التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

تفسير

سورة النّجم

رقم السورة ـ ٥٣ ـ

٣٠١
٣٠٢

سورة النّجم

* س ١ : ما هو فضل سورة النجم؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «من كان يدمن قراءة النجم في كل يوم ، أو في كل ليلة ، عاش محمودا بين الناس ، وكان مغفورا له ، وكان محبوبا بين الناس (١).

ومن (خواصّ القرآن) : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «من قرأ هذه السورة أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدّق بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن كتبها في جلد نمر وعلقها عليه ، قوي قلبه على كل سلطان دخل عليه (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «من كتبها على جلد نمر وعلقها عليه ، قوي بها على كل شيطان ، ولا يخاصم أحدا إلا قهره ، وكان له اليد والقوة بإذن الله تعالى (٣).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً

__________________

(١) ثواب الأعمال : ص ١١٦.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ١٧٠.

(٣) خواص القرآن : ص ٩ «مخطوط.

٣٠٣

أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) (٢٣) [سورة النّجم : ١ ـ ٢٣]؟!

الجواب / قال أبو جعفر عليه‌السلام ، في قوله عزوجل : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، قال : «أقسم بقبض محمد إذا قبض (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) بتفضيله أهل بيته (وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ، يقول : ما يتكلم بفضل أهل بيته بهواه ، وهو قول الله عزوجل : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(١).

وقال جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام : «لما مرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرضه الذي قبضه الله فيه ، اجتمع إليه أهل بيته وأصحابه ، فقالوا : يا رسول الله ، إن حدث بك حدث ، فمن لنا بعدك ، ومن القائم فينا بأمرك ، فلم يجبهم بجواب ، وسكت عنهم ، فلما كان اليوم الثاني أعادوا عليه [القول] ، فلم يجبهم عن شيء مما سألوه ، فلما كان اليوم الثالث أعادوا عليه ، وقالوا : يا رسول الله ، إن حدث بك حدث ، فمن لنا بعدك ، ومن القائم فينا بأمرك؟ فقال لهم : إذا كان غد هبط نجم من السماء في دار رجل من أصحابي ، فانظروا من هو ، فهو خليفتي عليكم من بعدي ، والقائم فيكم بأمري ، ولم يكن فيهم أحد إلا وهو يطمع أن يقول له : أنت القائم من بعدي.

فلما كان في اليوم الرابع جلس كل رجل منهم في حجرته ينتظر هبوط النجم ، إذ انقض نجم من السماء ، قد غلب ضوؤه على ضوء الدنيا حتى وقع

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ٣٨٠ ، ح ٥٧٤.

٣٠٤

في حجرة علي عليه‌السلام ، فهاج القوم ، وقالوا : لقد ضل هذا الرجل وغوى ، وما ينطق في ابن عمه إلا بالهوى ، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) ، إلى آخر السورة (١).

وقال ابن عباس : صلينا العشاء الآخرة ذات ليلة مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما سلم ، أقبل علينا بوجهه ، ثم قال : «أما إنه سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر ، فيسقط في دار أحدكم ، فمن سقط ذلك الكوكب في داره فهو وصيّي وخليفتي والإمام بعدي.

فلما كان قرب الفجر جلس كل واحد منا في داره ، ينتظر سقوط الكوكب في داره ، وكان أطمع القوم في ذلك أبي العباس بن عبد المطلب ، فلما طلع الفجر انقض الكوكب من الهواء ، فسقط في دار علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «يا علي والذي بعثني بالنبوة ، لقد وجبت لك الوصية والخلافة والإمامة بعدي. فقال المنافقون ، عبد الله بن أبي وأصحابه : لقد ضل محمد في محبة ابن عمه وغوى ، وما ينطق في شأنه إلا بالهوى ؛ فأنزل الله تبارك وتعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، يقول عزوجل وخالق النجم إذا هوى (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ) ، يعني في محبة علي بن أبي طالب عليه‌السلام : (وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ، في شأنه (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

ثم قال ابن بابويه : وحدثنا بهذا الحديث شيخ لأهل الريّ ، يقال له أحمد بن محمد بن الصقر الصائغ العدل ، قال : حدثنا محمد بن العباس بن بسام ، قال حدثني أبو جعفر محمد بن أبي الهيثم السعدي ، قال : حدثني

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ٤٦٨ ، ح ١.

