التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٢٥)

[سورة الرحمن : ٢٤ ـ ٢٥]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : (وَلَهُ الْجَوارِ) أي السفن الجارية في الماء ، تجري بأمر الله ـ أقول ـ قال علي عليه‌السلام ـ في هذه الآية ـ : «السفن (١).

(الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ) أي المرفوعات ، وهي التي رفع خشبها بعضها على بعض ، وركب ، حتى ارتفعت وطالت. وقيل : المبتدآت للسير ، مرفعة القلاع. قال مجاهد. ما رفع له القلاع فهو منشأ ، وما لم ترفع قلاعه ، فليس بمنشأ. والقلاع : جمع قلع ، وهو شراع السفينة (كَالْأَعْلامِ) أي كالجبال. قال مقاتل : شبه السفن في البحر بالجبال في البر. وقيل : المنشئات بكسر الشين ، وهي أن ينشىء الموج بصدرها حيث تجري ، فيكون الأمواج كالأعلام من الله سبحانه على عباده ، بأن علمهم اتخاذ السفن ليركبوها ، وأن جعل الماء على صفة تجري السفن عليه لأجلها (٢).

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٢٨) [سورة الرحمن : ٢٦ ـ ٢٨]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم القمي : قوله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) : من على وجه الأرض (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) قال : دين ربك ، وقال علي بن الحسين عليهما‌السلام : «نحن الوجه الذي يؤتى الله منه (٣).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ٢ ، ص ٦٦ ، ح ٣٠٠.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣٣٦.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٥.

٣٦١

وقال عبد السلام بن صالح الهروي ، قلت لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله ، فما معنى الخبر الذي رووه أن ثواب لا إله إلا الله النظر إلى وجه الله تعالى؟ فقال عليه‌السلام : «يا أبا الصلت ، من وصف الله تعالى بوجه كالوجوه فقد كفر ، ولكن وجه الله تعالى أنبياؤه ورسله وحججه (صلوات الله عليهم) ، هم الذين بهم يتوجه إلى الله عزوجل وإلى دينه ومعرفته ، وقال الله تعالى : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) وقال عزوجل : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)(١).

وروي : إن رجلا كان يصلي في محضر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث دعا الله سبحانه كذلك : «اللهم إني أسألك بأنّ لك الحمد لا إله إلا أنت المنان ، بديع السماوات والأرض ، ذو الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم.

فقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : «أتدرون بأي اسم دعا الله؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم.

قال : «والذي نفسي بيده ، لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي أذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى (٢).

ثم يخاطب الخلائق مرة أخرى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

* س ٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٠) [سورة الرحمن : ٢٩ ـ ٣٠]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) قال : يحيي ويميت ، ويرزق ويزيد وينقص (٣).

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ٣٧٢ ، ح ٧.

(٢) تفسير روح المعاني : ج ٢٧ ، ص ٩٥.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٥.

٣٦٢

وقال علي عليه‌السلام : «إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : قال الله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ، فإنّ من شأنه أن يغفر ذنبا ، ويفرج كربا ، ويرفع قوما ويضع آخرين (١).

أقول : لا بدّ من الانتباه إلى نقطة مهمة جدا وهي : إنّ المقصود من (يوم) هو ليس (النهار) في مقابل (الليل) بل يشمل الأحقاب المتزامنة ، وكذلك الساعات واللحظات ، ومفهومه أن الله المتعال في كلّ زمان في شأن وعمل. كما أن البعض ذكروا شأنا نزوليا للآية ، وهو أنها نزلت ردا على قول اليهود الذين يعتقدون أن الله عزوجل يعطل كل الأعمال في يوم السبت ، ولا يصدر أي حكم (٢).

فالقرآن الكريم يقول : إن خلق الله وتدبيره ليس له توقّف.

ومرة أخرى ـ بعد هذه النعم المستمرّة والإجابة لاحتياجات جميع خلقه من أهل السماوات والأرض يكرر قوله سبحانه : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

* س ٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٢) [سورة الرحمن : ٣١ ـ ٣٢]؟!

الجواب / أقول : يقول سبحانه في البداية : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ).

