نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

السيّد علي الحسيني الميلاني

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار - ج ٨

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: المؤلّف
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

أحمد بن الحسن الزاهد بتفسير قوله تعالى : ( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ ).

والزمخشري بتفسير قوله تعالى : ( أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) (١).

وابن الأثير حيث قال : « وقد تكرر ذكر المولى في الحديث ، وهو اسم يقع على جماعة كثيرة فهو : الرب والمالك والسيد ... » (٢).

والنووي حيث أورد كلام ابن الأثير (٣).

وأحمد الكواشي والبيضاوي والنسفي بتفسير الآية : ( أَنْتَ مَوْلانا ... ).

والطيّبي حيث قال : « قوله : من كنت مولاه. نه : المولى يقع على جماعة كثيرة : المالك والسيد ... » (٤).

وابن كثير بتفسيره قوله تعالى : ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ) (٥).

وجلال الدين السيوطي في ( النثير ) و ( تفسير الجلالين ).

وعلي بن سلطان القاري في ( شرح المشكاة ) (٦).

والفاضل رشيد الدين خان الدهلوي تلميذ ( الدهلوي ) في ( إيضاح لطافة المقال ).

أقول :

وإذ ثبت أنّ ( المولى ) يأتي بمعنى ( السيد ) فإنّ ( السيد ) بمعنى ( الامام )

__________________

(١) الكشاف ١ / ٣٣٣.

(٢) النهاية : ولي.

(٣) تهذيب الأسماء واللغات ٤ / ١٩٦.

(٤) شرح المشكاة ـ مخطوط.

(٥) تفسير ابن كثير ٢ / ٣٠٩.

(٦) المرقاة في شرح المشكاة ٥ / ٥٦٨.

١٢١

و ( الرئيس ) كما سيجيء فيما بعد إن شاء الله تعالى ، وبذلك يتمّ الاستدلال بحديث الغدير من هذا الوجه أيضا.

ومن هنا قال الشريف المرتضى رحمه‌الله : « وذكرت [ يوما ] بحضرة الشيخ [ أبي عبد الله دام عزه ] ما ذكره أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي رحمه‌الله في كتاب الإنصاف حيث ذكر أنّ شيخا من المعتزلة أنكر أن تكون العرب تعرف المولى سيدا وإماما. قال : فأنشدته قول الأخطل :

فما وجدت فيها قريش لأمرها

أعف وأوفى من أبيك وأمجدا

وأورى بزنديه ولو كان غيره

غداة اختلاف الناس أكدى وأصلدا

فأصبحت مولاها من الناس كلّهم

وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا

قال أبو جعفر رحمه‌الله : فأسكت الشيخ كأنما ألقم حجرا ، وجعلت استحسن ذلك » (١).

فتلخّص : أن كلا من هذه المعاني التي اعترف بها الخصوم للفظة ( المولى ) يفيد الامامة والرياسة ، وهي معاني متقاربة ومتلازمة ، يفي أحدها بالغرض من الاستدلال بالحديث ، فكيف بجميعها! فما ذكرناه كاف لدفع شبهات المتعصّبين وقمع خرافات الجاحدين ، والحمد لله ربّ العالمين.

دعوى عدم مجيء ( مفعل ) بمعنى ( أفعل )

قوله :

« بل قالوا : إنّ مفعلا لم يجيء بمعنى أفعل في مادة من المواد فضلا عن هذه المادة بالخصوص ».

__________________

(١) الفصول المختارة من العيون والمحاسن ١ / ٤ ـ ٥.

١٢٢

أقول :

هذه دعوى كاذبة أخرى ، فقد وقفت على نصوص كلمات أهل العربية الدالة على أنّ ( مفعلا ) يجيء بمعنى ( أفعل ) حيث فسّروا ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) وبذلك ثبت مجيء ( مفعل ) بمعنى ( أفعل ) في خصوص هذه المادّة.

وكم فرق بين هذا الكلام من ( الدهلوي ) وكلام ( الكابلي ) في كتابه ( الصواقع ) الذي انتحله ( الدهلوي ). فقد قال الكابلي ما نصّه : « وهو باطل لأن مولى لم يجيء بمعنى الأولى ، ولم يصرّح أحد من أهل العربية أنّ مفعلا جاء بمعنى أفعل ».

فالكابلي لم يدّع أنّ أهل العربية قد نصّوا على أن مفعلا ما جاء بمعنى أفعل في مادّة مطلقا فكيف هذه المادّة بالخصوص! وهذا مما يوضح أنّ ما نسبه ( الدهلوي ) إلى أهل العربية ليس إلاّ كذبا مفترى.

هذا ، والجدير بالذكر أنّ الفخر الرازي قد سعى سعيا حثيثا وبذل جهدا كثيرا في إنكار مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) ، وقد ذكر ( الدهلوي ) خلاصة كلام الرازي مع إسقاط الموارد التي اعترف فيها الرازي بالحق والحقيقة ، مثل تفسير الزجاج والأخفش والرّماني لفظ ( المولى ) بـ ( الأولى ) ، والاستشهاد بشعر لبيد ، وتصريحه بحكم ابن الأنباري بأنّ ( المولى ) هو ( الأولى ). لكنه ـ أي ( الدهلوي ) ـ أضاف إلى كلام الرازي أكاذيب وافتراءات لم يتفوّه بها الرازي.

