التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٧

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

إبراهيم : (الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) ، يعني من الأرض الطيّبة ، والأرض المنتنة (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) ، منكم ، يقول : لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه ، لأن الله عزوجل أعلم بمن اتقى منكم ، فإن ذلك من قبل اللمم ، وهو المزاج (١).

أقول : يتحدث القرآن في ذيل الآية عن علم الله المطلق مؤكدا عدالته في مجازاة عباده حسب أعمالهم فيقول : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ)(٢).

وقوله (أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) إمّا هو باعتبار الخلق الأول عن طريق آدم عليه‌السلام الذي خلقه من تراب ، أو باعتبار أن ما يتشكّل منه وجود الإنسان كلّه من الأرض ، حيث له الأثر الكبير في التغذية وتركيب النطفة ، ثم بعد ذلك له الأثر في مراحل نمو الإنسان أيضا.

وعلى كل حال ، فإن الهدف من هذه الآية أنّ الله مطّلع على أحوالكم وعليم بكم منذ كنتم ذرّات في الأرض ومن يوم انعقدت نطفتكم في أرحام الأمّهات في أسجاف من الظلمات فكيف ـ مع هذه الحال ـ لا يعلم أعمالكم؟!

وقال جميل بن دراج : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) ، قال : «قول الإنسان : صليت البارحة ، وصمت أمس ، ونحو هذا.

ثم قال عليه‌السلام : «إن قوما كانوا يصبحون فيقولون : صلينا البارحة ، وصمنا أمس ، فقال علي عليه‌السلام : لكنيّ أنام الليل والنهار ، ولو أجد شيئا بينهما

__________________

(١) علل الشرائع : ص ٦١٠ ، ح ٨١.

(٢) الأجنّة : جمع جنين : الطفل الذي في بطن أمّه ...

٣٢١

لنمته (١).

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) (٣٦) [سورة النّجم : ٣٣ ـ ٣٦]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أي أدبر عن الحق (وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى) أي أمسك عن العطية وقطع. وقيل : منع منعا شديدا ، (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ) أي ما غاب عنه من أمر العذاب. (فَهُوَ يَرى) أي يعلم أن صاحبه يتحمل عنه عذابه (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) أي بل ألم يخبر ولم يحدث بما في أسفار التوراة (٢).

* س ٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) (٣٧) [سورة النّجم : ٣٧]؟!

الجواب / قال أبو حمزة : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : ما عنى بقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)؟ قال : «كلمات بالغ فيهنّ.

قلت : وما هنّ؟ قال : «كان إذا أصبح ، قال : أصبحت وربّي محمود ، أصبحت لا أشرك بالله شيئا ، ولا أدعو معه إلها ، ولا أتّخذ من دونه وليا ، ثلاثا ، وإذا أمسى قالها ثلاثا ، قال : فأنزل الله تبارك وتعالى في كتابه : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى)(٣).

وقال علي بن إبراهيم : وفى بما أمره الله به من الأمر والنهي وذبح ابنة (٤).

__________________

(١) معاني الأخبار : ص ٢٤٣ ، ح ١.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣٠٠.

(٣) الكافي : ج ٢ ، ص ٣٨٨ ، ح ٣٨.

(٤) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٨.

٣٢٢

* س ٩ : ما هو معنى قوله تعالى :

(أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) (٤١) [سورة النّجم : ٣٨ ـ ٤١]؟!

الجواب / قال جعفر بن محمد عليهما‌السلام الأعمش ، فيما وصف له من شرائع الدين : «إن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، ولا يكلّفها فوق طاقتها ، وأفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ، والله خالق كل شيء ، ولا نقول بالجبر ولا بالتفويض ، ولا يأخذ الله عزوجل البريء بالسقيم ، ولا يعذب الله عزوجل الأبناء بذنوب الآباء قال في محكم كتابه : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)(١) وقال عزوجل : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).