نعم ، إن الله العالم القادر سيحاسب في ذلك اليوم الإنس والجنّ حسابا دقيقا على جميع أعمالهم وأقوالهم ونياتهم ، ويعيّن لكل منهم الجزاء والعقاب.

ومع علمنا بأنّ الله سبحانه لا يشغله عمل عن عمل ، وعلمه محيط بالجميع في آن واحد ، ولا يشغله شيء عن شيء ولا يشغله شأن عن شأن ولكنّنا نواجه التعبير في (سَنَفْرُغُ) والتي تستعمل غالبا بالتوجّه الحاد لعمل

__________________

(١) الأمالي : ج ٢ ، ص ١٣٥.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٠٢.

٣٦٣

ما ، والانصراف الكلّي له ، وهذا من شأن المخلوقات بحكم محدوديتها.

إلا أنه استعمل هنا لله سبحانه ، تأكيدا على مسألة حساب الله تعالى لعباده بصورة لا يغادر فيها صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها ، ولا يغفل عن مثقال ذرّة من أعمال الإنسان خيرا أو شرّا ، والأظرف من ذلك أنّ الله الكبير المتعال هو الذي يحاسب بنفسه عبده الصغير ، وعلينا أن نتصوركم هي مرعبة ومخيفة تلك المحاسبة.

(الثَّقَلانِ) من مادة «ثقل على وزن «كبر بمعنى الحمل الثقيل وجاءت بمعنى الوزن أيضا ، إلا أن «ثقل على وزن (خبر) تقال عادة لمتاع وحمل المسافرين ، وتطلق على جماعة الإنس والجنّ وذلك لثقلهم المعنوي ، لأنّ الله تبارك وتعالى قد أعطاهم عقلا وشعورا وعلما ووعيا له وزن وقيمة بالرغم من أن الثقل الجسدي لهم ملحوظ أيضا كما قال تعالى : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) ، حيث ورد أنّ أحد معانيها هو خروج الناس من القبور في يوم القيامة ، إلا أن التعبير في الآية مورد البحث جاء باللحاظ المعنوي ، خاصة وأن الجنّ ليس لهم ثقل مادّي.

التأكيد على هاتين الطائفتين بالخصوص لأنّ التكاليف الإلهية مختصّة بهما في الغالب.

وبعد هذا يكرر الله سبحانه سؤاله مرة أخرى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

وقال علي بن إبراهيم ، قوله تعالى : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) ، قال عليه‌السلام : «نحن وكتاب الله ، والدليل على ذلك قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني تارك فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي (١).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٥.

٣٦٤

* س ١٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٣٤) [سورة الرحمن : ٣٣ ـ ٣٤]؟!

الجواب / قال عمرو بن أبي شيبة ، سمعت أبا جعفر عليه‌السلام يقول ابتداء منه : «إنّ الله إذا بدا له أن يبين خلقه ويجمعهم لما لا بد منه ، أمر مناديا ينادي ، فيجتمع الإنس والجنّ في أسرع من طرفة عين ، ثم أذن لسماء الدنيا فتنزل ، وكان من وراء الناس ، وأذن للسماء الثانية فتنزل ، وهي ضعف التي تليها ، فإذا رآها أهل السماء الدنيا ، قالوا : جاء ربنا. قالوا : [لا] وهو آت ، ـ يعني أمره ـ حتى تنزل كلّ سماء ، [تكون] واحدة [منها] من وراء الأخرى ، وهي ضعف التي تليها ، ثم يأتي أمر الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور ، ثم يأمر الله مناديا ينادي : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ).

قال : وبكى عليه‌السلام حتى إذا سكت ، قلت : جعلني الله فداك ، يا أبا جعفر ، وأين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام وشيعته؟.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : «رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام وشيعته ، على كثبان من المسك الأذفر ، على منابر من نور ، يحزن الناس ولا يحزنون ، ويفزع الناس ولا يفزعون ثم تلا هذه الآية : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ)(١). «فالحسنة : ولاية علي عليه‌السلام ثم قال : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)(٢).

__________________

(١) النمل : ٨٩.

(٢) الأنبياء : ١٠٣.

٣٦٥

قوله تعالى : (بِسُلْطانٍ) أي بحجّة (١).