٣٠٥

أحمد بن أبي الخطاب ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، عن أبيه ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده عليهم‌السلام ، عن عبد الله بن عباس بمثل ذلك ، إلا أن في حديثه : «يهوى كوكب من السماء مع طلوع الشمس ويسقط في دار أحدكم (١).

وقال ربيعة السّعدي : سألت ابن عباس ؛ عن قول الله عزوجل : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، قال : هو النجم الذي هوى مع طلوع الفجر ، فسقط في حجرة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكان أبي العباس يحب أن يسقط ذلك النجم في داره ، فيحوز الوصية والخلافة والإمامة ، ولكن أبى الله أن يكون ذلك غير علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وذلك فضله يؤتيه من يشاء (٢).

وعن زين العابدين عليهم‌السلام ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، أنه قال : «اجتمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة في عام فتح مكّة ، فقالوا : يا رسول الله ، ما كان الأنبياء إلا أنهم إذا استقام أمرهم أن يوصي إلى وصي أو من يقوم مقامه بعده ، ويأمره بأمره ، ويسير في الأمة كسيرته؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد وعدني ربي بذلك ، أن يبين ربي عزوجل من يحب أنه من الأمة بعدي من هو الخليفة على أمتي بآية تنزل من السماء ، ليعلموا الوصي بعدي. فلما صلى بهم صلاة العشاء الآخرة في تلك الساعة ، نظر الناس إلى السماء ، لينظروا ما يكون ، وكانت ليلة ظلماء لا قمر فيها ، وإذا بضوء عظيم قد أضاء المشرق والمغرب ، وقد نزل نجم من السماء إلى الأرض ، وجعل يدور على الدور حتى وقف على حجرة علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وله شعاع هائل ، وصار على الحجرة كالغطاء على التنور ، قد أظل شعاعه الدور ، وقد فزع الناس ، فجعل الناس يهللون ويكبرون ، وقالوا : يا رسول الله ، نجم قد نزل من السماء على ذروة

__________________

(١) أمالي الصدوق : ص ٤٥٣ ، ح ٤.

(٢) أمالي الصدوق : ص ٤٥٤ ، ح ٥.

٣٠٦

حجرة علي بن أبي طالب عليه‌السلام! قال : فقام وقال : هو والله ، الإمام من بعدي ، والوصيّ والقائم بأمري ، فأطيعوه ولا تخالفوه ، ولا تتقدّموه ، فهو خليفة الله في أرضه من بعدي.

قال : فخرج الناس من عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال واحد من المنافقين : ما يقول في ابن عمه إلا بالهوى ، وقد ركبته الغواية حتى لو تمكّن أن يجعله نبيا لفعل ، قال : فنزل جبرئيل ، وقال : يا محمد ، العلي الأعلى يقرئك السلام ، ويقول لك : اقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(١).

وقال علي بن إبراهيم : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) ، قال : النجم : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِذا هَوى) لما أسري به إلى السماء ، وهو في الهواء ، وهو رد على من أنكر المعراج ، وهو قسم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو فضل له على سائر الأنبياء ، وجواب القسم (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ، أي لا يتكلم بالهوى : (إِنْ هُوَ) يعني القرآن (إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) يعني الله عزوجل : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن الله عزوجل لم يبعث نبيا قط إلا صاحب مرة سوداء صافية ، وما بعث الله نبيا قط حتى يقرّ له بالبداء (٣).

وقال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى) ، يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، قال : كان من الله كما بين مقبض القوس إلى رأس السية (٤) (أَوْ أَدْنى) أي من نعمته ورحمته ،

__________________

(١) البحار : ج ٣٥ ، ص ٢٧٥ ، ح ٣ ، عن الروضة لابن شاذان ، الفضائل لابن شاذان : ص ٦٥.

(٢) تفسير القمّي : ج ٢ ، ص ٣٣٣.

(٣) الكافي : ج ٨ ، ص ١٦٥ ، ح ١٧٧.

(٤) سية القوس : ما عطف من طرفيها. (لسان العرب : ج ١٤ ، ص ٤١٧).

٣٠٧

قال : بل أدنى من ذلك (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، قال : وحي مشافهة (١).

