رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨)

لما كان عند فرعون علم بالله ، لكن الرياسة وحبها غلب عليه في دنياه قال (ما عَلِمْتُ لَكُمْ) ولم يقل (ما علمت للعالم) لما علم أن قومه يعتقدون فيه أنه إله لهم ، فأخبر بما هو الأمر عليه وصدق في إخباره بذلك ، فإنه علم أنه ليس في علمهم أن لهم إلها غير فرعون ، لذلك قال (مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) أي في اعتقادكم ، وهو على أي حال قد تكبر على الله ، فإنه ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله بقوله لقومه (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وما في علمي أن أحدا يقع منه هذا القول وهو يجوع ويغوط وأمثال هذا إلا فرعون لمّا استخف قومه (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) ولم يقل إلى الله الذي يدعو إليه موسى عليه‌السلام ، فإن الله عصم لفظ الله أن يطلق على أحد وما عصم إطلاق إله فجعل قوله (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) ظنا بعد شك أو إثباتا في قوله : (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ).

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ

٣٠١

(٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (٤١)

فإن قيل كيف جعلهم أئمة وقد قال لإبراهيم عليه‌السلام لما سأله (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) قال تعالى له (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)؟ فاعلم أن من نصبه الناس إماما فأئمتهم رجلان : ظالم وعادل ، فالعادل هو الذي يقوم فيهم بسنة نبيهم وهديه ، ويسلك بهم أوامر الحق المشروع لهم من عند الله ، وهم أئمة الهدى الذين يأمرون بالقسط من الناس فهم ممن ينال عهد الله ، وطائفة أخرى نصبهم الناس فظلموا وضلوا وأضلوا وعدلوا عن الحق ، فهؤلاء الذين لم ينالوا عهد الله بحكم تعيينهم بالأمر بالتقدم ، ولكن قال تعالى فيهم (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) بقضائنا لا بأمرنا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ).

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيام َةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٤٤)

فإنه ليس حكم من شاهد الأمور حكم من لم يشاهدها إلا بالإعلام ، فللعيان حال لا يمكن أن يعرفه إلا صاحب العيان ، كما أن للعلم حالا لا يعرفه إلا أولو العلم.

(وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦)

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى عليه‌السلام.

٣٠٢

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥)

(وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لما يئسوا من إرشادهم وفلاحهم سلموا الأمر إليه ، واشتغلوا بما يزلفهم لديه ، فأعرضوا شرعا وسلموا حقيقة ، فأثنى الحق تعالى عليهم لنقتدي بهم ونعرف أنا إذا سلكنا مسلكهم كان لنا نصيب من ذلك الثناء.

٣٠٣

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦)

لقد حرص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعمه أبي طالب أن يؤمن فلم يفعل ، ونفذت فيه سابقة علم الله وحكمه ، وقال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) المقصود بالهدى هنا الهدى التوفيقي ، وما توفيقي إلا بالله ، لا الهدى بمعنى البيان ، فالهدى التوفيقي (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) وهو الذي يعطي السعادة لمن قام به ، فهو اختصاص من الله (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي بالقابلين للتوفيق ـ تحقيق ـ لا يصح أن يكون كلام الإنسان مؤثرا في الأشياء مطلقا في هذه الدار ، بل محله الجنان ، فإنه لا أكبر من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد قال لعمه أبي طالب : قل لا إله إلا الله ، فما ظهرت عن نشأة أمره (لا إله إلا الله) في محل المأمور ، وإن كان على بصيرة فيه ، ولكنه مأمور أن يأمر ، وهو حريص على الأمة ، فكان قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) أي إنك لا تقدر على من تريد أن تجعله محلا لظهور ما تريد إنشاءه فيه أن يكون محلا لوجود إنشائك فيه ، فقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لعمه : قل لا إله إلا الله في أذني أشهد لك بها عند الله ؛ وهو يأبى.

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧)

(أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) لا من الجهات ، فإن الحق ما أضاف الرزق إلى غيره مع قوله تعالى : (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) فعمّ ، ولم يقل ذلك في غير مكة (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) نسبوها إلى الجهات وما ذكروا الحق.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ

٣٠٤

مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٠)

احذر من فتنة الحياة الدنيا وزينتها ، وفرق بين زينة الله وزينة الشيطان وزينة الحياة الدنيا ، إذا جاءت الزينة مهملة غير منسوبة فإنك لا تدري من زيّنها لك ، فانظر ذلك في موضع آخر واتخذه دليلا على ما انبهم عليك ، مثل قوله (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) ومثل قولهم (أفمن زين له سوء عمله) ولم يذكر من زينه ، فتستدل على من زيّنه من نفس العمل ، فزينة الله غير محرمة ، وزينة الشيطان محرمة ، وزينة الدنيا ذات وجهين : وجه إلى الإباحة والندب ، ووجه إلى التحريم ، والحياة الدنيا وطن الابتلاء ، فجعلها الله حلوة خضرة ، واستخلف فيها عباده ، فناظر كيف يعملون فيها ، بهذا جاء الخبر النبوي ، فاتق فتنتها وميّز زينتها وقل رب زدني علما ، (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) وما عند الله إلا العالم فهو خير وأبقى ، من حيث أنه أعطى العلم بنفسه للعالم به ، أي من حيث أن العلم تابع للمعلوم ، وهو حكم لا يزال باقيا ، فإن العلم تابع للمعلوم في الحادث والقديم ، فأعيان العالم محفوظون في خزائنه عنده ، وخزائنه علمه ، ومختزنه نحن ، فنحن أثبتنا له حكم الاختزان ، لأنه ما علمنا إلا منا ، ـ تحقيق ـ الزاهد في الدنيا مال إلى قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) والعارف مال إلى قوله تعالى : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

(أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ

٣٠٥

(٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٨)

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ) أي يقدّر ويوجد (ما يَشاءُ) لو كان وجود العالم لذات الحق لا للنسب الإلهية لكان العالم مساوقا للحق في الوجود ، وليس كذلك ، فالنسب حكم لله أزلا ، وهي تطلب تأخر وجود العالم عن وجود الحق ، فيصح حدوث العالم ، وليس ذلك إلا لنسبة المشيئة التي هي مفتاح الغيب ، وسبق العلم بوجوده ، فكان وجود العالم مرجّحا على عدمه ، والوجود المرجح لا يساوق الوجود الذاتي الذي لا يتصف بالترجيح ، فكل ما سوى الحق عرض زائل وغرض مائل وإن اتصف بالوجود ، فهو في نفسه في حكم المعدوم (وَيَخْتارُ) كذا فعل سبحانه في جميع الموجودات ، فاختار من كل أمر في كل جنس أمرا ما ، كما اختار من الأسماء الحسنى كلمة الله ، واختار من الناس الرسل ، واختار من العباد الملائكة ، واختار من الأفلاك العرش ، واختار من الأركان الماء ، واختار من الشهور رمضان ، واختار من العبادات الصوم ، واختار من القرون قرن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختار من أيام الأسبوع يوم الجمعة ، واختار من أحوال السعادة في الجنة الرؤية ، واختار من الأحوال الرضى ، واختار من الأذكار لا إله إلا الله ، واختار من الكلام القرآن ، واختار من سور القرآن يس ، واختار من أي القرآن آية الكرسي ، واختار من قصار المفصل : قل هو الله أحد ، واختار من أدعية الأزمنة دعاء عرفة ، واختار من المراكب البراق ، واختار من الملائكة الروح ، واختار من الألوان البياض ، واختار من الأكوان الاجتماع ، واختار من الإنسان القلب ، واختار من الأحجار الحجر الأسود ، واختار من البيوت البيت المعمور ، واختار من الأشجار السدرة ، واختار من النساء مريم وآسية ، واختار من الرجال محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واختار من الكواكب الشمس ، واختار من الحركات الحركة المستقيمة ، واختار من النواميس الشريعة المنزلة ، واختار من البراهين البراهين الوجودية ، واختار من الصور الصورة الآدمية ، لذلك أبرزها على الصورة الإلهية ، واختار من الأنوار ما يكون معه النظر ، واختار من النقيضين الإثبات ، ومن الضدين الوجود ، واختار الرحمة على الغضب ، واختار

٣٠٦

من أحوال أفعال الصلاة السجود ، ومن أقوالها ذكر الله ، واختار من أصناف الإرادات النية ، والتحقيق أنه ما ثمّ حثالة ولا كناسة فإن ربك يخلق ما يشاء ويختار ، والمختار هو المصطفى ، فالنفوس نفايس ، فيختار الأنفس ويبقي النفيس ، فهذا ما كان من اختيار الله ـ الوجه الأول ـ (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) بل هي لله ، والله فعال لما يريد ، فنفى أن تكون لهم الخيرة ، وعندنا أن [ما] هنا اسم ، وهو في موضع نصب على أنه مفعول بقوله : ويختار الذي كان لهم الخيرة ، يعني فيه ، فإذا علم العبد ذلك سلّم الحكم فيه لله واستسلم ، وكان بحكم وقت ما يمضيه الله فيه ، لا بحكم ما يختاره لنفسه في المنشط والمكره ، ويرى أن الكل له فيه خير ، فيعامله الله في كل ذلك بخير ، فإن كان وقته يعطي نعمة ـ وكان عقده مع الله مثل هذا ـ رزقه الشكر عليها والقيام بحق الله فيها وأعين عليها ، وإن كان بلاء رزق الصبر عليه والرضا به وجعل الله له مخرجا من حيث لا يحتسب ، فإذا اقتضى الحق أمرا وكان له بك عناية أجراه عليك ورزقك القيام بحقه ـ الوجه الثاني ـ لا ينبغي للعبد أن يكون له اختيار مع سيده قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) فيما يختاره لهم ، فليس لهم أن يختاروا ، بل يقفون عند المراسم الشرعية ، فإن الشارع هو الله تعالى ـ تحقيق الجبر والاختيار ـ العبد مجبور في اختياره ، ومع أن الله فاعل مختار فإن ذلك من أجل قوله : ويختار ، وقوله : ولو شئنا ، ولا يفعل إلا ما سبق به علمه ، وتبدل العلم محال ، وما رأيت أحدا تفطن لهذا القول الإلهي ، فإن معناه في غاية البيان ، ولشدة وضوحه خفي ، فإنه سر القدر ، ومن وقف على هذه المسئلة لم يعترض على الله في كل ما يقضيه ويجريه على عباده وفيهم ومنهم ، ولهذا قال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فالعبد مجبور في اختياره الذي ينسب إليه ، وهو أصل يشمل كل موجود ، لا أحاشي موجودا من موجود ـ نسبة الاختيار إلى الحق تعالى ـ يستحيل عندنا أن ينسب الجواز إلى الله تعالى حتى يقال : يجوز أن يغفر الله لك ويجوز أن لا يغفر الله لك ، ويجوز أن يخلق ويجوز أن لا يخلق ، هذا على الله محال ، لأنه عين الافتقار إلى المرجح لوقوع أحد الجائزين ، وما ثمّ إلا الله ، وأصحاب هذا المذهب قد افتقروا إلى ما التزموه من هذا الحكم إلى إثبات الإرادة حتى يكون الحق يرجح بها ، ولا خفاء بما في هذا المذهب من الغلط ، فإنه يرجع الحق محكوما عليه بما هو زائد على ذاته ، وهو عين ذات أخرى ، وإن لم يقل فيها صاحب هذا المذهب إن تلك الذات