أقول : وقيل قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) للفرار من العقاب الإلهي (فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ) أي بقوّة إلهية ، في حين أنّكم فاقدون لمثل هذه القوة والقدرة.

ويخاطب سبحانه هاتين المجموعتين «الجنّ والإنس بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). والتهديد هنا لطف إلهي أيضا ، فبالرغم من أنه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلا أنه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية ، حيث إن وجود المحاسبة في كل نظام هو نعمة كبيرة.

* س ١١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٦) [سورة الرحمن : ٣٥ ـ ٣٦]؟!

الجواب / أقول : ما ورد في الآية الأولى تأكيد لما تقدّم ذكره في الآيات السابقة ، والذي يتعلق بعدم قدرة الجنّ والإنس من الفرار من يد العدالة الإلهية حيث يقول سبحانه : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ).

«شواظ كما ذكر الراغب في المفردات ، وابن منظور في لسان العرب ، وكثير من المفسرين أنه بمعنى (الشعلة العديمة الدخان) وفسّرها آخرون بأنها (ألسنة النار) التي تقتطع من النار نفسها حسب الظاهر ، وتكون خضراء اللون. وعلى كلّ حال فإن هذا التعبير يشير إلى شدة حرارة النار.

و «نحاس بمعنى الدخان أو «الشعل ذات اللون الأحمر مصحوبة بالدخان والتي تكون بلون النحاس ، وفسّرها البعض بأنها (النحاس

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ / ٧٧ ، و ٣٤٥.

٣٦٦

المذاب) وهي لا تتناسب في الظاهر مع ما ورد في الآية مورد البحث ، لأنّها تتحدث عن موجود يحيط بالإنسان في يوم القيامة ويمنعه من الفرار من حكومة العدل الإلهي.

ثم يضيف سبحانه قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). والكلام هنا عن النعم والآلاء من أجل ما ذكرنا من اللطف الإلهي أيضا ، فبالرغم من أنه يحمل تهديدا ظاهريا ، إلا أنه عامل للتنبيه والإصلاح والتربية.

* س ١٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٣٨) [سورة الرحمن : ٣٧ ـ ٣٨]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام لأبي بصير : «إذا كان يوم القيامة يدعى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكسى حلة وردية.

فقلت : جعلت فداك ، ورديّة؟ قال : «نعم ، أما سمعت قول الله عزوجل : (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ) ، ثم يدعى [علي فيقوم على يمين رسول الله ، ثم يدعى] من شاء الله فيقومون على يمين علي ، ثم يدعى شيعتنا فيقومون على يمين من شاء الله (١).

ثم قال تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ...

* س ١٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٤٠) [سورة الرحمن : ٣٩ ـ ٤٠]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : قوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) ،

__________________

(١) المحاسن : ص ١٨٠ ، ح ١٧١.

٣٦٧

قال : منكم ، يعني من الشيعة (إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) ، قال : معناه أن من تولى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وتبرّأ من أعدائه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، ثم دخل في الذنوب ولم يتب في الدنيا ، عذب عليها في البرزخ ، ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسئل عنه يوم القيامة (١).

وقال ميسر : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : «لا يرى منكم في النار اثنان ، لا والله ولا واحد.

قال : قلت : فأين ذا من كتاب الله؟ فأمسك عني سنة ، قال : فإني معه ذات يوم في الطواف ، إذ قال : «يا ميسرة ، أذن لي في جوابك عن مسألتك كذا. قال : قلت : فأين هو من القرآن؟ قال : «في سورة الرحمن وهو قول الله عزوجل : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ) منكم (إِنْسٌ وَلا جَانٌّ).

فقلت له : ليس فيها (منكم)؟ قال : «إن أول من غيرها ابن أروى (٢) ، وذلك أنها حجة عليه وعلى أصحابه ، ولو لم يكن فيها (منكم) لسقط عقاب الله عزوجل عن خلقه ، إذا لم يسئل عن ذنبه إنس ولا جان ، فلمن يعاقب الله إذن يوم القيامة؟ (٣).

وقال الطبرسي : روي عن الرضا عليه‌السلام ، قال : (فيومئذ لا يسئل منكم عن ذنبه إنس ولا جان) (٤).