ثم قال علي بن إبراهيم : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) ، ثم أذن له فرقى في السماء ، فقال : (ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، كان بين لفظه وبين سماع رسول الله كما بين وتر القوس وعودها.

أقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لما عرج بي إلى السماء ، دنوت من ربي عزوجل ، حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى ، فقال : يا محمد من تحب من الخلق؟ قلت : يا رب عليا ، قال : التفت يا محمد ، فالتفت عن يساري ، فإذا علي بن أبي طالب (٢).

(فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، فسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك الوحي ، فقال : «أوحى إليّ أن عليا سيد الوصيين ، وإمام المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، وأول خليفة يستخلفه خاتم النبيين فدخل القوم في الكلام ، فقالوا له : أمن الله ومن رسوله؟ فقال الله جل ذكره لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل لهم : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) ، ثم رد عليهم ، فقال : (أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى) ، ثم قال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد أمرت فيه بغير هذا ، أمرت أن أنصبه للناس ، وأقول لهم : هذا وليكم من بعدي ، وهو بمنزلة السفينة يوم الغرق ، من دخل فيها ، نجا ، ومن خرج عنها غرق.

ثم قال : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) ، يقول : رأيت الوحي مرة أخرى : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) ، التي يتحدث تحتها الشيعة في الجنان ، ثم قال الله عزوجل : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) يقول : إذ يغشى السدرة ما يغشى من

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٤.

(٢) الأمالي : ج ١ ، ص ٣٦٢.

٣٠٨

حجب النور : (ما زاغَ الْبَصَرُ). يقول : ما عمي البصر عن تلك الحجب (وَما طَغى) يقول : وما طغى القلب بزيادة فيما أوحي إليه ، ولا نقصان : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) يقول : لقد سمع كلاما لو لا أنه قوي ما قوي (١).

ثم قال علي بن إبراهيم في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) قال : في السماء السابعة ، وأمّا الرد على من أنكر خلق الجنة والنار ، فقوله تعالى : (عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) أي عند سدرة المنتهى في السماء السابعة. وجنة المأوى عندها (٢).

وقال صفوان بن يحيى : سألني أبو قرة المحدث أن أدخله على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، فاستأذنته في ذلك ، فأذن لي ، فدخل عليه ، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد ، فقال أبو قرة : إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيّين ، فقسم الكلام لموسى ، ولمحمد الرؤية.

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجنّ والإنس : لا تدركه الأبصار ، ولا يحيطون به علما ، وليس كمثله شيء ، أليس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : بلى. قال : كيف يجيء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله ، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ)(٣) و (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(٤) ، و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(٥) ، ثم يقول : أنا رأيته بعيني ، وأحطت به علما ، وهو على صورة البشر؟! أما تستحيون ، ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا ، أن يكون يأتي من عند الله بشيء

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٤.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٥.

(٣) الأنعام : ١٠٣.

(٤) طه : ١١٠.

(٥) الشورى : ١١.

٣٠٩

ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.

قال أبو قرّة : فإنه يقول : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى)؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى ، حيث قال : (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) يقول : ما كذب فؤاده ما رأت عيناه ، ثم أخبر بما رأى ، فقال : (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، فآيات الله غير الله ، وقد قال الله عزوجل : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم ، ووقعت المعرفة.

فقال أبو قرّة : فتكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : «إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها ، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ، ولا تدركه الأبصار ، وليس كمثله شيء (١).

وقال حبيب السّجستاني : سألت أبا جعفر عليه‌السلام ، عن قوله عزوجل : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) ، فقال لي : «يا حبيب ، لا تقرأها هكذا ، اقرأ : ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين في القرب أو أدنى فأوحى إلى عبده ـ يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ما أوحى).

يا حبيب إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما افتتح مكة أتعب نفسه في عبادة الله عزوجل والشكر لنعمه في الطّواف بالبيت ، وكان علي عليه‌السلام معه ، فلمّا غشيهما الليل انطلقا إلى الصفا والمروة يريدان السعي ، قال : فلما هبطا من الصفا إلى المروة ، وصارا في الوادي دون العلم الذي رأيت ، غشيهما من السماء نور ، فأضاءت لهما جبال مكة ، وخشعت أبصارهما ، قال : ففزعا لذلك فزعا شديدا ، قال : فمضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ارتفع عن الوادي ، وتبعه علي عليه‌السلام ، فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه إلى السماء ، فإذا هو برمانتين على

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٧٤ ، ح ٢.