أكاذيب ( الدهلوي ) في هذه الدعوى

فمن تلك الأكاذيب (١) قوله بأنّ أهل العربية قاطبة ينكرون مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ). فإنّ هذا غير موجود في كلام الرازي ، بل ظاهر كلامه تكذيب هذه الدعوى ، لأنه تارة ينقل تفسير ( المولى ) بـ ( الأولى ) والاستشهاد بشعر لبيد عن أبي عبيدة والأخفش والزجّاج والرّماني ، وأخرى يصرّح بحكم أبي عبيدة وابن الأنباري بأن ( المولى ) هو ( الأولى ).

١٢٣

(٢) قوله : ذكر أهل العربية أن مفعلا يجيء بمعنى الأفعل في مادة فضلا عن خصوص هذه المادة. فإنّ هذه الدعوى غير مذكورة في كلام الرازي ، نعم قال بأن أحدا من أئمة النحو واللغة لم يذكر مجيء مفعل بمعنى أفعل. والفرق بين الكلامين واضح جدا ، لأن الرازي يدعي أن أحدا من علماء العربية لم يذكر هذا المعنى ، بينما يدعي ( الدهلوي ) تصريحهم بعدم مجيء ذلك.

(٣) ( الدهلوي ) حصر القول بمجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) في أبي زيد اللغوي ، بينما لم يذكر الرازي هذا الحصر الباطل ، بل كلامه ظاهر في بطلانه ، إذ ينقل القول بذلك عن جماعة من أئمة اللغة.

(٤) إن جمهور أهل العربية يخطّئون أبا زيد تجويزه مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ). وهذا كذب واضح لم يجرأ عليه الرازي.

(٥) إن أهل العربية يخطّئون أبا زيد اعتماده على تفسير أبي عبيدة لـ ( مولاكم ) في الآية الكريمة بـ ( أولى ). وهذا أيضا لم يتفوّه به الرازي.

(٦) إن جمهور أهل العربية قالوا بأنّه لو صحّ هذا القول لزم جواز أن يقال ( مولى منك ) بدل ( أولى منك ). لكنّ هذه الشبهة هي من الرازي نفسه ، فإنّه قد ذكرها ولم ينسبها إلى أحد من علماء أهل العربية فضلا عن جمهورهم.

(٧) إنّ جمهور أهل العربية قالوا بأنّ ( فلان مولى منك ) باطل منكر بالإجماع. وهذا الكلام يشتمل على كذبتين ، أحدهما حكمهم ببطلان هذا الاستعمال. والثانية : دعوى إجماعهم على ذلك ، وذلك لأنّ أهل العربية لم ينصّوا على بطلان هذا الاستعمال أبدا.

(٨) إنّ جمهور أهل العربية قالوا بأنّ تفسير أبي عبيدة هو بيان حاصل المعنى. وهذه الشبهة ذكرها الرازي نفسه ولم ينسبها إلى أحد أصلا ، فكيف إلى جمهور أهل العربية!

(٩) إنّ جمهور أهل العربية ذكروا حاصل معنى الآية ـ بصدد تخطئة تفسير أبي عبيدة ـ بأنّه يعني : النار مقرّكم ومصيركم والموضع اللائق بكم. ومن لاحظ

١٢٤

كلماتهم يعلم أنهم ذكروا هذا المعنى ضمن المعاني التي تحتملها الآية المذكورة ، لا بصدد تخطئة أبي عبيدة.

(١٠) إنّ جمهور أهل العربية قالوا بأنّ تفسير أبي عبيدة ليس كون لفظ ( المولى ) بمعنى ( الأولى ).

فظهر أنّ ( للدهلوي ) في كلمته المختصرة هذه أكاذيب عشرة لم يتفوّه الرازي في تلفيقاته المطولة بواحدة منها.

الأصل في هذه الدعوى هو الرازي

ثم إنّ الأصل في دعوى عدم مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) وعدم مجيء ( مفعل ) بمعنى ( أفعل ) هو الفخر الرازي فإنه قال : « ثمّ إن سلّمنا صحة أصل الحديث ومقدمته ، فلا نسلّم دلالته على الامامة ، ولا نسلّم أن لفظ المولى محتملة للأولى ، والدليل عليه أمران : أحدهما ـ إنّ ( أفعل من ) موضوع ليدل على معنى التفضيل ، و ( مفعل ) موضوع ليدل على الحدثان أو الزمان أو المكان ، ولم يذكر أحد من أئمة النحو واللغة أن المفعل قد يكون بمعنى أفعل التفضيل ، وذلك يوجب امتناع إفادة المولى بمعنى الأولى » (١).

