التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

سورة الفتح

* س ١ : ما هو فضل سورة الفتح؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «حصنوا أموالكم ونساءكم وما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة : (إِنَّا فَتَحْنا) ، فإنه من كان يدمن قراءتها ؛ نادى مناد يوم القيامة حتى يسمع الخلائق : أنت من عباد الله المخلصين ، ألحقوه بالصالحين من عبادي ، وأسكنوه جنات النعيم ، واسقوه من الرحيق المختوم بمزاج الكافور (١).

ومن (خواص القرآن) : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قرأ هذه السورة ، كتب الله له من الثواب كمن بايع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة وأوفى ببيعته ، وكمن شهد مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم فتح مكة ، ومن كتبها وجعلها تحت رأسه أمن من اللصوص ، ومن كتبها في صحيفة وغسلها بماء زمزم وشربها ، كان عند الناس مسموع القول ، ولا يسمع شيئا يمر عليه إلا وعاه وحفظه (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «من كتبها وجعلها في وقت محاربة أو خصومة ، أمن من جميع ذلك ، وفتح عليه باب الخير ، ومن شرب ماءها للرجف والرعب ، يسكن الرجف ويطلقه ، ومن قرأها في ركوب البحر ، أمن من الغرق بإذن الله تعالى (٣).

__________________

(١) ثواب الأعمال : ص ١١٥.

(٢) خواص القرآن : ص ٧ «مخطوط.

(٣) البرهان : ج ٩ ، ص ١٠١.

١٨١

* س ٢ : ما هو معنى ، وسبب نزول ، قوله تعالى :

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) [سورة الفتح : ١ ـ ٣]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «كان سبب نزول هذه السورة وهذا الفتح العظيم ، أن الله عزوجل أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم أن يدخل المسجد الحرام ويطوف ، ويحلق مع المحلقين ، فأخبر أصحابه وأمرهم بالخروج فخرجوا ، فلما نزل ذا الحليفة أحرموا بالعمرة وسائق البدن ، وسائق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستا وستين بدنة ، وأشعرها عند إحرامه ، وأحرموا من ذي الحليفة ملبين بالعمرة ، وقد سائق من سائق منهم الهدي مشعرات مجللات.

فلما بلغ قريشا ذلك ، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا ، ليستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يعارضه على الجبال ، فلما كان في بعض الطريق حضرت صلاة الظهر ، فأذن بلال وصلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [بالناس] ، فقال خالد ابن الوليد : لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ، فإنهم لا يقطعون صلاتهم ، ولكن تجيء لهم الآن صلاة أخرى ، أحب إليهم من ضياء أبصارهم ، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام ، على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلاة الخوف ، بقوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)(١).

__________________

(١) النساء : ١٠٢.

١٨٢

فلما كان في اليوم الثاني نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديبية وهي على طرف الحرم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستنفر الأعراب في طريقه معه ، فلم يتبعه أحد ، يقولون : أيطمع محمد وأصحابه أن يدخلوا الحرم وقد غزتهم قريش في عقر ديارهم فقتلوهم ، أنه لا يرجع محمد وأصحابه إلى المدينة أبدا.

فلما نزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديبية خرجت قريش يحلفون باللات والعزى لا يدعون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل مكة وفيهم عين تطرف ، فبعث إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أني لم آت لحرب ، ولكن جئت لأقضي نسكي وأنحر بدني وأخلي بينكم وبين لحماتها.

فبعثوا إليه عروة بن مسعود الثقفي ، وكان عاقلا أريبا (١) ، وهو الذي أنزل الله فيه : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(٢) ، فلما أقبل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عظّم ذلك ، وقال : يا محمد ، تركت القوم ، وقد ضربوا الأبنية ، وأخرجوا العوذ (٣) المطافيل ، يحلفون باللات والعزى لا يدعوك تدخل مكة ـ فإن مكة حرمهم ـ وفيهم عين تطرف ، أفتريد أن تبيد أهلك ، وقومك ، يا محمد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما جئت لحرب ، وإنما جئت لأقضي نسكي ، وأنحر بدني ، وأخلي بينكم وبين لحماتها. فقال عروة : بالله ما رأيت كاليوم أحدا صد كما صددت. فرجع إلى قريش فأخبرهم ، فقالت قريش : والله لئن دخل محمد مكة وتسامعت به العرب لنذلنّ ولتجترين علينا العرب.