ولله عزوجل أن يعفو وأن يتفضّل ، وليس له تعالى أن يظلم ، ولا يفرض الله تعالى على عباده طاعة من يعلم أنه يغويهم ويضلهم ، ولا يختار لرسالته ، ولا يصطفي من عباده من يعلم أنه يكفر به ويعبد الشيطان دونه ، ولا يتخذ على خلقه حجة إلا معصوما (٢).

وقال الطبرسي : (وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) يعني : إن ما يفعله الإنسان ، ويسعى فيه ، لا بد أن يرى فيما بعد بمعنى أنه يجازى عليه. وبين ذلك بقوله : (ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) أي يجازى على الطاعات بأوفى ما يستحقه من الثواب الدائم. والهاء في يجزاه عائد إلى السعي ، والمعنى : إنه يرى العبد سعيه يوم القيامة ، ثم يجزى سعيه أوفى الجزاء (٣).

__________________

(١) الأنعام : ١٦٥.

(٢) التوحيد : ص ٤٠٦ ، ح ٥ ، الخصال : ص ٦٠٣ ، ح ٩.

(٣) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣٠١.

٣٢٣

* س ١٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤٢) [سورة النّجم : ٤٢]؟!

الجواب / قال سليمان بن خالد : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «يا سليمان إن الله عزوجل يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ، فإذا انتهى إلى الله فأمسكوا (١).

وقال زرارة : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : إن الناس قبلنا قد أكثروا في الصفة ، فما تقول؟ فقال : «مكروه ، أما تسمع الله عزوجل يقول : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) ، [تكلّموا فيما دون ذلك] (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا ، وتكلّموا فيما دون العرش ، فإن قوما تكلموا فيما فوق العرش فتاهت عقولهم ، حتى كان الرجل ينادى من بين يديه فيجيب من خلفه ، وينادى من خلفه ، فيجيب من بين يديه (٣).

* س ١١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٤٥) [سورة النّجم : ٤٣ ـ ٤٥]؟!

الجواب / ١ ـ قال ابن عباس في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) أضحك أمير المؤمنين وحمزة وعبيدة والمسلمين ، وأبكى كفّار مكة حتى قتلوا ودخلوا النار (٤).

وقال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) ،

__________________

(١) المحاسن : ص ٢٣٧ ، ح ٢٠٦.

(٢) التوحيد : ص ٤٥٧ ، ح ١٨.

(٣) تفسير القمي : ج ١ ، ص ٢٥.

(٤) المناقب : ج ٣ ، ص ١١٨.

٣٢٤

قال : أبكى السماء بالمطر ، وأضحك الأرض بالنبات ، قال الشاعر :

كل يوم بأقحوان جديد

تضحك الأرض من بكاء السماء (١)

٢ ـ قال الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله) : (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا) أي خلق الموت فأمات به الأحياء ، لا يقدر على ذلك غيره ، لأنه لو قدر على الموت ، لقدر على الحياة ، فإن القادر على الشي قادر على ضده ، ولا يقدر أحد على الحياة إلا الله تعالى. وخلق الحياة التي تحيا بها الحيوان ، فأمات الخلق في الدنيا ، وأحياهم في العقبى للجزاء. (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ) أي الصنفين (الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) من كل حيوان.

* س ١٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) (٤٧) [سورة النّجم : ٤٦ ـ ٤٧]؟!

الجواب / ١ ـ قال علي بن إبراهيم : تتحول النطفة إلى الدم ، فتكون أولا دما ، ثم تصير النطفة في الدماغ في عرق يقال له الوريد ، وتمر في فقار الظهر ، فلا تزال تجوز فقرة فقرة حتى تصير في الحالبين ، فتصير بيضاء ، وأما نطفة المرأة فإنها تنزل من صدرها (٢).