٣١٠

رأسه ، قال : فتناولهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأوحى الله عزوجل إلى محمد : يا محمد ، إنهما من قطف الجنة ، فلا يأكل منهما إلا أنت ووصيك علي بن أبي طالب ، قال : فأكل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إحداهما ، وأكل علي عليه‌السلام الأخرى ، ثم أوحى الله عزوجل إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما أوحى.

قال أبو جعفر عليه‌السلام : «يا حبيب ، (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) ، يعني عند ما وافى جبرئيل حين صعد إلى السماء ، قال : فلما انتهى إلى محل السّدرة وقف جبرئيل دونها ، وقال : يا محمد ، إن هذا موقفي الذي وضعني الله عزوجل فيه ، ولن أقدر على أن أتقدمه ، ولكن امض أنت أمامك إلى السدرة ، فقف عندها ـ قال ـ فتقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السدرة ، وتخلّف جبرئيل عليه‌السلام.

قال أبو جعفر عليه‌السلام : «إنما سميت سدرة المنتهى ، لأن أعمال أهل الأرض تصعد بها الملائكة الحفظة إلى محل السدرة ، والحفظة الكرام البررة دون السدرة ، يكتبون ما ترفع إليهم الملائكة من أعمال العباد في الأرض ، قال : فينتهون به إلى محل السدرة.

قال : «فنظر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرأى أغصانها تحت العرش وحوله ، قال : فتجلى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نور الجبار عزوجل ، فلما غشي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النور ، شخص ببصره وارتعدت فرائصه ، قال : فشد الله عزوجل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلبه ، وقوى له بصره ، حتى رأى من آيات ربه ما رأى ، وذلك قوله عزوجل : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) ، يعني الموافاة ، قال : فرأى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببصره من آيات ربه الكبرى ، يعني أكبر الآيات.

قال أبو جعفر عليه‌السلام : «وإن غلظ السدرة لمسيرة مائة عام من أيام الدنيا ، وإن الورقة منها تغطي أهل الدنيا ، وإن لله عزوجل ملائكة ، وكلهم بنبات الأرض من الشجر والنخل ، فليس من شجرة ولا نخلة إلا ومعها من الله عزّ

٣١١

وجلّ ملائكة تحفظها وما كان فيها ، ولو لا أن معها من يمنعها لأكلها السباع وهوام الأرض ، إذا كان فيها ثمرها ، قال : وإنما نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضرب أحد من المسلمين خباءه تحت شجرة أو نخلة قد أثمرت ، لمكان الملائكة الموكلين بها ، قال : ولذلك يكون الشجر والنخل أنسا إذا كان فيه حمله ، لأن الملائكة تحضره (١).

وقال ثابت بن دينار : سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، عن الله جل جلاله ، هل يوصف بمكان؟ فقال : «تعالى الله عن ذلك.

قلت : لم أسرى بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء؟ قال : «ليريه ملكوت السماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.

قلت : فقول الله عزوجل : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)؟ قال : «ذاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، دنا من حجب النور ، فرأى ملكوت السماوات ، ثم تدلى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض ، حتى ظن أنه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى (٢).

وسأل رجل يقال له عبد الغفار السلمي أبا إبراهيم موسى بن جعفر عليه‌السلام عن قول الله تعالى : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) ، قال : أرى هاهنا خروجا من حجب ، وتدليا إلى الأرض ، وأرى محمدا رأى ربه بقلبه ، ونسب إلى بصره ، فكيف هذا؟ فقال أبو إبراهيم عليه‌السلام : (دَنا فَتَدَلَّى) فإنه لم يزل من موضع ، ولم يتدل ببدن.

فقال عبد الغفار أصفه بما وصف به نفسه حيث قال : (دَنا فَتَدَلَّى) ، فلم يتدل ببدن عن مجلسه ، وإلا قد زال عنه ، ولو لا ذلك لم يوصف بذلك

__________________

(١) علل الشرائع : ص ٢٧٦ ، ح ١.

