التيسير في التفسير للقرآن - ج ٦

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

٢ ـ قال أبو عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ).

«كان سبب نزول ذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تزوج بخديجة بنت خويلد خرج إلى سوق عكاظ في تجارة لها ، فرأى زيد يباع ، ورآه غلاما كيسا حصيفا (١) ، فاشتراه ، فلما نبئ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاه إلى الإسلام فأسلم ، وكان يدعى زيد مولى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلما بلغ حارثة بن شراحيل الكلبي خبر ولده زيد قدم مكة ، وكان رجلا جليلا ، فأتى أبا طالب ، فقال : يا أبا طالب ، إن ابني وقع عليه السّبي ، وبلغني أنه صار إلى ابن أخيك ، فاسأله ، إما أن يبيعه ، وإما أن يفاديه ، وإما أن يعتقه. فكلم أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو حرّ ، فليذهب حيث شاء. فقام حارثة فأخذ بيد زيد ، فقال له : يا بنيّ ، الحق بشرفك وحسبك. فقال زيد : لست أفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبدا. فقال له أبوه : فتدع حسبك ونسبك ، وتكون عبدا لقريش؟ فقال زيد : لست أفارق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما دمت حيا. فغضب أبوه ، فقال : يا معشر قريش ، اشهدوا أني قد برئت من زيد ، وليس هو ابني.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشهدوا أن زيدا ابني ، أرثه ويرثني. وكان زيد يدعى ابن محمد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحبه ، وسماه : زيد الحبّ.

فلما هاجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة زوّجه زينب بنت جحش ، فأبطأ عنه يوما ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله يسأل عنه ، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر (٢) لها ، فنظر إليها ، وكانت جميلة حسنة ، فقال :

__________________

(١) الحصيف : الجيد الرأي المحكم العقل. «لسان العرب ـ حصف ـ ج ٩ ، ص ٤٨».

(٢) الفهر : الحجر قدر ما يدق به الجوز ونحوه. «لسان العرب ـ فهر ـ ج ٥ ، ص ٦٦».

٦١

سبحان الله خالق النور ، وتبارك الله أحسن الخالقين! ثم رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى منزله ، ووقعت زينب في قلبه موقعا عجيبا ، وجاء زيد إلى منزله ، فأخبرته زينب بما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها زيد : هل لك أن أطلّقك حتى يتزوجك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فلعلّك قد وقعت في قلبه. فقالت : أخشى أن تطلّقني ولا يتزوجني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فجاء زيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : بأبي أنت وأمي ـ يا رسول الله ـ أخبرتني زينب بكذا وكذا ، فهل لك أن أطلقها حتى تتزوجها؟ فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اذهب ، واتق الله ، وأمسك عليك زوجك ، ثم حكى الله ، فقال : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً)(١) فزوّجه الله من فوق عرشه ، فقال المنافقون : يحرم علينا نساء أبناءنا ويتزوج امرأة ابنه زيد! فأنزل الله في هذا : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) إلى قوله : (يَهْدِي السَّبِيلَ). ثم قال : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) إلى قوله : (وَمَوالِيكُمْ).

فاعلم أن زيدا ليس ابن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنما ادّعاه للسبب الذي ذكرناه ، وفي هذا أيضا ما نكتبه في غير هذا الموضع ، في قوله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٢).

ثم نزل : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ)(٣) أي من بعد ما حلل عليه في سورة النساء. وقوله : (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ)(٤) معطوف على قصة امرأة

__________________

(١) الأحزاب : ٣٧.

(٢) الأحزاب : ٤٠.

(٣) الأحزاب : ٥٢.

(٤) نفس المصدر.

٦٢

زيد (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ)(١) أي لا يحل لك امرأة رجل أن تتعرض لها حتى يطلّقها زوجها وتتزوجها أنت ، فلا تفعل هذا الفعل بعد هذا (٢).

٣ ـ قال الشيخ الطبرسيّ (رحمه‌الله تعالى) : قوله (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) أي : ليس عليكم حرج في نسبته إلى المتبني ، إذا ظننتم أنه أبوه ، ولم تعلموا أنه ليس بابن له ، فلا يؤاخذكم الله به. (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ). أي : ولكن الإثم الجناح فيما تعمدت قلوبكم ، أو قصدتموه من دعائهم إلى غير آبائهم ، فإنكم تؤاخذون به. وقيل : ما أخطأتم قبل النهي ، وما تعمدتموه بعد النهي. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) لما سلف من قولكم (رَحِيماً) بكم. وفي هذه الآية دلالة على أنه لا يجوز الانتساب إلى غير الأب ، وقد وردت السنة بتغليظ الأمر فيه قال عليه‌السلام : (من انتسب إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله) (٣)

* س ٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦) [سورة الأحزاب : ٦]؟!