إبطال كلام الرازي

لقد ذكر الرازي للمفعل ثلاثة معان (١) الحدثان (٢) الزمان (٣) المكان ولم يذكر له معنى غيرها ، والحال أن لفظ ( المفعل ) يأتي لإفادة معنى ( الفاعل ) و ( المفعول ) و ( الفعيل ) ، كما سيعلم ذلك من كلمات أئمة اللغة الذين عليهم مدار علم العربية ، وإنّ مجيئه بهذه المعاني بلغ من الشهرة والظهور إلى حد لم يتمكّن أحد من المتعصّبين إنكاره ، بل إنّ الرازي نفسه يعترف بمجيئه بمعنى ( الفاعل ) و ( الفعيل ). فقد قال في ( نهاية العقول ) : « وأمّا قول الأخطل :

__________________

(١) نهاية العقول ـ مخطوط.

١٢٥

قد أصبحت مولاها من الناس بعده.

وقوله : لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.

وقوله : موالي حق يطلبون.

فالمراد بها الأولياء.

ومثله قوله عليه‌السلام : مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله. أي : أولياء الله ورسوله.

وقوله عليه‌السلام : أيّما امرأة تزوّجت بغير إذن مولاها. والرواية المشهورة مفسرة له.

وقوله : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) ـ أي : وليّهم وناصرهم ـ وأن الكافرين لا مولى لهم ـ أي لا ناصر لهم هكذا روى ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين ».

فإن كان مراد الرازي من قوله : « مفعل موضوع ليدل على الحدثان أو الزمان أو المكان » هو حصره في هذه المعاني ، كان اللازم بطلان مجيئه بمعنى الفاعل والفعيل والمفعول ، وإن لم يكن مراده الحصر كان هذا الكلام لغوا لا محصّل له.

وأما قوله : « ولم يذكر أحد من أئمة النحو واللغة أن المفعل قد يكون بمعنى أفعل التفصيل » فيبطله تصريح كبار أئمة اللغة والتفسير فإفادة ( المولى ) معنى ( الأولى ) بالخصوص.

على أنه لا ملازمة عقلا ونقلا بين عدم مجيء ( المفعل ) بمعنى ( الأفعل ) ـ في مادة لو ثبت ـ وبين عدم مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ). فقوله : « وذلك يوجب امتناع إفادة المولى لمعنى الأولى » باطل جدّا ، وإلاّ لزم بطلان الاستعمالات النادرة والألفاظ المستعملة في الكتاب والسنة وكلام العرب ، والتي لا نظير لها في العربية.

من الاستعمالات التي لا نظير لها في العربية

ولا يخفى على من مارس ألفاظ الكتاب والسنة ، ووقف على كلمات علماء

١٢٦

العربية ، كثرة هذه الاستعمالات التي لا نظير لها ، وشيوع استعمال الألفاظ النادرة ، ونحن نتعرّض هنا لنماذج من تلك الاستعمالات :

فمن ذلك « عجاف » وهو جمع « أعجف » قال الله تعالى : ( وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ ... ) (١). ولا نظير لهذا اللفظ في العربية ، قال السيوطي : « وقال ـ أي ابن فارس ـ ليس في الكلام أفعل مجموعا على فعال إلاّ أعجف وعجاف » (٢) ، وقال الجوهري : « العجف بالتحريك : الهزال ، والأعجف المهزول ، وقد عجف ، والأنثى عجفاء ، والجمع عجاف على غير قياس ، لأن أفعل وفعلاء لا يجمع على فعال ، ولكنهم بنوه على سمان ، والعرب قد تبني الشيء على ضدّه » (٣).

وقال الفخر الرازي نفسه بتفسير الآية المباركة : « المسألة الأولى : قال الليث : العجف ذهاب السّمن ، والفعل عجف يعجف ، والذكر أعجف ، والأنثى عجفاء ، والجمع عجاف في الذكران والإناث. وليس في كلام العرب أفعل وفعلاء جمعا على فعال غير أعجف وعجاف ، وهي شاذة حملوها على لفظ سمان فقالوا : سمان وعجاف ، لأنهما نقيضان. ومن دأبهم حمل النظير على النظير والنقيض على النقيض » (٤).

ومن ذلك « هاؤم » ، قال السّيوطي : « قال ابن هشام في تذكرته : اعلم أنّ هاؤما وهاؤم نادر في العربية لا نظير له ، ألا ترى أنّ غيره من صه ومه لا يظهر فيه الضمير البتّة ، وهو مع ندوره غير شاذ في الاستعمال ففي التنزيل : ( هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ ) (٥).

__________________

(١) سورة يوسف : ٤٣.

(٢) المزهر في اللغة ٢ / ٧٧.

(٣) الصحاح ـ العجف.

(٤) تفسير الرازي ١٨ / ١٤٧.

(٥) الأشباه والنظائر ٢ / ٨٩.

١٢٧

ومن ذلك « ميسرة » بضم السين ـ وهو قراءة عطاء ـ قال السيوطي : « قال سيبويه : وليس في الكلام مفعل. قال ابن خالويه في شرح الدريدية : وذكر الكسائي والمبرد مكرما ومعونا ومألكا. فقال من يحجّ لسيبويه : إن هذه أسماء جموع ، وإنما قال سيبويه لا يكون اسم واحد على مفعل. قال ابن خالويه : وقد وجدت أنا في القرآن حرفا ( فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) كذا قرأها عطاء » (١).