٣٠٧

الزائدة عين الحق ولا غير عينه ، فالذي نقول به : إن هذه العين المخلوقة من كونها ممكنة تقبل الوجود وتقبل العدم ، فجائز أن تخلق فتوجد ، وجائز أن لا تخلق فلا توجد ، فإذا وجدت فبالمرجّح وهو الله ، وإذا لم توجد فبالمرجّح وهو الله ، يستقيم الكلام ويكون الأدب مع الله أتم ، بل هو الواجب أن يكون الأمر كما قلنا ، وأما احتجاجهم بقوله : (لَوْ شاءَ اللهُ) و (لَوْ أَرادَ اللهُ) فهو عليهم هذا الاحتجاج لا لهم ، لزومية أن لو حرف امتناع لامتناع ولو لا حرف امتناع لوجود ، فالإمكان للممكن هو الحكم الذي أظهر الاختيار في المرجّح والذي عند المرجّح أمر واحد ، وهو أحد الأمرين لا غير ، فما ثمّ بالنظر إلى الحق إلا أحدية محضة لا يشوبها اختيار ، ألا تراه يقول تعالى : لو شاء كذا لكان كذا ؛ فما شاء فما كان ذلك ، فنفى عن نفسه تعلق المشيئة ، فنفى الكون عن ذلك المذكور ، فالاختيار تعلق خاص للذات أثبته الممكن لإمكانه في القبول لأحد الأمرين على البدل ، ولو لا معقولية هذين الأمرين ومعقولية القبول من الممكن ما ثبت للإرادة ولا للاختيار حكم ، فإن المشيئة الإلهية ما عندها إلا أمر واحد في الأشياء ، ولا تزال الأشياء على حكم واحد معيّن من الحكمين ، فمشيئة الحق في الأمور عين ما هي الأمور عليه فزال الحكم ، فإن المشيئة إن جعلتها خلاف عين الأمر فإما أن تتبع الأمر وهو محال ، وإما أن يتبعها الأمر ، وهو محال ، وبيان ذلك أن الأمر هو أمر لنفسه كان ما كان ، فهو لا يقبل التبديل ، فهو غير مشاء بمشيئة ليست عينه ، فالمشيئة عينه ، فلا تابع ولا متبوع ، فتحفظ من الوهم ، فمحال على الله الاختيار في المشيئة ، لأنه محال عليه الجواز ، لأنه محال أن يكون لله مرجح يرجح له أمرا دون أمر ، فهو المرجح لذاته ، فالمشيئة أحدية التعلق لا اختيار فيها ، ولهذا لا يعقل الممكن أبدا إلا مرجّحا ، ولذلك أقول بالحكم الإرادي لكني لا أقول بالاختيار ، فإن الخطاب بالاختيار الوارد إنما ورد من حيث النظر إلى الممكن معرى عن علته وسببيته ـ نصيحة ـ لا يثبت العبد لنفسه ما نفاه الحق عنه ، ويختار ما لم يختره له الحق.

(وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠)