الجواب / ١ ـ سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) قال : نزلت في ولد الحسين عليه‌السلام».

قال عبد الرحيم بن روح القصير : قلت : جعلت فداك ، نزلت في الفرائض؟ قال : «لا» ، قلت : ففي المواريث؟ فقال : «لا ، نزلت في الأمرة» (٤).

__________________

(١) نفس المصدر.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٧٢.

(٣) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ١١٩ ـ ١٢٠.

(٤) تأويل الآيات : ج ٢ ، ص ٤٤٧ ، ح ٤.

٦٣

وقال عبد الرحيم بن روح القصير ، سألت أبا جعفر عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، فيمن نزلت؟ فقال : «نزلت في الإمرة ، إن هذه الآية جرت في ولد الحسين عليه‌السلام من بعده ، فنحن أولى بالأمر ، وبرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المؤمنين والمهاجرين والأنصار».

فقلت : فلولد جعفر فيها نصيب؟ فقال : «لا». قلت : فلولد العباس فيها نصيب؟ فقال : «لا». فعددت عليه بطون بني عبد المطلب ، كل ذلك يقول : «لا». قال : ونسيت ولد الحسن عليه‌السلام ، فدخلت بعد ذلك عليه ، فقلت له : هل لولد الحسن عليه‌السلام فيها نصيب؟ فقال : «لا والله ـ يا عبد الرحيم ـ ما لمحمدي فيها نصيب غيرنا» (١).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لا تعود الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليه‌السلام أبدا ، إنما جرت من علي بن الحسين عليه‌السلام كما قال الله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، فلا تكون بعد عليّ بن الحسين عليه‌السلام إلا في الأعقاب ، وأعقاب الأعقاب» (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «لما قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان علي عليه‌السلام أولى الناس بالناس ، لكثرة ما بلغ فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإقامته للناس ، وأخذه بيده ، فلما مضى علي عليه‌السلام لم يكن يستطيع علي ، ولم يكن ليفعل ، أن يدخل محمد بن علي ، ولا العباس بن علي ، ولا أحدا من ولده ، إذن لقال الحسن والحسين عليهما‌السلام : إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك ، وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك ، وبلغ فينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما بلغ فيك ، وأذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك.

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٢٢٨ ، ح ٢.

(٢) الكافي : ج ١ ، ص ٢٢٥ ، ح ١.

٦٤

فلما مضى علي عليه‌السلام كان الحسن عليه‌السلام أولى بها لكبره ، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده ، ولم يكن ليفعل ذلك ، والله عزوجل يقول : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، فيجعلها في ولده ، إذن لقال الحسين عليه‌السلام : أمر الله تبارك وتعالى بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك ، وبلّغ فيّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما بلّغ فيك وفي أبيك ، وأذهب عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك.

فلما صارت إلى الحسين عليه‌السلام لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه ، كما كان هو يدعي على أخيه وعلى أبيه لو أرادا أن يصرفا الأمر عنه ، ولم يكونا ليفعلا ، ثم صارت حين أفضت إلى الحسين عليه‌السلام ، فجرى تأويل هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، ثمّ صارت من بعد الحسين عليه‌السلام ، لعلي بن الحسين عليه‌السلام ، ثم صارت من بعد علي بن الحسين عليه‌السلام إلى محمد بن علي عليه‌السلام».

وقال : «الرّجس هو الشك ، والله لا نشكّ في ربنا أبدا» (١).

٢ ـ قال أبو جعفر عليه‌السلام : «قضى أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) في خالة جاءت تخاصم في مولى رجل مات ، فقرأ هذه الآية : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، فدفع الميراث إلى الخالة ، ولم يعط المولى» (٢).

وقال حنان : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أي شيء للموالي؟ فقال : «ليس لهم من الميراث إلا ما قال الله عزوجل : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً)(٣).

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٢٢٧ ، ح ١.

(٢) الكافي : ج ١ ، ص ١٣٥ ، ح ٢.

(٣) الكافي : ج ١ ، ص ١٣٥ ، ح ٣.

٦٥

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «اختلف علي عليه‌السلام وعثمان بن عفان في الرجل يموت وليس له عصبة يرثونه ، وله ذو قرابة ، لا يرثونه. فقال علي عليه‌السلام : ميراثه لهم ، يقول الله عزوجل : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) ، وكان عثمان يقول : يجعل في بيت مال المسلمين» (١).