فبعثوا حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو ، فلما نظر إليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ويح قريش ، قد نهكتهم الحرب ، ألا خلوا بيني وبين العرب ،

__________________

(١) وقيل : لبيبا والأريب : ذو الدهاء والفطنة.

(٢) الزخرف : ٣١.

(٣) العوذ : الحديثة النتاج من الإبل والخيل.

١٨٣

فإن أك صادقا فإنما أجرّ الملك إليهم مع النبوة ، وإن أك كاذبا كفيتهم ذؤبان العرب ، لا يسألني اليوم امرؤ من قريش خطة ليس لله فيها سخّط إلا أجبتهم إليه.

قال : فوافوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا محمد ، ألا ترجع عنا عامك هذا ، إلى أن ننظر إلى ماذا يصير أمرك وأمر العرب على أن ترجع من عامك هذا؟ فإنّ العرب قد تسامعت بمسيرك ، فإن دخلت بلادنا وحرمنا استذلّتنا العرب واجترأت علينا ، ونخلّي لك البيت في العام القابل في هذا الشهر ثلاثة أيام حتى تقضي نسكك وتنصرف عنّا. فأجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك ، وقالوا له : وتردّ إلينا كلّ من جاءك من رجالنا ، ونرد إليك كل من جاءنا من رجالك فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من جاءكم من رجالنا فلا حاجة لنا فيه ، ولكن على أنّ المسلمين بمكّة لا يؤذون في إظهارهم الإسلام ، ولا يكرهون ولا ينكر عليهم شيء يفعلونه من شرائع الإسلام ، فقبلوا ذلك ، فلمّا أجابهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الصّلح أنكر عامّة أصحابه ، وأشدّ ما كان إنكارا عمر. فقال : يا رسول الله ، ألسنا على الحقّ ، وعدوّنا على الباطل؟ فقال : نعم. قال : فنعطي الدنيّة في ديننا؟ فقال : إنّ الله [قد] وعدني ولن يخلفني. فقال : لو أنّ معي أربعين رجلا لخالفته.

ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم بالصلح ، فقال عمر : يا رسول الله ، ألم تقل لنا أن ندخل المسجد الحرام ونحلق مع المحلقين؟ فقال : أمن عامنا هذا وعدتك ، وقلت لك أن الله عزوجل [قد] وعدني أن أفتح مكة وأطوف وأسعى وأحلق مع المحلّقين؟ فلما أكثروا عليه قال لهم : فإن لم تقبلوا الصلح فحاربوهم ، فمروا نحو قريش وهم مستعدون للحرب ، وحملوا عليهم ، فانهزم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هزيمة قبيحة ، ومرّوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتبسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال : يا علي ، خذ

١٨٤

السّيف واستقبل قريشا. فأخذ أمير المؤمنين عليه‌السلام سيفه وحمل على قريش فلما نظروا إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام تراجعوا ، وقالوا : يا علي ، بدا لمحمد فيما أعطانا؟ فقال : لا ، وتراجع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحيين ، وأقبلوا يعتذرون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألستم أصحابي يوم بدر ، إذ أنزل الله فيكم : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)(١)؟ ألستم أصحابي يوم أحد : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ)(٢)؟ ألستم أصحابي يوم كذا [ألستم أصحابي يوم كذا]؟ فاعتذروا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وندموا على ما كان منهم ، وقالوا : الله أعلم ورسوله ، فاصنع ما بدا لك.

ورجع حفص بن الأحنف وسهيل بن عمرو إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالا : يا محمد ، قد أجابت قريش إلى ما اشترطت [عليهم] من إظهار الإسلام ، وأن لا يكره أحد على دينه. فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمكتب (٣) ، ودعا أمير المؤمنين عليه‌السلام وقال له : اكتب ؛ فكتب أمير المؤمنين عليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل بن عمرو : لا نعرف الرحمن ، اكتب كما كان يكتب آباؤك : باسمك اللهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اكتب : باسمك اللهم ، فإنه اسم من أسماء الله ، ثم كتب : هذا ما تقاضى عليه محمد رسول الله والملأ من قريش. فقال سهيل بن عمرو : لو علمنا أنك رسول الله ما حاربناك ، اكتب : هذا ما تقاضا عليك محمد بن عبد الله ، أتأنف من نسبك ، يا محمد؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا رسول الله ، وإن لم تقروا. ثم قال : امح ـ يا علي ـ واكتب : محمد بن عبد الله. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : ما أمحو اسمك من

__________________

(١) الأنفال : ٩.

