التيسير في التفسير للقرآن - ج ٦

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي

التيسير في التفسير للقرآن - ج ٦

المؤلف:

الشيخ ماجد ناصر الزبيدي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار المحجّة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٢

الله عزوجل : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ)(١) ، فذكر عليه‌السلام ما ابتلي به إبراهيم عليه‌السلام ، فقال عليه‌السلام : «ومنها : المعرفة بقدم بارئه ، وتوحيده ، وتنزيهه عن التشبيه ، حتى نظر إلى الكواكب والقمر والشمس ، فاستدل بأفول كل واحد منها على حدوثه ، وبحدوثه على محدثه ، ثم علّمه عليه‌السلام بأن الحكم بالنجوم خطأ ، في قوله عزوجل : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) ، وإنما قيده الله سبحانه بالنظرة الواحدة ، لأن النظرة الواحدة لا توجب الخطأ إلا بعد النظرة الثانية ، بدلالة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام : يا علي أول النظرة لك ، والثانية عليك لا لك» (٢).

* س ١٣ : ما هو معنى قوله تعالى :

(فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (٩٥) وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ)(٩٦) [سورة الصافات : ٩١ ـ ٩٦]؟!

الجواب / قال أبو عبد الله عليه‌السلام : «إن آزر أبا إبراهيم عليه‌السلام كان منجما لنمرود ، ولم يكن يصدر إلا عن أمره ، فنظر ليلة في النجوم ، فأصبح وهو يقول لنمرود : لقد رأيت عجبا. قال : وما هو؟ قال : رأيت مولودا يولد في أرضنا ، يكون هلاكنا على يديه ، ولا يلبث إلا قليلا حتى يحمل به. قال : فتعجب من ذلك ، وقال : هل حملت به النساء؟ قال : لا. فحجب النساء عن الرجال ، فلم يدع امرأة إلا جعلها في المدينة لا يخلص إليها ، ووقع آزر بأهله ، فعلقت بإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظن أنه صاحبه ، فأرسل إلى نساء من القوابل في ذلك الزمان لا يكون في الرحم شيء إلا علمن به ، فنظرن ، فألزم الله عزوجل

__________________

(١) البقرة : ١٢٤.

(٢) معاني الأخبار : ص ١٢٧ ، ح ١.

٢٦١

ما في الرحم إلى الظهر ، فقلن : ما نرى في بطنها شيئا ، وكان فيما أوتي من العلم : أنه سيحرق بالنار ، ولم يؤت علم أن الله تبارك وتعالى سينجيه.

قال : فلما وضعت أم إبراهيم أراد آزر أن يذهب به إلى نمرود ليقتله ، فقالت له امرأته : لا تذهب بابنك إلى نمرود فيقتله ، دعني أذهب به إلى بعض الغيران ، أجعله فيه حتى يأتي عليه أجله ، ولا تكون أنت الذي تقتل ابنك. فقال لها : فامضي به. قال : فذهبت به إلى غار ، ثم أرضعته ، ثم جعلت على باب الغار صخرة ، ثم انصرفت عنه. قال : فجعل الله عزوجل رزقه في إبهامه ، فجعل يمصها فتشخب لبنا ، وجعل يشب في اليوم كما يشب غيره في الجمعة ، ويشب في الجمعة كما يشب غيره في الشهر ، ويشب في الشهر كما يشب غيره في السنة ، فمكث ما شاء الله أن يمكث.

ثم إن أمه قالت لأبيه : لو أذنت لي حتى أذهب إلى ذلك الصبي ، فعلت. قال : فافعلي ، فذهبت ، فإذا هي بإبراهيم عليه‌السلام ، وإذا عيناه تزهران كأنهما سراجان. قال : فأخذته ، وضمته إلى صدرها ، وأرضعته ، ثم انصرفت عنه ، فسألها آزر عنه ، فقالت : قد واريته في التراب. فمكثت تفعل ، وتخرج في الحاجة ، وتذهب إلى إبراهيم عليه‌السلام ، فتضمّه إليها وترضعه ، ثم تنصرف. فلما تحرك أتته كما كانت تأتيه ، فصنعت به كما كانت تصنع ، فلما أرادت الانصراف أخذ بثوبها ، فقالت له : مالك؟ فقال لها : اذهبي بي معك. فقالت له : حتى استأمر أباك. فأتت أم إبراهيم عليه‌السلام آزر فأعلمته القصة ، فقال لها : ائتيني به ، فأقعديه على الطريق ، فإذا مر به إخوته دخل معهم ولا يعرف ، قال : وكان إخوة إبراهيم عليه‌السلام يعملون الأصنام ويذهبون بها إلى الأسواق ، ويبيعونها».