٣ ـ قال علي بن إبراهيم ، في قوله تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ).

قال : نزلت : «وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم» فجعل الله المؤمنين أولادا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا لهم ، ثم لمن لم يقدر أن يصون نفسه ، ولم يكن له مال ، وليس له على نفسه ولاية ، فجعل الله تبارك وتعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية على المؤمنين من أنفسهم ، وهو قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغدير خم : «يا أيها الناس ، ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا : بلى. ثم أوجب لأمير المؤمنين عليه‌السلام ما أوجبه لنفسه عليهم من الولاية ، فقال : «ألا من كنت مولاه فعلي مولاه».

فلما جعل الله النبي أبا للمؤمنين ألزمه مؤونتهم ، وتربية أيتامهم ، فعند ذلك صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر ، فقال : «من ترك مالا فلورثته ، ومن ترك دينا ، أو ضياعا فعليّ وإليّ». فألزم الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤمنين ما يلزم الوالد ، وألزم المؤمنين من الطاعة له ما يلزم الولد للوالد ، وكذلك ألزم أمير المؤمنين عليه‌السلام ما ألزم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك ، وبعده الأئمّة عليهم‌السلام واحدا واحدا ، والدليل على أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين عليه‌السلام هما الوالدان : قوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً)(٢) فالوالدان : رسول الله ، وأمير

__________________

(١) التهذيب : ج ٩ ، ص ٣٩٦ ، ح ١٤١٦.

(٢) النساء : ٣٦.

٦٦

المؤمنين (صلوات الله عليهما).

وقال الصادق عليه‌السلام : «وكان إسلام عامة اليهود بهذا السبب ، لأنهم أمنوا على أنفسهم وعيالاتهم» (١).

وقال : وقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ) قال : نزلت في الإمامة (٢).

* س ٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧) [سورة الأحزاب : ٧]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أول من سبق إلى الميثاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك أنه كان أقرب الخلق إلى الله تبارك وتعالى ، وكان بالمكان الذي قال له جبرئيل لما أسري به إلى السماء : تقدّم ـ يا محمد ـ فقد وطئت موطئا لم يطأه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، ولو لا أن روحه ونفسه كانت من ذلك المكان لما قدر أن يبلغه ، فكان من الله عزوجل كما قال الله تعالى : (قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى)(٣) ، أي بل أدنى ، فلما خرج الأمر ، وقع من الله إلى أوليائه عليهم‌السلام».

فقال الصادق عليه‌السلام : «كان الميثاق مأخوذا عليهم لله بالربوبيّة ، ولرسوله بالنبوّة ، ولأمير المؤمنين والأئمّة بالإمامة ، فقال : ألست بربكم ، ومحمد نبيكم ، وعلي إمامكم ، والأئمة الهادون أئمّتكم؟ فقالوا : بلى ، شهدنا. فقال الله تعالى : أن تقولوا يوم القيامة ـ أي لئلا تقولوا يوم القيامة ـ إنا كنا عن هذا غافلين.

فأول ما أخذ الله عزوجل الميثاق على الأنبياء له بالربوبية ، وهو قوله :

__________________

(١) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٧٥.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٧٦.

(٣) النجم : ٩.

٦٧

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) ، فذكر جملة الأنبياء ، ثم أبرز عزوجل أفضلهم بالأسامي ، فقال : (وَمِنْكَ) يا محمد ، فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه أفضلهم (وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فهؤلاء الخمسة أفضل الأنبياء ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضلهم ، ثم أخذ بعد ذلك ميثاق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنبياء بالإيمان به ، وعلى أن ينصروا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ)(١) يعني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)(٢) يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام ، تخبروا أممكم بخبره ، وخبر وليه من الأئمة عليهم‌السلام» (٣).

قال علي بن إبراهيم : هذه الواو زائدة في قوله : (وَمِنْكَ) إنما هو : منك (وَمِنْ نُوحٍ) فأخذ الله الميثاق لنفسه على الأنبياء ، ثم أخذ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأنبياء والأئمة عليهم‌السلام ، ثم أخذ للأنبياء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

* س ٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٨) [سورة الأحزاب : ٨]؟!

الجواب / قال الصادق عليه‌السلام : «إذا سئل الصادق عن صدقه على أي وجه قاله ، فيجازى بحسبه ، فكيف يكون حال الكاذب!» (٥).

__________________

(١) آل عمران : ٨١.

(٢) نفس المصدر.

(٣) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٤٦.

