رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى) (٢٠)

(فَأَلْقاها) موسى من يده في الأرض (فَإِذا هِيَ) يعني تلك العصا (حَيَّةٌ تَسْعى) فلما خلع الله على العصا ـ أعني جوهرها ـ صورة الحية ، استلزمها حكم الحية وهو السعي ، حتى يتبين لموسى عليه‌السلام بسعيها أنها حية ، ولو لا خوفه منها خوف الإنسان من الحيات ، لقلنا إن الله أوجد في العصا الحياة فصارت حية من الحياة ، فسعت لحياتها على بطنها ، إذ لم يكن لها رجل تسعى بها ، فصورتها لشكلها عصا صورة الحيات ، فلما خاف منها للصورة على مجرى العادة في النفوس أنها تخاف من الحيات إذا فاجأتها ، لما قرن الله بها من الضر لبني آدم ، وما علم موسى مراد الله في ذلك ولو علمه ما خاف ، فقال له الحق :

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) (٢١)

(قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) وهذا هو خوف الفجأة إذ كان ، ثم قال له (سَنُعِيدُها) الضمير يعود على العصا (سِيرَتَهَا الْأُولى) أي ترجع عصا مثلما كانت ، فالآية محتملة ، فإن الضمير الذي في قوله عزوجل (سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) إذا لم تكن عصا في حال كونها في نظر موسى حية ، لم يجد الضمير على من يعود ، فجواهر الأشياء متماثلة وتختلف بالصور والأعراض ، والجوهر واحد ، فالاعيان لا تنقلب ، فالعصا لا تكون حية ولا الحية عصا ، ولكن الجوهر القابل صورة العصا قبل صورة الحية ، فهي صور يخلعها الحق القادر الخالق عن الجوهر إذا شاء ويخلع عليه صورة أخرى ، ومن هنا يعلم تجلي الحق في القيامة في صورة يتعوذ أهل الموقف منها وينزهون الحق عنها ، ويستعيذون بالله منها وهو الحق ما هو غيره ، وذلك في أبصارهم ، فإن الحق منزه عن قيام التغيير به والتبديل ، وقدّم الله هذا لموسى عليه‌السلام توطئة لما سبق في علمه سبحانه أن السحرة تظهر لعينه مثل هذا ، فيكون عنده علم من ذلك حتى لا يذهل ولا يخاف إذا وقع منهم عند إلقائهم حبالهم وعصيهم وخيل إلى موسى أنها تسعى ، يقول له : فلا تخف إذا رأيت ذلك منهم ، يقوي جأشه ـ إشارة ـ

٨١

(سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) بشرى لموسى عليه‌السلام بمقام الفنا وتصحيح اللقا ، فالعود رجوع إلى الأصل.

(وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى) (٢٢)

إشارة ـ فيه تنبيه للإنسان أنه عند خروجه من الغيب من العلل بريء ، فإنه خرج من الغيب طاهرا نقيا ، وما تدنس إلا بمصاحبة الكون والحدث ، ولذلك قيل : كل مولود يولد على الفطرة.

(لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٢٥) قال موسى ذلك لربه حين بعثه لفرعون.

(وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥)

فعلم موسى عليه‌السلام ما قال ، وعلمنا نحن من هذا القول ما أشار به ، ليفهم عنه صاحب عين الفهم معنى التعاون وظهور حكم الأسباب في المسببات ، فلا يزيل حكمها إلا جاهل.

(قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٣٩)

٨٢

أرشد الحق تعالى أم موسى عليه‌السلام عند الخوف أن تلقيه من يدها وتخرجه عن حفظها ، فإن الله تعالى يتولاه بحفظه ويبقيه برحمته ، وأما قوله تعالى (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي على حكم آيتي التي أوحيتها إلى أمك (أن أرضعيه ، فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني ، إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين). ويؤيد أن المراد ذلك كونه جعل ظرف صنعه على عينيه. ـ إشارة ـ ألقي موسى عليه‌السلام في التابوت لأن الحكمة ما ظهرت إلا بوجود الناسوت ، وإلقاؤه في اليم إشارة إلى العلم ، أمّا كيف يصح اليم مع العلم ، لأنه لولاه ما صح عند ذوي الفهم ، قال تعالى (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ولذلك العلم تحيا به القلوب.

(إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) (٤٠)

(وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) أي اختبره في مواطن كثيرة ، ليتحقق في نفسه صبره على ما ابتلاه الله به. (فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) ولتعلم أن وعد الله حق.

(وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١)

ليس لصنعة شرف أعلى من إضافتها إلى صانعها ، ولهذا لم يكن لمخلوق شرف إلا بالوجه الخاص الذي له من الحق ، لا من جهة سببه المخلوق مثله ، وأرفع المنازل عند الله أن يحفظ الله على عبده مشاهدة عبوديته دائما ، سواء خلع عليه من الخلع الربانية شيئا أو لم يخلع ، فهذه أشرف منزلة تعطى لعبد ، وهو قوله (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) وقوله (سبحان الذي أسرى بعبده) فقرن معه تنزيهه.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ

٨٣

طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤٤)

(فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) هو عين المداراة ، لأنه ما يؤمر بلين المقال إلا من قوته أعظم من قوة من أرسل إليه وبطشه أشد ، فإنه يأتي باللين ما يأتي بالقهر والفظاظة ، ولا يأتي بالقهر ما يأتي باللين ، فإن القهر لا يأتي بالرحمة والمودة في قلب المقهور ، وباللين ينقضي المطلوب ، وتأتي المودة فتلقيها في قلب من استملته باللين ، وصاحب اللين لا يقاوم ، فإنه لا يقاوم لما يعطيه اللين من الحكم ، ولما علم الحق أنه قد طبع على كل قلب مظهر للجبروت والكبرياء ، وأنه في نفسه أذل الأذلاء ، أمر موسى وهارون عليهما‌السلام أن يعاملا فرعون بالرحمة واللين ، لمناسبة باطنه واستنزال ظاهره من جبروته وكبريائه ، (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) ما نسي مما كان قد علم من امتناننا عليه ، ويتذكر بما يقابله من اللين والمسكنة ما هو عليه في باطنه ، ليكون الظاهر والباطن على السواء (أَوْ يَخْشى) أو يخاف مما يعرفه من أخذنا وبطشنا الشديد بمن قال مثل مقالته ممن تقدمه وحصل عنده العلم به ، فهذا جدل في الله ليّن مأمور به وتعطف ، ولعل كلمة ترجي ، والترجي من الله إذا ورد واقع بلا شك ، ولهذا قال العلماء : إن كلمة عسى من الله واجبة ؛ فعلم الله أنه يتذكر ، والتذكر لا يكون إلا عن علم سابق منسي ، فالترجي من الله واقع كما قالوا في عسى ، فإن لعل وعسى كلمتا ترج ، ولم يقل تعالى لموسى وهارون : لعله يتذكر أو يخشى في ذلك المجلس ولابد ؛ ولا خلّصه للاستقبال الأخراوي ، فإن الكل يخشونه في ذلك الموطن ، فجاء بفعل الحال الذي يدخله الاحتمال بين حال الدنيا وبين استقبال التأخير للدار الآخرة ، وذلك لا يكون مخلصا للمستقبل إلا بالسين أو سوف ، ولما كان لعل وعسى من الله واجبتين ، وقد ترجى من فرعون التذكّر والخشية ، فلابد أن يتذكر فرعون ذلك في نفسه وأن يخشى ، والذي ترجي من فرعون وقع ، لأن ترجيه تعالى واقع ، فإن تلك الخميرة ما زالت معه تعمل في باطنه ـ مع الترجي الإلهي الواجب وقوع المترجى ـ ويتقوى حكمها ، إلى حين انقطاع يأسه من أتباعه ، وحال الغرق بينه وبين أطماعه ، فلجأ إلى ما كان مستسرا في باطنه من الذلة والافتقار ، ليتحقق عند المؤمنين وقوع الرجاء الإلهي ، كما أخبر الله فقال (آمنت بالذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين) فأظهر حالة باطنه وما كان في قلبه من العلم الصحيح بالله ، فهذا يدلك

٨٤

على قبول إيمانه ، لأنه لم ينص إلا على ترجي التذكر والخشية ، لا على الزمان ، إلا أنه في زمان الدعوة ، ووقع ذلك في زمان الدعوة في الحياة الدنيا ، ولكن لم يظهر من ذلك شيئا على ظاهره في المجلس ، وإن كان قد حكم التذكّر والخشية على باطنه ، فلم يبطش بموسى ولا بأخيه في المجلس ، فإنه صاحب السلطان والقهر في ذلك الوقت ، فما منعه إلا ما قام به من التذكّر والخشية من الحق ، وكان القول باللين من جنود الله ، قابل بها جنود باطن فرعون ، فهزمهم بإذن الله ، فتذكر وخشي لما انهزم جيشه الذي كان يتقوى به ، فذل في نفسه ، فشغلته تلك الذلة والمعرفة عن أن يحكم بقوة ظاهره فلم يبطش بهما في المجلس ، فإن موسى عليه‌السلام ما قال (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) إلا لعدم التكافؤ في القوة الظاهرة ، فأمرهما الله تعالى أن يقولا له قولا لينا ـ والقول يقبل اللين والخشونة ـ ليقابل به غلظة فرعون ، فينكسر لعدم المقاوم ، إذ لم يجد قوة تصادم غلظته ، فعاد أثرها عليه فأهلكته بالغرق.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) (٤٥)

أرسل الله تعالى موسى عليه‌السلام وأخاه هارون إلى فرعون وهو الذي فر منه موسى خوفا ، فكان خوفه عليه‌السلام من السبب الموضوع ، فأرسله الحق إليه تنبيها أن الخوف يكون من الله ، إذ لا قدرة مؤثرة للممكن في إيصال خير أو شر إلى ممكن آخر ، وأن ذلك كله بيد الله ، فلما أمر هما بالذهاب إلى فرعون (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) فأظهرا أن الخوف من فرعون باق معهما ، وقولهما (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي يتقدم علينا بالحجة بما يرجع إليه من التوحيد (أَوْ أَنْ يَطْغى) أي يرتفع كلامه لكونه يقصد عين الحقيقة فنتعب معه ، أو يرتفع بالحجة إذ له الملك والسلطان ، فقال الله لهما :

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٤٦)

(قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما) وهذه معية اختصاص لموسى وهارون عليهما‌السلام ، فهذه بشرى لهما حتى لا يخافا ، فآمنهما الله مما خافا منه (أَسْمَعُ وَأَرى) من وجوه ـ الوجه الأول ـ أسمع دعاء كما فأجيبكما ، وأرى من كونه تعالى بصيرا بأمور عباده ، وهو البصر

٨٥

الذي يعطي الأمان ، لا أنه يشهده ويراه فقط ، فإنه يراه حقيقة سواء نصره أو خذله أو اعتنى به أو أهمله ـ الوجه الثاني ـ أسمع من فرعون إذا بلغتما إليه رسالة ربكما ، وأرى ما يكون منكما في حقه مما أوصيتكما به من اللين والتنزل في الخطاب ـ الوجه الثالث ـ نبههما على أنه سمعهما وبصرهما ، تذكرة لهما أو إعلاما ، لم يتقدمه علم به عندهما ، فإنه قد صح عندنا في الخبر أن العبد إذا أحبه ربه كان سمعه وبصره الذي يسمع به ويبصر به ، والنبي أولى بهذا ممن ليس بنبي.

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٤٨)

فلم يجد فرعون على من يتكبر ، لأن التكبر من المتكبر إنما يقع لمن يظهر له بصفة الكبرياء ، فلما رأى ما عندهما من اللين في الخطاب رق لهما وسرت الرحمة الإلهية بالعناية الربانية في باطنه ، فعلم أن الذي أرسلا به هو الحق ، لذلك لما قالا له صلى الله عليهما ما قالاه على الوجه الذي عهد إليهما الله أن يقولاه.

(قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) (٤٩)

لما سأل فرعون موسى وهارون عليهما‌السلام هذا السؤال ، دلّ سؤاله أنه يريد أن يتنبه الحاضرون لما يقولانه مما يكون دليلا على وجود الله ، ليعلموا صدقهما ، لأن العاقل إذا علم أنهما إذا قالا مثل قولهما ربما أن الخواطر تتنبه ويدعوهم قولهما إلى النظر فيه ، لنصبهما في قولهما مواضع الدلالة على الله ، فإنه لا يسأل خصمه ، فدل سؤاله أنه يريد هداية من يفهم من قومه ما جاءا به ، فأجابا عليه بما يستحقه الرب وهي هذه الصفة.

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٥٠)

٨٦

قال موسى عليه‌السلام ذلك مجيبا فرعون على سؤاله ، فأخبر بإحاطة علم الله ، ولم يكن ذلك لفرعون مع دعواه الربوبية ، فعلم فرعون ما قالاه وسكت ، وتبين له أنه الحق ، لكن حب الرياسة منعه من الاعتراف (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ). اعلم أن العطاء منه واجب ومنه امتنان ، فإعطاء الحق العالم الوجود امتنان ، وإعطاء كل موجود من العالم خلقه واجب ، فإن أداء الحقوق نعت إلهي طولب به الكون ، قال تعالى (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فذلك حق ذلك الشيء الذي له عند الله من حيث ذاته ، فهو حق ذاتي ، وأعطى كل شيء خلقه يعني في نفس الأمر ، فخلق كل شيء حقه أي كماله ، وهو عين كمال ذلك الشيء فما نقصه شيء لأنه لا يصدر عن الكامل شيء إلا على كماله اللائق به ، فما في العالم نقص أصلا ، فالكمال للاشياء وصف ذاتي وهو جماله ، إذ لو نقص منه شيء لنزل عن درجة كمال خلقه فكان قبيحا ، فليس في الإمكان أجمل ولا أبدع ولا أحسن من العالم ، ولو أوجد ما أوجد إلى ما لا يتناهى ، لأن الحسن الإلهي والجمال قد حازه وظهر به ، والنقص أمر عرضي ، كالمرض له كمال في ذاته ، والكمال هنا بمعنى التمام ، لأن الكمال هو المطلوب لا التمام ، فإن التمام في الخلق ، والكمال فيما يستفيده التام ويفيده ، قال تعالى (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فقد تم ، ومن ذلك النقص ، فقد أعطى النقص خلقه أن يكون ناقصا ، فالزيادة على النقص الذي هو عينه ، لو كانت لكانت نقصا فيه ولم يعط النقص خلقه ، فتمام النقص أن يكون نقصا ، فالوجود كله عطاء.

ليس عند الله منع

كل ما منه عطاء

فإذا ما قيل منع

لم يكن إلا عطاء

فأنا ما بين شيئين غطاء ووطاء

وأنا لكل ما في الكون من خير وعاء

وميّز الله كل شيء في العالم بأمر ، ذلك الأمر هو الذي ميزه عن غيره ، وهو أحدية كل شيء ، فما اجتمع اثنان في مزاج واحد ، قال أبو العتاهية :

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه واحد

وليست سوى أحدية كل شيء ، فما اجتمع اثنان قط فيما يقع به الامتياز ، ولو وقع

٨٧

الاشتراك فيه ما امتازت ، وقد امتازت ، فأعطى كل شيء خلقه مما تقتضيه الحكمة الإلهية ما يستحقه ، وهو ما يقوّم ذات ذلك الشيء من الفصول المقومة لذاته ، وأما ما تطلبه تلك الفصول من اللوازم والأعراض فما أعطاه ذلك ، لأن أعراض كل ذات لا تتناهى ما دام موصوفا بالبقاء في الوجود ، وما لا يمكن فيه التناهي لا يصح أن يدخل في الوجود ، بل على التتالي والتتابع والطالب بالسؤال المحق ، هو الذي لا يطلب ما لا تستحقه ذاته من لوازمها وأعراضها ، كمن ليس حقيقته أن يقبل التفكر فيطلب أن يتصف بالفكر ، فما هو محق في طلبه ، فإذا طلبه الإنسان إذا كان الغالب عليه الوقوف مع المحسوسات ، فطلب الاشتغال بالتفكّر في خلق السموات والأرض وجميع الآيات فهو محق في طلبه ، صادق الدعوى في نفي التفكّر عنه ، لاستيلاء الغفلة عليه ، فطلبه هذا لا يعارض (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فله أن يطلب ما تستحقه ذاته من لوازمها وأعراضها ، فهذا هو المحق الذي لا يعارض طلبه حقه الذي يستحقه بذاته ، فينبغي لك أن تعلم كيف تسأل؟ وما ذا تسأل فيه؟ ومن أوصاف المحق أن لا يسأل إلا من بيده قضاء ذلك الحق المسؤول ، فلا تعارض في هذه الآية بين الطلب بالسؤال ما يستحقه من اللوازم والأعراض وبين قوله تعالى (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) من الفصول المقومة لذاته ، وتدل هذه الآية على أن كل شيء في استقامة حاصلة تطلبها حكمة الله السارية في كل كون ، فاستقامة النبات أن تكون حركته منكوسة ، واستقامة الحيوان أن تكون حركته أفقية ، وإن لم يكن كذلك لم ينتفع بواحد منهما ، لأن حركة النبات إن لم تكن منكوسة حتى يشرب الماء بأصولها لم تعط منفعة ، إذ لا قوة له إلا كذلك ، وكذلك الحيوان لو كانت حركته إلى العلو وقام على رجلين مثلنا ، لم يعط فائدة الركوب وحمل الأثقال على ظهره ، ولا حصلت به المنفعة التي تقع بالحركة الأفقية ، فاستقامته ما خلق له ، فهي الحركة المعتبرة التي تقع بها المنفعة المطلوبة ، وإلا فالنبات والحيوان لهما حركة إلى العلو ، وهو قوله تعالى (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) فلو لا الحركة ما نما علوا ، وإنما غلبنا عليه الحركة المنكوسة للمنفعة المطلوبة ، فإن المتكلمين في هذا الفن ما حرروا الكلام في حقيقته ، واعوجاج القوس استقامته لما أريد له ، فما في الكون إلا الاستقامة ، وهي ما أعطي كل شيء من خلقه (ثُمَّ هَدى) أي بيّن لنا بالتعريف أنه أعطى كل شيء خلقه ، وأعطى الهدى أيضا الذي هو البيان خلقه ، فأبان الأمر لعبيده على أكمل الوجوه عقلا وشرعا ، بأن بيّن

