رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

في صورة مخلوق ، كما قال في [سمع الله لمن حمده] أن ذلك القول هو قول الله على لسان عبده ، فقوله تعالى الذي سمعه موسى أتم في الشرف من قوله تعالى على لسان قائل ، فوقع التفاضل بالمحل الذي سمع منه القول المعلوم أنه قول الله ، وكذلك أيضا رحمته من حيث ظهورها من مخلوق أدنى من رحمته بعبده في غير صورة مخلوق ، فتعيّن التفاضل والأفضلية بالمحال ، إلا أن رحمة الله بعبده في صورة المخلوق تكون عظيمة ، فإنه يرحم عن ذوق ، فيزيل برحمته ما يجده الراحم من الألم في نفسه من هذا المرحوم ، والحق ليس كذلك ، فرحمته خالصة لا يعود عليه منها إزالة ألم ، فهو خير الراحمين ، فرحمة المخلوق عن شفقة ورحمة الله مطلقة.

(٢٤) سورة النّور مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢)

حد الزنا هو الرجم للثيب والجلد للبكر إلا عند من يرى الجمع بين الحدّين على الثيب ، وأكثر العلماء على خلاف هذا القول ، وما عندي في مسائل الأحكام المشروعة بأصعب من الزنا خاصة ، ولو أقيم عليه الحد فإني أعلم أنه يبقى عليه بعد إقامة الحد مطالبات من مظالم العباد ، واعلم أنّ للرأفة موطنا لا نتعداه وأن الله يحكم بها حيث يكون وزنها ، فإن الله ينزل كل شيء منزلته ولا يتعدى به حقيقته كما هو في نفسه ، فإن الذي يتعدى الحدود هو المتعدي ، فجاء الميزان في إقامة الحدود فأزال حكم الرأفة من المؤمن ، فإذا رأف في إقامة الحد فليس بمؤمن ولا استعمل الميزان ، وكان من الذين يخسرون الميزان ؛ فيتوجه عليه بهذه

٢٠١

الرأفة اللوم حيث عدل بها عن ميزانها ، فإن الله يقول : (وَلا تَأْخُذْكُمْ) يعني ولاة الأمور (بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) اعلم أن الرأفة من القلوب مثل جبذ وجذب ، كذلك رأف ورفأ ، وهو من الإصلاح والالتئام ، فالرأفة التئام الرحمة بالعباد ، ولذلك نهى عنها في إقامة الحدود لا كل الحدود ، وإنما ذلك في حد الزاني والزانية ، فيؤدي ذلك إلى الفتور في إقامة حدّ الله الذي شرع ودين الله جزاؤه ، ثم قال : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فخصّ لأنه ثمّ من يؤمن بالباطل (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يقول : وتؤمنون بإقامة الله حدوده في اليوم الآخر ، كأنه يقول لو لاة الأمور : طهروا عبادي في الدنيا قبل أن يفضحوا على رؤوس الأشهاد ، ولذلك قال في هؤلاء : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ينبه أن أخذهم في الآخرة على رؤوس الأشهاد ، فتعظم الفضيحة ، فإقامة الحدود في الدنيا أستر ، فأمر الوالي بإقامة الحد نكالا من الزاني كما هو نكال في حق السارق ، وبيّن ذلك ، وإقامة الحد إذا لم يكن نكالا فإنه طهارة ، وإن كان نكالا فلا بد فيه من معقول الطهارة لأنه يسقط عنه في الآخرة بقدر ما أخذ به في الدنيا ، فسقط عن الزاني النكال وما سقط عن السارق ، فإن السارق قطعت يده وبقي مقيدا بما سرق لأنه مال الغير ، فقطع يده زجر وردع لما يستقبل ، وبقي حق الغير عليه فلذلك جعله نكالا ، والنكل القيد ، فما زال من القيد مع قطع يده وما تعرض في حد الزاني إلى شيء من ذلك ، وقد ورد في الخبر أن ما سكت عن الحكم فيه بمنطوق فهو عافية ، أي دارس لا أثر له ولا مؤاخذة فيه ، واعلم أن غير الحاكم ما عيّن الله له إقامة الحد ، فلا ينبغي أن يقوم به غضب عند تعدي الحدود ، فليس ذلك إلا للحكام خاصة ولرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث ما هو حاكم ، والقاضي إن بقي معه الغضب على المحدود بعد أخذ حق الله منه فهو غضب نفس وطبع أو لأمر في نفسه لذلك المحدود ، ما هو غضب لله ، فلذلك لا يأجره الله ، فإنه ما قام في ذلك مراعاة لحق الله ، فلا يغفل الحاكم عند إقامة الحدود عن النظر في نفسه ، وليحذر من التشفي الذي يكون للنفوس ، فإن وجد لذلك تشفيا فيعلم أنه ما قام في ذلك لله وما عنده فيه خير من الله ، وإذا فرح بإقامة الحد على المحدود إن لم يكن فرحه له لما سقط عن ذلك الحد في الآخرة من المطالبة وإلا فهو معلول ، فمن غضب لله وكان حاكما وأقام الحد يزول عنه الغضب على ذلك الشخص عند الفراغ منه ، ويرجع لذلك المحدود رحمة كله.