قال : «فذهبت إليه ، فجاءت به حتى أقعدته على الطريق ، ومر إخوته ، فدخل معهم فلما رآه أبوه وقعت عليه المحبة منه ، فمكث ما شاء الله. قال :

٢٦٢

فبينما إخوته يعملون يوما من الأيام الأصنام إذ أخذ إبراهيم عليه‌السلام القدوم (١) ، وأخذ خشبة ، فنجر منها صنما لم ير مثله قط. فقال آزر لأمّه : إني لأرجو أن نصيب خيرا ببركة ابنك هذا ، قال : فبينما هي كذلك إذ أخذ إبراهيم عليه‌السلام القدوم ، فكسر الصنم الذي عمله ، ففزع أبوه من ذلك فزعا شديدا ، فقال له : أي شيء عملت؟ فقال له إبراهيم عليه‌السلام : وما تصنعون به؟ فقال آزر : نعبده. فقال له إبراهيم عليه‌السلام : أتعبدون ما تنحتون؟ فقال آزر لأمه : هذا الذي يكون ذهاب ملكنا على يديه» (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «خالف إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قومه ، وعاب آلهتهم حتى أدخل على نمرود ، فخاصمه. فقال إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)(٣).

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : عاب آلهتهم فنظر نظرة في النجوم ، فقال : (إِنِّي سَقِيمٌ). قال أبو جعفر عليه‌السلام : والله ما كان سقيما ، وما كذب.

فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل إبراهيم عليه‌السلام إلى آلهتهم بقدوم فكسّرها ، إلا كبيرا لهم ، ووضع القدوم في عنقه ، فرجعوا إلى آلهتهم ، فنظروا إلى ما صنع لهم ، ووضع القدوم في عنقه ، فرجعوا إلى آلهتهم ، فنظروا إلى ما صنع بها ، فقالوا : لا والله ، ما اجترأ عليها ولا كسّرها إلا الفتى الذي كان يعيبها ويبرأ منها. فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار ، فجمعوا له الحطب ، واستجادوه ، حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود

__________________

(١) القدوم : آلة للنجر والنحت. «أقرب الموارد ـ قدم ـ ج ٢ ، ص ٩٧٣».

(٢) الكافي : ج ٨ ، ص ٣٦٦ ، ح ٥٥٨.

(٣) البقرة : ٢٥٨.

٢٦٣

وجنوده ، وقد بني له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار ، ووضع إبراهيم عليه‌السلام في منجنيق ، وقالت الأرض : يا رب ، ليس على ظهري أحد يعبدك غيره ، يحرق بالنار! فقال الرب : إن دعاني كفيته».

فذكر أبان عن محمد بن مروان ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام : «أن دعاء إبراهيم عليه‌السلام يومئذ كان : يا أحد ، يا أحد ، يا صمد ، يا صمد ، يا من لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد. ثم قال : توكلت على الله. فقال الرب تبارك وتعالى : كفيت. فقال للنار : (كُونِي بَرْداً)(١). قال : فاضطربت أسنان إبراهيم عليه‌السلام من البرد حتى قال الله عزوجل : (وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ)(٢) وانحط جبرئيل عليه‌السلام فإذا هو جالس مع إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحدّثه في النار ، قال نمرود : من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم. قال : فقال عظيم من عظمائهم : إني عزمت على النار أن لا تحرقه ، فأخذ عنق من النار نحوه حتى أحرقه» قال : «فآمن له لوط ، وخرج مهاجرا إلى الشام ، هو وسارة ولوط» (٣).

* س ١٤ : ما هو معنى قوله تعالى :

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) (٩٨) [سورة الصافات : ٩٧ ـ ٩٨]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ولما لزمته الحجة (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً) قال ابن عباس : بنوا حاطئا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، ومأوه نارا ، وطرحوه فيها ، وذلك قوله (فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض ، فهي جحيم. وقيل إن الجحيم : النار العظيمة. (فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) أي : حيلة وتدبيرا في إهلاكه وإحراقه بالنار.

__________________

(١) الأنبياء : ٦٩.

(٢) الأنبياء : ٦٩.

(٣) الكافي : ج ٨ ، ص ٣٦٨ ، ح ٥٥٩.

٢٦٤

(فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) بأن أهلكناهم ، ونجينا إبراهيم ، وسلمناه ، ورددنا كيدهم عنه. وقيل : بأن أشرفوا عليه ، فرأوه سالما ، وتحققوا أن كيدهم لا ينفذ فيه ، وعلموا أنهم مغلوبون (١).

* س ١٥ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٩٩) [سورة الصافات : ٩٩]؟!

الجواب / قال إبراهيم بن أبي زياد الكرخي : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «إن إبراهيم عليه‌السلام كان مولده بكوثى ربى (٢) ، وكان أبوه من أهلها ، وكانت أم إبراهيم وأم لوط (٣) ـ سارة ورقية ـ أختين ، وهما ابنتا لاحج ، وكان لاحج نبيا منذرا ولم يكن رسولا.

وكان إبراهيم عليه‌السلام في شبيبته على الفطرة التي فطر الله عزوجل الخلق عليها حتى هداه الله عزوجل إلى دينه واجتباه ، وأنه تزوج بسارة ابنة لاحج (٤) ، وهي ابنة خالته ، وكانت سارة صاحبة ماشية كثيرة ، وأرض واسعة ، وحال حسنة ، وكانت قد ملكت إبراهيم عليه‌السلام جميع ما كانت تملكه ، فقام فيه فأصلحه ، وكثرت الماشية والزرع حتى لم يكن بأرض كوثى ربى رجل أحسن حالا منه.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ٣١٨.

(٢) كوثى ربّى : موضع في العراق وبها مشهد إبراهيم الخليل عليه‌السلام. «معجم البلدان : ج ٤ ، ص ٤٨٧».