(٢) آل عمران : ١٥٣.

(٣) المكتب : قطعة من الأثاث يجلس عليها للكتابة.

١٨٥

النبوة أبدا ، فمحاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده ، ثم كتب : هذا ما اصطلح عليه محمد ابن عبد الله والملأ من قريش ، وسهيل بن عمرو ، واصطلحوا على وضع الحرب بينهم عشر سنين ، على أن يكف بعضنا عن بعض ، وعلى أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا وبينهم عيبة مكفوفة ، وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمد وعقده فعل ، وأن من أحب أن يدخل في عهد قريش وعقدها فعل ، وأنه من أتى من قريش إلى أصحاب محمد بغير إذن وليه يرده إليه ، وأنه من أتى قريشا من أصحاب محمد لم يردوه إليه ، وأن يكون الإسلام ظاهرا بمكة ، لا يكره أحد على دينه ، ولا يؤذى ولا يعيّر ، وأن محمدا يرجع عنهم عامه هذا وأصحابه ، ثم يدخل علينا في العام القابل مكة ، فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر ، السيوف في القرب ، وكتب علي بن أبي طالب ، وشهد على الكتاب المهاجرون والأنصار.

ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ، إنك أبيت أن تمحو اسمي من النبوة ، فو الذي بعثني بالحق نبيا ، لتجيبن أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد. فلما كان يوم صفين ، ورضوا بالحكمين ، كتب : هذا ما اصطلح عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان ، فقال عمرو بن العاص : لو علمنا أنك أمير المؤمنين ما حاربناك ، ولكن اكتب : هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : صدق الله وصدق رسوله ، أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك. ثم كتب الكتاب.

قال : «فلما كتبوا الكتاب قامت خزاعة ، فقالت : نحن في عهد رسول الله وعقده. وقامت بنو بكر فقالت : نحن في عهد قريش وعقدها. وكتبوا نسختين : نسخة عند رسول الله ونسخة عند سهيل بن عمرو ، ورجع سهيل بن عمرو وحفص بن الأحنف إلى قريش فأخبراهم.

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأصحابه : انحروا بدنكم ، واحلقوا رؤوسكم.

١٨٦

فامتنعوا وقالوا : كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ، ولم نسع بين الصفا والمروة : فاغتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك وشكا [ذلك] إلى أم سلمة ، فقالت : يا رسول الله ، انحر أنت واحلق ، فنحر [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحلق ، ونحر] القوم على خبث يقين وشك وارتياب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعظيما للبدن : رحم الله المحلقين. وقال قوم لم يسوقوا البدن : يا رسول الله والمقصرين؟ لأن من لم يسق [هديا] لم يجب عليه الحلق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانيا : رحم الله المحلقين ، الذين لم يسوقوا الهدي. فقالوا : يا رسول الله ، والمقصرين؟ فقال : رحم الله المقصرين.

ثم رحل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحو المدينة ، فرجع إلى التنعيم ، ونزل تحت الشجرة ، فجاء أصحابه الذين أنكروا عليه الصلح ، واعتذروا وأظهروا الندامة على ما كان منهم ، وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم ، فنزلت آية الرضوان (١).

وقال علي بن محمد بن الجهم : حضرت مجلس المأمون ، وعنده الرضا علي بن موسى عليه‌السلام ، فقال له المأمون : يابن رسول الله ، أليس من قولك أن الأنبياء معصومون؟ قال : «بلى. وذكر المأمون الآيات التي في الأنبياء ، وقد ذكرنا كلّ آية في موضعها ، إلى أن قال المأمون : فأخبرني ـ يا أبا الحسن ـ عن قول الله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ، قال الرضا عليه‌السلام : «لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة وستين صنما ، فلما جاءهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدعوة إلى كلمة الإخلاص ، كبر ذلك عليهم وعظم ، وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ)(٢) ،

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٠٩.