(٤) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ١٧٦.

(٥) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ٥٣١.

٦٨

* س ٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً) (٢٢) [سورة الأحزاب : ٩ ـ ٢٢]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على التل الذي

٦٩

عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب ، في ليلة ظلماء قرّة (١) ، فقال : من يذهب فيأتينا بخبرهم ، وله الجنّة؟ فلم يقم أحد ، ثم أعادها ، فلم يقم أحد ـ فقال أبو عبد الله عليه‌السلام بيده ـ وما أراد القوم ، أرادوا أفضل من الجنة؟! ثم قال : من هذا؟ فقال : حذيفة. فقال : أما تسمع كلامي منذ الليلة ، ولا تكلم؟ اقترب. فقام حذيفة ، وهو يقول : القرّ والضر ـ جعلني الله فداك ـ منعني أن أجيبك. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انطلق حتى تسمع كلامهم تأتيني بخبرهم. فلما ذهب قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، حتى تردّه ـ وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يا حذيفة ، لا تحدث شيئا حتى تأتيني. فأخذ سيفه وقوسه وحجفته (٢). قال حذيفة : فخرجت ، وما بي من ضرّ ولا قرّ ، فمررت على باب الخندق ، وقد اعتراه المؤمنون والكفار.

فلما توجه حذيفة ، قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونادى : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، اكشف همي وغمي وكربي ، فقد ترى حالي وحال أصحابي. فنزل عليه جبرئيل عليه‌السلام ، فقال : يا رسول الله ، إن الله عز ذكره قد سمع مقالتك ، ودعاءك ، وقد أجابك ، وكفاك هول عدوك. فجثا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرسل عينيه ، ثم قال : شكرا ، شكرا كما رحمتني ، ورحمت أصحابي. ثم قال يا رسول الله ، قد بعث الله عزوجل عليهم ريحا من السماء الدنيا فيها حصى ، وريحا من السماء الرابعة فيها جندل (٣).

قال حذيفة : فخرجت ، فإذا أنا بنيران القوم ، وأقبل جند الله الأوّل ، ريح فيها حصى ، فما تركت لهم نارا إلا أذرتها ، ولا خباء إلا طرحته ، ولا رمحا

__________________

(١) القرّ : البرد. «النهاية : ج ٤ ، ص ٣٨».

(٢) الحجفة : الترس. «الصحاح ـ حجف ـ ج ٤ ، ص ١٣٤١».

(٣) الجندل : الحجارة. «لسان العرب ـ جندل ـ ج ١١ ، ص ١٢٨».

٧٠

إلا ألقته ، حتى جعلوا يتترسون من الحصى ، فجعلنا نسمع وقع الحصى في الترس. فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين ، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين ، فقال : أيّها الناس ، إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذّاب ، ألا وإنه لا يفوتكم من أمره شيء ، فإنه ليس سنة مقام ، قد هلك الخفّ والحافر ، فارجعوا ، ولينظر كلّ واحد منكم جليسه. قال حذيفة : فنظرت عن يميني ، فضربت بيدي ، فقلت : من أنت؟ فقال : معاوية ، فقلت للذي عن يساري : من أنت؟ فقال سهيل بن عمرو.

قال حذيفة : وأقبل جند الله الأعظم ، فقام أبو سفيان إلى راحلته ، فصاح في قريش : النجاء النجاء. وقال طلحة الأزدي : لقد زادكم محمد بشر ، ثم قام إلى راحلته ، وصاح في بني أشجع : النجاء النجاء : وفعل عيينة بن حصن مثلها ، ثم فعل الحارث بن عوف المرّي مثلها ، ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها ، وذهب الأحزاب ، ورجع حذيفة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره الخبر». قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إنه كان أشبه بيوم القيامة» (١).

وقال علي بن إبراهيم : إنها نزلت في قصة الأحزاب من قريش والعرب ، الذين تحزّبوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. قال : وذلك أن قريشا تجمّعت في سنة خمس من الهجرة ، وساروا في العرب ، وجلبوا (٢) ، واستنفروهم لحرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فوافوا في عشرة آلاف ، ومعهم كنانة ، وسليم ، وفزارة.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين أجلى بني النّضير ـ وهم بطن من اليهود ـ من المدينة ، وكان رئيسهم حيّي بن أخطب ، وهم يهود من بني هارون عليه‌السلام ،

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ٢٧٧ ، ح ٤٢٠.

(٢) أجلب الرجل الرجل : إذا توعده بشر ، وجمع الجمع عليه. «لسان العرب ـ جلب ـ ج ١ ، ص ٢٧٢».