٢ ـ قال الشيخ الطبرسي (رحمه‌الله تعالى) : (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) أي الخلق الثاني للبعث يوم القيامة ، يعني عليه أن يبعث الناس أحياء للجزاء. فإن قيل : إن لفظة (على) كلمة إيجاب فكيف يجب على الله سبحانه ذلك؟

فالجواب : إنه سبحانه إذا كلف الخلق ، فقد ضمن الثواب. فإذا فعل فيهم الألام ، فقد ضمن العوض. فإذا لم يعوض في الدنيا ، وخلى بين المظلوم والظالم ، فلا بد من دار أخرى يقع فيه الجزاء والإنصاف والإنتصاف. وقد وعد سبحانه ذلك فيجب الوفاء به.

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٩.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٩.

٣٢٥

* س ١٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى)(٤٨) [سورة النّجم : ٤٨]؟!

الجواب / قال جعفر بن محمد ، عن آبائه عليهم‌السلام :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام في قول الله تعالى : (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى) ، قال : «أغنى كلّ إنسان بمعيشته ، وأرضاه بكسب يده (١).

* س ١٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) (٥٢) [سورة النّجم : ٤٩ ـ ٥٢]؟!

الجواب / ١ ـ قال علي بن إبراهيم القمّي : قوله : (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) : هو نجم في السماء ، يسمى الشّعرى ، كانت قريش وقوم من العرب يعبدونه ، وهو نجم يطلع في آخر الليل (٢).

٢ ـ قال الشيخ الطبرسي : (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى) وهو عاد بن إرم ، وهم قوم هود أهلكهم الله بريح صرصر عاتية ، وكان لهم عقب فكانوا عادا الأخرى. أهلكوا ببغي بعضهم على بعض ، فتفانوا بالقتل.

(وَثَمُودَ) أي وأهلك ثمود (فَما أَبْقى) ولا يجوز أن يكون منصوبا بأبقى ، لأن «ما لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، لا يقال : زيدا ما ضربت ، لأنها تجري مجرى الاستفهام في أن لها صدر الكلام.

وإنما فتحت أن في هذه المواضع كلها ، لأن جميعها في صحف إبراهيم وموسى ، فكأنه قال : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى بأنه

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٩.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٩.

٣٢٦

إلا تزر وازرة وزر أخرى ، وبأنه كذا وكذا. (وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ) أي : وأهلكنا قوم نوح من قبل عاد وثمود. (إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى) من غيرهم ، لطول دعوة نوح ، وعتوهم على الله في الكفر والتكذيب (١).

* س ١٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى) (٥٤) [سورة النّجم : ٥٣ ـ ٥٤]؟!

الجواب / قال أبو بصير : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قوله عزوجل : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى)؟

قال : «هم أهل البصرة ، هي المؤتكفة.

[قلت] : (وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ)(٢)؟

قال : «أولئك قوم لوط ، ائتفكت عليهم ، أي انقلبت عليهم (٣).

وقال علي بن إبراهيم : قوله تعالى : (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى) ، قال : المؤتفكة : البصرة ، والدليل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه‌السلام : «يا أهل البصرة ، يا أهل المؤتفكة ، يا جند المرأة ، وأتباع البهيمة ، رغا فأجبتم ، وعقر فانهزمتم ، ماؤكم زعاق (٤) ، وأديانكم (٥) رقاق (٦) ، وفيكم ختم النفاق ، ولعنتم

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣٠٥.

(٢) التوبة : ٧٠.

(٣) الكافي : ج ٨ ، ص ١٨ ، ح ٢٠٢.

(٤) ماء زعاق : مر غليظ لا يطاق شربه من أجوجته. «لسان العرب : ج ١ ، ص ١٤١.

(٥) وقيل : أحلامكم.

(٦) الرقّة : مصدر الرقيق عامّ في كل شيء حتى يقال : فلان رقيق الدين. «لسان العرب : ج ١٠ ، ص ١٢٢.