(٢) سورة ص : ٥ ـ ٧.

١٨٧

فلما فتح الله عزوجل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة ، قال له : يا محمد : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) ـ مكة ـ (فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) ، عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم وما تأخر ، لأن مشركي مكة أسلم بعضهم وخرج بعضهم عن مكة ، ومن بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد لله إذا دعا الناس إليه ، فصار ذنبه عندهم في ذلك مغفورا بظهوره عليهم. فقال المأمون لله درّك يا أبا الحسن (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لما خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزاة الحديبية ، خرج في ذي القعدة ، فلما انتهى ، إلى المكان الذي أحرم فيه أحرموا ولبسوا السلاح ، فلما بلغه أن المشركين قد أرسلوا إليه خالد بن الوليد يرده ، قال : ابغوني رجلا يأخذني على غير هذه الطريق. فأتي برجل من مزينة ، أو من جهينة ، فسأله فلم يوافقه ، فقال : ابغوني رجلا غيره ، فأتي برجل آخر ، إما من مزينة أو من جهينة ، قال : فذكر له فأخذه معه حتى انتهى إلى العقبة ، فقال : من يصعدها حط الله عنه كما حط عن بني إسرائيل. فقال لهم : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ)(٢) ، قال : فابتدرتها خيل الأنصار الأوس والخزرج ، قال : وكانوا ألفا وثمانمائة ، قال : فلما هبطوا إلى الحديبية إذا امرأة معها ابنها على القليب ، فسعى ابنها هاربا ، فلما أثبتت أنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صرخت به : هؤلاء الصابئون (٣) ، ليس عليك منهم بأس. فأتاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأمرها فاستقت دلوا من ماء ، فأخذه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشرب وغسل وجهه ، فأخذت فصلته فأعادته في البئر فلم تبرح حتى الساعة.

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ ، ص ٢٠٢ ، ح ١.

(٢) الأعراف : ١٦١.

(٣) صبأ فلان : إذا خرج من دين إلى دين غيره ، وكانت العرب تسمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الصابىء ، لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام ، ويسمون المسلمين الصباة. «النهاية : ج ٣ ، ص ٣.

١٨٨

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأرسل إليه المشركون ، أبان بن سعيد في الخيل ، فكان بإزائه ، ثم أرسلوا الحليس ، فرأى البدن وهي تأكل بعضها أوبار بعض ، فرجع ولم يأت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال لأبي سفيان : يا أبا سفيان ، أما والله ما على هذا حالفناكم على أن تردوا الهدي عن محله ، فقال : اسكت فإنما أنت أعرابي ، فقال : أما والله لتخلين عن محمد وما أراد أو لأنفردنا في الأحابيش. فقال : اسكت حتى نأخذ من محمد ولثا (١).

فأرسلوا إليه عروة بن مسعود ، وقد كان جاء إلى قريش في القوم الذين أصابهم المغيرة بن شعبة ، خرج معهم من الطائف ، وكانوا تجارا فقتلهم ، وجاء بأموالهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقبلها ، وقال : هذا غدر ، ولا حاجة لنا فيه. فأرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا رسول الله ، هذا عروة بن مسعود ، قد أتاكم وهو يعظم البدن ، قال : فأقيموها. فأقاموها ، فقال : يا محمد ، مجيء من جئت؟ قال : جئت أطوف بالبيت ، وأسعى بين الصفا والمروة ، وأنحر الإبل ، وأخلي عنكم وعن لحماتها. قال : لا واللات والعزى ، فما رأيت مثلك ، رد عما جئت له ، إن قومك يذكرونك الله والرحم أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم ، وأن تقطع أرحامهم ، وأن تجرىء عليهم عدوهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنا بفاعل حتى أدخلها.

قال : وكان عروة بن مسعود حين كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تناول لحيته ، والمغيرة قائم على رأسه ، فضرب بيده. فقال : من هذا يا محمد؟ فقال : هذا ابن أخيك المغيرة. فقال : يا غدر (٢) والله ما جئت إلا في غسل سلحتك (٣).