(٣) قال المجلسي (رحمه‌الله) : وفي بعض النسخ : امرأة إبراهيم وامرأة لوط ، وهو أظهر. «مرآة العقول : ج ٢٦ ، ص ٥٥٦».

(٤) قوله عليه‌السلام : ابنة لاحج ، الظاهر أنه كان : ابنة ابنة لاحج ، فتوهم النساخ التكرار فأسقطوا إحداهما ، وعلى ما في النسخ المراد ابنة الابنة مجازا ، وسارة ولاحج هنا غير المتقدمين ، وإنما الاشتراك في الاسم وعلى نسخة «الامرأة» لا يتحاج إلى التكلّف. «مرآة العقول : ج ٢٦ ، ص ٥٥٦».

٢٦٥

وإن إبراهيم عليه‌السلام لما كسر أصنام نمرود ، أمر به نمرود فأوثق ، وعمل له حيرا (١) ، وجمع له فيه الحطب ، وألهب فيه النار ، ثم قذف إبراهيم عليه‌السلام في النار لتحرقه ، ثم اعتزلوها حتى خمدت النار ، ثم أشرفوا على الحير ؛ فإذا هم بإبراهيم عليه‌السلام سالما مطلقا من وثاقه ، فأخبر نمرود خبره ، فأمرهم أن ينفوا إبراهيم عليه‌السلام من بلاده ، وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله ، فحاجّهم إبراهيم عليه‌السلام عند ذلك ، فقال : إن أخذتم ماشيتي ومالي ، فإن حقي عليكم أن تردّوا عليّ ما ذهب من عمري في بلادكم. واختصموا إلى قاضي نمرود ، فقضى على إبراهيم عليه‌السلام أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم ، وقضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم عليه‌السلام جميع ما ذهب من عمره في بلادهم. فأخبر بذلك نمرود ، فأمرهم أن يخلوا سبيله ، وسبيل ماشيته وماله ، وأن يخرجوه ، وقال : إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم.

فأخرجوا إبراهيم ولوط (صلوات الله عليهما) معه من بلادهم إلى الشام فخرج ومعه لوط لا يفارقه ، وسارة ، وقال لهم : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) يعن بيت المقدس ، فتحمل إبراهيم عليه‌السلام بماشيته وماله ، وعمل تابوتا ، وجعل فيه سارة ، وشد عليها الأغلاق غيرة منه عليها ، ومضى حتى خرج من سلطان نمرود ، وصار إلى سلطان رجل من القبط ، يقال له عرارة ، فمر بعاشر (٢) له ، فاعترضه العاشر ليعشر ما معه ، فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت ، قال العاشر لإبراهيم عليه‌السلام : افتح هذا التابوت حتى نعشر ما فيه. فقال له إبراهيم عليه‌السلام : قل ما شئت فيه من ذهب وفضة حتى نعطي عشرة ، ولا نفتحه. قال : فأبى العاشر إلا فتحه. قال : وغضب إبراهيم عليه‌السلام : على

__________________

(١) الحير : الحظيرة أو الحمى. «الصحاح ـ حير ـ ج ٢ ، ص ٦٤١».

(٢) العاشر والعشّار : قابض العشر. «لسان العرب ـ عشر ـ ج ٤ ، ص ٥٧٠».

٢٦٦

فتحه ، فلما بدت له سارة ـ وكانت موصوفة بالحسن والجمال ـ قال له العاشر : ما هذه المرأة منك؟ قال إبراهيم عليه‌السلام : هي حرمتي وابنة خالتي ، فقال له العاشر : فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟ فقال إبراهيم عليه‌السلام : الغيرة عليها أن يراها أحد. فقال له العاشر : لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك.

قال : فبعث إلى الملك رسولا ، فبعث الملك رسلا من قبله ليأتوه بالتابوت ، فأتوا ليذهبوا به ، فقال لهم إبراهيم عليه‌السلام : إني لست أفارق التابوت حتى تفارق روحي جسدي. فأخبروا الملك بذلك ، فأرسل الملك أن احملوه والتابوت معه ، فحملوا إبراهيم عليه‌السلام والتابوت ، وجميع ما كان معه ، حتى أدخل على الملك ، فقال له الملك : افتح التابوت. فقال له إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيها الملك ، إن فيه حرمتي وابنة خالتي ، وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي. قال : فغصب الملك إبراهيم عليه‌السلام على فتحه ، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مدّ يده إليها ، فأعرض إبراهيم عليه‌السلام بوجهه عنها وعنه غيرة منه ، وقال : اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي. فلم تصل يده إليها ، ولم ترجع إليه. فقال له الملك : إن إلهك هو الذي فعل بي هذا؟ فقال : نعم ، إن إلهي غيور يكره الحرام ، وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام. فقال له الملك : فادع إلهك يرد علي يدي ، فإن أجابك لم أعرض لها. فقال إبراهيم عليه‌السلام : إلهي ردّ عليه يده ليكفّ عن حرمتي.