٣٢٧

على لسان سبعين نبيا ، إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرني أن جبرئيل عليه‌السلام أخبره أنه طوى له الأرض ، فرأى البصرة أقرب الأرضين من الماء ، وأبعدها من السماء ، وفيها تسعة أعشار الشرّ والداء العضال ، المقيم فيها مذنب ، والخارج منها [متدارك] برحمة [من ربّه] ، وقد ائتفكت بأهلها مرتين ، وعلى الله [تمام] الثالثة ، وتمام الثالثة في الرجعة (١).

وقال الطبرسي : (فَغَشَّاها) أي ألبسها من العذاب ما ألبس يعني الحجارة المسومة التي رموا بها من السماء. وقيل : إنه تفخيم لشأن العذاب الذي نالها من جهة إبهامه في قوله (ما غَشَّى) فكأنه قال : قد حل بهم من العذاب والتنكيل ما يجل عن البيان والتفصيل (٢).

* س ١٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) (٥٥) [سورة النّجم : ٥٥]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : أي بأي سلطان تخاصم (٣).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «الشك على أربع شعب : على المرية ، والتردد ، والاستسلام ، وهو قول الله عزوجل : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى)(٤).

* س ١٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) (٦٢) [سورة النّجم : ٥٦ ـ ٦٢]؟!

الجواب / قال معمر : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل :

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٣٩.

(٢) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٣٠٥.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٠.

(٤) الكافي : ج ٢ ، ص ٢٨٩ ، ح ١.

٣٢٨

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) ، قال : «إن الله تعالى لمّا ذرأ الخلق إلى الذر الأول ، فأقامهم صفوفا ، وبعث الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فآمن به قوم ، وأنكره قوم ، فقال الله عزوجل : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) يعني به محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث دعاهم إلى الله عزوجل في الذر الأول (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ما بعث الله نبيا أكرم من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا خلق قبله أحدا ، ولا أنذر الله خلقه بأحد من خلقه قبل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذلك قوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) ، وقال : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ)(٢) فلم يكن قبله مطاع في الخلق ، ولا يكون بعده إلى أن تقوم الساعة ، في كلّ قرن إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها (٣).

وقال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ) قال : قربت القيامة (لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ) ، أي لا يكشفها إلا الله (أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ) أي ما قد تقدم ذكره من الأخبار (٤).

وقال الطبرسي : يعني بالحديث ما تقدم ذكره من الأخبار ، عن الصادق عليه‌السلام (٥).

وقال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) ، أي ساهون ـ وقيل لاهون ـ (٦).

أقول : ويقول القرآن في آخر آية من الآيات : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا). فإذا أردتم أن تسيروا في الصراط المستقيم والسبيل الحقّ فاسجدوا لذاته المقدسة فحسب ، إذ لله وحده تنتهي الخطوط في عالم الوجود ، وإذا أردتم

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٠.

(٢) الرعد : ٧.

(٣) الأمالي : ج ٢ ، ص ٢٨٢.

(٤) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٠.

(٥) مجمع البيان : ج ٩ ، ص ٢٧٧.

(٦) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤٠.

٣٢٩

النجاة من العواقب الوخيمة التي أصابت الأمم السالفة لشركهم ، وكفرهم فوقعوا في قبضة عذاب الله ، فاعبدوا الله وحده.

الذي يجب النظر ـ كما جاء في روايات متعددة ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندما تلا هذه الآية وسمعها المؤمنون والكافرون سجدوا لها جميعا.

ووفقا لبعض الروايات أن الوحيد الذي لم يسجد لهذه الآية عند سماعها هو «الوليد ابن المغيرة [لعله لم يستطع أن ينحني للسجود] فأخذ قبضة من التراب ووضعها على جبهته فكان سجوده بهذه الصورة.

٣٣٠

تفسير

سورة القمر

رقم السورة ـ ٥٤ ـ

٣٣١
٣٣٢

سورة القمر

* س ١ : ما هو فضل سورة القمر؟!