ومن ذلك « جمالات » ، قال السّيوطي : « ليس في كلامهم جمع جمع ست مرات إلاّ الجمل ، فإنّهم جمعوا جملا أجملا ثم أجمالا ثم جاملا ثم جمالا ثم جمالة ثم جمالات ، قال تعالى : ( جِمالَتٌ صُفْرٌ ) فجمالات جمع جمع جمع جمع جمع الجمع » (٢).

ومن ذلك « تفاوت » فتح الواو وكسرها. قال السيوطي : « ليس في كلامهم مصدر فاعل إلاّ على التفاعل بضم العين ، إلاّ على التفاعل بضم العين ، إلاّ حرف واحد جاء مفتوحا ومكسورا ومضموما : تفاوت الأمر تفاوتا وتفاوتا وتفاوتا ، وهو غريب مليح. حكاه أبو زيد » (٣).

ومن ذلك « تكاد » مضارع كدت بضم الكاف قال السيوطي : « قال ابن قتيبة : كلّ ما كان على فعل فمستقبله بالضم ، لم يأت غير ذلك إلاّ في حرف واحد من المعتل ، روى سيبويه أنّ بعض العرب قال : كدت تكاد » (٤).

ومن ذلك « سقط في أيديهم » قال السّيوطي : « في شرح المقامات للمطرزي قال الزجاجي : سقط في أيديهم نظم لم يسمع قبل القرآن ، ولا عرفته العرب ، ولم يوجد ذلك في أشعارهم ... » (٥).

__________________

(١) المزهر ٢ / ٣٣.

(٢) المصدر نفسه ٢ / ٥٨.

(٣) المصدر نفسه ٢ / ٦١.

(٤) المزهر ٢ / ٦١.

(٥) المصدر نفسه ٢ / ١٥٣.

١٢٨

ومن ذلك « نشدتك بالله لمّا فعلت » قال السيوطي : « وقال الزمخشري : في الأحاجي : قولهم نشدتك بالله لمّا فعلت. كلام محرّف عن وجهه ، معدول عن طريقه ، مذهوب مذهب ما أغربوا به على السامعين من أمثالهم ونوادر ألغازهم وأحاجيهم وملحهم وأعاجيب كلامهم ... » (١).

وإنّ هذه الألفاظ والاستعمالات التي ذكرناها هي من باب التمثيل ، ومن شاء المزيد فليراجع كتاب ( المزهر ) وكتاب ( الأشباه والنظائر ) للسيوطي وغيرهما من كتب هذا الشأن.

وقال السيوطي : « قال ابن جني في الخصائص : المسموع الفرد هل يقبل ويحتج به؟ له أحوال أحدها : أن يكون فردا ، بمعنى أنه لا نظير له في الألفاظ المسموعة ، مع إطباق العرب على النطق به. فهذا يقبل ويحتج به ويقاس عليه إجماعا ، كما قيس على قولهم في شنوة شناءي ، مع أنه لم يسمع غيره ، لأنّه لم يسمع ما يخالفه ، وقد أطبقوا على النطق به ... » (٢).

ومن طرائف الأمور ذكر الرازي موردا لا نظير له حيث قال في ( نهاية العقول ) : « وأما بيت لبيد قال حكي عن الأصمعي فيه قولان أحدهما : إن المولى فيه اسم لموضع الولي كما بيّنا ، أي تحسب البقرة أن كلا من الجانبين موضع المخافة ، وإنما جاء مفتوح العين تغليبا لحكم اللام على الفاء ، على أن الفتح في معتل الفاء قد جاء كثيرا ، منه موهب ، موحد ، وموضع ، وموحل ، والكسر في معتل اللام لم يسمع إلاّ في كلمة واحدة وهي مأوى .. » (٣).

جواب لطيف عن الدعوى

ومن الأجوبة عن دعوى عدم مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأفعل ) ، وعدم

__________________

(١) الأشباه والنظائر ١ / ١٨٨.

(٢) المزهر ١ / ١٤٧.

(٣) بغية الوعاة ١ / ٥٦٧.

١٢٩

ورود ( مولى منك ) في مكان ( أولى منك ) ما انقدح في ذهني ببركة أهل البيت عليهم‌السلام وهو : إن عدم مجيء ( المفعل ) بمعنى ( الأفعل ) في المواد الأخرى ، وعدم صحة استعمال ( مولى منك ) بدل ( أولى منك ) يدل على أن في لفظة ( المولى ) شعاعا من نور لفظ الجلالة ( الله ) ، لأن الله تعالى قد أطلق هذا اللفظ على نفسه ، وقرنه بلفظ الجلالة ونحوه من غير فصل ، في موارد من القرآن الكريم :

ففي سورة البقرة : ( رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ).

وفي سورة آل عمران : ( بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ ).

وفي سورة الأنعام : ( ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ ).

وفي سورة الأنفال : ( وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ).

وفي سورة التوبة : ( قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ).

وفي سورة يونس : ( وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ ).

وفي سورة الحج : ( فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ).

وفي سورة محمد : ( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ).

وفي سورة التحريم : ( قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ).