٣٠٨

هذا هو التوحيد الثالث والعشرون في القرآن ، وهو توحيد الاختيار (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) وهو من توحيد الهوية ، فإن الدليل يعطي أن لا يكون في العالم تفاضل ، ولا مختار يفضل عند الله غيره من حيث نسبة العالم إلى الله ، فإن نسبته واحدة ، ورأينا الأمر على غير هذا خرج ، وفي القرآن كثير من تفضيل كل جنس بعضه على بعض ، حتى القرآن وهو كلام الله يفضل على سائر الكتب المنزلة وهي كلام الله ، والقرآن نفسه يفضل بعضه على بعض مع نسبته إلى الله أنه كلامه بلا شك ، فآية الكرسي سيدة آي القرآن ، وهي قرآن ، فعلمنا من هذا أن الحكمة التي يقتضيها النظر العقلي ليست بصحيحة ، وأن حكمة الله في الأمور هي الحكمة الصحيحة التي لا تعقل ، وإن كانت لا تعلم فما تجهل ، لكن لا تعيّن بمجرد فكر ولا نظر ، فلما رأينا التفاضل والاختيار وقع في العالم حتى في الأذكار الإلهية المشروعة كما ذكرنا ، علمنا أن ثمّ أمرا معقولا ما هو عين أعيان الكائنات ، فإذا بذلك عين المشيئة ، فيها ظهر هذا التفضيل في الواحد ، والتفضيل في المتساوي ، والواحد لا يتصف بالتفضيل ، والمتساوي لا ينعت بالتفضيل ، فعلمنا أن سر الله مجهول لا يعلمه إلا هو ، فوجدناه توحيد الاختيار في حضرة السر (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) وهو حمد الإجمال (وَالْآخِرَةِ) وهو حمد التفصيل ، فتميزت المحامد في العين الواحدة فكان حمدها عينها (وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي الحكم وهو القضاء ، فالضمير في (إِلَيْهِ) يعود على الحكم ، فإنه أقرب مذكور ، فلا يعود على الأبعد ويتعدى الأقرب إلا بقرينة حال ، هذا هو المعلوم في اللسان الذي أنزل به القرآن فالقضاء الذي له المضي في الأمور هو الحكم الإلهي على الأشياء بكذا ، والقدر ما يقع بوجوده في موجود معين المصلحة المتعدية منه إلى غير ذلك الموجود ، فالقضاء يحكم على القدر ، والقدر لا حكم له في القضاء ، بل حكمه في المقدر لا غير بحكم القضاء ، فالقاضي حاكم والمقدّر مؤقت ، ولما أوجد سبحانه كتابين من كونه سبحانه خلق من كل شيء زوجين ، فالقضاء وهو الحكم للكتاب الأول وهو الأم ، ويطلبه حكم الكتاب الثاني وهو القدر الذي به تقوم الحجة ، (وَلَهُ الْحُكْمُ) بالكتاب الأول (وَإِلَيْهِ) إلى هذا الكتاب (تُرْجَعُونَ).

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ

٣٠٩

إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣)

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) فأعاد الضمير على الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يريد في النهار ، فأضمر لما يتضمنه النهار غالبا من الحركات في المعاش وقوام النفوس ومصالح الخلق وتنفيذ الأوامر وإظهار الصنائع وإقامة المصنوعات في نشأتها وتحسين هيئاتها ، وإن كان الضميران يعودان على المعنى المقصود ، فقد يعمل الصانع بالليل ويبيع ويشتري بالليل ، كما أنه ينام أيضا ويسكن بالنهار ، ولكن الغالب في الأمور هو المعتبر.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٧٥)

(فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) فعلموا أنّهم كانوا من الذين لا يعلمون.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (٧٦)

(إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) ـ الوجه الأول ـ هذا ليس نهيا من الله تعالى وإنما حكى الله نهي قوم قارون له ، وهو فرح خاص من شأن النفوس أن تفرح به ، وأن الله لا يحب الفرح بذلك الفرح ، ومن فرح بهذا الأمر المعيّن مثل جمعه المال الذي يتركه بالموت في الدنيا ولا يقدمه عاد فرحه بذلك ترحا ، فحزن لفرحه على قدر فرحه ، فإن كان عظيما عظم

٣١٠

حزنه ، وإن كان دون ذلك كان الحزن والترح بحسبه ـ الوجه الثاني ـ الحزن إذا فقد من القلب في الدنيا خرب لحصول ضده ، إذ لا يخلو ، والدار الدنيا لا تعطي الفرح لما فيه من نفي المحبة الإلهية عمن قام به ، فلا يزال الحزن دائما أبدا ، وهو مقام مستصحب للعبد ما دام مكلفا وفي الآخرة ما لم يدخل الجنة ، فإنه ليس في الوسع الإمكاني تحصيل جملة الأمر ، فلا بد من فوت فلا بد من حزن.

الحزن مركبه صعب وغايته

ذهابه فولّي الله من حزنا

قلب الحزين هنا تقوى قواعده

هناك والغرض المقصود منك هنا

دار التكاليف دار ما بها فرح

فالله ليس يحب الفارح اللسنا

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (٧٧)

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) الإحسان الذي يسمى به العبد محسنا هو أن يعبد الله كأنه يراه ، أي يعبده على المشاهدة ، وإحسان الله هو مقام رؤيته عباده في حركاتهم وتصرفاتهم ، فشهوده لكل شيء هو إحسانه ، فإنه بشهوده يحفظه من الهلاك ، فكل حال ينتقل فيه العبد فهو من إحسان الله ، إذ هو الذي نقله تعالى ، ولهذا سمي الإنعام إحسانا ، فإنه لا ينعم عليك بالقصد إلا من يعلمك ، ومن كان علمه عين رؤيته فهو محسن على الدوام ، فإنه يراك على الدوام لأنه يعلمك دائما ، ولما كان سعي الإنسان في حق الغير إنما يسعى لنفسه في نفس الأمر ، لذا أمر بالإحسان ، فما زاد على ما يقوتك ويقوت من كلفك الله السعي عليه مما فتح الله به عليك فأوصله إنعاما منك إلى من شئت ، ممن تعلم منه أنه يستعمله في طاعة الله ، فإن جهلت فأوصله إلى من شئت ، فإنك لن تخيب من فائدته من كونك منعما بما سمي ملكا لك ، فأنت فيه كربّ النعمة ، فأنت نائبه وخليفته ، وقد رزق النبات والحيوان والطائع والعاصي ، فكن أنت كذلك ، وتحرى الطائع جهد استطاعتك ، فإن ذلك أوفر لحظك وأعلى ، وفي حقك أولى وأثنى (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) الفساد هنا المراد به تغيير الحكم الإلهي ، لا تغيير العين ولا إبدال الصورة.