٨٨

الأمور على ما هي عليه بإعطاء كل شيء خلقه ، أي ما خلقه إلا بالحق ، وهو ما يجب له ، حتى لا يقول شيء من الأشياء : قد نقصني كذا ، فإن ذلك النقص الذي يتوهمه هو عرض ، عرض له لجهله بنفسه وعدم إيمانه إن كان وصل إليه قوله (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فإن المخلوق ما يعرف كماله ولا ما ينقصه ، لأنه مخلوق لغيره لا لنفسه ، فالذي خلقه إنما خلقه له لا لنفسه ، فما أعطاه إلا ما يصلح أن يكون له تعالى ، والعبد يريد أن يكون لنفسه لا لربه ، فلهذا يقول : أريد كذا ، وينقصني كذا ؛ فلو علم أنه مخلوق لربه ، لعلم أن الله خلق الخلق على أكمل صورة تصلح لربه ، وهذا أصل الأدب الإلهي الذي طلبه الحق من عباده ، فالعالم على الحقيقة هو الله الذي علم ما تستحقه الأعيان في حال عدمها ، وميّز بعضها عن بعض بهذه النسبة الإحاطية ، ومن تمام خلق الشيء تعيين زمانه ، وهو القدر ، وهي الأقدار ، أي مواقيت الإيجاد ، فأعطى كل شيء خلقه من زمانه ، فيمن يتقيد وجوده بالزمان ، ومن حاله فيمن يتقيد وجوده بالحال ، ومن صفته فيمن يتقيد وجوده بالصفة (ثُمَّ هَدى) لاكتساب الكمال ، فمن اهتدى فقد كمل ، ومن وقف مع تمامه فقد حرم ، فما ترك الحق لمخلوق ما يحتاج إليه من حيث ما هو مخلوق تام ، فإن قلت : ففيم إذا السؤال والدعاء؟ قلنا : اعلم أن ثمّ تماما وكمالا ، فالتمام إعطاء كل شيء خلقه ، وهذا لا سؤال فيه ، ولا يلزم إعطاء الكمال ، ويتصور السؤال والطلب في حصول الكمال ، فإنها مرتبة ، والمرتبة إذا أوجدها الحق في العبد أعطاها خلقها ، وما هي من تمام المعطى إياه ولكنها من كماله ، وكل إنسان وطالب محتاج إلى كمال ، أي إلى المرتبة ، ولكن لا يتعين ، فإنه مؤهل بالذات لمراتب مختلفة ، ولا بد أن يكون على مرتبة ما من المراتب ، فيقوم في نفسه أن يسأل الله في أن يعطيه غير المرتبة لما هو عليه من الأهلية لها ، فيتصور السؤال في الكمال ، وهو مما يحتاج إليه السائل في نيل غرضه ، فإنه من تمام خلق الغرض أن يوجد له متعلقه الذي يكون به كماله ، فإن تمامه تعلقه بمتعلق ما ، وقد وجد ، فإن أعطاه الله ما سأله بالغرض فقد أعطاه ما يحتاج إليه الغرض ، وذلك هو السخاء ، فإن السخاء عطاء على قدر الحاجة ، وقد يعطيه الله ابتداء من غير سؤال نطق ، لكن وجود الأهلية في المعطى إياه سؤال بالحال ، كما تقول : إن كل إنسان مستعد لقبول استعداد ما يكون به نبيا ورسولا وخليفة ووليا ومؤمنا ، لكنه سوقة وعدو وكافر ، وهذه كلها مراتب يكون فيها كمال العبد ونقصه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كمل من الرجال كثيرون ،

٨٩

ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون] كل إنسان ما عدا هؤلاء مستعد بإنسانيته لقبول ما يكون له به هذا الكمال ، فبالأهلية هو محتاج إليه ، وللحرمان وجد السؤال ، فالكامل من علم ما يستحقه العالم منه ، فوفاه حقه ، فأعطى كل ذي حق حقه ، كما أن الله أعطى كل شيء خلقه ، من اسمه الحكيم ، فإن الذي انفرد به الحق إنما هو الخلق ، والذي انفرد به العالم الكامل إنما هو الحق ، فيعلم ما يستحقه كل موجود فيعطيه حقه ، وهو المسمى بالإنصاف ، فمن أعطيته حقه فقد أنصفته ، فإن تغاليت فما كملت وأنت ناقص ، فإن الزيادة في الحد نقص في المحدود ، فلا يتعدى الكامل بالشيء رتبته ، فإن الله لما أعطى كل شيء خلقه أمر عبده أن يعطي كل شيء حقه ، وهو قولنا فيما تقدم : إن أداء الحقوق نعت إلهي طولب به الكون ، فإذا أقامه الحق تعالى في فعل من أفعاله المأمور بها أو المحجور عليه فيها ، نظر ما لها من الحق قبله ، فوفّى ذلك الفعل حقه ، فإذا كان من الأمور المأمور بفعلها أعطاها حقها في نشأتها حتى تقوم سوية الخلق معدلة النشء ، فلم يتوجه لذلك الفعل حق على فاعله ، فلله الخلق وللعبد الحق فالحق أعطى كل شيء خلقه ، والخلق أعطى كل شيء حقه ، وإن كان من الأمور المنهي عنها فحقها على هذا العبد أنه لا يوجدها ولا يظهر لها عينا أصلا ، فإن لم يفعل فما وفّاها حقها ، وتوجهت عليه المطالبة لها ، فلم يعط كل شيء حقه فكان محجوجا ـ مسئلة ـ من هذه الآية ، يعرف ما تخبط فيه الناس من تفضيل الفقر على الغنى والغنى على الفقر ، والخوض في هذه المسئلة من الفضول الذي في العالم والجهل القائم به ، فإن الحالات تختلف والمنازل تختلف ، وكل حالة كمالها في وجود عينها ، فإن الله يقول (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فما تركت هذه الآية لأحد طريقا إلى الخوض في الفضول لمن فهمها وتحقق بها ، غير أن الفضول أيضا من خلق الله ، فقد أعطى الله الفضول خلقه ، ثم هدى أي بين أن من قام به الفضول فهو المعبر عنه بالمشتغل بما لا يعنيه وجهله بالأمر الذي يعنيه ، والفقر في عينه كامل الخلق لا قدم له في الغنى ، والغنى في حاله كامل الخلق لا قدم له في الفقر ، ولو تداخلت الأمور لكان الفقر عين الغنى والغنى عين الفقر ، إذ كان كل واحد منهما من مقومات صاحبه ، والضد لا يكون عين الضد ، وإن اجتمعا في أمر ما ، فلا يجتمع الغنى والفقر أبدا ، فليس للفقر منزلة عند الله في وجوده ، وليس للغنى منزلة عند العبد في وجوده ، فكما لا يقال : الله أفضل من الخلق أو الخلق