٧١

فلما أجلاهم من المدينة ، صاروا إلى خيبر ، وخرج حيي بن أخطب ، وهم إلى قريش بمكة ، وقال لهم : إن محمدا قد وتركم ووترنا ، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا ، وأجلى بني عمّنا بني قينقاع ، فسيروا في الأرض ، وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم ، حتى نسير إليهم ، فإنه قد بقي من قومي بيثرب سبع مائة مقاتل ، وهم بنو قريظة ، وبينهم وبين محمد عهد وميثاق ، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد ، ويكونون معنا عليهم ، فتأتونه أنتم من فوق ، وهم من أسفل.

وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين ، وهو الموضع الذي يسمى (بئر المطلب) (١) ، فلم يزل يسير معهم حيي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش ، وكنانة ، والأقرع بن حابس في قومه ، والعباس بن مرداس في بني سليم.

فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واستشار أصحابه ، وكانوا سبع مائة رجل ، فقال سلمان الفارسي : يا رسول الله ، إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة. قال : «فما نصنع؟» قال : نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا فيمكنك منعهم في المطاولة ، ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه ، فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم (٢) من عدونا نحفر الخنادق ، فتكون الحرب من مواضع معروفة. فنزل جبرئيل عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : «أشار سلمان بصواب». فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمسحه (٣) من ناحية أحد ، إلى راتج (٤) ، وجعل على كل عشرين خطوة ، وثلاثين خطوة قوما من المهاجرين والأنصار

__________________

(١) في «ج» : بئر بن أخطب.

(٢) يدهمهم : يفجأهم ، والدّهم : العدد الكثير. «النهاية : ج ٢ ، ص ١٤٥».

(٣) مسح الأرض : ذرعها. «الصحاح ـ مسح ـ ج ١ ، ص ٤٠٥». وفي المصدر بحفره.

(٤) راتج : أطمة ـ حصن ـ من آطام المدينة. «الروض المعطار : ص ٢٦٦».

٧٢

يحفرونه ، فأمر ، فحملت المساحي والمعاول ، وبدأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذ معولا ، فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وأمير المؤمنين عليه‌السلام ينقل التراب عن الحفرة ، حتى عرق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعيا ، وقال : «لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم اغفر للمهاجرين والأنصار».

فلما نظر الناس إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحفر ، اجتهدوا في الحفر ، ونقلوا التراب ، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر ، وقعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد الفتح ، فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون ، إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه ، فبعثا جابر بن عبد الله الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلمه بذلك. قال جابر : فجئت إلى المسجد ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستلق على قفاه ، ورداؤه تحت رأسه ، وقد شدّ على بطنه حجرا فقلت : يا رسول الله ، إنه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه. فقام مسرعا حتى جاءه ، ثم دعا بماء في إناء ، فغسل وجهه وذراعيه ، ومسح على رأسه ورجليه ، ثم شرب ، ومجّ من ذلك الماء في فيه ، ثم صبّه على ذلك الحجر ، ثم أخذ معولا فضرب ضربة ، فبرقت برقة ، فنظرنا فيها إلى قصور الشام ، ثم ضرب أخرى ، فبرقت أخرى ، فنظرنا فيها إلى قصور المدائن ، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة أخرى ، فنظرنا فيها إلى قصور اليمن ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن الله سيفتح عليكم هذه المواطن التي برق فيها البرق». ثمّ انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل.

فقال جابر : فعلمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقو ـ أي جائع ـ لما رأيت على بطنه الحجر ، فقلت : يا رسول الله ، هل لك في الغذاء؟ قال : «ما عندك ، يا جابر؟» فقلت : عناق (١) ، وصاع من شعير. فقال : «تقدّم ، وأصلح ما عندك» قال جابر : فجئت إلى أهلي ، فأمرتها ، فطحنت الشعير ، وذبحت العنز ،

__________________

(١) العناق : الأنثى من المعز. «لسان العرب ـ عنق ـ ج ١٠ ، ص ٢٧٤».

٧٣

وسلختها ، وأمرتها أن تخبز ، وتطبخ ، وتشوي ، فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت : بأبي أنت وأمي ـ يا رسول الله ـ قد فرغنا ، فاحضر مع من أحببت ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى شفير الخندق ، ثم قال : «يا معاشر المهاجرين والأنصار ، أجيبوا جابرا» قال جابر : وكان في الخندق سبع مائة رجل ، فخرجوا كلّهم ، ثم لم يمرّ بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال : «أجيبوا جابرا». قال جابر : فتقدّمت ، وقلت لأهلي : قد ـ والله ـ أتاك محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا قبل لك به. فقالت : أعلمته أنت بما عندنا؟ قلت : نعم. قالت : فهو أعلم بما أتى.