قال : فردّ الله عزوجل عليه يده ، فأقل الملك نحوها ببصره ، ثم عاد بيده نحوها ، فأعرض إبراهيم عليه‌السلام عنه بوجهه غيرة منه ، وقال : اللهم احبس يده عنها. قال : فيبست يده ، ولم تصل إليها. فقال الملك لإبراهيم عليه‌السلام : إن إلهك لغيور ، وإنك لغيور ، فادع إلهك يرد عليّ يدي ، فإنه إن فعل لم أعد. فقال له إبراهيم عليه‌السلام : إسأله ذلك على أنك إن عدت لم تسألني أن

٢٦٧

أسأله. فقال له الملك : نعم. فقال إبراهيم عليه‌السلام : اللهم ، إن كان صادقا فرد عليه يده. فرجعت إليه يده.

فلما رأى ذلك الملك من الغيرة ما رأى ، ورأى الآية في يده عظّم إبراهيم عليه‌السلام وهابه ، وأكرمه واتّقاه ، وقال له : قد أمنت من أن أعرض لها ، أو لشيء مما معك ، فانطلق حيث شئت ، ولكن لي إليك حاجة؟ فقال إبراهيم عليه‌السلام : ما هي؟ قال له : أحب أن تأذن لي أن أخدمها قبطية عندي ، جميلة عاقلة تكون لها خادمة قال : فأذن له إبراهيم عليه‌السلام ، فدعا بها فوهبها لسارة ، وهي هاجر أم إسماعيل عليه‌السلام.

فسار إبراهيم عليه‌السلام بجميع ما معه ، وخرج الملك معه يمشي خلف إبراهيم عليه‌السلام ، إعظاما لإبراهيم عليه‌السلام وهيبة له ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى إبراهيم : أن قف ، ولا تمش قدام الجبار المتسلط ويمشي هو خلفك ، ولكن اجعله أمامك وامش خلفه ، وعظّمه ، وهبه ، فإنه مسلط ، ولا بد من إمرة في الأرض برّة أو فاجرة. فوقف إبراهيم عليه‌السلام ، وقال للملك : امض ، فإن إلهي أوحى إلي الساعة أن أعظّمك وأهابك ، وأن أقدمك أمامي وأمشي خلفك ، إجلالا لك. فقال له الملك : أوحى إليك بهذا؟ فقال له إبراهيم عليه‌السلام : نعم. فقال الملك : اشهد أن إلهك لرفيق ، حليم ، كريم ، وأنك ترغبني في دينك.

قال : وودّعه الملك ، وسار إبراهيم عليه‌السلام حتى نزل بأعلى الشامات ، وخلف لوطا عليه‌السلام في أدنى الشامات ، ثم إن إبراهيم عليه‌السلام لما أبطأ عليه الولد ، قال لسارة : لو شئت لبعتني هاجر ، لعل الله أن يرزقنا منها ولدا ، فيكون لنا خلفا. فابتاع إبراهيم عليه‌السلام هاجر من سارة ، فوقع عليها ، فولدت إسماعيل عليه‌السلام» (١).

__________________

(١) الكافي : ج ٨ ، ص ٣٧٠ ، ح ٥٦٠.

٢٦٨

وقال الطبرسي في (الاحتجاج) : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ في حديث له في سؤال زنديق عن آيات من القرآن ـ قال له عليه‌السلام : «ومن كتاب الله عزوجل يكون تأويله على غير تنزيله ، ولا يشبّه تأويله بكلام البشر (١) ، ولا فعل البشر ، وسأنبئك بمثال لذلك تكتفي به إن شاء الله تعالى ، وهو حكاية الله عزوجل عن إبراهيم عليه‌السلام ، حيث قال : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) توجهه إليه في عبادته ، واجتهاده ، ألا ترى أن تأويله غير تنزيله؟» (٢).

* س ١٦ : ما هو معنى قوله تعالى :

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (١١٣) [سورة الصافات : ١٠٠ ـ ١١٣]؟!

الجواب / قال داود بن كثير الرقيّ : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيهما كان أكبر : إسماعيل ، أو إسحاق ، وأيّهما كان الذبيح؟

فقال : «كان إسماعيل أكبر من إسحاق بخمس سنين ، وكان الذبيح إسماعيل ، وكانت مكة منزل إسماعيل ، وإنما أراد إبراهيم أن يذبح إسماعيل أيام الموسم بمنى. قال : وكان بين بشارة الله إبراهيم بإسماعيل وبين بشارته

__________________

(١) في «ط» : يشبه تأويل الكلام البشر.

(٢) الاحتجاج : ٢٥٠.

٢٦٩

بإسحاق خمس سنين ، أما تسمع لقول إبراهيم عليه‌السلام ، حيث يقول : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ)؟ إنما سأل الله عزوجل أن يرزقه غلاما من الصالحين ، وقال في سورة الصافات : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) ، يعني إسماعيل من هاجر ، قال : ففدى إسماعيل بكبش عظيم».

فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «ثم قال : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ) يعني بذلك إسماعيل قبل البشارة بإسحاق ، فمن زعم أن إسحاق أكبر من إسماعيل ، وأن الذبيح إسحاق فقد كذب بما أنزل الله عزوجل في القرآن من نبأهما» (١).