٩٠

كذلك ، لا يقال : الغنى أفضل من الفقر أو الفقر أفضل من الغنى ، فالفقر صفة الخلق ، والغنى صفة الحق ، والمفاضلة لا تصح إلا فيمن يجمعهما جنس واحد ، ولا جامع بين الحق والخلق ، فلا مفاضلة بين الغنى والفقر ، قال الله تعالى في الغنى (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) وقال في الفقر (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فمن قال بعد علمه بهذا الغنى أفضل من الفقر ، أم الفقر أفضل ، كان كمن قال : من أفضل الله أم الخلق؟ وكفى بهذا جهلا من قائله ، وأما الذي بأيدي الناس الذي يسمونه غنى ، فكيف يكون غنى وأنت فقير إليه غير مستغن في غناك عن غناك؟ فغناك عين فقرك ، وهذا على الحقيقة لا يسمى غنى ، فكيف تقع المفاضلة ما بين ما له وجود حقيقي وهو الفقر ، وبين ما ليس له وجود حقيقي وهو غناك؟ وإذا سمي الإنسان غنيا فهو وصف عرضي ، والفقر له ذاتي ، فطلب المفاضلة جهل بين الوصف الحقيقي والإضافي العرضي ـ رقيقة ـ اعلم أن العقل من جملة الأشياء ، وقد أعطاه الله خلقه ، ولهذا ينزهه العقل ويرفع المناسبة من جميع الوجوه ، ويجيء الحق فيصدقه في ذلك ب (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) يقول لنا : صدق العقل فإنه أعطى ما في قوّته ، لا يعلم غير ذلك فإني أعطيت كل شيء خلقه ، وتمم الحق الآية بقوله (ثُمَّ هَدى) أي بيّن ، فبين سبحانه أمرا لم يعطه العقل ولا قوة من القوى ، فذكر لنفسه أحكاما هو عليها ، لا يقبلها العقل إلا إيمانا أو بتأويل يردها تحت إحاطته ، لا بد من ذلك ، وطريقة السلامة لمن لم يكن على بصيرة من الله ، أن لا يتأول ، ويسلّم ذلك إلى الله على علمه فيه ، هذه طريقة النجاة. ثم نعود إلى قول موسى عليه‌السلام (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) هذا من القول اللين ، فإنه دخل تحته كل شيء ادعاه فرعون ، فأعطاه الله خلقه ، فكأن في كلامهما جواب فرعون لهما ، إذ كان ما جاء به فرعون خلق الله ، ثم زادهما في السؤال ليزيد في الدلالة.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (٥٢)

(وَلا يَنْسى) مثل ما نسيت أنت حتى ذكرناك فتذكرت ، فلو كنت إلها ما نسيت ،

٩١

لأن الله تعالى قال (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ) ثم زادا في الدلالة بما قالا بعد ذلك إلى تمام الآية ، فما زال ذلك العلم مضمرا في نفس فرعون ، لم يعطه حب الرياسة أن يكذّب نفسه عند قومه فيما استخفهم به حتى أطاعوه ، فكانوا قوما فاسقين ، فما شركه الله معهم في ضمير (إنهم) فلما رأى البأس قال : آمنت ، فتلفظ باعتقاده الذي ما زال معه ، فقال له الله تعالى (آلآن) قلت ذلك ، فأثبت الله بقوله (آلآن) أنه آمن عن علم محقق والله أعلم ، وإن كان الأمر فيه احتمال ، وحقت الكلمة من الله وجرت سنته في عباده ، أن الإيمان في ذلك الوقت لا يدفع عن المؤمن العذاب الذي أنزله بهم في ذلك الوقت ، إلا قوم يونس ، كما لا ينفع السارق توبته عند الحاكم فيرفع عنه حد القطع ، ولا الزاني مع توبته عند الحاكم ، مع علمنا بأنه تاب بقبول التوبة عند الله ، وحديث ما عز في ذلك صحيح أنه تاب توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم ، ومع هذا لم تدفع عنه الحدّ ، بل أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم برجمه ، وكذلك كل من آمن عند رؤية البأس من الكفار أن الإيمان لا يرفع نزول البأس بهم ، مع قبول الله إيمانهم في الدار الآخرة ، فيلقونه ولا ذنب لهم ، فربما لو عاشوا بعد ذلك اكتسبوا أوزارا ، أما قول موسى عليه‌السلام (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ) فما كتبها في اللوح المحفوظ إلا ليعلم من ليس من شأنه أن لا يعلم إلا بإعلام ، لا ليتذكر ما أوجبه على نفسه مما تستقبل أوقاته في المدد الطائلة ، فإنه سبحانه (لا يَضِلُّ رَبِّي) الذي جئتك من عنده لأدعوك إلى عبادته (وَلا يَنْسى) يعني ما أوجبه على نفسه من ذلك ، ثم زادا في الدلالة.