قال جابر : فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فنظر في القدر ، ثم قال : «اغرفي ، وأبقي». ثم نظر في التنّور ، ثم قال : «أخرجي ، وأبقي» ، ثم دعا بصحفة (١) ، فثرد فيها ، وغرف ، فقال : «يا جابر ، أدخل علي عشرة». فأدخلت عشرة ، فأكلوا حتى تملؤوا ، وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم ، ثم قال : «يا جابر ، عليّ بالذراع». فأتيته بذراع ، فأكلوه ، ثم قال : «ادخل علي عشرة». فأدخلتهم ، فأكلوا حتى تملؤوا ، ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم ، ثم قال : «عليّ بالذراع» فأكلوا ، ثم قال : «ادخل علي عشرة». فأدخلتهم ، فأكلوا حتى تملؤوا ، ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم ، ثم قال : «يا جابر ، عليّ بالذراع». فأتيته ، فقلت : يا رسول الله ، كم للشاة من ذراع؟ قال : «ذراعان». فقلت : والذي بعثك بالحق نبيا ، لقد أتيتك بثلاثة. فقال : «أما لو سكت ـ يا جابر ـ لأكل الناس كلهم من الذراع». قال : «يا جابر ، أدخل عشرة». فأقبلت أدخل عشرة عشرة ، فيأكلون ، حتى أكلوا كلهم ، وبقي لنا ـ والله ـ من ذلك الطعام ما عشنا به أياما.

__________________

(١) الصحفة : إناء كالقصعة المبسوطة. «النهاية : ج ٣ ، ص ١٣».

٧٤

قال : وحفر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخندق ، وجعل له ثمانية أبواب ، وجعل على كل باب رجلا من المهاجرين ، ورجلا من الأنصار ، مع جماعة يحفظونه ، وقدمت قريش ، وكنانة ، وسليم ، وهلال ، فنزلوا الزغابة (١) ، ففرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيام.

وأقبلت قريش ، ومعهم حييّ بن أخطب ، فلما نزلوا العقيق جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل ، وكانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فدقّ باب الحصن ، فسمع كعب بن أسد قرع الباب ، فقال لأهله : هذا أخوك قد شأم قومه ، وجاء الآن يشأمنا ، ويهلكنا ، ويأمرنا بنقض العهد بيننا وبين محمد ، وقد وفى لنا محمد ، وأحسن جوارنا. فنزل إليه من غرفته ، فقال له : من أنت؟ قال : حيي بن أخطب ، قد جئتك بعز الدهر. قال : كعب : بل جئتني بذل الدهر. فقال : يا كعب ، هذه قريش في قادتها وسادتها قد نزلت بالعقيق ، مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة ، مع قادتها وسادتها قد نزلت الزغابة ، وهذه سليم وغيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان ، ولا يفلت محمد وأصحابه من هذا الجمع أبدا ، فافتح الباب ، وانقض العهد الذي بينك وبين محمد. فقال كعب : لست بفاتح لك الباب ، ارجع من حيث جئت. فقال حيي : ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك (٢) التي في التنور ، تخاف أن أشركك فيها ، فافتح فإنك آمن من ذلك. فقال له كعب : لعنك الله ، لقد دخلت علي من باب دقيق. ثم قال : افتحوا له الباب. ففتحوا له ، فقال : ويلك ـ يا كعب ـ انقض العهد الذي بينك وبين محمد ، ولا ترد رأيي ، فإن محمدا لا يفلت من هذا الجمع أبدا ، فإن فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبدا.

__________________

(١) زغابة : موضع قرب المدينة. «معجم البلدان : ج ٣ ، ص ١٤١».

(٢) الجشيش : السويق ، الواحدة جشيشة. وحنطة تطحن جليلا فتجعل في قدر ، ويجعل فيها لحم أو تمر ، فيطبخ. «أقرب الموارد ـ جشّ ـ ج ١ ، ص ١٢٤».