وقال الطبرسي : روى العياشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كم كان بين بشارة إبراهيم عليه‌السلام بإسماعيل عليه‌السلام وبين بشارته بإسحاق؟ قال : «كان بين البشارتين خمس سنين ، قال الله سبحانه : (فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) ، يعني إسماعيل ، وهي أول بشارة بشر الله بها إبراهيم في الولد ، ولما ولد لإبراهيم إسحاق من سارة ، وبلغ إسحاق ثلاث سنين أقبل إسماعيل عليه‌السلام إلى إسحاق وهو في حجر إبراهيم ، فنحّاه وجلس في مجلسه ، فبصرت به سارة ، فقالت : يا إبراهيم ، ينحي ابن هاجر ابني من حجرك ، ويجلس هو في مكان! والله لا تجاورني هاجر وابنها في بلاد أبدا ، فنحّهما عني.

وكان إبراهيم مكرما لسارة ، يعزّها ، ويعرف حقها ، وذلك أنها كانت من ولد الأنبياء ، وبنت خالته ، فشق ذلك على إبراهيم ، واغتم بفراق إسماعيل عليه‌السلام ، فلما كان الليل أتى إبراهيم آت من ربه ، فأراه الرؤيا في ذبح ابنه إسماعيل بموسم مكّة ، فأصبح إبراهيم حزينا للرؤيا التي رآها. فلما حضر

__________________

(١) معاني الأخبار : ص ٣٩١ ، ح ٣٤.

٢٧٠

موسم ذلك العام حمل إبراهيم هاجر وإسماعيل في ذي الحجّة من أرض الشام ، فانطلق بهما إلى مكة ليذبحه في الموسم ، فبدأ بقواعد البيت الحرام ، فلما رفع قواعده خرج إلى منى حاجّا ، وقضى نسكه بمنى ، ورجع إلى مكة ، فطافا بالبيت أسبوعا ، ثم انطلقا إلى السعي ، فلما صارا في المسعى ، قال إبراهيم لإسماعيل عليهما‌السلام : يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك في الموسم عامي هذا ، فماذا ترى؟ قال : يا أبت ، افعل ما تؤمر. فلما فرغا من سعيهما انطلق به إبراهيم إلى منى ، وذلك يوم النحر ، فلما انتهى به إلى الجمرة الوسطى ، وأضجعه لجنبه الأيسر ، وأخذ الشفرة ليذبحه ، نودي : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) إلى آخره. وفدي إسماعيل بكبش عظيم ، فذبحه ، وتصدّق بلحمه على المساكين» (١).

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «رؤيا الأنبياء وحي» (٢).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : «أن إبراهيم عليه‌السلام أتاه جبرئيل عند زوال الشمس من يوم التروية ، فقال : يا إبراهيم ، ارتو من الماء لك ولأهلك. ولم يكن بين مكة وعرفات ماء ، فسميت التروية بذلك ، فذهب به حتى انتهى به إلى منى ، فصلى الظهر ، والعصر ، والعشاءين ، والفجر ، حتى إذا بزغت الشمس خرج إلى عرفات ، فنزل بنمرة ، وهي بطن عرفة ، فلما زالت الشمس خرج واغتسل ، فصلى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين ، وصلى في موضع المسجد الذي بعرفات ، وقد كانت ثمة أحجار بيض فأدخلت في المسجد الذي بني.

ثم مضى به إلى الموقف ، فقال : يا إبراهيم ، اعترف بذنبك ، واعرف مناسكك.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ٧١٠.

(٢) الأمالي : ج ١ ، ص ٣٤٨.

٢٧١

فلذلك سميت عرفة وأقام به حتى غربت الشمس ثم أفاض به ، فقال : يا إبراهيم ، ازدلف إلى المشعر الحرام ، فسميت المزدلفة ، وأتى به المشعر الحرام ، فصلى به المغرب والعشاء الآخرة بأذان واحد وإقامتين ، ثم بات بها ، حتى إذا صلى بها صلاة الصبح أراه الموقف ، ثم أفاض إلى منى ، فأمره ، فرمى جمرة العقبة ، وعندها ظهر له إبليس (لعنه الله) ثم أمره الله بالذبح.

وإن إبراهيم عليه‌السلام حين أفاض من عرفات بات على المشعر الحرام ، وهو فزع ، فرأى في النوم أنه يذبح ابنه إسحاق ، وقد كان إسحاق حج بوالدته سارة ، فلمّا انتهى إلى منى رمى جمرة العقبة هو وأهله ، وأمر أهله فسارت لى البيت ، واحتبس الغلام فانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى ، فاستشار ابنه كما حكى الله (يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى)؟ فقال الغلام كما ذكر الله عنه : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) ، وسلّما لأمر الله.

وأقبل شيخ ، فقال : يا إبراهيم ، ما تريد من هذا الغلام؟ قال : أريد أن أذبحه. فقال : سبحان الله ، تذبح غلاما لم يعص الله طرفة عين! فقال إبراهيم : إن الله أمرني بذلك. فقال : ربك ينهاك عن ذلك ، وإنما أمرك بذلك الشيطان. فقال له إبراهيم : ويلك ، إن الذي بلغني هذا المبلغ هو الذي أمرني به ، والكلام الذي وقع في أذني. فقال : لا والله ما أمرك بهذا إلا الشيطان. فقال إبراهيم : والله لا أكلّمك. ثمّ عزم إبراهيم عليه‌السلام على الذبح. فقال : يا إبراهيم ، إنك إمام يقتدى بك ، وإنك إن ذبحت ولدك ، ذبح الناس أولادهم. فلم يكلّمه.