(٢) علل الشرائع : ص ١٣١ ، ح ١.

٣١٢

نفسه؟ فقال أبو إبراهيم عليه‌السلام : «إن هذه لغة قريش ، إذا أراد الرجل منهم أن يقول : قد سمعت ، يقول : قد تدلّيت ؛ وإنما التدلّي : الفهم (١).

وفي (الاحتجاج) أيضا : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) : «يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان عند سدرة المنتهى ، حيث لا يتجاوزها خلق من خلق الله عزوجل ، وقوله في آخر الآية : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، رأى جبرئيل عليه‌السلام في صورته مرتين : هذه المرة ، ومرة أخرى ، وذلك أن خلق جبرئيل [خلق] عظيم ، فهو من الروحانيين ، الذين لا يدرك خلقهم ولا صفتهم إلا الله رب العالمين (٢).

وقال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) قال : لما رفع الحجاب بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، غشي نوره السدرة ، وقوله تعالى : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) ، أي لم ينكر (لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) ، أي رأى جبرئيل على ساقه الدّر مثل القطر على البقل ، له ستمائة جناح ، قد ملأ ما بين السماء والأرض.

وقوله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) قال : اللات رجل ، والعزى امرأة ، وقوله تعالى : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) قال : صنم بالمشلل خارج من الحرم على ستة أميال يسمى المناة.

قوله تعالى : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى) قال : هو ما قالت قريش : إن الملائكة هم بنات الله ، فرد عليهم ، فقال : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى) أي ناقصة ، ثم قال : (إِنْ هِيَ) يعني اللات والعزى ومناة

__________________

(١) الاحتجاج : ص ٣٨٦.

(٢) الاحتجاج : ص ٢٤٣.

٣١٣

(إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي من حجّة (١).

أقول : فلا دليل لديكم من العقل ، ولا دليل عن طريق الوحي على مدعاكم ، وليس لديكم إلا حفنة من الأوهام والخيالات الباطلة.

ثم يختتم القرآن الآية بالقول : (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ) فهذه الخيالات والموهومات وليدة هوى النفس «(لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) ...

إلا أنهم أغمضوا أعينهم عنه وخلفوه وراء ظهورهم وتاهوا في هذه الأوهام والضلالات!

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) (٢٥) [سورة النّجم : ٢٤ ـ ٢٥]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم أنك عليهم تمنيهم شفاعة الأوثان ، فقال لهم : (أَمْ لِلْإِنْسانِ) أي للكافر (ما تَمَنَّى) من شفاعة الأصنام. (فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) فلا يملك فيهما أحد شيئا إلا بإذنه. وقيل : معناه بل للإنسان ما تمنى من غير جزاء ، لا ليس الأمر كذلك ، لأن لله الآخرة والأولى ، يعطي منهما من يشاء ، ويمنع من يشاء. وقيل : معناه ليس للإنسان ما تمنى من نعيم الدنيا والآخرة ، بل يفعله الله تعالى بحسب المصلحة ، ويعطي الآخرة للمؤمنين دون الكافرين. وهذا هو الوجه الأوجه ، لأنه أعم فيدخل تحته الجميع (٢).

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٨.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٩٥.

٣١٤

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢٦) [سورة النّجم : ٢٦]؟!

الجواب / قال الطبرسي في (مجمع البيان) : في قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ) الآية ، قال ابن عباس : يريد لا تشفع الملائكة إلا لمن رضي الله عنه ، كما قال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى)(١).

وعن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وعن جابر الأنصاري ، كليهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «أنا واردكم على الحوض ، وأنت يا علي الساقي ، والحسن الرائد ، والحسين الآمر ، وعلي بن الحسين الفارط ، ومحمد بن علي الناشر ، وجعفر بن محمد السائق ، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمبغضين وقامع المنافقين ، وعلي بن موسى مزين المؤمنين ، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة في درجاتهم ، وعلي بن محمد خطيب شيعتهم ومزوجهم الحور ، والحسن بن علي راج أهل الجنة ، يستضيئون به ، والهادي المهدي شفيعهم يوم القيامة ، حيث لا يأذن إلا لمن يشاء ويرضى (٢).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٦٨ ، والآية من سورة الأنبياء : ٢٨.