٧٥

قال : فاجتمع كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود ، مثل : غزال بن شمول ، وياسر بن قيس ، ورفاعة بن زيد ، والزبير بن باطا ، فقال لهم كعب : ما ترون؟ قالوا : أنت سيدنا ، والمطاع فينا ، وصاحب عهدنا وعقدنا ، فإن نقضت نقضنا ، وإن أقمت أقمنا معك ، وإن خرجت خرجنا معك. فقال الزبير بن باطا ـ وكان شيخا كبيرا مجرّبا ، قد ذهب بصره ـ : قد قرأت التوراة التي أنزلها الله في سفرنا بأنه يبعث نبي في آخر الزمان ، يكون مخرجه بمكة ، ومهاجرته إلى المدينة في هذه البحيرة (١) يركب الحمار العري (٢) ، ويلبس الشملة (٣) ، ويجتزىء بالكسيرات والتميرات ، وهو الضحوك القتّال ، في عينيه الحمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، يضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر ، فإن كان هذا هو فلا يهوّلنه هؤلاء وجمعهم ، ولو ناوأته هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال حيي : ليس هذا ذاك ، ذاك النبي من بني إسرائيل ، وهذا من العرب ، من ولد إسماعيل ، ولا يكون بنو إسرائيل أتباعا لولد إسماعيل أبدا ، لأن الله قد فضّلهم على الناس جميعا ، وجعل فيهم النبوّة والملك ، وقد عهد إلينا موسى ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وليس مع محمد آية ، وإنما جمعهم جمعا ، وسحرهم. ويريد أن يغلبهم بذلك ، فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتى أجابوه ، فقال لهم : أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمد. فأخرجوه ، فأخذه حيي بن أخطب ومزّقه ، وقال : قد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيأوا للقتال.

__________________

(١) البحرة : البلدة ، والبحيرة : مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو تصغير البحرة. «النهاية : ج ١ ، ص ١٠٠».

(٢) أي الخالي من السرج.

(٣) الشملة : كساء يشتمل به الرجل. «مجمع البحرين ـ شمل ـ ج ٥ ، ص ٤٠٤».

٧٦

وبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك ، فغمّه غما شديدا. وفزع أصحابه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وكانا من الأوس ، وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس ، فقال لهما : «ائتيا بني قريظة ، فانظرا ما صنعوا ، فإن كانوا نقضوا العهد ، فلا تعلما أحدا إذا رجعتما إليّ ، وقولا : عضل والقارة».

فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى باب الحصن ، فأشرف عليهما كعب من الحصن ، فشتم سعدا ، وشتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له سعد : إنما أنت ثعلب في جحر ، لتولينّ قريش ، وليحاصرنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولينزلنك على الصغر والقماءة (١) ، وليضربن عنقك ، ثم رجعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالا له : عضل والقارة. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعنا ، نحن أمرناهم بذلك» وذلك أنه كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيون لقريش يتجسسون خبره ، وكانت عضل والقارة قبيلتان من العرب ، دخلتا في الإسلام ، ثم غدرتا ، فكان إذا غدر أحد ضرب بهما المثل ، فيقال : عضل والقارة. ورجع حيي بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش ، وأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففرحت قريش بذلك.

فلما كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد كان أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام ، فقال : يا رسول الله ، قد آمنت بالله ، وصدقتك ، وكتمت إيماني عن الكفرة ، فإن أمرتني أن آتيك بنفسي فأنصرك فعلت ، وإن أمرتني أن أخذّل بين اليهود وقريش فعلت ، حتى لا يخرجوا من حصنهم. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذل بين اليهود وقريش ، فإنه أوقع عندي». قال : أفتأذن لي أن أقول فيك ما أريد؟ قال : «قل ما بدا لك».

فجاء إلى أبي سفيان ، فقال له : تعرف مودّتي لكم ، ونصحي ، ومحبّتي

__________________

(١) الصغر : الذل والضيم. «أقرب الموارد ـ صغر ـ ج ١ ، ص ٦٤٩». وقمأ الرجل قماءة : ذل وصغر. «لسان العرب ـ قمأ ـ ج ١ ، ص ١٣٤».

٧٧

أن ينصركم الله على عدوّكم ، وقد بلغني أن محمدا قد وافق اليهود أن يدخلوا بين عسكركم ، ويميلوا عليكم ، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يرد عليهم جناحهم الذي قطعه : بني النضير ، وقينقاع ، فلا أرى أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم رهنا تبعثونهم إلى مكة ، فتأمنوا مكرهم وغدرهم. فقال له أبو سفيان : وفّقك الله ، وأحسن جزاك ، مثلك أهدى النصائح. ولم يعلم أبو سفيان بإسلام نعيم ، ولا أحد من اليهود.