ومرة أخرى يخاطب سبحانه عباده حيث يقول : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٥.

(٢) يريد بن عثمان بن عفان ، وأروى أمة.

(٣) فضائل الشيعة : ص ٧٦ ، ح ٤٣.

(٤) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣١٢.

٣٦٨

* س ١٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٤٥) [سورة الرحمن : ٤١ ـ ٤٥]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لمعاوية الدهني ، في قول الله تبارك وتعالى : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) ، فقال : «يا معاوية ، ما يقولون في هذا؟ قلت : يزعمون أن الله تبارك وتعالى يعرف المجرمين بسيماهم في القيامة ، فيأمر فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ، ويلقون في النار. فقال لي : «وكيف يحتاج [الجبار] تبارك وتعالى إلى معرفة خلق أنشأهم وهو خلقهم.

فقلت : جعلت فداك ، وما ذاك؟ قال : «ذلك لو قام قائمنا أعطاه الله السيماء ، فيأمر بالكافر ، فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ، ثم يخبط بالسيف خبطا (١).

وقرأ أبو عبد الله عليه‌السلام : «هذه جهنم التي كنتما بها تكذبان تصليانها لا تموتان ولا تحييان يعني الأوّلين (٢).

وقال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) قال : لها أنين من شدة حرها (٣).

وقال عبد السلام بن صالح الهروي ، قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله ، فأخبرني عن الجنة والنار ، أهما اليوم مخلوقتان؟ فقال : «نعم ، وإن

__________________

(١) بصائر الدرجات : ص ٣٧٦ ، ٨ و ٣٧٩ ، ١٧ ، الاختصاص : ص ٣٠٤.

(٢) قرب الإسناد : ص ٩.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٥.

٣٦٩

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد دخل الجنّة ورأى النار ، لما عرج به إلى السماء.

قال : فقلت له : إنّ قوما يقولون : إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين؟ فقال عليه‌السلام : «لا هم منا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذّب رسول الله وكذبنا ، وليس من ولايتنا على شيء ، ويخلد في نار جهنم ، قال الله تعالى : (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل عليه‌السلام فأدخلني الجنة ، فناولني من رطبها فأكلته ، فتحول ذلك نطفة في صلبي ، فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة ، ففاطمة حوراء إنسية ، فكلما اشتقت إلى رائحة الجنة تشممت رائحة ابنتي فاطمة (١).

ومرة أخرى بعد هذا التنبيه والتحذير الشديد الموقظ ، الذي هو لطف من الله يقوله الباري عزوجل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

* س ١٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٤٧) [سورة الرحمن : ٤٦ ـ ٤٧]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ). «من علم أن الله يراه ، ويسمع ما يقول ويعلم ما يعلمه من خير وشر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (٢).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : «إن الجنان أربع ، وذلك قول الله عزوجل : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) ، وهو أن الرجل يهجم على شهوة من شهوات الدنيا وهي معصية ، فيذكر مقام ربه ، فيدعها من مخافته ، فهذه الآية فيه ،

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ٣٧٣ ، ح ٧.

(٢) الكافي : ج ٢ ، ص ٥٧ ، ح ١٠.

٣٧٠

فهاتان جنّتان للمؤمنين والسابقين ... (١).

ومرة أخرى : وبعد ذكر هذه النعم العظيمة يخاطب الجميع بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

* س ١٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٥) [سورة الرحمن : ٤٨ ـ ٥٥]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم وصف الجنتين فقال : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي ذواتا ألوان من النعيم. وقيل : ذواتا ألوان من الفواكه ، وقيل : ذواتا أغصان ، أي : ذواتا أشجار ، لأن الأغصان لا تكون إلا من الشجر. فدل بكثرة أغصانها على كثرة أشجارها ، وبكثرة أشجارها على تمام حالها ، وكثرة ثمارها ، لأن البستان إنما يكمل بكثرة الأشجار. والأشجار لا تحسن إلا بكثرة الأغصان. (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) أي : في الجنتين عينان من الماء تجريان بين أشجارهما. وقيل : عينان إحداهما السلسبيل ، والأخرى التسنيم. وقيل : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين. (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) أي : في كلتا الجنتين من كل ثمرة نوعان ، وضربان متشاكلان ، كتشاكل الذكر والأنثى. فلذلك سماهما زوجين ، وذلك كالرطب واليابس من العنب والزبيب ، والأخرى واليابس من التين ، وكذلك سائر الأنواع لا يقصر يابسه عن رطبه في الفضل والطيب. وقيل : معناه فيهما من كل نوع من الفاكهة ضربان ، ضرب معروف ، وضرب من شكله غريب ، لم

__________________

(١) الاختصاص : ص ٣٥٦.