الجواب / من (خواص القرآن) : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : «من قرأ هذه السورة بعثه الله تعالى يوم القيامة ووجهه كالقمر ليلة البدر ، مسفرا على وجه الخلائق ، ومن قرأها كل ليلة كان أفضل ؛ ومن كتبها يوم الجمعة وقت الصلاة الظهر وجعلها في عمامته أو تعلقها ، كان وجيها أينما قصد وطلب (١).

وقال الصادق عليه‌السلام : «من كتبها يوم الجمعة عند صلاة الظهر وعلقها على عمامته ، كان عند الناس وجيها ومقبولا ، وسهلت عليه الأمور الصعبة بإذن الله تعالى (٢).

* س ٢ : ما هو معنى قوله تعالى :

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(٢) [سورة القمر : ١ ـ ٢]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : في قوله تعالى : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) ، قربت القيامة ، فلا يكون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا القيامة ، وقد انقضت النبوة والرسالة ، وقوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) ، فإن قريشا سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) البرهان : ج ٩ ، ص ٢٨٥.

(٢) خواص القرآن : ص ٩ «مخطوط.

٣٣٣

أن يريهم آية ، فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ، ثم التأم ، فقالوا : هذا سحر مستمر ، أي صحيح (١).

ثم قال علي بن إبراهيم : حدثنا يونس : قال [لي] أبو عبد الله عليه‌السلام : «اجتمع أربعة عشر رجلا أصحاب العقبة ليلة أربع عشرة من ذي الحجّة ، فقالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما من نبي إلا وله آية ، فما آيتك في ليلتك هذه؟ فقال [النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم] : ما الذي تريدون؟ فقالوا : إن يكن لك عند ربك قدر فأمر القمر أن ينقطع قطعتين. فهبط جبرئيل عليه‌السلام ، وقال : يا محمد ، إن الله يقرئك السلام ويقول لك : إني قد أمرت كل شيء بطاعتك ، فرفع رأسه فأمر القمر أن ينقطع قطعتين ، فانقطع قطعتين ، فسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شكرا [لله] ، وسجد شيعتنا ، ثم رفع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأسه ورفعوا رؤوسهم ، ثم قالوا : يعود كما كان. فعاد كما كان ، ثم قالوا : ينشق رأسه! فأمره فانشق ، فسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شكرا لله ، وسجد شيعتنا ، فقالوا : يا محمد ، حين تقدم سفارنا من الشام واليمن نسألهم ما رأوا في هذه الليلة ، فإن يكونوا رأوا مثل ما رأينا ، علمنا أنه من ربك ، وإن لم يروا مثل ما رأينا ، علمنا أنه سحر سحرتنا به ؛ فأنزل الله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) إلى آخر السورة (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام : «لما ظهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، ودعا الناس إلى الله تعالى ، تحيرت قبائل قريش ، وقال بعضهم لبعض : ما ترون [من الرأي في] ما يأتينا من محمد كرة بعد كرة مما لا يقدر عليه السّحرة والكهنة؟ واجتمعوا على أن يسألوه شق القمر في السماء ، وإنزاله إلى الأرض شعبتين ، وقالوا : إن القمر ما سمعنا في سائر النبيين أحدا قدر عليه ، كما قدر على الشمس ، فإنها ردت ليوشع بن نون وصيّ موسى عليه‌السلام ، وكان الناس يظنون

__________________

(١) تفسير القمّي : ج ٢ ، ج ٣٤٠.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤١.

٣٣٤

أنها لا ترد عن موضعها. وأجمعوا أمرهم وجاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : يا محمد ، اجعل بيننا وبينك آية ، إن أتيت بها آمنّا بك وصدقناك. فقال لهم : سلوا ، فإني آتيكم بكل ما تختارون. فقالوا : الوعد بيننا وبينك سواد الليل وطلوع القمر ، وأن تقف بين المشعرين ، فتسأل ربك الذي تقول إنه أرسلك رسولا ، أن يشق القمر شعبتين وينزله ، من السماء حتى ينقسم قسمين ، ويقع قسم على المشعرين وقسم على الصفا.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر ، أنا وفيّ بالعهد ، فهل أنتم موفون بما قلتم إنكم تؤمنون بالله ورسوله؟ قالوا : نعم يا محمد. وتسامع الناس ، ثم تواعدوا سواد الليل. وأقبل الناس يهرعون إلى البيت وحوله حتى أقبل الليل وأسود ، وطلع القمر وأنار ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام ومن آمن بالله ورسوله ، يصلّون خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويطوفون بالبيت.