(٢) المناقب لابن شهر آشوب : ج ١ ، ص ٢٩٢.

٣١٥

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٣١) [سورة النّجم : ٢٧ ـ ٣١]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم ذم سبحانه مقالتهم فقال : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) أي لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب. (لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى) حين زعموا أنهم بنات الله (وَما لَهُمْ بِهِ) أي بتلك التسمية (مِنْ عِلْمٍ) أي ما يستيقنون أنهم إناث ، وليسوا عالمين. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ) الذي يجوز أن يخطىء ويصيب في قولهم ذلك (وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) الحق هنا معناه العلم أي : الظن لا يغني عن العلم شيئا ، ولا يقوم مقام العلم. ثم خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (فَأَعْرِضْ) يا محمد (عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) ولم يقر بتوحيدنا (وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) فمال إلى الدنيا ومنافعها أي : لا تقابلهم على أفعالهم واحتملهم ، ولا تدع مع هذا وعظهم ودعاءهم إلى الحق (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) أي : الإعراض عن التدبر في أمور الآخرة ، وصرف الهمة إلى التمتع باللذات العاجلة ، منتهى علمهم ، وهو مبلغ خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل لأنه من طباع البهائم أن يأكل في الحال ، ولا ينتظر العواقب. وفي الدعاء : «اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا. (إِنَّ رَبَّكَ) يا محمد (هُوَ أَعْلَمُ) منك ، ومن جميع الخلق (بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) أي بمن جار وعدل عن سبيل الحق الذي هو سبيله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) إليها ، فيجاز كلا منهم على حسب أعمالهم (١).

ثم أخبر سبحانه عن كمال قدرته ، وسعة ملكه فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهذا اعتراض بين الآية الأولى ، وبين قوله

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٩٦.

٣١٦

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) واللام في (لِيَجْزِيَ) تتعلق بمعنى الآية الأولى ، لأنه إذا كان أعلم بهم ، جازى كلا منهم بما يستحقه ، وذلك لام العاقبة ، وذلك أن علمه بالفريقين أدى إلى جزائهم باستحقاقهم. وإنما يقدر على مجازاة المحسن والمسيء ، إذا كان كثير الملك ، ولذلك أخبر به في قوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ) في الآخرة (الَّذِينَ أَساؤُا) أي أشركوا بما عملوا من الشرك. (وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي وحدوا ربهم (بِالْحُسْنَى) أي الجنة. وقيل : إن اللام (لِيَجْزِيَ) يتعلق بما في قوله (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لأن المعنى في ذلك : إنه خلقهم ليتعبدهم ، فمنهم المحسن ، ومنهم المسيء. وإنما كلفهم ليجزي كلا منهم بعلمه عمله. فتكون اللام للغرض (١).

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢) [سورة النّجم : ٣٢]؟!

الجواب / قال أبو جعفر الثاني عليه‌السلام : [«سمعت أبي] يقول : سمعت أبي موسى بن جعفر عليه‌السلام يقول : دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد الله عليه‌السلام ، فلما سلّم وجلس تلا هذه الآية (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ثم أمسك ، فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : ما أسكتك؟ قال : أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله عزوجل.

فقال : نعم ـ يا عمرو ـ وأكبر الكبائر الشرك بالله ، يقول الله : (مَنْ

__________________

(١) نفس المصدر : ص ٢٩٨.

٣١٧

يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ)(١) ، وبعده اليأس من روح الله ، لأن الله عزوجل يقول : (إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ)(٢) ثم الأمن من مكر الله ، لأن الله عزوجل يقول : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ)(٣) ، ومنها عقوق الوالدين ، لأن الله سبحانه جعل العاق جبارا شقيا ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، لأن الله عزوجل يقول : (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها)(٤) ، إلى آخر الآية ، وقذف المحصنة ، لأن الله عزوجل يقول : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٥) وأكل مال اليتيم ، لأن الله عزوجل يقول : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(٦) ، والفرار من الزحف ، لأن الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٧) ، وأكل الربا ، لأن الله عزوجل : يقول : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ)(٨) ، والسّحر ، لأنّ الله عزوجل يقول : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(٩) ، والزنا ، لأن الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً)(١٠) ، واليمين الغموس (١١) الفاجرة ، لأن الله عزوجل يقول : (الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً

__________________

(١) المائدة : ٧٢ ، وفي المصحف هكذا (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ ...).