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) (٥٣)

خلق الله تعالى الإنسان من تراب الأرض وجعلها محلا للخلافة ، فهي دار ملكه وموضع نائبه الظاهر بأحكام أسمائه ، فمنها خلقنا وفيها أسكننا أحياء وأمواتا.

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) (٥٤)

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) أعلم أنه ما من نبات إلا وهو دواء وداء ، أي فيه منفعة ومضرة

٩٢

بحسب قبول الأمزجة البدنية وما هي عليه من الاستعداد ، فيكون المضر لبعض الأمزجة عين ما هو نافع لمزاج غيرها ، لذلك قال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) وهم أولو نهى بما زجرهم به في خطابه ، وهم الذين يوافقون الحق فيما أمر به ونهى.

(مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) (٥٥)

(مِنْها) أي هذه الأرض (خَلَقْناكُمْ) فالأرض أم للإنسان فالغالب علينا عنصر التراب ، وإن كنا على جميع الطبائع كلها (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ، لذلك تضغطه عند ما يدفن فيها مثل عناق الأم وضمها ولدها إذا قدم عليها من سفر ، فهو ضم محبة (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) يعني يوم البعث ـ الوجه الثاني ـ (مِنْها خَلَقْناكُمْ) أي هذه الأرض (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) يعني في النشأة الأخرى أيضا كما خلقنا فيها (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) يخرجنا إخراجا لمشاهدته ، كما أنشأنا منها وأخرجنا لعبادته ، فخلق أرواحنا في أرض أبداننا في الدنيا لعبادته ، وأسكننا أرض أبداننا في الآخرة لمشاهدته إن كنا سعداء ، كما آمنا به في النشأة الأولى لما اعتنى الله بنا ، والحال مثل الحال سواء في تقسيم الخلق في ذلك ، وكذلك يكونون غدا ، والموت بين النشأتين حالة برزخية تعمر الأرواح فيها أجسادا برزخية خيالية ، مثل ما أعمرتها في النوم ، وهي أجساد متولدة عن هذه الأجسام الترابية ، فإن الخيال قوة من قواها ، فما برحت أرواحنا منها أو مما كان منها ، ومن مات فقد قامت قيامته ، وهي القيامة الجزئية وهو قوله (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) فإن مدة البرزخ هي للنشأة الآخرة بمنزلة حمل المرأة للجنين في بطنها ، ينشئه الله نشأ بعد نشء ، فتختلف عليه أطوار النشء إلى أن يولد يوم القيامة ، فلهذا قيل في الميت إنه إذا مات قامت قيامته ، أي ابتدأ فيه ظهور نشأة الأخرى في البرزخ إلى يوم البعث من البرزخ ، كما يبعث من البطن إلى الأرض بالولادة ، فتدبير نشأة بدنه في الأرض زمان كونه في البرزخ ليسويه ويعدله على غير مثال سبق مما ينبغي للدار الآخرة ، فيعبد الله فيها ، أعني في أرض نشأته الأخراوية عبادة ذاتية لا عبادة تكليف ، فالعاقل إذا شاهد التراب تذكر ما خلق منه ، وذكرته الأرض بنشأته وبإهانته وذلته ، فإن الأرض جعلها الله ذلولا مبالغة في الذلة ، ولا أذل مما يطأه الأذلاء ، ونحن نطأها وجميع الخلائق ونحن عبيد أذلاء.

٩٣

(وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (٦٦)

اعلم أن من خرق العوائد قسما منها يرجع إلى ما يدركه البصر أو بعض القوى ، على حسب ما يظهر لتلك القوة مما ارتبطت في العادة بإدراكه ، وهو في نفسه على غير ما أدركته تلك القوة ، وهذا القسم داخل تحت قدرة البشر ، ومنه ما يرجع إلى خواص أسماء ، إذا تلفظ بتلك الأسماء ظهرت تلك الصور في عين الرائي أو في سمعه خيالا ، وما ثمّ في نفس الأمر أعني في المحسوس شيء من صورة مرئية ولا مسموعة ، وهو فعل الساحر ، وهو على علم أنه ما شيء مما وقع في الأعين والأسماع ، وللأسماء سلطان على خيال الحاضرين ، فتخطف أبصار الناظرين ، فيرى صورا في خياله كما يرى النائم في نومه ، وما ثم في الخارج شيء مما يدركه ، لذا قال تعالى (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) يعني إلى موسى ، فإن موطن الخيال يعطي في أعين الناظرين حياة الجمادات وحركتها ، وهي في نفسها ليست بتلك الحياة التي تدركها

٩٤

الأبصار ، كحبال سحرة موسى عليه‌السلام وعصيهم ، يخيل إلى موسى (مِنْ سِحْرِهِمْ) الذي سحروا به أعين الناس وعلمهم بما فعلوه ، والسحر مأخوذ من السحر ، وهو اختلاط الضوء والظلمة ، فالسحر له وجه إلى الظلمة وليس ظلاما خالصا ، وله وجه إلى الضوء وليس ضوءا خالصا ، كذلك السحر له وجه إلى الحق وهو ما ظهر إلى بصر الناظر أنه حق ، وله وجه إلى الباطل لأنه ليس الأمر في نفسه على ما أدركه البصر ، فلهذا سمته العرب سحرا ، وسمي العامل به ساحرا ، لا العالم به (أَنَّها تَسْعى) وليست بساعية في نفس الأمر ، أقاموا ذلك في حضرة الخيال المنفصل أمام الجميع ، فرأوا العصي والحبال في صورة الحيات ، وكذلك أدركها موسى مخيلة ولا يعرف أنها مخيلة ، بل ظن أنها مثل عصاه في الحكم ، فهي ساعية في نظر موسى ونظر الحاضرين ، إلا السحرة فإنهم يرونها حبالا ، والغريب لو ورد لرآها كما يراها السحرة ، فكان فعل السحرة عن حكم أسماء كانت عندهم ، لها في عيون الناظرين خاصية النظر إلى ما يريد الساحر إظهاره ، فله بتلك الأسماء قلب النظر لا قلب المنظور فيه ، وهذا بخلاف عصا موسى عليه‌السلام حين ألقاها عن الأمر الإلهي ، فانقلب المنظور فيه فتبعه النظر ، فتلك حبال نشأت بين الخيال وبين أعين الناظرين أنها تسعى ، وهي أجسام في عينها لا حكم لها في السعي ، فظهرت في عين موسى بصورة الجسم الذي له سعي ، والأمر في نفسه ليس كذلك ، وامتلأ الوادي من حبالهم وعصيهم ، ورآها موسى فيما خيّل له حيات تسعى ، فلهذا خاف موسى عليه‌السلام.