وأيضا في سورة التحريم : ( وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ ).

فالأولى والأحق بإطلاق لفظ ( المولى ) عليه هو ( الله ) سبحانه ثم ( النبي )

١٣٠

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم سيدنا ( أمير المؤمنين ) عليه‌السلام ، ومن هنا أطلق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك على نفسه ، واختار هذا اللفظ في مقام بيان إمامة علي عليه‌السلام ، فكما أن لله تعالى والنبي والامام خصائص ، فإنّ لهذا اللفظ أيضا من الخصائص ما لا نصيب لغيره من الألفاظ منها.

فيكون للفظ ( المولى ) خصائص كما للفظ ( الله ) خصائص اختص بها :

قال نجم الأئمة رضي الدين محمد بن الحسن الأسترآبادي * ترجم له السيوطي بقوله : « الرضي الامام المشهور ، صاحب شرح الكافية لابن الحاجب ، الذي لم يؤلّف عليها بل ولا في غالب كتب النحو مثله ، جمعا وتحقيقا وحسن تعليل. وقد أكبّ الناس عليه وتداولوه ، واعتمده شيوخ هذا العصر فمن قبلهم في مصنفاتهم ودروسهم ، وله فيه أبحاث كثيرة مع النحاة واختيارات جمة ومذاهب تفرّد بها. ولقبه نجم الأئمة. ولم أقف على اسمه ولا شيء من ترجمته ، إلاّ أنه فرغ من تأليف هذا الشرح سنة ٦٨٣. وأخبرني صاحبنا شمس الدين ابن عرم بمكة أن وفاته سنة أربع وثمانين أو ستّ. الشك مني ، وله شرح على الشافية (١) » * « والأكثر في ( يا الله ) قطع الهمزة ، وذلك للإيذان من أول الأمر على أن الألف واللاّم خرجا عمّا كانا عليه في الأصل ، وصارا كجزء الكلمة ، حتى لا يستكره اجتماع يا واللام ، فلو كان بقيا على أصلهما لسقط الهمزة في الدرج ، إذ همزة اللام المعرفة همزة وصل. وحكى أبو علي : يا الله بالوصل على الأصل ، وجوّز سيبويه أن يكون ( الله ) من لاه يليه ليها ، أي استتر ، فيقال في قطع همزته واجتماع اللام ويا : إن هذا اللفظ اختص بأشياء لا تجوز في غيره ، كاختصاص مسمّاه تعالى.

وخواصه ما في اللهم وتالله وا آلله وها الله وذا الله مجرورا بحرف مقدر في السعة ، وأ فألله بقطع الهمزة كما يجيء في باب القسم ، وقوله :

من أجلك يا التي تيّمت قلبي

وأنت بخيلة بالوصل عني

__________________

(١) بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ١ / ٥٦٧.

١٣١

شاذ ، ووجه جوازه مع الشذوذ لزوم اللاّم. وقوله :

فيا الغلامان اللذان فرا

إيّاكما ان تبغيا لي شرا

أشد.

وبعض الكوفيين يجوّز دخول يا علي ذي اللام مطلقا في السعة.

والميمان في اللهم عوض من يا أخّرتا تبرّكا باسمه تعالى ... » (١).

قوله :

« الاّ أبا زيد اللغوي فانه جوّز ذلك ».

أقول :

١ ـ هذه الدعوى كاذبة

إن القول بأنّ مجوّز مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) ليس إلاّ أبو زيد اللغوي كذب صريح ، وافتراء محض ، فقد علمت فيما تقدّم أنّ القائلين بإفادة ( المولى ) لمعنى ( الأولى ) هم جمع كثير ، وجم غفير من أساطين أئمة اللغة ، ومشاهير علوم العربية ورجال الأدب.

٢ ـ فيها رد على الكابلي

إلاّ أنّ إقرار ( الدهلوي ) بتجويز أبي زيد اللغوي ذلك ، فيه الردّ على دعوى شيخه الكابلي عدم صحة ثبوت قول أبي زيد ذلك ، حيث قال في جواب حديث الغدير من ( الصواقع ) : « وهو باطل ، لأن مولى لم يجيء بمعنى الأولى ولم يصرّح أحد من أهل العربية أن مفعلا جاء بمعنى أفعل ، وما روي عن أبي زيد ثبوته لم يصح ».

__________________

(١) شرح الكافية لنجم الأئمة الأسترآبادي ١ / ٧٣ ط قديم.

١٣٢

٣ ـ كلام الرازي يكذّب هذه الدعوى

ويتضح بطلان نسبة القول بجواز ذلك إلى أبي زيد فحسب من كلام الفخر الرازي ـ الذي هو الأصل في هذه الشبهات ـ ، إذ تقدّم في البحوث السابقة نقله تفسير ( المولى ) بـ ( الأولى ) عن جماعة من أئمة اللغة والأدب ، كأبي عبيدة والأخفش والزجّاج والرمّاني وابن الأنباري.