(٢) يوسف : ٨٧.

(٣) الأعراف : ٩٩.

(٤) النساء : ٩٣.

(٥) النور : ٢٣.

(٦) النساء : ١.

(٧) الأنفال : ١٦.

(٨) البقرة : ٢٧٥.

(٩) البقرة : ١٠٢.

(١٠) الفرقان : ٦٨ ، ٦٩.

(١١) اليمين الغموس : التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار. «لسان العرب : ج ٦ ، ص ١٥٦.

٣١٨

أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ)(١) ، والغلول (٢) ، لأن الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٣) ، ومنع الزكاة المفروضة لأن الله عزوجل يقول : (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)(٤) ، وشهادة الزّور وكتمان الشهادة ، لأن الله عزوجل يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ)(٥) ، وشرب الخمر ، لأن الله عزوجل نهى عنها ، كما نهى عن عبادة الأوثان ، وترك الصلاة متعمدا ، أو شيئا مما فرض الله ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من ترك الصلاة متعمدا فقد برىء من ذمّة الله وذمة رسوله ، ونقض العهد وقطيعة الرحم ، لأن الله عزوجل يقول : (أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(٦).

قال : فخرج عمرو وله صراخ من بكائه ، وهو يقول : هلك من يقول برأيه ، ونازعكم في الفضل والعلم (٧).

وقال محمد بن مسلم : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أرأيت قول الله عزوجل : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ)؟ قال : «هو الذنب يلم به الرجل ، فيمكث ما شاء الله ، ثم يلم [به] بعد (٨).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما من مؤمن إلا وله ذنب يهجره زمانا ثم يلم به ، وذلك قول الله عزوجل : (إِلَّا اللَّمَمَ).

__________________

(١) آل عمران : ٧٧.

(٢) غل يغل غلولا : خان. «لسان العرب : ج ١١ ، ص ٤٩٩.

(٣) آل عمران : ١٦١.

(٤) التوبة : ٣٥.

(٥) البقرة : ٢٨٣.

(٦) الرعد : ٢٥.

(٧) الكافي : ج ٢ ، ص ٢١٧ ، ح ٢٤.

(٨) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٢٠ ، ح ١.

٣١٩

وسألته عن قول الله عزوجل : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) ، قال : الفواحش : الزنا والسرقة ، واللمم : الرجل يلم بالذنب فيستغفر الله منه (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام ، قال : «ما من ذنب إلا وقد طبع عليه عبد مؤمن ، يهجره زمانا ثم يلم به ، وهو قول الله عزوجل : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ) ، قال : اللّمّام : العبد الذي يلم بالذنب بعد الذنب ، ليس من سليقته. أي من طبعه (٢).

وقال ابن رئاب : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إن المؤمن لا يكون سجيته الكذب والبخل والفجور ، وربما ألم من ذلك شيئا لا يدوم عليه. قيل : فيزني؟ قال : «نعم ، ولكن لا يولد له من تلك النطفة (٣).

وقال زرارة : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الكبائر؟ فقال : «هن في كتاب علي عليه‌السلام سبع : الكفر بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين ، وأكل الربا بعد البيّنة ، وأكل مال اليتيم ظلما ، والفرار من الزحف ، والتعرب بعد الهجرة.

قال : قلت : هذا أكبر المعاصي؟ قال : «نعم.

قلت : فأكل درهم من مال اليتيم ظلما أكبر ، أم ترك الصلاة؟ قال : «ترك الصلاة.

قلت : فما عددت ترك الصلاة في الكبائر؟ فقال : «أي شيء أول ما قلت لك؟. [قال] : قلت : الكفر. قال : «فإن تارك الصلاة كافر. يعني من غير علّة (٤).

وقال أبو إسحاق الليثي ، قال أبو جعفر عليه‌السلام ، في حديث : «اقرأ يا

__________________

(١) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٢٠ ، ح ٣.

(٢) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٢٠ ، ح ٥.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٢١ ، ح ح ٦.

(٤) الكافي : ج ٢ ، ص ٢١٢ ، ح ٨.

٣٢٠