٣١١

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (٨٣)

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) يريد دار السعادة ، فإن في الآخرة منزل شقاوة ومنزل سعادة ، فالدار الآخرة هنا الجنة خاصة دون النار (نَجْعَلُها) اي نملكها ملكا (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) سواء حصل لهم ذلك المراد أو لم يحصل ، فقد أرادوه وحصل في نفوسهم ، فإن الأرض قد جعلها الله ذلولا والعبد هو الذليل ، والذلة لا تقتضي العلو ، فمن جاوز قدره هلك ، فليس للعبد أن يتصف بأوصاف سيده لا في حضرته ولا عند إخوانه من العبيد وإن ولاه عليهم ، فالرب رب إلى غير نهاية ، والعبد عبد إلى غير نهاية ، فإن الصفات النفسية لا تكون مرادة للموصوف فيها ، فمن علا بغيره ولم يكن له حافظ يحفظ عليه علوه سقط وقوتل ، فالعالي من أعلى الله منزلته ، ولما كانت

٣١٢

الرفعة من الله ـ الذي له العلو الذاتي ـ حفظ على كل من أعلى الله منزلته علوه ، ومن علا بنفسه من الجبارين والمتكبرين قصمه الله وأخذه للكبرياء الذي كان عليه في نفسه ، ولهذا قال : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، أي عاقبة العلو الذي علا به من أراد علوا في الأرض يكون للمتقين ، أي يعطيهم الله العلو في المنزلة في الدنيا والآخرة ، فأما في الآخرة فأمر لازم لا بد منه ، لأن وعده صدق وكلامه حق ، والدار الآخرة محل تميز المراتب وتعيين مقادير الخلق عند الله ومنزلتهم منه تعالى ، فلا بد من علو المتقين يوم القيامة ، وأما في الدنيا فإنه كل من تحقق صدقه في تقواه وزهده ، فإن نفوس الجبارين والمتكبرين تتوفر دواعيهم إلى تعظيمه ، لكونهم ما زاحموهم في مراتبهم ، فأنزلهم ما حصل في نفوسهم من تعظيم المتقين عن علوهم وقصدوا خدمتهم والتبرك بهم ، وانتقل ذلك العلو الذي ظهروا به إلى هذا المتقي ، وكان عاقبة العلو للمتقي والجبار لا يشعر ، ويلتذ الجبار إذا قيل فيه إنه قد تواضع ونزل إلى هذا المتقي ، فيتخيل الجبار أن المتقي هو الأسفل وأن الجبار نزل إليه ، بل علو الجبار انتقل إلى المتقي من حيث لا يشعر ، ونزل الجبار تحت علو هذا المتقي ، ولو سئل المتقي عن علوه ما وجد عنده منه شيء ، فثبت أن العلو في الإنسان إنما هو تحققه بعبوديته ، وعدم خروجه واتصافه بما ليس له بحقيقة ، فاحذر يا ولي أن تريد علوا في الأرض فإن من أراده أراد الولاية ، وقال عليه‌السلام : [إنها يوم القيامة حسرة وندامة] ، والزم الخمول وإن أعلى الله كلمتك فما أعلى إلا الحق ، وإن رزقك الرفعة في قلوب الخلق ، فذلك إليه عزوجل ، والذي يلزمك التواضع والذلة والانكسار ، فإنه إنما أنشأك من الأرض فلا تعلو عليها فإنها أمك ، ومن تكبر على أمه فقد عقّها ، وراقب الله فيما أعطاك ، من رفعة في الأرض ، بولاية وتقدّم تخدم من أجله ويغشى بابك ويلزم ركابك ، فلا تبرح ناظرا لعبوديتك وأصلك ، واعلم أن تلك الرفعة إنما هي للرتبة والمنصب لا لذاتك ، فالذي أوصيك به أنك لا تريد علوا في الأرض ، وإن أعطاك الله لا تطلب أنت من الله إلا أن تكون في نفسك صاحب ذلة ومسكنة وخشوع.

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)

٣١٣

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) وهو عشر أمثالها (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنما هي أعمالكم ترد عليكم].

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) (٨٦)

(فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) أي معينا للكافرين.

(وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٨)

تفسير هذه الآية من وجوه ، وذلك راجع إلى الضمير في قوله تعالى : (إِلَّا وَجْهَهُ) فإنه من وجه يعود على الشيء ، ومن وجه يعود على الحق ، فمن الوجه الذي يعود فيه الضمير على الحق يقول تعالى : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) نهى تعالى أن يدعو مع الله إلها ، فنكّر المنهي عنه ، إذ لم يكن ثمّ ، إذ لو كان ثمّ لتعين ، ولو تعين لم يتنكر ، فدل على أنه من دعا مع الله إلها آخر فقد نفخ في غير ضرم ، واستسمن ذا ورم ، وكان دعاؤه لحما على وضم ، ليس له متعلق يتعين ، ولا حق يتضح ويتبين ، فكان مدلول دعائه العدم المحض ، فلم يبق إلا من له الوجود المحض (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) فكل شيء يتخيل فيه أنه شيء هالك في عين شيئيته عن نسبة الألوهية إليه لا عن شيئيته (إِلَّا وَجْهَهُ) فوجه الحق باق ، وهو ذو الجلال والإكرام والآلاء الجسام ، فالحق الخالص من كان في ذاته يعلم فلا يجهل ، ويجهل فلا يحاط به علما ، فعلم من حيث أنه لا يحاط به علما ، وجهل من حيث أنه لا يحاط به علما ، فعلم من حيث جهل ، فالعلم به عين الجهل به ، فإذا علمنا أن الحقيقة واحدة دون

٣١٤

أن تنسب إلى قديم أو حديث ، نقول : جعل الله نفسه عين كل شيء بقوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) لأن السبحات له ، فهي مهلكة ، والمهلك لا يكون هالكا ، فكل شيء هو موجود تشاهده حسا وعقلا ليس بهالك ، لأن وجه الشيء حقيقته ، فما في الوجود إلا الله ، فما في الوجود إلا الخير وان تنوعت الصور ، فكل ما ظهر فما هو إلا هو ، لنفسه ظهر ، فما يشهده أمر ولا يكثّره غير ، ولذلك قال : (لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي من يعتقد أن كل شيء جعلناه هالكا ، وما عرف ما قصدناه إذا رآه ما يهلك ، ويرى بقاء عينه مشهودا له دنيا وآخرة ، علم ما أردنا بالشيء الهالك ، وأن كل شيء لم يتصف بالهلاك فهو وجهي ، فعلم أن الأشياء ليست غير وجهي فإنها لم تهلك ، فرد حكمها إلي ، فهذا معنى قوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وهو معنى لطيف يخفى على من لم يستظهر القرآن ، فالعالم لم يزل مفقود العين هالكا بالذات في حضرة إمكانه ، وأحكامه يظهر بها الحق لنفسه بما هو ناظر من حقيقة حكم ممكن آخر ، فالعالم هو الممد بذاته ما يظهر في الكون من الموجودات ، وليس إلا الحق لا غيره ، وبعبارة أخرى (لَهُ الْحُكْمُ) وهو ما ظهر في عين الأشياء ، ثم قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أي مردكم من كونكم أغيارا إليّ ، فيذهب حكم الغير ، فالأحكام في الحق صور العالم كله ، ما ظهر منه وما يظهر ، والأحكام منه ولهذا قال : (لَهُ الْحُكْمُ) ثم يرجع الكل إلى أنه عينه ، فهو الحاكم بكل حكم في كل شيء حكما ذاتيا لا يكون إلا هكذا ، فسمى نفسه بأسمائه ، فحكم عليه بها ، وسمى ما ظهر به من الأحكام الإلهية في أعيان الأشياء ليميز بعضها عن بعض ، فأعيان العالم لا يقال : إنها عين الحق ولا غير الحق ، بل الوجود كله حق ، ولكن من الحق ما يتصف بأنه مخلوق ، ومنه ما يوصف بأنه غير مخلوق ، لكنه كل موجود ، فإنه موصوف بأنه محكوم عليه بكذا ، فالكل محكوم عليه ، كما حكمنا على كل شيء بالهلاك ، وحكمنا على وجهه بالاستثناء من حكم الهلاك ، ومن ذلك يكون وجه الشيء حقيقته ، فالشيء هنا ما يعرض لهذه الذات ، فإن كان للعارض وجه فما يهلك في نفسه ، وإنما يهلك بنسبته إلى ما عرض له ، فكل شيء وهو جميع صور العالم (هالِكٌ) موصوف بالهلاك يعني من حيث صوره ، فهو هالك بالصورة للاستحالات ، لأن هالك خبر المبتدأ الذي هو (كُلُّ شَيْءٍ) أي كل ما ينطلق عليه اسم شيء ، فهو هالك في حال اتصافه بالوجود ، كما هو هالك في حال اتصافه بالهلاك الذي