وأقبل على الغلام واستشاره في الذبح ، فلما أسلما جميعا لأمر الله قال الغلام : يا أبتاه ، خمّر وجهي ، وشدّ وثاقي. فقال إبراهيم : يا بني ، الوثاق مع الذبح؟ لا والله لا أجمعهما عليك اليوم. فرمى بقرطان الحمار ، ثم أضجعه

٢٧٢

عليه ، فأخذ المدية فوضعها على حلقه ، ورفع رأسه إلى السماء ، ثم انتحى عليه المدية ، فقلب جبرئيل المدية على قفاها ، واجتر الكبش من قبل ثبير ، وأثار الغلام من تحته ، ووضع الكبش مكان الغلام ، ونودي من ميسرة مسجد الخيف : (أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ).

قال : ولحق إبليس بأم الغلام حين نظرت إلى الكعبة في وسط الوادي ، بحذاء البيت ، فقال لها : ما شيخ رأيته؟ قالت : إن ذلك بعلي. قال : فوصيف رأيته معه؟ قالت : ذلك ابني. فقال : لقد رأيته أضجعه ، وأخذ المدية ليذبحه ، فقالت : كذبت ، إن إبراهيم أرحم الناس ، كيف يذبح ابنه؟ قال : فو ربّ السماء والأرض ، ورب هذا البيت لقد رأيته أضجعه وأخذ المدية ليذبحه. فقالت : ولم؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك. قالت : فحق له أن يطيع ربه. فوقع في نفسها أنه قد أمر في ابنها بأمر ، فلما قضت مناسكها أسرعت في الوادي راجعة إلى منى ، وهي واضعة يدها على رأسها ، تقول : يا رب ، لا تؤاخذني بما عملت بأم إسماعيل».

قلت : فأين أراد أن يذبحه؟ قال : «عند الجمرة الوسطى». قال : «ونزل الكبش على الجبل الذي عن يمين مسجد منى ، نزل من السماء ، وكان يأكل في سواد ، ويمشي في سواد ، أقرن».

قلت : ما كان لونه؟ قال : «كان أملح ، أغبر (١)» (٢).

قال الفضل بن شاذان : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول :

«لما أمر الله تعالى إبراهيم عليه‌السلام أن يذبح مكان ابنه إسماعيل الكبش

__________________

(١) الغبرة : لون الأغبر ، وهو شبيه بالغبار. «الصحاح ـ غبر ـ ج ٢ ، ص ٧٦٤».

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٢٤.

٢٧٣

الذي أنزله عليه ، تمنى إبراهيم عليه‌السلام أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل عليه‌السلام بيده ، وأنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ، ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح [أعز] ولده بيده ، فيستحقّ بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب.

فأوحى الله عزوجل إليه : يا إبراهيم ، من أحب خلقي إليك؟ فقال : يا ربّ ، ما خلقت خلقا أحب إلي من حبيبك محمد. فأوحى الله عزوجل إليه : يا إبراهيم ، فهو أحب إليك ، أو نفسك؟ فقال : بل هو أحبّ إلي من نفسي. قال : فولده أحب إليك ، أو ولدك؟ قال : بل ولده. قال : فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك ، أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟ قال : يا رب ، بل ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي. قال : يا إبراهيم ، إن طائفة تزعم أنها من أمة محمد ، ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما وعدوانا ، كما يذبح الكبش ، فيستوجبون بذلك غضبي. فجزع إبراهيم عليه‌السلام لذلك ، وتوجّع قلبه ، وأقبل يبكي ، فأوحى الله عزوجل إليه : يا إبراهيم ، قد فديت جزعك على ابنك إسماعيل لو ذبحته بيدك بجزعك على الحسين وقتله ، وأوجبت لك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب. فذلك قول الله عزوجل : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)(١).

أقول : وإحدى البركات التي أنعم الله بها على إبراهيم وإسحاق أن جعل كل أنبياء بني إسرائيل من ذرية إسحاق ، في حين أن نبي الإسلام العظيم هو من ذرية إسماعيل. وإن هذه البركات لا تشمل كل أفراد عائلة إبراهيم وعشيرته ، وإنما تشمل ـ فقط ـ المؤمنين والمحسنين منهم ، إذ تقول الآية في آخرها (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ).

__________________

(١) عيون أخبار الرضا : ج ١ ، ص ٢٠٩ ، ح ١.

٢٧٤

كلمة (مُحْسِنٌ) جاءت هنا بمعنى المؤمن والمطيع لله ، وهل يتصور أن هناك إحسان وعمل حسن أرفع من هذا؟

و (ظالِمٌ) جاءت هنا بمعنى الكافر والمذنب.

وعبارة (لِنَفْسِهِ) إشارة إلى الكفر ، وارتكاب الذنوب يعد أول ظلم للنفس ، الظلم الواضح والمكشوف. فالآية المذكورة أعلاه تجيب على مجموعة من اليهود والنصارى الذين افتخروا بكونهم من أبناء الأنبياء ، وتقول لهم : إن صلة القربى لوحدها ليست مدعاة للافتخار ، إن لم ترافقها صلة في الفكر والالتزام بالرسالة.