٣٧١

يعرفوه في الدنيا. (مُتَّكِئِينَ) حال ممن ذكروا في قوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي قاعدين كالملوك (عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) أي من ديباج غليظ. ذكر البطانة ، ولم يذكر الظهارة ، لأن البطانة تدل على أن لها ظهارة ، والبطانة دون الظهارة. فدل على أن الظهارة فوق الاستبرق. وقيل : إن الظهائر من سندس ، وهو الديباج الرقيق ، والبطانة من استبرق. وقيل : الاستبرق الحرير الصيني وهو بين الغليظ والرقيق. وروي عن ابن مسعود أنه قال : هذه البطائن فما ظنكم بالظهائر؟ وقيل لسعيد بن جبير. البطائن من استبرق فما الظهائر؟ قال : هذا مما قال الله تعالى (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) الجنى الثمر المجتنى أي : تدنو الشجرة حتى يجتنيها ولي الله إن شاء قائما ، وإن شاء قاعدا. وقيل : ثمار الجنتين دانية إلى أفواه أربابها ، فيتناولونها متكئين ، فإذا اضطجعوا نزلت بإزاء أفواههم ، فيتناولونها مضطجعين ، لا يرد أيديهم عنها بعد ، ولا شوك (١).

* س ١٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٥٩) [سورة الرحمن : ٥٦ ـ ٥٩]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم القمي ، في قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ)(٢) ، الحور العين يقصر الطرف عنها من ضوء نورها ، وقوله تعالى :

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣٤٦.

(٢) «طرف على وزن (حرف) بمعنى جانب العين ، وبما أن الإنسان عند ما يريد النظر يحرّك أجفانه ، لذا فقد استعمل هذا اللفظ كناية عن النظر ، وبناء على هذا فإنّ التعبير بقاصرات الطرف إشارة إلى النساء اللواتي يقصرن نظراتهن على أزواجهن. ويعني أنهن يكنن الحب والود لأزواجهن فقط ، وهذه هي إحدى ميزات الزوجة التي لا تفكر بغير زوجها ولا تضمر لسواه الود.

٣٧٢

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) ، أي لم يمسهنّ [أحد](١). ـ قبلهم من إنس أو جان.

وقال أبو ذر الغفاري : (زوجة الجنّة تقول لزوجها .. أقسم بعزة ربي أني لم أجد شيئا أفضل منك في الجنّة ، فالشكر لله وحده ، الذي جعلني زوجة لك وجعلك زوجا لي) (٢).

أقول : وفي التعقيب على نعمة الجنة هذه يكرّر قوله تعالى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

ثم يتطرق إلى المزيد من وصف الزوجات الموجودات في الجنة حيث يقول : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ) حيث تكون بشرتهن باحمرار وصفاء ولمعان الياقوت وبياض وجمال غصون المرجان ، وعند ما يختلط هذان الوصفان «الأبيض والأحمر الشفاف فإنه يمنحن روعة الجمال التي لا مثيل لها.

الياقوت : حجر معدني ويكون غالبا أحمر اللون.

والمرجان : هو حيوان بحري يشبه أغصان الشجر ، يكون أبيض اللون أحيانا وأخرى أحمر وألوان أخرى ، والظاهر أن المقصود به هنا هو النوع الأبيض.

ومرة أخرى ، وبعد ذكر هذه النعمة يقول سبحانه : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). * س ١٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦١) [سورة الرحمن : ٦٠ ـ ٦١]؟!

الجواب / قال الحسن بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام : «جاء نفر من اليهود

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٠٨.