وأقبل أبو لهب وأبو جهل وأبو سفيان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : الآن يبطل سحرك وكهانتك وحيلتك ، هذا القمر ، فأوف بوعدك. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم ـ يا أبا الحسن ـ فقف بجانب الصّفا ، وهرول إلى المشعرين ، وناد نداء ظاهرا ، وقل في ندائك : اللهم رب البيت الحرام ، والبلد الحرام ، وزمزم والمقام ، ومرسل الرسول التهامي ، ائذن للقمر أن ينشق وينزل إلى الأرض ، فيقع نصفه على الصفا ونصفه على المشعرين ، فقد سمعت سرّنا ونجوانا وأنت بكل شيء عليم.

قال : فتضاحكت قريش فقالوا : إن محمدا قد استشفع بعليّ ، لأنه لم يبلغ الحلم ولا ذنب له ، وقال أبو لهب : لقد أشمتني الله بك ـ يا بن أخي ـ في هذه الليلة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إخسأ ، يا من أتبّ الله يديه ، ولم ينفعه ماله ، وتبوّأ مقعده من النار. قال أبو لهب : لأفضحنّك في هذه الليلة بالقمر وشقّه وإنزاله إلى الأرض ، وإلّا ألفت كلامك هذا وجعلته سورة ، وقلت : هذا أوحي إلي في أبي لهب.

٣٣٥

فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : امض يا علي فيما أمرتك واستعذ بالله من الجاهلين. وهرول عليّ عليه‌السلام من الصّفا إلى المشعرين ، ونادى وأسمع ودعا ، فما استتمّ كلامه حتى كادت الأرض أن تسيخ بأهلها ، والسماء أن تقع على الأرض ، فقالوا : يا محمد ، حيث أعجزك شق القمر أتيتنا بسحرك لتفتنا به. فقال النبي (صلوات الله عليه وآله) : هان عليكم ما دعوت الله به. فإن السماء والأرض لا يهون عليهما ذلك ، ولا يطيقان سماعه ، فقفوا بأماكنكم وانظروا إلى القمر.

قال : ثم إن القمر انشقّ نصفين ، قسم وقع على الصّفا ، وقسم وقع على المشعرين ، فأضاءت دواخل مكة وأوديتها وشعابها ، وصاح الناس من كل جانب آمنا بالله ورسوله. وصاح المنافقون : أهلكتنا بسحرك فافعل ما تشاء ، فلن نؤمن لك بما جئتنا به ، ثم رجع القمر إلى منزله من الفلك ، وأصبح الناس يلوم بعضهم بعضا ، ويقولون لكبرائهم : والله لنؤمنن بمحمد ، ولنقاتلنكم معه مؤمنين به ، فقد سقطع الحجّة وتبينت الأعذار ، وتبين الحق. وأنزل الله عزوجل في ذلك اليوم سورة أبي لهب واتصلت به. فقال : آه لمحمد ، نظر ما قلته له في تأليفه هذا الكلام ، والله إن محمدا ليعاديني لكفري به وتكذيبي له ، فإنه ليس من أولاد عبد المطلب ، لما أتت أمه بتلك الفاحشة وحرقها أبونا عبد المطلب على الصفا ، وكان أشدهم له جحدا الحارث والزبير وأبو لهب ، فحلفت باللات والعزى أنه من أبينا عبد المطلب حتى ألحقت عبد الله بالنسب ، فمن أجل ذلك شعر وألف هذا الذي زعم أنه سورة أنزلها الله عليه فيّ ، فوحق اللات والعزى لو أتى محمد بما يملأ الأفق فيّ من مدح ما آمنت به ، وحسبي أن أباين محمدا من أهل بيته فيما جاء به ، ولو عذبني رب الكعبة بالنار.