قال : فرجع إليهم فقال لأبي سفيان وأصحابه : لا والله ما رأيت مثل

__________________

(١) الولث : العهد بين القوم يقع من غير قصد. «لسان العرب : ج ٢ ، ص ٢٠٣.

(٢) أي يا غادر.

(٣) السلح : النجو. «أقرب الموارد ـ سلح ـ ج ١ ، ص ٥٣١.

١٨٩

محمد ردّ عما جاء له. فأرسلوا إليه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ، فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأثيرت في وجوههم البدن ، فقالا : مجيء من جئت؟ قال : جئت لأطوف بالبيت ، وأسعى بين الصفا والمروة ، وأنحر البدن ، وأخلي بينكم وبين لحماتها ، فقالا : إن قومك يناشدونك الله والرحم ، أن تدخل عليهم بلادهم بغير إذنهم ، وتقطع أرحامهم ، وتجرىء عليهم عدوهم. قال : فأبى عليهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا أن يدخلها.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يبعث عمر ، فقال : يا رسول الله ، إن عشيرتي قليلة ، وإني فيهم على ما تعلم ، ولكني أدلك على عثمان بن عفان ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : انطلق إلى قومك من المؤمنين ، فبشرهم بما وعدني ربي من فتح مكة. فلما انطلق عثمان لقي أبان بن سعيد ، فتأخر عن السّرح ، فحمل عثمان بين يديه ، ودخل عثمان فأعلمهم ، وكانت المناوشة ، فجلس سهيل بن عمرو عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجلس عثمان في عسكر المشركين ، وبايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين ، وضرب بإحدى يديه على الأخرى لعثمان ، وقال المسلمون : طوبى لعثمان قد طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وأحل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كان ليفعل. فلما جاء عثمان ، قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أطفت بالبيت؟ قال : ما كنت لأطوف بالبيت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يطف به. ثم ذكر القصة وما كان فيها. فقال لعلي عليه‌السلام : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل : ما أدري ما الرحمن الرحيم ، إلا أني أظن هذا الذي باليمامة ، ولكن اكتب كما نكتب : باسمك اللهم. قال : واكتب : هذا ما قاضى رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل : فعلى ما نقاتلك يا محمد؟ فقال أنا رسول الله ، وأنا محمد بن عبد الله. فقال الناس : أنت رسول الله قال : اكتب. فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله ، فقال الناس : أنت رسول الله ، وكان في القضية أن [من] كان منا أتى إليكم رددتموه إلينا ،

١٩٠

ورسول الله غير مستكبر عن دينه ، ومن جاء إلينا منكم لم نرده إليكم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا حاجة لنا فيهم ، وعلى أن يعبد الله فيكم علانية غير سرّ ، وإن كانوا ليتهادون السيور في المدينة إلى مكة ، وما كانت قضية أعظم بركة منها ، لقد كاد أن يستولي على [أهل] مكة الإسلام ، فضرب سهيل بن عمرو على أبي جندل ابنه. فقال : أول ما قاضينا [عليه]. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وهل قاضيت على شيء؟ فقال : يا محمد ، ما كنت بغدار. قال : فذهب بأبي جندل ، فقال : يا رسول الله ، تدفعني إليه؟ قال : ولم أشترط لك. قال : وقال : اللهم اجعل لأبي جندل مخرجا (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ؛ حتى نزلت سورة الفتح ، فلم يعد إلى ذلك الكلام (٢).

وقال محمد بن حرب الهلالي أمير المدينة : سألت جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، فقلت له : يابن رسول الله ، في نفسي مسألة ، أريد أن أسألك عنها ، فقال : «إن شئت أخبرتك بمسألتك [قبل أن تسألني] ، وإن شئت فسل.

قال : قلت له : يابن رسول الله ، وبأي شيء تعرف ما في نفسي قبل سؤالي؟ قال : «بالتوسّم والتفرّس ، أما سمعت قول الله عزوجل : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ)(٣) ، وقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اتّقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله؟.

قال : فقلت : يابن رسول الله ، فأخبرني بمسألتي. قال : «أردت أن

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ٣٢٢ ، ح ٥٠٣.

(٢) تفسير العياشي : ج ٢ ، ص ١٢٠ ، ح ١٢.

(٣) الحجر : ٧٥.