٣٧٣

إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسأله أعلمهم ، فقال له : أخبرني عن تفسير : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : علم الله عزوجل أن بني آدم يكذبون على الله ، فقال : سبحان الله ، براءة مما يقولون ، وأما قوله : الحمد لله ، فإنه علم أن العباد لا يؤدون شكر نعمته ، فحمد نفسه قبل أن يحمده العباد ، وهو أول كلام ، لو لا ذلك لما أنعم الله عزوجل على أحد بنعمة وقوله : لا إله إلا الله ، يعني وحدانيته ، لا يقبل الله الأعمال إلا بها ، وهي كلمة التقوى يثقل الله بها الموازين يوم القيامة ، وأما قوله : الله أكبر ، فهي كلمة أعلى الكلمات وأحبها إلى الله عزوجل ، يعني ليس شيء أكبر من الله ، ولا تفتتح الصلاة إلا بها لكرامتها على الله عزوجل ، وهو الاسم الأعز الأكرم.

قال اليهودي : صدقت يا محمد ، فما جزاء قائلها؟ قال : إذا قال العبد : سبحان الله ، سبح معه ما دون العرش ، فيعطى قائلها عشر أمثالها ، وإذا قال : الحمد لله ، أنعم الله عليه بنعيم الدنيا موصولا بنعيم الآخرة ، وهي الكلمة التي يقولها أهل الجنّة إذا دخلوها ، وينقطع الكلام الذي يقولونه في الدنيا ما خلا : الحمد لله ، وذلك قوله عزوجل : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)(١) ، وأما قوله : لا إله إلا الله ، فالجنّة جزاؤه ، وذلك قوله عزوجل : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) يقول : هل جزاء من قال : لا إله إلا الله الجنّة ، فقال اليهودي : صدقت يا محمد (٢).

وقال المفيد في (الاختصاص) : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في قول الله عزوجل : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) قال : «سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

__________________

(١) يونس : ١٠.

(٢) الاختصاص : ص ٣٤ ، أمالي الصدوق : ص ١٥٨ ، ح ١.

٣٧٤

إن الله عزوجل يقول : ما جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة (١).

وقال علي بن سالم : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : [آية] في كتاب الله مسجلة. قلت : ما هي؟ قال : «قول الله تبارك وتعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) جرت في المؤمن والكافر والبر والفاجر ، من صنع إليه معروف فعليه أن يكافىء به ، وليست المكافأة أن يصنع كما صنع به ، بل حتى يرى مع فعله لذلك : أن له فضل المبتدىء (٢).

أقول : وبناء على هذا فالجزاء الإلهي في يوم القيامة يكون أكثر من عمل الإنسان في هذه الدنيا. وذلك تماشيا مع الاستدلال المذكور في الحديث الأخير.

يقول الراغب في المفردات : الإحسان فوق العدل وذاك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ماله ، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل ممّا له فالإحسان زائد على العدل ...

ويتكرر قوله سبحانه مرة أخرى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ). وذلك لأنّ جزاء الإحسان بالإحسان نعمة كبيرة من قبل الله تعالى ، حيث يؤكد سبحانه أن جزاءه مقابل أعمال عباده مناسب لكرمه ولطفه وليس لأعمالهم ، مضافا إلى أن طاعاتهم وعباداتهم إنما هي بتوفيق الله ولطفه ، وبركاتها تعود عليهم.

* س ١٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٣) [سورة الرحمن : ٦٢ ـ ٦٣]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام : «(...

__________________

(١) الاختصاص : ص ٢٢٥.

(٢) الزهد : ص ٣١ ، ح ٧٨.

٣٧٥

وأما قوله : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ، يقول : من دونهما في الفضل ، وليس من دونهما في القرب ، وهما لأصحاب اليمين ، وهي جنة النعيم وجنة المأوى ، وفي هذه الجنان الأربع فواكه في الكثرة كورق الشجر والنجوم ، وعلى هذه الجنان الأربع حائط محيط بها ، طوله مسيرة خمس مائة عام ، لبنة من فضة ، ولبنة من ذهب ، ولبنة من در ، ولبنة من ياقوت ، وملاطه المسك والزعفران ، وشرفه فور يتلألأ ، يرى الرجل وجهه في الحائط ، وفي الحائط ثمانية أبواب ، على كلّ باب مصراعان ، عرضهما كحضر (١) الفرس الجواد سنة (٢).