٢٠٢

(الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٤)

اعلم أن العقوبة قد أوقعها الله في رمي المحصنات وإن صدقوا ، فجلد الرامي إنما كان لرميه ولكونه ما جاء بأربعة شهداء ، وقد يكون الشهداء شهداء زور في نفس الأمر وتحصل العقوبة بشهادتهم في المرمي فيقتل ، وله الأجر التام في الأخرى مع ثبوت الحكم عليه في الدنيا ، وعلى شهود الزور والمفتري العقوبة في الأخرى ، وإن حكم الحق في الدنيا بقوله وشهادة شهود الزور فيه.

(إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٩)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المرأة التي لاعنت زوجها وكذبت وعرف ذلك وقد حكم الله بالملاعنة ، وفي نفس الأمر صدق الرجل وكذبت المرأة فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لكان لي ولها شأن] فترك كشفه وعلمه لظاهر الحكم ـ حكم الحاكم بعلمه ـ يترك الحاكم حكمه بما يعلم ويحكم بقول الشهود ، وليس ذلك عندنا إلا في الأموال لا في النفوس ولا في إقامة الحدود ، وعندي في هذه المسئلة لو كنت عالما بأمر ما وشهد الشهود بخلاف علمي ، ولا يجوز لي أن أحكم

٢٠٣

بعلمي إذا كنت ممن يقول بذلك ، استنبت في الحكم من لا علم له بالأمر ، وتركت الحكم فيه ، وهذا هو الوجه الصحيح عندي ، والذي أعمل به وإن كان في النفس منه شيء ، وهذا عندي في الحكم في الأموال ، وأما الحكم في الأبدان فلا أحكم إلا بعلمي إذا علمت البراءة ، فإن لم تكن البراءة وعلمت صدق المفتري حكمت بالشهود وتركت علمي ، فالحاكم لا يجوز له أن يخالف علمه أصلا ، وذلك في الأموال وأما في الأبشار فما يجب عليه إمضاء الحكم على المحكوم عليه.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (١٠)

إذا اتفق أن يؤاخذ التائب فما يأخذه إلا الحكيم لا غيره من الأسماء ، فإذا لم يؤاخذ فإنما يكون الحكم فيه للرحيم ، فإن الله تواب رحيم بطائفة ، وتواب حكيم بطائفة.

(إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) (١١)

اللسان ما عصى الله قط من حيث نفسه ، وإنما وقعت فيه المخالفة لا منه ، من حركة المريد تحريكه ، فهو مجبور حيث لم يعط الدفع عن نفسه لكونه من آلات النفس ، فهو طائع من ذاته ، ولو فتح الله سمع صاحبه لنطق اللسان الذاتي إذا جعلته النفس يتلفظ بمخالفة ما أراد الشرع أن يتلفظ به لبهت ، فإنه طائع بالذات شاهد عدل على محركه ، وكذلك كل جارحة مصرفة من سمع وبصر وفؤاد وجلد وعصب وفرج ونفس وحركة ، لذلك قال تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) الاكتساب تعمل في الكسب ، والموجد مكتسب لأنه قد وصف بما اكتسب ، فقد كان عن هذا الوصف غير موصوف به إذ لم يكن ذلك المكتسب.

(لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ

٢٠٤

مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) (١٣)

(لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) كما قرر في الحكم ، وكان الرامي في تلك القضية الخاصة كاذبا فيها (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) قوله «أولئك» يحتمل يريد بهذه الإشارة هذه القضية الخاصة أو يريد عموم الحكم في ذلك.

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) (١٥)

أي الذي هان على الجاهل بقدره من الافتراء على بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، عظيم عند الله تعالى.

(وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) (١٦)

البهتان أن ينسب إلى الشخص ما لم يكن منه ، والأعراض عند ذوي الهيآت والمروءات أعظم في الحرمة من الدماء والأموال.