١٩١

تسألني عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، [لم] لم يطق حمله علي بن أبي طالب عليه‌السلام عند حطّه الأصنام عن سطح الكعبة ، مع قوته وشدته وما ظهر منه في قلع باب القموص بخيبر والرمي به إلى ورائه أربعين ذراعا ، وكان لا يطيق حمله أربعون رجلا ، وقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يركب الناقة والفرس والحمار ، وركب البراق ليلة المعراج ، وكل ذلك دون علي عليه‌السلام في القوة والشدة؟ قال : فقلت له : عن هذا والله أردت أن أسألك ، يابن رسول الله.

وذكر الحديث ، إلى أن قال : «وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : يا علي ، إن الله تبارك وتعالى حمّلني ذنوب شيعتك ثم غفرها لي ، وذلك قوله عزوجل : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ)(١).

أقول : أمّا إتمام النعمة على النبي وهدايته إياه الصراط المستقيم ونصره النصر العزيز .. بعد الفتح في الحديبية فليست هذه الأمور مما تخفى على أحد ... فقد انتشر الإسلام بسرعة وسخّر القلوب المهيأة! وظهرت عظمة تعليماته للجميع وأبطل السموم (المضادّة) وأتم نعمة الله على النبي وعلى المسلمين وهداهم الصراط المستقيم نحو الانتصارات حتى أن جيش الإسلام لم يجد أية مقاومة في فتح مكة وفتح أكبر حصن للمشركين!.

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ

__________________

(١) علل الشرائع : ص ١٧٣ ، ح ١.

١٩٢

وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (١٠) [سورة الفتح : ٤ ـ ١٠]؟!

الجواب / قال جميل : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله عزوجل : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) : «[هو] الإيمان. قال : قلت : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ)(١) ، قال : «هو الإيمان. وعن قوله : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى)(٢) ، قال : «هو الإيمان (٣).

وقال علي بن إبراهيم : في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، فهم الذين لم يخالفوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم ينكروا عليه الصلح. ثم قال : (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى قوله تعالى : (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) ، وهم الذين أنكروا الصلح ، واتهموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس من عبد يظن بالله خيرا إلا كان عند ظنه به (٤).

وقال الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام أنه قال : أحسن بالله الظن فإن الله عزوجل يقول أنا عند ظن عبدي المؤمن بي إن خير فخير وإن شر فشر (٥).

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) الفتح : ١٦.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ١٣ ، ح ٥.

(٤) بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص ٣٨٤.

(٥) بحار الأنوار : ج ٧٠ ، ص ٣٨٥.

١٩٣

وأخيرا فقد ورد حديث آخر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول فيه : إن حسن الظن بالله عزوجل ثمن الجنّة](١).

(وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً). وقال محمد بن مسلم : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : «كان كل شيء ماء ، وكان عرشه على الماء ، فأمر الله عزّ ذكره الماء فاضطرم نارا ، ثم أمر النار فخمدت ، فارتفع من خمودها دخان ، فخلق الله عزوجل السماوات من ذلك الدخان ، وخلق الأرض من الرماد ، ثم اختصم الماء والنار والريح ، فقال الماء : أنا جند الله الأكبر. وقالت النار : أنا جند الله الأكبر. وقالت الريح : أنا جند الله الأكبر. فأوحى الله عزوجل إلى الريح : أنت جندي الأكبر (٢).

ثم عطف المخاطبة على أصحابه ، فقال : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) ، ثم عطف على نفسه عزوجل فقال : (وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) معطوف على قوله : (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ).

ونزلت في بيعة الرضوان : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(٣) ، واشترط عليهم ألا ينكروا بعد ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئا يفعله ، ولا يخالفوه في شيء يأمرهم به ، فقال الله عزوجل بعد نزول آية الرضوان : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ، وإنما رضي عنهم بهذا الشرط أن يفوا بعد ذلك بعهد الله وميثاقه ، ولا ينقضوا عهده وعقده ، فبهذا العقد رضي الله عنهم ، فقدّموا في التأليف آية

__________________

(١) نفس المصدر السابق.

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٩٥ ، ح ٦٨.

(٣) الفتح : ١٨.

١٩٤

الشّرط على بيعة الرضوان ، وإنما نزلت أولا بيعة الرضوان ثم آية الشّرط عليهم فيها (١).