(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧)

لم يكن نسبة الخوف إلى موسى عليه‌السلام في هذا الوقت نسبة الخوف الأول ، فإن الخوف الأول لما ألقى موسى عصاه فكانت حية تسعى ، خاف منها على نفسه على مجرى العادة ، فولى مدبرا ولم يعقب ، حتى أخبره الله تعالى ، وكان خوفه الثاني الذي ظهر منه للسحرة عند ما ألقت السحرة الحبال والعصي فصارت حيات في أبصار الحاضرين ، كان هذا الخوف الآخر على الحاضرين من الأمة ، لئلا تظهر عليه السحرة بالحجة فيلتبس الأمر على الناس ، فلا يفرقون بين الخيال والحقيقة ، أو ما بين ما هو من عند الله وبين ما ليس من عند الله ، فاختلف تعلق الخوفين ، فإنه عليه‌السلام على بينة من ربه ، قوي الجأش بما

٩٥

تقدم له في الإلقاء الأول (خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى) أي ترجع عصا كما كانت في عينك ، فلما خاف موسى عليه‌السلام على الأمة قال الله له :

(قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) (٦٨)

لما ادعى فرعون الفوقية اللائقة بالربوبية ، وهي الفوقية الحقيقية في قوله (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) كذبه الله تعالى بقوله تعالى لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) لما ظهر للسحرة خوف موسى مما رآه ، وما علموا متعلق هذا الخوف أي شيء هو؟ علموا أنه ليس عند موسى من علم السحر شيء فإن الساحر لا يخاف مما يفعله ، لعلمه أنه لا حقيقة له من خارج ، وأنه ليس كما يظهر لأعين الناظرين ، فأمر الله موسى أن يلقي عصاه وأخبر أنها تلقف ما صنعوا ، فقال تعالى :

(وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) (٦٩)

فلما ألقى موسى عصاه فكانت حية ، تلقفت تلك الحية جميع ما كان في الوادي من الحبال والعصي ، أي تلقفت صور الحيات منها المتخيلة في عيون الحاضرين ، فأبصرت السحرة والناس حبال السحرة وعصيهم التي ألقوها حبالا وعصيا كما هي ، وأخذ الله بأبصارهم عن ذلك ، فهذا كان تلقفها ، لا أنها انعدمت الحبال والعصي ، إذ لو انعدمت لدخل عليهم التلبيس في عصا موسى ، وكانت الشبهة تدخل عليهم ، فإن الله يقول (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وما صنعوا الحبال ولا العصي ، وإنما صنعوا في أعين الناس صور الحيات ، وهي التي تلقفت عصا موسى ، وما قال تعالى : تلقف حبالهم وعصيهم (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ) أي فعلوا ما يقارب الحق ، فإن الكيد من كاد ، وكاد من أفعال المقاربة ، أي فعلوا ما يقارب الحق في الصورة الظاهرة للبصر (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) فكانت الآية عند السحرة خوف موسى وأخذ صور الحيات من الحبال والعصي ، فكان ظهور حجته على حجتهم أن بقيت حبالهم وعصيهم في صور حبال وعصي ، فلما رأى الناس الحبال حبالا ، علموا أنها

٩٦

مكيدة طبيعية يعضدها قوة كيدية روحانية ، وأما العامة فنسبوا ما جاء به موسى إلى أنه من قبيل ما جاءت به السحرة ، إلا أنه أقوى منهم وأعلم بالسحر بالتلقف الذي ظهر من حية عصا موسى ، فقالوا : هذا سحر عظيم ، ولم تكن آية موسى عند السحرة إلا خوفه وأخذ صور الحيات من الحبال والعصي خاصة ، فمثل هذا خارج عن قوة النفس ، فتخيل السحرة أن موسى خاف من الحيات ، وكان موسى في نفس الأمر غير خائف من الحيات لما تقدم له في ذلك من الله في الفعل الأول حين قال له (خُذْها وَلا تَخَفْ) فنهاه عن الخوف منها ، وأعلمه أن ذلك آية له ، فكان خوفه الثاني على الناس لئلا يلتبس عليهم الدليل والشبهة ، والسحرة تظن أنه خاف من الحيات ، فلبّس الله عليهم خوفه كما لبّسوا على الناس ، لأن السحرة لو علمت أن خوف موسى من الغلبة بالحجة لما سارعت إلى الإيمان ، ثم أنه كان لحية موسى التلقف ولم يكن لحياتهم تلقف ولا أثر ، لأنها حبال وعصي في نفس الأمر ، فلما علمت السحرة قدر ما جاء به موسى من قوة الحجة ، وأنه خارج عما جاؤوا به ، وتحققت شفوف ما جاء به على ما جاؤوا به ، ورأوا عصاه حية حقيقة ، علموا عند ذلك أنه أمر غيب من الله الذي يدعوهم إلى الإيمان به ، وما عنده من علم السحر خبر ، لما علمت من خوف موسى أنه لو كان ذلك منه وكان ساحرا ما خاف ، لأنه يعلم ما يجري ، فآية موسى عند السحرة خوفه ، وآيته عند الناس تلقف عصاه ، وعلم السحرة أن أعظم الآيات في هذا الموطن تلقف هذه الصور من أعين الناظرين ، وإبقاء صورة حية عصا موسى في أعينهم ، والحال عندهم واحدة ، فعلموا صدق موسى فيما يدعوهم إليه ، وأن هذا الذي أتى به خارج عن الصور والحيل المعلومة عند السحرة ، فهو أمر إلهي ليس لموسى عليه‌السلام فيه تعمل ، فصدّقوا برسالته على بصيرة وآمنت السحرة ـ إشارة لا تفسير ـ (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ) من ألقى إرادة نفسه في بحر إرادة مولاه وميدانها ، تولاها بلطف حكمته ، وأجرى عليه سابق عنايته ، فأحياها حياة السعادة والتمليك ، فامتحق كل زور وباطل ، وخنس من دلاه بغرور ، وردّت إليه بعد ما ألقاها ، وحصل لها الشرف الكامل على أبناء جنسها ، فتلك النفس المطمئنة الراضية المرضية ، الداخلة في عباد الاختصاص ، وفي الفراديس العلية جوار الرحمن.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) (٧٠)