وقال عثمان بن محمد بن عمران : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله جلّ ثناؤه : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ، قال : «خضراوان في الدنيا يأكل المؤمنون منها حتى يفرغ من الحساب (٣).

وقال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : جعلت فداك ، أخبرني عن الرجل المؤمن ، له امرأة مؤمنة ، يدخلان الجنة ، يتزوج أحدهما الآخر؟ فقال : «يا أبا محمد ، إن الله حكم عدل ، إذا كان هو أفضل منها خيّره ، فإن اختارها كانت من أزواجه ، وإن كانت هي خيرا منه خيرها ، فإن اختارته كان زوجا لها»

قال : وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا تقولنّ جنة واحدة ، إن الله يقول : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ، ولا تقولن درجة واحدة ، إن الله تعالى يقول : «درجات بعض فوق بعض إنما تفاضل القوم بالأعمال.

__________________

(١) الحضر بالضم : العدو. «النهاية : ج ١ ، ص ٣٩٨.

(٢) الاختصاص : ص ٣٥٦.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٥.

٣٧٦

قال : وقلت له : إن المؤمنين يدخلان الجنة ، فيكون أحدهما أرفع مكانا من الآخر ، فيشتهي أن يلقى صاحبه؟ قال : «من كان فوقه فله أن يهبط ، ومن كان تحته لم يكن له أن يصعد ، لأنه لم يبلغ ذلك المكان ، ولكنهم إذا أحبوا ذلك واشتهوه التقوا على الأسرّة (١).

وعن العلاء بن سيابة ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، [قال] : قلت له : إن الناس يتعجبون منّا إذا قلنا : يخرج قوم من النار فيدخلون الجنّة ، فيقولون لنا : فيكونون مع أولياء الله في الجنّة؟ فقال : «يا علاء ، إن الله تعالى يقول : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) ، لا والله لا يكونون مع أولياء الله.

قلت : كانوا كافرين؟ قال عليه‌السلام : «لا والله ، لو كانوا كافرين ما دخلوا الجنة.

قلت : كانوا مؤمنين؟ قال : «لا والله ، لو كانوا مؤمنين ما دخلوا النار ، ولكن بين ذلك (٢).

وعن أبي الحسن موسى بن جعفر ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم‌السلام ، قال : «قالت أم سلمة (رضي الله عنها) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بأبي أنت وأمي ، المرأة يكون لها زوجان فيموتون ، ويدخلون الجنة ، لأيهما تكون؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أم سلمة ، تخير أيهما أحسن خلقا ، وخيرهما لأهله. يا أم سلمة ، إن حسن الخلق ذهب بخير الدنيا والآخرة (٣).

ثم يضيف سبحانه : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣١٨.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣١٨.

(٣) أمالي الصدوق : ص ٤٠٣ ، ح ٨.

٣٧٧

* س ٢٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٦٥) [سورة الرحمن : ٤٦ ـ ٦٥]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام ، في قول الله : (مُدْهامَّتانِ) : «تتصل ما بين مكة والمدينة نخلا (١).

أقول : (مُدْهامَّتانِ) : من مادّة (أدهيمام) ومن أصل (دهمه) على وزن (تهمه) ومعناها في الأصل السواد وظلمة الليل ، ثم أطلقت على الخضرة الغامقة المعتمة ، ولأنّ مثل هذا اللون يحكي عن غاية النضرة للنباتات والأشجار ، ممّا يعكس منتهى السرور والانشراح ، لهذا فقد استعمل لهذا المعنى.

ويضيف سبحانه مرّة أخرى : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ).

* س ٢١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (٧٧) [سورة الرحمن : ٦٦ ـ ٧٧]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) قال : تفوران ، وقوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : جوار نابتات على شط الكوثر ، كلما أخذت منها واحدة نبتت مكانها أخرى ، وقوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) قال : يقصر الطرف عنها (٢) ـ أي من شدة

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٦.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٦.

٣٧٨

ضوءها فهن محجوبات عن الآخرين ـ.

وقال الحلبي : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) ، قال : «هنّ صوالح المؤمنات العارفات.