٤ ـ لو لم يكن غير أبي زيد لكفى لوجوه

هذا كلّه ... مع أنه لو فرض أنّ أحدا من أئمة اللغة لم يجوّز ذلك ، إلاّ أبا زيد اللغوي ، فإن قول أبي زيد وحده يكفينا في الاستدلال ، وبه يتمّ مرام أهل الحق لوجوه عديدة نذكرها باختصار :

الوجه الأول :

قال السيوطي : « النوع الخامس : معرفة الأفراد ، وهو : ما انفرد بروايته واحد من أهل اللغة ، ولم ينقله أحد غيره ، وحكمه القبول إن كان المتفرّد به من أهل الضبط والإتقان ، كأبي زيد ، والخليل ، والأصمعي ، وأبي حاتم ، وأبي عبيدة وأضرابهم وشرطه أن لا يخالفه فيه من هو أكثر عددا منه ، وهذه نبذة من أمثلته :

فمن افراد أبي زيد الأوسي الأنصاري قال في الجمهرة : المنشبة : المال.

هكذا قال أبو زيد ولم يقله غيره. وفيها : رجل ثط. ولا يقال أثط. قال أبو حاتم قال أبو زيد مرة : أثط. فقلت له : أتقول أثط؟ فقال : سمعتها. والثطط خفّة اللّحية في العارضين ... » (١).

فلو سلّمنا انفراد أبي زيد برواية مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) ، فإنّ حكمه

__________________

(١) المزهر في اللغة ١ / ٧٧.

١٣٣

القبول ، لأنه من أهل الضبط والإتقان كما نصّ عليه السيوطي ، ولم يخالفه واحد من الأئمة فضلا عن العدد الكثير.

الوجه الثاني :

قال السّيوطي : « قال ابن الأنباري : نقل أهل الأهواء مقبول في اللغة وغيرها ، إلاّ أن يكونوا ممن يتديّنون بالكذب ، كالخطابية من الرافضة ، وذلك لأن المبتدع إذا لم تكن بدعته حاملة له على الكذب فالظاهر صدقه » (١).

فإذا كان نقل أهل الأهواء مقبولا ، فنقل أبي زيد يكون مقبولا بالأولوية.

الوجه الثالث :

قال السيوطي : « قال الشيخ عز الدين بن عبد السّلام في فتاواه : أعتمد في العربية على أشعار العرب وهم كفّار ، لبعد التدليس فيها ، كما أعتمد في الطب وهو في الأصل مأخوذ عن قوم كفار كذلك. انتهى.

ويؤخذ من هذا أنّ العربي الذي يحتج بقوله لا يشترط فيه العدالة ، بخلاف راوي الاشعار واللغات ، وكذلك لم يشترطوا في العربي الذي يحتج بقوله البلوغ ، فأخذوا عن الصبيان » (٢).

إذن ، يقبل قول أبي زيد اللغوي بالأولوية القطعية من جهات.

الوجه الرابع :

قال السيوطي : « إذا سئل العربي أو الشيخ عن معنى لفظ فأجاب بالفعل لا بالقول يكفي ، قال في الجمهرة : ذكر الأصمعي عن عيسى بن عمر قال :

__________________

(١) المصدر نفسه ١ / ٨٤.

(٢) المصدر نفسه وذكره في ( تدريب الراوي ) أيضا ١ / ١٥٢.

١٣٤

سألت ذا الرمّة عن النضناض. فلم يزدني على أن حرّك لسانه في فيه. انتهى. قال ابن دريد يقال : نضنض الحية لسانه في فيه إذا حرّكته وبه سمّي الحية نضناضا » (١).

ومن المعلوم أنّ أبا زيد عربي وشيخ فلا وجه لردّ قوله.

الوجه الخامس :

قال السيوطي : « وقال ابن جني في الخصائص : من قال إنّ اللغة لا تعرف إلاّ نقلا فقد أخطأ ، فإنها قد تعلم بالقرائن أيضا ، فإن الرجل إذا سمع قول الشاعر :

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم

طاروا إليه زرافات ووحدانا

يعلم أن الزرافات بمعنى الجماعات » (٢).

فإذا كانت اللغة تعلم بالقرائن أيضا ، فإنّ النقل الصريح يفيد العلم بها بالأولوية القطعيّة.

الوجه السادس :

تجويز ابن هشام الاحتجاج بالشواهد التي لم يعرف قائلوها ، فإنه قال في جواب من استشكل ذلك : « ولو صحّ ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من كتاب سيبويه ، فإنّ فيه ألف بيت قد عرف قائلوها وخمسين مجهولة القائل » (٣).

وعليه فالاحتجاج بقول أبي زيد اللغوي الامام المشهور جائز بالأولوية القطعية.

__________________

(١) المزهر ١ / ٨٦.

(٢) المصدر نفسه ١ / ٣٧.

(٣) المصدر نفسه ١ / ٨٥.

