول لوجهين :

الأول : إن رأي الرازي هو أن اقتران لفظ بلفظ ليس بالوضع بل العقل ، فإذا كان كذلك فإن العقل لا يأبى من قول « هو أولى » و « هما أوليان » ، ولا استحالة عقلية في هذا الإطلاق إطلاقا.

والثاني : إنّ هذه الدعوى تردّها قواعد العربية وتصريحات أئمة اللغة والتفسير ، لأن اسم التفضيل قد استعمل في آيات عديدة في القرآن الكريم مجردا من « من » والاضافة وحرف التعريف ، ففي سورة البقرة : ( وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ) وأيضا في سورة البقرة : ( ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ ) وفي سورة الأنعام : ( قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ) وفي سورة التوبة : ( وَعَدَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ) وأيضا في سورة التوبة ( وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ) وأيضا في سورة التوبة : ( قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا ) وفي سورة بني إسرائيل : ( وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ) وفي سورة الكهف ( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ) وفي سورة طه : ( وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى ) وأيضا في سورة طه : ( وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى ) وفي سورة القصص : ( وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ) وفي سورة الأعلى : ( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى ).

إذن ، يجوز استعمال اسم التفضيل من دون « من » فدعوى عدم جواز « هو أولى » و « هما أوليان » باطلة.

بل إن خصوص « أولى » ورد استعماله في القرآن بلا « من » قال الله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ ).

١٦٠