فآمن في ذلك اليوم ستمائة واثنا عشر رجلا أسرّ أكثرهم إيمانه وكتمه إلى أن هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومات أبو لهب على كفره ، وقتل أبو جهل ،

٣٣٦

وآمن أبو سفيان ومعاوية وعتبة يوم الفتح ، والعباس وزيد بن الخطاب وعقيل بن أبي طالب ، وآمن كثير منهم تحت القتل ، ثمانون رجلا ، وكانوا طلقاء ولم ينفعهم إيمانهم (١).

* س ٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) (٧) [سورة القمر : ٣ ـ ٧]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم القميّ : قوله تعالى : (وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي كانوا يعملون برأيهم ، ويكذّبون أنبياءهم [أقول : وبالنسبة لقوله تعالى : (وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) ، يعني أن كل إنسان يجازى بعمله وفعله ، فالصالحون سيكون مستقرّهم صالحا ، والأشرار سيكون مستقرّهم الشرّ.

ويحتمل أن يكون المراد من هذا التعبير هو أنّ كل شيء في هذا العالم لا يفنى ولا يزول ، فالأعمال الصالحة أو السيئة تبقى مع الإنسان حتى يرى جزاء ما فعل].

وقال : قوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) ، أي متّعظ.

أقول : [ويضيف تعالى : (حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ) فهذه الآيات حكم إلهية بليغة ومواعظ مؤثّرة ، إلا أنها لا تفيد أهل العناد. والآية التي بعدها تؤكد على أن هؤلاء ليسوا على استعداد لقبول الحقّ ، فأتركهم لحالهم وأعرض عنهم وتذكّر يوم يدعو الداعي الإلهي إلى أمر مخيف ، وهو الدعوة

__________________

(١) الهداية الكبرى : ص ٧٠ ، ح ٢٤.

٣٣٧

إلى الحساب ، حيث يقول سبحانه : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ).

وعلى هذا تكون عبارة : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) عبارة مستقلّة ومنفصلة عن جملة : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) ، لكن البعض يرى أن كل واحدة من الجملتين مكملة للأخرى ، حيث يذهبون إلى أن قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ) جاءت بصيغة الأمر للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالإعراض عن المشركين الذين يرجون الشفاعة منه يوم القيامة عندما يدعوهم الداعي الإلهي للحساب. وهذا الرأي مستبعد جدا.

وهنا يثار السؤال التالي : هل الداعي هو الله سبحانه؟ أم الملائكة؟ أم إسرافيل الذي يدعو الناس ليوم الحشر عندما ينفخ في الصور؟ أم جميع هؤلاء؟

ذكر المفسّرون احتمالات عدة للإجابة على هذا التساؤل ، ولكن بالرجوع إلى قوله تعالى : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ)(١) ، يرجّح الرأي الأول. رغم أن الآيات اللاحقة تتناسب مع كون الداعي هم الملائكة المختصّون بشؤون الحساب والجزاء.

أما المراد من (شَيْءٍ نُكُرٍ) فهو الحساب الإلهي الدقيق الذي لم ين معلوما من حيث وقته قبل قيام الساعة ، أو العذاب الذي لم يخطر على بالهم ، أو جميع هذه الأمور ، ذلك لأنّ يوم القيامة في جميع أحواله حالة غير مألوفة للبشر].

وقال علي بن إبراهيم : «الإمام عليه‌السلام [إذا خرج] يدعوهم إلى ما ينكرون (٢).

__________________

(١) الإسراء : ٥٢.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٣٤١.

٣٣٨

[أقول : وفي الآية اللاحقة يبيّن الله سبحانه وتعالى توضيحا أكثر حول هذا الموضوع ويذكر أن هؤلاء يخرجون من القبور في حالة : (خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ).