وكشاهد على هذا الكلام فقد ورد حديث لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخاطب فيه بني هاشم «لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم» أي أنهم مرتبطون بي رساليا وأنتم مرتبطون بي جسديا (١).

* س ١٧ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٢٢) [سورة الصافات : ١١٤ ـ ١٢٢]؟!

الجواب / قال الشيخ الطبرسي : ثم عطف سبحانه على ما تقدم بذكر موسى وهارون ، فقال : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ) أي : أنعمنا عليهما نعما ، قطعت عليهما كل أذية ، فمنها النبوة ، ومنها النجاة من آل فرعون ،

__________________

(١) روح البيان : مجلد ٧ ، ص ٤٧٩.

٢٧٥

ومنها سائر النعم الدينية والدنياوية. (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما) بني إسرائيل (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من تسخير قوم فرعون إياهم ، واستعمالهم في الأعمال الشاقة. وقيل : من الغرق ، (وَنَصَرْناهُمْ) على فرعون وقومه. (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) القاهرين بعد أن كانوا مغلوبين مقهورين.

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) يعني التوراة الداعي إلى نفسه بما فيه من البيان ، وكذلك كل كتب الله تعالى بهذه الصفة (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي : دللناهما على الطريق المؤدي إلى الحق ، الموصل إلى الجنة (وَتَرَكْنا عَلَيْهِما) الثناء الجميل (فِي الْآخِرِينَ) بأن قلنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ) وقد مر القول في ذلك (إِنَّا كَذلِكَ) مثل ما فعلنا بهما (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نفعل بالمطيعين ، نجزيهم ذلك على طاعاتهم. وفي هذا دلالة على أن ما ذكره الله كان على وجه الثواب لموسى وهارون ، ومن تقدم ذكره ، لأن لفظ الجزاء يفيد ذلك (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) أي : من جملة عبادنا المصدقين بجميع ما أوجبه الله تعالى عليهم ، العاملين بذلك (١).

* س ١٨ : ما هو معنى قوله تعالى :

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) (١٢٥) [سورة الصافات : ١٢٥ ـ ١٢٣]؟!

الجواب / قال علي بن إبراهيم : كان لهم صنم يسمونه بعلا ، وسأل رجل أعرابيا عن ناقة واقفة ، فقال : لمن هذه الناقة؟ فقال الأعرابيّ : أنا بعلها. وسمي الربّ بعلا (٢).

وقال مفضل بن عمر : أتينا باب أبي عبد الله عليه‌السلام ونحن نريد الإذن

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٨ ، ص ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

(٢) تفسير القمي : ج ٢ ، ص ٢٢٦.

٢٧٦

عليه ، فسمعناه يتكلم بكلام ليس بالعربية ، فتوهمنا أنه بالسريانية ، ثم بكى ، فبكينا لبكائه ، ثم خرج إلينا الغلام فأذن لنا ، فدخلنا عليه ، فقلت : أصلحك الله ، أتيناك نريد الإذن عليك ، فسمعناك تتكلم بكلام ليس بالعربية ، فتوهمنا أنه بالسريانية ، ثم بكيت فبكينا لبكائك.

فقال : «نعم ، ذكرت الياس النبي عليه‌السلام ، وكان من عباد أنبياء بني إسرائيل ، فقلت كما كان يقول في سجوده». ثم اندفع فيه بالسريانية ، فلا والله ما رأيت قسّيسا ، ولا جاثليقا أفصح لهجة منه فيه ، ثم فسره لنا بالعربية ، فقال : «كان يقول في سجوده : أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري؟ أتراك معذبي وقد عفرت لك في التراب وجهي؟ أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي؟ أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي؟ قال : فأوحى الله إليه : أن ارفع رأسك ، فإني غير معذبك. قال : فقال : إن قلت لا أعذبك ثم عذبتني ماذا؟ ألست عبدك وأنت ربي؟ فأوحى الله إليه : أن ارفع رأسك ، فإني غير معذبك ، إني إذا وعدت وعدا وفيت به» (١).

وقال أنس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع صوتا من قلة جبل : اللهم اجعلني من الأمة المرحومة المغفورة ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا بشيخ أشيب ، قامته ثلاث مائة ذراع ، فلما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عانقه ، ثم قال : إنني آكل في كل سنة مرة واحدة ، وهذا أوانه. فإذا هو بمائدة أنزلت من السماء ، فأكلا. وكان إلياس عليه‌السلام (٢).

* س ١٩ : من هو الياس ، وإلى من بعث؟!

الجواب / ١ ـ من هو إلياس؟!

لا يوجد أي شك في أن الياس هو أحد أنبياء الله الكبار ، وآيات بحثنا

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ١٧٧ ، ح ٢.

(٢) المناقب : ج ١ ، ص ١٣٧.

٢٧٧

تصرح بهذا الأمر ، قال تعالى : (إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

اسم نبي الله (إلياس) جاء في آيتين من آيات القرآن المجيد ، الأولى في هذه السورة ، أي سورة الصافات ، والثانية في سورة الأنعام الآية (٨٥) إذ ذكر اسمه مع مجموعة أخرى من الأنبياء (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وأبدى المفسرون وجهات نظر متعددة بشأن الياس ، إذ أن البعض تساءل هل أن اسم الياس هو اسم ثان لنبي واحد ، أم أنه يتعلق بنبي ليس له اسم ثان ، وما هي صفات وخصائص هذا النبي؟ للإجابة على هذه التساؤلات نستعرض وجهات النظر المتعددة تلك.