وقد ورد ـ في كلام ـ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : إن في النار لمدينة يقال لها الحصينة ، أفلا تسألوني ما فيها؟! فقيل له : ما فيها يا أمير المؤمنين؟! قال : فيها أيدي الناكثين (٢).

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) (١٧) [سورة الفتح : ١١ ـ ١٧]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم أخبر سبحانه عمن تخلف عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣١٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٦٧ ، ص ١٨٦.

١٩٥

فقال : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) أي الذين تخلفوا عن صحبتك في وجهتك وعمرتك ، وذلك أنه لما أراد المسير إلى مكة ، عام الحديبية ، معتمرا ، وكان في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، استنفر من حول المدينة إلى الخروج معه ، وهم : غفار وأسلم ومزينة وجهينة وأشجع والدئل ، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو بصد. وأحرم بالعمرة ، وساق معه الهدي ، ليعلم الناس أنه لا يريد حربا. فتثاقل عنه كثير من الأعراب ، فقالوا : نذهب معه إلى قوم قد جاءوه فقتلوا أصحابه فتخلفوا عنه واعتلوا بالشغل ، فقال سبحانه : إنهم يقولون لك إذا انصرفت إليهم فعاتبتهم على التخلف عنك (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا) عن الخروج معك (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) في قعودنا عنك. فكذبهم على الله تعالى فقال (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) كذبهم في اعتذارهم بما أخبر عن ضمائرهم وأسرارهم أي : لا يبالون استغفر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم لا. (قُلْ) يا محمد (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي فمن يمنعكم من عذاب الله ، إن أراد بكم سوءا ونفعا أي : غنيمة ... وذلك أنهم ظنوا عن تخلفهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدفع عنهم الضر ، أو يجعل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم ، فأخبرهم سبحانه أنه إن أراد شيئا من ذلك ، لم يقدر أحد على دفعه عنهم (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي عالما بما كنتم تعملون في تخلفكم (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) أي ظننتم أنهم لا يرجعون إلى من خلفوا بالمدينة من الأهل والأولاد ، لأن العدو يستأصلهم ويصطليهم (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) أي زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم ، و؟؟؟ سوله لكم. (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) في هلاك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وكل هذا من الغيب الذي لا يطلع عليه أحد إلا الله ، فصار معجزا لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) أي هلكى لا تصلحون لخير ... وقيل : قوما فاسدين ... (وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ

١٩٦

وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً) أي نارا تسعرهم وتحرقهم (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) ذنوبه (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) إذا استحق العقاب (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ظاهر المعنى. ثم قال : (سَيَقُولُ) لك (الْمُخَلَّفُونَ) يعني هؤلاء (إِذَا انْطَلَقْتُمْ) أيها المؤمنون (إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها) يعني غنائم خيبر (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) أي اتركونا نجيء معكم ، وذلك أنهم لما انصرفوا من عام الحديبية بالصلح ، وعدهم الله سبحانه فتح خيبر ، وخص بغنائمها من شهد الحديبية. فلما انطلقوا إليها قال هؤلاء المخلفون : ذرونا نتبعكم. فقال سبحانه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) أي مواعيد الله لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة. أرادوا تغيير ذلك بأن يشاركوهم فيها ... وقيل : يريد أمر الله لنبيه أن لا يسير معه منهم أحد ... (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي : قال الله بالحديبية قبل خيبر.

وقبل مرجعنا إليكم : إن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ، لا يشركهم فيها غيرهم ... وقال الجبائي : أراد بقوله (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) قوله سبحانه : (فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) وهذا غلط فاحش ، لأن هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية في سنة ست من الهجرة ، وتلك الآية نزلت في الذين تخلفوا عن تبوك ، وكانت غزوة تبوك بعد فتح مكة ، وبعد غزوة حنين والطائف ، ورجوع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منها إلى المدينة ، ومقامه ما بين ذي الحجة إلى رجب ، ثم تهيأ في رجب للخروج إلى تبوك ، وكان منصرفه من تبوك في بقية رمضان ، من سنة تسع من الهجرة ، ولم يخرج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ذلك لقتال ، ولا غزو ، إلى أن قبضه الله تعالى ، فكيف تكون هذه الآية مرادة بقوله (كَلامَ اللهِ) ، وقد نزلت بعده بأربع سنين لو لا أن العصبية ترين على قلوب. ثم قال (فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي فسيقول المخلفون عن الحديبية لكم إذا قلتم هذا لم يأمركم الله تعالى به ، بل أنتم