ثم جاء من فوره ذلك إلى بني قريظة ، فقال : يا كعب ، تعلم مودتي لكم ، وقد بلغني أن أبا سفيان قال : نخرج بهؤلاء اليهود ، فنضعهم في نحر محمد ، فإن ظفروا كان الذكر لنا دونهم ، وإن كانت علينا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب ، فلا أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم ، إنهم إن لم يظفروا بمحمد لم يبرحوا حتى يردوا عليكم عهدكم وعقدكم بين محمد وبينكم ، لأنه إن ولت قريش ولم يظفروا بمحمد ، غزاكم محمد ، فيقتلكم. فقالوا : أحسنت ، نصحت وأبلغت في النصيحة ، لا نخرج من حصننا حتى نأخذ منهم رهنا يكونون في حصننا.

وأقبلت قريش ، فلما نظروا إلى الخندق ، قالوا : هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك. فقيل لهم : هذا من تدبير الفارسي الذي معه. فوافى عمرو بن عبد ود ، وهبيرة بن وهب ، وضرار بن الخطاب إلى الخندق ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد صفّ أصحابه بين يديه ، فصاحوا بخيلهم حتى طفروا الخندق إلى جانب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصار أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقدموا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين أيديهم ، وقال رجل من المهاجرين ـ وهو فلان ـ لرجل بجنبه من إخوانه : أما ترى هذا الشيطان ـ عمرو ـ لا والله ما يفلت من بين يديه أحد ، فهلموا ندفع إليه محمدا ليقتله ، ونلحق نحن بقومنا. فأنزل الله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك الوقت قوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ

٧٨

مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)(١).

فركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض ، وأقبل يجول حوله ، ويرتجز ، ويقول :

ولقد بححت من الندا

ء بجمعكم : هل من مبارز؟

ووقفت إذ جبن الشّجا

ع مواقف القرن المناجز

إني كذلك لم أزل

متسرعا نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى

والجود من خير الغرائز

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لهذا الكلب؟» فلم يجبه أحد ، فقام إليه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : «أنا له ، يا رسول الله» فقال : «يا علي ، هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل» (٢) فقال : «أنا علي بن أبي طالب» فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ادن مني» فدنا منه ، فعممه بيده ، ودفع إليه سيفه ذا الفقار ، وقال له : «اذهب ، وقاتل بهذا». وقال : «اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته».

فمر أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو يهرول في مشيه ، وهو يقول :

«لا تعجلنّ فقد أتا

ك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة

والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم

عليك نائحة الجنائز

__________________

(١) الأحزاب : ١٨ و ١٩.

(٢) يليل : موضع ، وهو وادي ينبع ، أو وادي الصفراء دوين بدر. وفارس يليل : لقب عمرو بن عبد ود ، انظر : «لسان العرب ـ يليل ـ ج ١١ ، ص ٧٤٠».

٧٩

من ضربة نجلاء يبقى

صوتها بعد الهزاهز»

فقال له عمرو : من أنت؟ قال : «أنا علي بن أبي طالب ، ابن عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وختنه». فقال : والله إن أباك كان لي صديقا ونديما ، وإني أكره أن أقتلك ، ما أمن ابن عمك حين بعثك إلي أن اختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلا بين السماء والأرض ، لا حي ولا ميت!

فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : «قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النار ، وأن قتلتك فأنت في النار ، وأنا في الجنة». فقال عمرو : كلتاهما لك ـ يا علي ـ تلك إذن قسمة ضيزى (١).

قال علي عليه‌السلام : «دع هذا ـ يا عمرو ـ إني سمعت منك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول : لا يعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال ، فأجبني إلى واحدة». قال : هات ، يا علي. قال : «إحداها : تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله» قال : نحّ عني هذا ، هات الثانية. فقال : «أن ترجع ، وترد هذا الجيش عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن يك صادقا فأنتم أعلى به عينا ، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره». فقال : إذن لا تتحدث نساء قريش بذلك ، ولا تنشد الشعراء في أشعارها أني جبنت ورجعت على عقبي من الحرب ، وخذلت قوما رأسوني عليهم؟

فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فالثالثة : أن تنزل إلي ، فإنك راكب ، وأنا راجل ، حتى أنا بذك» فوثب عن فرسه وعرقبه ، وقال : هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها. ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين عليه‌السلام بالسيف على رأسه ، فاتقاه أمير المؤمنين عليه‌السلام بالدّرقة ، فقطعها ، وثبت السيف على

__________________

(١) قسمة ضيزى : أي جائرة. «لسان العرب ـ ضيز ـ ج ٥ ، ص ٣٦٨».

٨٠