أ ـ يعتقد البعض أن الياس هو إدريس (لأن كلمة إدريس ، تلفظ إدراس ، وبعد أن طرأت عليها تغيرات بسيطة أضحت الياس).

ب ـ الياس هو أحد أنبياء بني إسرائيل ، وهو ابن (ياسين) أحد أحفاد أخي نبي الله موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسّلام.

ج ـ مجموعة من المفسرين اعتبرت أن الياس هو الخضر.

في حين أعربت مجموعة أخرى عن اعتقادها في أن الياس هو صديق الخضر ، وكلاهما ما زال حيا ، وأن الياس موكل بالفيافيّ ، والخضر موكل بالبحار والجزر.

ومجموعة ثالثة أكدت على أن الياس موكل بالصحاري والخضر موكل بالجبال ، ويقولون بخلود الاثنين. أما الرأي الأخير فهو أن الياس ابن (اليسع).

د ـ إلياس هو نفسه (إيليا) نبي بني إسرائيل الذي عاصر الملك (أجاب) والذي أرسله الباري عزوجل لإنذار وهداية (أجاب) الطاغية المتجبر.

٢٧٨

والبعض قال : إنه يحيى معمدان المسيح.

ولكن الذي يتناسب وظاهر آيات القرآن الكريم هو أن هذا الاسم اسم أحد أنبياء الله غير تلك الأسماء التي وردت في القرآن المجيد ، وأنه كان قد بعث لهداية قوم يعبدون الأصنام ، فكذبه أكثر القوم ، عدا مجموعة من المؤمنين المخلصين الذين صدقوه.

٢ ـ إلى من بعث : جمع من المفسرين استشفوا من اسم هذا الصنم ، أن الياس كان مبعوثا إلى مدينة بعلبك إحدى مدن بلاد الشام ـ واليوم هي جزء من لبنان وتقع قرب الحدود السورية ـ.

وكما بينا فإن (بعل) هو اسم ذلك الصنم و (بك) تعني مدينة ، ومن تركيب هاتين الكلمتين نحصل على كلمة (بعلبك) ...

* س ٢٠ : ما هو معنى قوله تعالى :

(اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) (١٢٩) [سورة الصافات : ١٢٩ ـ ١٢٦]؟!

الجواب / أقول : عمد الياس إلى توبيخ قومه بشدة ، وقال لهم : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ).

إذ أن الله مالككم ومربيكم ، وكل نعمة عندكم فهي منه ، وهل أي مشكلة عندكم تتيسر بقدرته ، فغيره لا يعد مصدرا للخير والبركة ، ولا يمكنه دفع الشر والبلاء عنكم.

الظاهر هنا أن عبدة الأصنام في زمان الياس ، قالوا ـ كما قال عبدة الأصنام في زمان نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إننا نتبع سنن أجدادنا الأولين ، والذين أجابهم الياس عليه‌السلام بقوله : (اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) واستخدام كلمة (رب) هنا أفضل منبه للعقل والتفكير ، لأن أهم قضية في حياة الإنسان

٢٧٩

هي أن يعرف من الذي خلقه؟ ومن هو مالكه ومربيه وولي نعمته اليوم؟

إلا أن قومه اللجوجين والمتكبرين لم يعطوا أذنا صاغية لنصائحه ومواعظه ولم يعبأوا بما يقوله لهدايتهم ، وإنما كذبوه (فَكَذَّبُوهُ).

ومقابل تصرفاتهم هذه توعدهم الله سبحانه وتعالى بعذابه بعبارة قصيرة جاء فيها : إننا سنحضرهم إلى محكمة العدل الإلهي وسنعذبهم في جهنم (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) لينالوا جزاء أعمالهم القبيحة والمنكرة.

ولكن يبدو أن هناك مجموعة من الأطهار المحسنين والمخلصين قد آمنوا بما جاء به إلياس ، ولكي لا يغفل عن هؤلاء ، قال تعالى مباشرة بعد تلك الآية (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ).

الآيات الأخيرة من بحثنا استعرضت نفس القضايا الأربعة التي وردت بحق الأنبياء الماضين «نوح وإبراهيم وموسى وهارون» ولأهميتها نستعرضها مرة أخرى. إن قوله تعالى : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) أي إن الأمم القادمة سوف لن تنسى الجهود الكبيرة التي بذلها الأنبياء الكبار من أجل حفظ خط التوحيد ، وسقاية بذرة الإيمان ، وما زالت الحياة موجودة في هذه الدنيا فإن رسالتهم ستبقى حية وخالدة.

* س ٢١ : ما هو معنى قوله تعالى :

(سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) (١٣٢) [سورة الصافات : ١٣٠ ـ ١٣٢]؟!

الجواب / ١ ـ قال الريان بن الصلت ـ في حديث مجلس الرضا عليه‌السلام مع المأمون والعلماء ، وقد أشرنا له في هذا الكتاب غير مرة ـ قال الرضا عليه‌السلام في الآيات الدالة على الاصطفاء : «وأما الآية السابعة : فقوله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا

٢٨٠