١٣٥

ترجمة أبي زيد اللغوي

ثم إنّ كلمات كبار علماء أهل السنة ومشاهير أئمتهم في ترجمة أبي زيد والثناء عليه ، لخير شاهد ودليل على عظمة الرجل وجلالته ، وأنّه من أئمة اللغة والأدب ، المعتمد عليهم في معرفة اللغات ، وممّن إليه الرجوع في علوم العربية ، وإليك بعض كلماتهم في حقه :

١ ـ النووي : « أبو زيد الأنصاري النحوي اللغوي ، صاحب الشافعي ، وشيخ أبي عبيد القاسم بن سلاّم ، هو : أبو زيد سعيد بن أوس بن ثابت ، أبو زيد الأنصاري ، الامام في النحو واللغة ... قال الخطيب : وكان ثقة ثبتا من أهل البصرة ، وقدم بغداد.

ثم ذكر الخطيب بإسناده عن أبي عثمان المازني قال : كنّا عند أبي زيد فجاء الأصمعي فأكبّ على رأسه وجلس وقال : هذا عالمنا ومعلّمنا منذ ثلاثين سنة ، فبينا نحن كذلك إذ جاء خلف الأحمر فأكبّ على رأسه وجلس فقال : هذا عالمنا ومعلّمنا منذ عشر سنين.

وسئل الأصمعي وأبو عبيدة عنه فقالا : ما شئت من عفاف وتقوى وإسلام. وقال صالح بن محمد الحافظ : أبو زيد ثقة.

توفي سنة ٢١٥. وقيل سنة ٥١٤. قال المبرد حدّثنا الرياشي وأبو حاتم : إنه توفي سنة ٢١٥ ، وله ثلاث وتسعون سنة ، توفي بالبصرة رحمه‌الله » (١).

٢ ـ الذهبي : « العلاّمة أبو زيد الأنصاري ... قال بعض العلماء : كان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة ، وكان أبو زيد يحفظ ثلثي اللغة. وكان صدوقا صالحا » (٢).

٣ ـ اليافعي : « ... قال أصحاب التاريخ : كان من أئمة الأدب ، وغلبت

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٢٣٥.

(٢) العبر ـ حوادث ٢١٥.

١٣٦

عليه اللغات والنوادر والغريب ، وكان ثقة في روايته ، وقال أبو عثمان المازني : رأيت الأصمعي وقد جاء إلى حلقة أبي زيد المذكور ، فقبّل رأسه وجلس بين يديه وقال : أنت رئيسنا وسيّدنا منذ خمسين سنة. وكان الامام أبو سفيان الثوري يقول : أمّا الأصمعي فأحفظ الناس ، وأما أبو عبيدة فأجمعهم ، وأما أبو زيد الأنصاري فأوثقهم ... وكان صدوقا صالحا » (١).

٤ ـ الجزري : « ... قال الحافظ أبو العلاء : كان أبو زيد الأنصاري من أجلّة أصحاب أبي عمرو وكبرائهم ، ومن خيار أهل النحو واللغة والشعر ونبلائهم ، مات سنة ٢١٥ بالبصرة عن أربع أو خمس وتسعين سنة » (٢).

٥ ـ السيوطي : « ... أبو زيد الأنصاري الامام المشهور. كان إماما نحويا ، صاحب تصانيف أدبية ولغوية. غلبت عليه اللغة والنوادر والغريب ... وروى له أبو داود والترمذي ... قال السيرافي : كان أبو زيد يقول : كلما قال سيبويه أخبرني الثقة فأنا أخبرته به. وقيل : كان الأصمعي يحفظ ثلث اللغة ، وأبو زيد ثلثي اللغة ، والخليل بن أحمد نصف اللغة ... » (٣).

٦ ـ وقد تقدّم بترجمة أبي عبيدة طرف من مناقب أبي زيد اللغوي عن كتاب ( المزهر في اللغة ) عن أبي الطيب اللغوي ، وفيه من ذلك ما لم ننقله سابقا فليراجع.

دعوى ( الدهلوي ) أن مستمسك أبي زيد قول أبي عبيدة

قوله :

« ومستمسكه قول أبي عبيدة في تفسير ( هِيَ مَوْلاكُمْ ) أي : أولى بكم ».

__________________

(١) مرآة الجنان ـ حوادث ٢١٥.

(٢) طبقات الحفاظ ١ / ٣٠٥.

(٣) بغية الوعاة ١ / ٥٨٢.

١٣٧

أقول :

لا دليل على هذه الدعوى

هذه الدعوى لا دليل عليها ، وأبو زيد كان معاصرا لأبي عبيدة ، وكان يقاربه في السنّ أيضا ، فأبو زيد ولادته سنة (١٢٠) كما في ( طبقات القراء ) لابن الجزري وتوفي كما ذكر النووي سنة (٢١٥) وله من العمر (٩٣) وكذا ذكر الذهبي في ( العبر ) واليافعي في ( مرآة الجنان ).

وأبو عبيدة ولد سنة (١١٢) ومات سنة سبع ، وقيل عشر ، وقيل إحدى عشرة ومائتين كما في ( بغية الوعاة ).

ثم إنّ أبا زيد كان أعلم وأفضل من أبي عبيدة ، كما تفيد عبارات المبرّد وغيره.