١٩٧

تحسدوننا أن نشارككم في الغنيمة. فقال سبحانه ليس الأمر على ما قالوه : (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) الحق ، وما تدعونهم إليه (إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا فقها قليلا ، أو شيئا قليلا. وقيل : معناه إلا القليل منهم ، وهم المعاندون.

ثم قال سبحانه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ) يا محمد (لِلْمُخَلَّفِينَ) الذين تخلفوا عنك في الخروج إلى الحديبية (مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ) فيما بعد (إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) وهم هوازن وحنين ... وقيل : هم هوازن وثقيف ... وقيل. هم ثقيف ... وقيل : هم بنو حنيفة مع مسيلمة الكذاب ... وقيل : هم أهل فارس ... وقيل : هم الروم ... وقيل. هم أهل صفين أصحاب معاوية. والصحيح أن المراد بالداعي في قوله (سَتُدْعَوْنَ) هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة ، وقتال أقوام ذوي نجدة وشدة ، مثل أهل حنين والطائف ومؤتة إلى تبوك وغيرها. فلا معنى لحمل ذلك على ما بعد وفاته. (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) معناه : إن أحد الأمرين لا بد أن يقع لا محالة ، وتقديره : أو هم يسلمون أي يقرون بالإسلام ويقبلونه. وقيل : ينقادون لكم. وفي حرف أبي : أو يسلموا وتقديره : إلى أن يسلموا. وفي النصب دلالة على أن ترك القتال من أجل الإسلام إذا وقع (فَإِنْ تُطِيعُوا) أي فإن تجيبوا إلى قتالهم (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) أي جزاءا صالحا (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن القتال ، وتقعدوا عنه (كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ) عن الخروج إلى الحديبية (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) في الآخرة (١).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ١٩٠ ـ ١٩٣.

١٩٨

وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٢٥) [سورة الفتح : ١٨ ـ ٢٥]؟!

الجواب / قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «أنا الذي ذكر الله اسمه في التوراة والإنجيل بمؤازرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا أول من بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت الشجرة في قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)(١).

وقال جابر : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : قول الله عزوجل : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) كم كانوا؟ قال : «ألفا ومائتين قلت : هل كان فيهم علي عليه‌السلام؟ قال : «نعم [علي] سيدهم وشريفهم (٢).

ومن طريق المخالفين : ما رواه موفق بن أحمد ، في قوله تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) نزلت في أهل الحديبية. قال جابر : كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة ، فقال لنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنتم خيار أهل

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٦٨.

(٢) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٥٩٥ ، ح ٧.

١٩٩

الأرض فبايعنا تحت الشجرة على الموت ، فما نكث أصلا أحد إلا ابن قيس ، وكان منافقا ، وأولى الناس بهذه الآية علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، لأنه قال : (وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) يعني [فتح] خيبر ، وكان ذلك على يد علي بن أبي طالب عليه‌السلام (١).

وقال الشيخ الطبرسي : (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) يعني غنائم خيبر ، فإنها كانت مشهورة بكثرة الأموال والعقار. وقيل : يعني غنائم هوازن بعد فتح مكة ، (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي غالبا على أمره (حَكِيماً) في أفعاله ... ولذلك أمر بالصلح وحكم للمسلمين بالغنيمة ، ولأهل خيبر بالهزيمة (٢).

وقال علي بن إبراهيم : ثم ذكر الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً)(٣) ، أي قوم سوء ، وهم الذين استنفرهم في الحديبية. ولما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة من الحديبية غزا خيبر فاستأذنه المخلفون أن يخرجوا معه ، فأنزل الله : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلاً)(٤).

ثم قال : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ

__________________

(١) مناقب الخوارزمي : ص ١٩٥.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ١٩٢.

(٣) الفتح : ١١ و ١٢.

(٤) الفتح : ١٥.

٢٠٠