٣١٥

هو العدم ، فلا يزال كل شيء هالك كما لم يزل ، لم يتغير عليه نعت ولا تغير على الوجود نعت ، والموصوف بأنه موجود موجود ، والموصوف بأنه معدوم معدوم ، فإن وصف الممكن بالوجود فهو مجاز لا حقيقة ، لأن الحقيقة تأبى أن يكون موجودا ، فإن العدم للممكن ذاتي ، أي من حقيقة ذاته أن يكون معدوما (إِلَّا وَجْهَهُ) الاستثناء هنا استثناء منقطع ، والضمير في وجهه يعود على الشيء ، ووجهه ذاته وعينه وكونه وحقيقته ، فهي شيئية ذاته ، وهي المستثناة ولا بد ، لأن الحقائق لا تتصف بالهلاك ، وإنما يتصف بالهلاك الأمور العوارض للحقائق من نسبة بعضها إلى بعض ، فكل شيء من صور العالم هالك من حيث صورته ، إلا من حقائقه فليس بهالك ، ولا يتمكن أن يهلك ، فهو غيرهالك من حيث وجهه وحقيقته ، فتختلف عليه الأحكام باختلاف الصور ، فما ثمّ إلا هلاك وإيجاد في عين واحدة ، ومثال ذلك للتقريب ، أن صورة الإنسان إذا هلكت ولم يبق لها في الوجود أثر ، لم تهلك حقيقته التي يميزها الحد ، وهي عين الحد له ، فنقول : الإنسان حيوان ناطق ، ولا نتعرض لكونه موجودا أو معدوما ، فإن هذه الحقيقة لا تزال له وإن لم تكن له صورة في الوجود ، فالحقائق في العلم معقولات ، وهي للحق معلومات ، وللحق ولأنفسها معقولات ، ولا وجود لها في الوجود الوجودي ولا في الوجود الإمكاني ، فيظهر حكمها في الحق فتنسب إليه وتسمى أسماء إلهية ، فينسب إليها من نعوت الأزل ما ينسب إلى الحق ، وتنسب أيضا إلى الخلق بما يظهر من حكمها فيه ، فينسب إليها من نعوت الحدوث ما ينسب إلى الخلق ، فهي الحادثة القديمة ، والأبدية الأزلية ، فالعالم إن نظرت حقيقته وجدته عرضا زائلا ، أي في حكم الزوال ، وهو قوله تعالى : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أصدق بيت قالته العرب قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل] يقول ماله حقيقة يثبت عليها من نفسه ، فما هو موجود إلا بغيره ، ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أصدق بيت قالته العرب : ألا كل شيء ما خلا الله باطل] ـ وجه آخر ـ (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) فإنه لا يبقى حالة أصلا في العالم كونية ولا إلهية ، وهو قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (إِلَّا وَجْهَهُ) يريد ذاته ، إذ وجه الشيء ذاته ، فلا تهلك ، فكل ما سوى ذات الحق فهو في مقام الاستحالة السريعة والبطيئة ، وهو تبدله من صورة إلى صورة دائما أبدا ، فالضمير في وجهه يعود على الشيء ، فالشيء هالك من حيث صورته ، غيرهالك من حيث وجهه

٣١٦

وحقيقته ، وليس إلا وجود الحق الذي ظهر به لنفسه. (لَهُ الْحُكْمُ) أي لذلك الشيء الحكم في الوجه ، فتختلف عليه الأحكام باختلاف الصور (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في ذلك الحكم ، أي إلى ذلك الشيء يرجع الحكم الذي حكم به على الوجه ، فما ثم إلا هلاك وإيجاد في عين واحدة ، ومن هذه الآية لا نثبت إطلاق لفظ الشيئية على ذات الحق ، لأنها ما وردت ولا خوطبنا بها ، والأدب أولى ، (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) هذا هو التوحيد الرابع والعشرون في القرآن ، وهو توحيد الحكم بالتوحيد الذي إليه رجوع الكثرة إذ كان عينها ، وهو توحيد الهوية (لَهُ الْحُكْمُ) وهو القضاء (وَإِلَيْهِ) الضمير في إليه يعود على الحكم فإنه أقرب مذكور ، فالقضاء الذي له المضي في الأمور هو الحكم الإلهي على الأشياء (تُرْجَعُونَ) أي إلى القضاء.

(٢٩) سورة العنكبوت مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢)

لما ادعى المؤمن الإيمان بوجود الله وأحديته ، وأنه لا إله إلا هو ، وأن كل شيء هالك إلا وجهه ، وأن الأمر لله من قبل ومن بعد ، فلما ادعى بلسانه أن هذا مما انطوى عليه جنانه ، وربط عليه قلبه ، احتمل أن يكون صادقا فيما ادعاه أنه صفة له ، ويحتمل أن يكون كاذبا في أنه صفة له ، فاختبره الله لإقامة الحجة له أو عليه بما كلفه به من عبادته على الاختصاص ، لا العبادة السارية بسريان الألوهية ، ونصب له وبين عينيه الأسباب ، وأوقف ما تمس حاجة هذا المدعي على هذه الأسباب ، فلم يقض له بشيء إلا منها وعلى يديها ، فإن رزقه الله نورا يكشف به ويخترق به سدف الأسباب ، فيرى الحق تعالى من ورائها مسببا اسم فاعل ، أو يراه خالقا وموجدا لحوائجه التي اضطره إليها ، فذلك المؤمن الذي هو على نور من ربه وبينة من أمره ، الصادق في دعواه ، الموفي حق المقام الذي ادعاه ، بالعناية الإلهية التي أعطاه ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ، قال بألوهية الأسباب التي رزقه الله منها ، وجعلها