على أنّ كلام ( الدهلوي ) هذا يشتمل على تكذيب الكابلي ، فإنّ الكابلي نفى صحة ثبوت مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) عن أبي زيد ، لكنّ ( الدهلوي ) يصرّح بتجويز أبي زيد ذلك ، ويدّعي أنه قد اعتمد في هذا القول على قول أبي عبيدة ، وهذا كلّه ردّ على الكابلي وتكذيب لإنكاره ثبوت قول أبي زيد بهذا المعنى ، ولله الحمد على ذلك.

كما أنّ ظاهر كلام ( الدهلوي ) هو الاعتراف بتفسير أبي عبيدة ( هِيَ مَوْلاكُمْ ) بقوله : « أي أولى بكم » فأبو عبيدة أيضا ممن يقول بمجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) ، وبه فسّر هذا اللفظ في الكلام الإلهي ، فاستنكار ( الدهلوي ) أخذ ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) في حديث الغدير في غاية البطلان. وأمّا حمله تفسير أبي عبيدة على أنه بيان لحاصل معنى الآية فيأتي جوابه عن قريب ، وخلاصته : أن هذا الحمل دعوى لا دليل عليها ، على أنه ـ لو سلّم ـ لا ينافي استفادة معنى ( الأولى ) من تلك اللفظة بوجه من الوجوه.

١٣٨

هذا ، مضافا إلى أن اعتراف ( الدهلوي ) بتفسير أبي عبيدة يدلّ على شدّة تعصب الكابلي الذي لم يتطرّق إلى هذا الموضوع ، وكأنّه يحاول إسدال الستار على هذه الحقيقة الراهنة.

دعوى ( الدهلوي ) إنكار جمهور اللغويين

قوله :

« لكن جمهور أهل العربية يخطّئون هذا القول وهذا التمسّك ».

أقول :

هذه الدعوى كاذبة

كبرت كلمة تخرج من أفواههم إنّ يقولون إلاّ كذبا ، سبحان الله!! ما هذه الكذبات المتكررة ، والافتراءات المتوالية؟!

نعم ، إنه يريد إثبات أن « الولد على سرّ أبيه » ، فقد أنكر أبوه من قبل مجيء ( المولى ) بمعنى ( ولي الأمر ) ، بالرغم من أنّ الفخر الرازي وأتباعه لم يناقشوا في هذا المعنى قط ، أمّا ولده ( الدهلوي ) فانّه ـ وإن لم ينكر مجيئه بهذا المعنى لكنه ـ نفى مجيئه بمعنى ( الأولى ) ، وزعم أن ذلك مذهب جمهور أهل العربية ، مع أن جمهورهم لم يخطّئوا هذا القول أبدا ، والمدعي مطالب بالدليل.

بل إنّ كثيرا من أساطينهم كالفرّاء ، وأبي عبيدة ، والأخفش ، وأبي العباس ثعلب ، والمبرّد ، والزجاج ، وابن الأنباري ، والسجستاني ، والرّماني ، والجوهري والثعلبي ، والواحدي ، والأعلم الشنتمري ، والزوزني ، والبغوي ، والزمخشري ... وغيرهم ، ممن سمعت أسمائهم يوافقون أبا زيد في إثبات مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) ، ويقولون بقوله ... فإن كانت هذه الموافقة تخطئة فلا مشاحة

١٣٩

في الاصطلاح.

ومما يوضّح شناعة هذه الأكذوبة أن الرازي ـ مع أنه رئيس المنكرين ومقتدى الجاحدين ـ لم يجترئ عليها ، وإن أتباعه كالاصفهاني ، والإيجي ، والجرجاني ، والبرزنجي ، وابن حجر ، والكابلي ، لم يتفوّهوا بها ، مع كونهم في مقام الردّ على حديث الغدير ، وإبطال الاستدلال به.

كما أنّ هذه الدعوى تثبت كذب الكابلي في نفي صحة نسبة هذا القول إلى أبي زيد ، فإنّ صريح كلام ( الدهلوي ) هو دعوى إنكار جمهور أهل العربية على أبي زيد هذا القول ، فيكون قول أبي زيد بذلك ثابتا لدى الجمهور.

ومن الغريب أنّ ( الدهلوي ) يحتج بقول أبي زيد اللغوي في باب المكايد من كتابه ( التحفة ) ، لكنه هنا حيث يرى موافقة قول أبي زيد لمذهب أهل الحق يحاول إبطال هذا القول ، ولو بالأكاذيب والافتراءات المتوالية المتكررة.

هذا ، ولو فرضنا أن أحدا من اللغويين قد أنكر بصراحة على أبي زيد قوله ، لم يكن في إنكاره حجة ، لأنّ المثبت مقدّم على النافي ، ولأن إثبات المثبتين كاف لصحة استدلال أهل الحق الميامين.

على أنه قد علم مما تقدم أن أبا زيد أعلم وأفضل من أبي عبيدة ، والأصمعي ، بل الخليل ، وعلم أيضا انتهاء علم العربية إلى هؤلاء الثلاثة ، فيكون مجيء ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) ثابتا بقول أفضل الثلاثة ، الذين انتهى إليهم علم العربية ، وبقول واحد آخر منهم وهو أبو عبيدة ، إذ فسّر ( المولى ) في الآية الكريمة بـ ( الأولى ).

* * *

١٤٠