قال : قلت : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ)؟ قال : «الحور : هن البيض المصونات المخدرات في خيام الدرّ والياقوت والمرجان ، لكل خيمة أربعة أبواب ، على كل باب سبعون كاعبا حجابا لهن ، ويأتيهن في كل يوم كرامة من الله عزّ ذكره ، يبشر الله عزوجل بهن المؤمن (١).

وقال الحسين بن أعين أخي مالك بن أعين : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الرجل للرجل : جزاك الله خيرا ، ما يعنى به؟ قال : أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن خيرا نهر في الجنة ، مخرجه من الكوثر ، والكوثر مخرجه من ساق العرش ، عليه منازل الأوصياء وشيعتهم ، على حافتي ذلك النهر جوار نابتات ، كلما قلعت واحدة نبتت أخرى ، سمي بذلك (٢) النهر ، وذلك قوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) ، فإذا قال الرجل لصاحبه : جزاك الله خيرا ، فإنما يعني بذلك تلك المنازل التي أعدها الله عزوجل لصفوته وخيرته من خلقه (٣).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام ـ في حديث طويل ـ : «أن الحور العين خلقهن الله في الجنة مع شجرها ، وحبسهنّ على أزواجهن في الدنيا ، على كل واحدة

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ١٥٦ ، ح ١٤٧.

(٢) كذا ، وفي معاني الأخبار : باسم ذلك ، قال المجلسي (رحمه‌الله) قوله عليه‌السلام : «سمي كذا في أكثر النسخ والظاهر سمين ، ويمكن أن يقرأ على البناء للمعلوم ، أي سمّاهن الله بها في قوله : (خَيْراتٌ) ، ويحتمل أن يكون المشار إليه النابت ، أي سمى النهر باسم ذلك النابت أي الجواري ، لأنّ الله سماهن خيرات. «مرآة العقول : ص ٢٦ ، ح ١٦٦.

(٣) تفسير أبو الفتوح الرازي.

٣٧٩

منهن سبعون حلّة ، يرى بياض سوقهن من وراء الحلل السبعين ، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء ، والسلك الأبيض في الياقوتة الحمراء ، يجامعها في قوة مائة رجل في شهوة أربعين سنة ، وهن أتراب أبكار عذارى ، كلما نكحت صارت عذراء : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ)(١) يقول : لم يمسهن إنسي ولا جني قط : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) ، يعني خيرات الأخلاق حسان الوجوه : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ)(٢) ، يعني صفاء الياقوت وبياض اللؤلؤ. قال : «وإن في الجنة لنهرا حافتاه الجواري ـ قال : ـ فيوحي إليهن الربّ تبارك وتعالى : أسمعن عبادي تمجيدي وتسبيحي وتحميدي ؛ فيرفعن أصواتهنّ بألحان وترجيع لم يسمع الخلائق مثلها قط ، فيطرب أهل الجنّة (٣).

أقول : وفي آخر وصف للنعم الموجودة في هذه الجنّة يذكر سبحانه تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ).

«رفرف في الأصل بمعنى الأوراق الواسعة للأشجار ، ثم أطلقت على الأقمشة الملونة الزاهية التي تشبه مناظر الحدائق.

«عبقري في الأصل بمعنى كل موجود قل نظيره ، ولذا يقال للعلماء الذين يندر وجودهم بين الناس (عباقرة) ويعتقد الكثير أن كلمة (عبقر) كان في البداية اسما لمدينة (بريان) انتخبه العرب لها ، لأن هذه المدينة كانت في مكان غير معلوم ونادر. لذا فإن كل موضوع يقلّ نظيره ينسب لها ويقال «عبقري. وذكر البعض أن «عبقر كانت مدينة تحاك فيها أفضل المنسوجات الحريرية (٤). والمعنى الأصلي لهذه الكلمة متروك في الوقت الحاضر

__________________

(١) مختصر بصائر الدرجات : ص ٥٦.

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٢٣٠ ، ح ٢٩٨ ، ومعاني الأخبار : ص ١٨٢ ، ح ١.

(٣) الرحمن : ٥٦ ، ٧٤.

(٤) الرحمن : ٥٨.

٣٨٠