نسبة «الخشوع هنا للأبصار لأن المشهد مرعب ومخيف إلى حدّ لا تستطيع الأنظار رؤيته ، لذلك فإنها تتحوّل عنه وتطرّق نحو الأسفل.

والتشبيه هنا ب «الجراد المنتشر لأنّ النشور في يوم الحشر يكون بصورة غير منتظمة لحالة الهول التي تعتري الناس فيه ، كما هي حركة انتشار الجراد التي تتمثّل فيها الفوضى والاضطراب خلافا للقسم الأكبر من حركة الطيور التي تطير وفق نظم خاصّة في الجو ، مضافا إلى أنّهم كالجراد من حيث الضعف وعدم القدرة.

نعم ، إنّ حالة هؤلاء الفاقدين للعلم والبصيرة ، حالة ذهول ووحشة وتخبّط في المسير كالسكارى يرتطم بعضهم ببعض فاقدين للوعي والإرادة كما في قوله تعالى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى)(١). والحقيقة أن هذا التشبيه هو ما ورد أيضا في الآية (٤) من سورة القارعة حيث يقول سبحانه : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ)].

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١٠) [سورة القمر : ٨ ـ ١٠]؟!

الجواب / أقول : قوله تعالى : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) فإن كلمة «مهطعين تأتي من مادة (إهطاع) أي مدّ الرقبة ، والبعض يرجعها إلى النظر بانتباه أو

__________________

(١) الحج : ٢.

٣٣٩

الكرض بسرعة نحو الشيء ، ويحتمل أن تكون كلّ واحدة من هذه المعاني هي المقصودة ، ولكن المعنى الأوّل هو الأنسب ، لأن الإنسان عند سماعه لصوت موحش يمدّ رقبته على الفور وينتبه إلى مصدر الصوت ، ويمكن أن تكون هذه المفاهيم مجتمعة في الآية الكريمة حيث أنّ بمجرد سماع صوت الداعي الإلهي تمدّ الرقاب إليه ثم يتبعه التوجّه بالنظر نحوه ، ثم الإسراع إليه والحضور في المحكمة الإلهيّة العادلة عند دعوتهم إليها.

وقال ثوير بن أبي فاختة : سمعت علي بن الحسين عليهما‌السلام يحدث في مسجد رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «حدثني أبي أنه سمع أباه علي بن أبي طالب عليه‌السلام يحدث الناس ، قال : إذا كان يوم القيامة بعث الله تبارك وتعالى الناس من حفرهم غرلا بهما (١) جردا مردا في صعيد واحد يسوقهم النور ، وتجمعهم الظلمة ، حتى يقفوا على عقبة المحشر ، فيركب بعضهم بعضا ، ويزدحمون دونها ، فيمنعون من المضيّ ، فتشتدّ أنفاسهم ، ويكثر عرقهم ، وتضيق بهم أمورهم ، ويشتد ضجيجهم وترتفع أصواتهم. قال : وهو أول هول من أهوال يوم القيامة ، قال : فيشرف الجبّار تبارك وتعالى عليهم من فوق عرشه [في ظلل من الملائكة فيأمر ملكا من الملائكة ، فينادي فيهم] : يا معشر الخلائق ، أنصتوا واسمعوا منادي الجبّار ، قال : فيسمع آخرهم كما يسمع أولهم ، قال : فتنكسر أصواتهم عند ذلك ، وتخشع أبصارهم ، وتضطرب فرائصهم ، وتفزع قلوبهم ، ويرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصوت مهطعين إلى الداعي ، قال : فعند ذلك يقول الكافرون هذا يوم عسر (٢).

وقال علي بن إبراهيم : ثم حكى الله عزوجل هلاك الأمم الماضية ،

__________________

(١) الغرل : جمع الأغرل ، وهو الأقلف. والبهم : جمع بهيم ، وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه ، يعني ليس فيهم شيء من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا.

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ١٠٤ ، ح ٧٩.

٣٤٠