٩٧

لما علمت السحرة أن الذي جاء به موسى من عند الله آمنوا بما جاء به موسى عن آخرهم ، وخروا سجدا عند هذه الآية قيل : كانوا ثمانين ألف ساحر ، آمنوا واختاروا عذاب فرعون على عذاب الله ، وآثروا الآخرة على الدنيا ، وعلموا من علمهم بذلك أن الله على كل شيء قدير ، وقالت السحرة (آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) قالت ذلك لرفع اللبس من أذهان السامعين (راجع سورة الشعراء آية ٤٧) ولهذا توعدهم فرعون بقوله :

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) فالدولة لك.

(إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٧٣)

(وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) وإلى هذا مال العارف ، أما الزاهد في الدنيا فميله إلى (وما عند الله خير وأبقى) فالزاهد صيد الحق من الدنيا ، والعارف صيد الحق من الآخرة ، فالله خير وأبقى ممن هو عنده ، وما عند الله إلا العالم ، فالله خير وأبقى ، لأن بقاء العالم إذا وصف بالوجود بإبقائه ، والحق لو لا بقاء عينه ما كان للمكن حكم فيما يظهر ، فإن بقاء الحق بنفسه وبقاء العالم بإبقاء الحق تعالى.

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (٧٤)

إن الحقائق تعطي أن المآل إلى الرحمة في الدار الآخرة ، فيرحم الله معنى وحسا ، فثمّ

٩٨

من تكون الرحمة به عين العافية لا غير وارتفاع الآلام ، وهذا مخصوص بأهل النار الذين هم أهلها ، فهم لا يموتون فيها ، لما حصل لهم فيها من العافية بزوال الآلام ، فاستعذبوا ذلك ، فهم أصحاب عذاب لا أصحاب ألم ، ولا يحيون أي ما لهم نعيم كنعيم أهل الجنان الذي هو أمر زائد على كونهم عافاهم الله من دار الشقاء.

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى) (٧٥)

في الجنة يذهب الله عن المؤمن الحسرة التي كان يجدها في الدنيا لما يفوته هنا وفي القيامة ، ولكن يعلم من هو أعلى منه ، قدر ما فاته من العلم والعمل الصالح ، ويرزق القناعة بحاله وما هو فيه والرضا ، فلا أدنى همة ممن يعلم أن هناك مثل هذا ولا يرغب في تحصيل العالي من الدرجات ، هذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد سأل أمته أن يسألوا الله له في الوسيلة طلبا للأعلى لعلو همته ، وإن علم المحروم في الجنة ما فاته فلا يكترث له لعدم ذوقه ، وكل من تعلقت همته في الدنيا بطلب الأعلى ولم يحصل ذلك ذوقا في الدنيا ولا كشف له فيه ، فإنه يوم القيامة يناله ولابد ، ويكون فيه كالذائق له هنا لا فرق ، وما بين الشخصين إلا ما عجّل له هنا من ذلك ، فالمحروم كل المحروم من لا يعلق همته هنا بتحصيل المعالي من الأمور ، ولكن لابد مع التمني من بذل المجهود ، وأما إن تمنى مع الكسل والتثبط فما هو ذلك الذي أشرنا إليه.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى) (٧٧)

فلما رال البحر بعضه عن بعض وافترق فظهر الأرض وسكن البحر ، غرّ ذلك فرعون قال تعالى :

(فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) (٧٨)

٩٩

فانطبق البحر عليهم فأهلكهم بما أنجى به بني إسرائيل.

(وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى) (٧٩)

لما كان نسبة الأفعال إلى المخلوقين فيها إشكال ، قال تعالى (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) فنسب الإضلال لفرعون ، وما نسبه إلى قومه فإنه عندهم ذو فعل ، ونفس الأمر كذلك ، وقوله (وَما هَدى) أي ما بيّن لهم طريق الحق ، فإنه موضع لبس لكونه ذا أفعال ، فلو كان المعبود جمادا ما وقع اللبس ، ومع ذلك لا يعذر قوم فرعون ، فإن خاصية الفعل في المخلوق لا تكون سارية في كل شيء حتى تضاف إليه الأفعال كما تضاف إلى الله ، وبهذا القدر من الجهل أخذ عبدة المخلوقين ذوي الأفعال كفرعون وغيره ، وهذه الآية والتي قبلها تكذيب من الحق لفرعون في دعواه القهر لبني اسرائيل ، لما قال (سنقتل أبناءهم ونستحي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون).

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) (٨١)

(وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) فأضاف الغضب إليه ، وإذا نزل بهم كانوا محلا له ، فهم محل الغضب وهو النازل بهم ، فإن الغضب هنا هو عين الألم ، وجهنم إنما هي مكان لهم ، وهم النازلون فيها (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) فالغضب الإلهي جعله يهوي ، فإذا هوى وهو السقوط ـ وهو حكم الغضب لا غير ـ فيسقط في الرحمة فتسعه وتتلقاه ، فلا يسقط إلا إليها ، وبالرحمة التي في الغضب سقط ، فهي التي جعلت الغضب يهوي به لتستلمه الرحمة الخالصة ، ولهذا كان المآل إلى الرحمة وحكمها وإن لم يخرجوا من النار ، فلهم فيها نعيم ، والله على كل شيء قدير ، وهو القائل (ورحمتي وسعت كل شيء) والغضب من الأشياء التي وسعته الرحمة ، فما ثمّ غضب خالص غير مشوب برحمة ، والرحمة لا يشوبها غضب.

١٠٠