٣١٧

حجابا بينه وبين الله ، فأضاف الألوهة إلى غير مستحقها ، فكذب في دعواه لكثرة الأسباب ، والذي لم يقل بنسبة الألوهة للأسباب لكنه لم ير إلا الأسباب وما حصل له من الكشف ما يخرجه منها مع توحيد الألوهية ، كان ذلك شركا خفيا لا يشعر به صاحبه أنه مشرك.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣)

الفتنة هي الاختبار ، وأصل هذا ما ركب فيهم من الدعاوى ، فجعل ما ابتلاهم به ليعلم الله الصادق في دعواه من الكاذب ، ابتلاء من الله لعباده الذين ادعوا الإيمان به بألسنتهم.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤)

وجه ـ أي يسبقون بسيئاتهم مغفرتي وشمول رحمتي ، (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) بل السبق لله بالرحمة لهم ، هذا غاية الكرم ، وهذا لا يكون إلا في الطائفة التي تقول بإنفاذ الوعيد فيمن يموت على غير توبة ، فإذا مات العاصي تلقته رحمة الله في الموطن الذي يشاء الله أن تلقاه فيه ، فإن الإنسان إذا عصى فقد تعرض للانتقام والبلاء ، وأنه جار في شأو الانتقام بما وقع منه ، وأن الله يسابقه في هذه الحلبة من حيث ما هو غفار وعفو ومتجاوز ورحيم ورؤوف ، فالعبد يسابق بالمعاصي والسيئات الحق تعالى إلى الانتقام ، والحق أسبق فيسبق إلى الانتقام قبل وصول العبد بالسيئات إليه فيجوزه بالغفار وأخواته من الأسماء ، فإذا وصل العبد إلى آخر الشأو في هذه الحلبة وجد الانتقام قد جاوزه الغفار ، وحال بينه وبين العصاة ، وهم كانوا يحكمون على أنهم يصلون إليه قبل هذا ، ومن هذا يعلم جهل الإنسان عند مسابقته لله ، فإنه عمل في غير معمل ، وطمع في غير مطمع ، ومن كان في هذه الحال فلا خفاء بجهله لو عقل نفسه.

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦)

٣١٨

اعلم أن الذات غنية عن العالمين ، الملك ما هو غني عن الملك إذ لو لا الملك ما صح اسم الملك ، فالمرتبة تعطي التقييد لا ذات الحق فالمخلوق كما يطلب الخالق من كونه مخلوقا ، كذلك الخالق يطلب المخلوق من كونه خالقا ، لأنه لا يصح اسم الخالق وجودا وتقديرا إلا بالمخلوق وجودا وتقديرا ، وكذلك كل اسم إلهي يطلب الكون ، مثل الغفور والمالك والشكور والرحيم وغير ذلك من الأسماء ، ولما كان الحق من كونه إلها مرتبطا بالمألوه ارتباط السيادة بوجود العبد ، فيلزم من حقيقة هذا الارتباط عقلا ووجودا تصور المتضايفين ، ولما لم يكن بين الحق والخلق مناسبة ولا إضافة ـ بل هو الغني عن العالمين ، فلا يكون ذلك إلا لذات الحق ـ فلا يربطها كون ، ولا تدركها عين ، ولا يحيط بها حد ، ولا يفيدها برهان ، وجدانها في العقل ضروري ، كما أن صفات التعلق التي تدخلها تحت القيد نظري (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) فإن العالمين من العلامة ، والعلامة لا تدل إلا على محدود ، فالعالم لا يدل على العلم بذاته تعالى وإنما يدل على وجوده.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٨)

ـ إشارة لا تفسير ـ لا تقف مع السبب الذي أوجدك وقرب منك حسا ، بل كن مع الذي أشهدك وأوجدك حقيقة ، ولا تكن ممن يعرف الله بواسطة السبب ، وإلى هذا ينظر قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) أي تنظرهما فتنحجب بهما في الإيجاد الطبيعي (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) فإن كان لك بهما علم أنهما سببية ، فأثبتهما واشكرهما.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ

٣١٩

مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (١٢)

(إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في هذا القول ، بل هم حاملون خطاياهم ، والذين أضلوهم يحملون أيضا خطاياهم ، وخطايا هؤلاء مع خطاياهم ، ولا ينقص هؤلاء من خطاياهم من شيء ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة دون أن ينقص ذلك من أوزارهم شيئا] وهو قوله تعالى :

(وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (١٣)

وهو زمان مخصوص أقيموا فيه في حمل الأثقال التي هي الأوزار يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه ، لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ) (١٤)

نوح أول رسول أرسل ، ومن كان قبله إنما كانوا أنبياء ، كل واحد على شريعة من ربه ، فمن شاء دخل في شرعه معه ، ومن شاء لم يدخل ، فمن دخل ثم رجع كان كافرا ، ومن لم يدخل فليس بكافر ، ومن أدخل نفسه في الفضول ، وكذب الأنبياء كان كافرا ، ومن لم يفعل وبقي على البراءة لم يكن كافرا ، فكان نوح عليه‌السلام أول شخص استفتحت به الرسالة.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ

٣٢٠