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ

٢٠٥

عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢)

نزلت هذه الآية في توعد أبي بكر رضي الله عنه لمسطح في قضية الإفك ، وقد حلف أبو بكر أن لا يعطي مسطحا ما كان يعطيه ، فنزلت الآية (وَلا يَأْتَلِ) أي لا يحلف (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) من له مال رزقه الله (وَالسَّعَةِ) يعني في الرزق (أَنْ يُؤْتُوا) يعطوا (أُولِي الْقُرْبى) ذوي الرحم (وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) فقال رضي الله عنه بعد سمعها : بلى إني أحب أن يغفر الله لي ، وأعاد ما كان خصصه لمسطح وكفّر عن يمينه ، ففي الوعيد إذا لم يكن حدا مشروعا وكان لك الخيار فيه وعلمت أن تركه خير من فعله عند الله ، فلك أن لا تفي به وأن تتصف بالخلف فيه ، فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من حلف على يمين فرأى خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير] وقال الشاعر :

وإني إذا أوعدته أو وعدته

لمخلف إيعادي ومنجز موعدي

وإنما عوقب بالكفارة لأنه أمر بمكارم الأخلاق واليمين على ترك فعل الخير ، وهذا الترك من مذام الأخلاق ، فعوقب بالكفارة ، والله فعّال لما يريد لا يقاس بالمخلوق ولا يقاس المخلوق عليه ، وإنما الأدلة الشرعية أتت بأمور تقرر عندنا منها أنه يعامل عباده بالإحسان وعلى قدر ظنهم به ، فتبين أنه سبحانه ما يحمد خلقا من مكارم الأخلاق إلا وهو تعالى أولى به بأن يعامل به خلقه ، ولا يذمّ شيئا من سفساف الأخلاق إلا وكان الجناب الإلهي أبعد منه.

٢٠٦

(إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢٤)

فما منك جزء إلا وهو عالم ناطق ، فلا يحجبنك أخذ سمعك عن نطقه ، فلا تقل يوما : أنا وحدي ، ما أنت وحدك ولكنك في كثرة منك ، والجسم لا يأمر النفس ، إلا بخير ، ولهذا تشهد على النفس يوم القيامة جلود الجسم وجميع جوارحه ، وفي هذه الآية الإخبار بعلم جوارح الإنسان بالأشياء فإن العمل للجوارح والنية للنفس ، والجوارح لا تدري هل هذا العمل مشروع أم غير مشروع ، ولذلك إذا شهدت الجوارح والجلود بما وقع منها من الأعمال على النفس المدبرة لها ، ما تشهد بوقوع معصية ولا طاعة وإنما شهادتها بما عملته ، والله يعلم حكمه في ذلك العمل ، ولهذا إذا كان يوم القيامة (تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) يعني بها ، ولم يشهدوا بكون ذلك العمل طاعة ولا معصية ، فإن مرتبتهم لا تقتضي ذلك ، وما سمي ذلك النطق شهادة إلا تجوزا ، فالجوارح تشهد بالفعل ما تشهد بالحكم ، فإنها ما تفرق بين الطاعة المشروعة والمعصية ، فإنها مطيعة بالذات لا عن أمر ، فبقي الحكم لله تعالى فيأخذه ابتداء من غير نطق الجوارح ، فما وقعت المخالفة من الجوارح إلا من حركة المريد تحريكها ، فهي مجبورة طائعة بالذات ، شاهد عدل على محرّكها ، فإنه ما من جارحة إلا وهي مسبحة لله مقدسة لجلاله ، غير عالمة بما تصرفها فيه نفسها المدبرة لها ، المكلّفة التي كلّفها الله تعالى عبادته والوقوف بهذه الجوارح وبعالم ظاهره عند ما حد له ، فلو علمت الجوارح ما تعلمه النفس من تعيين ما هو معصية وما هو طاعة ما وافقت على مخالفة أصلا ، فإنها ما تعاين شيئا من الموجودات إلا مسبحا لله مقدسا لجلاله ، غير أنها قد أعطيت من الحفظ القوة العظيمة ، فلا تصرفها النفس في أمر إلا وتحتفظ على ذلك الأمر وتعلمه ، والنفس تعلم أن ذلك طاعة ومعصية ، وذلك يدل على أن الجوارح ارتبطت بالنفس الناطقة ارتباط الملك بمالكه ، فلا تشهد إلا بالأجنبية ، إذ لا بد من شهود عليه ، وإن لم يكن على ما قلناه وكان عين الشاهد عين المشهود عليه ، فهو إقرار لا شهادة ،

٢٠٧

وما ذكر الله تعالى أنه إقرار بل ذكر أنها شهادة ، فإذا وقع الإنكار يوم القيامة عند السؤال من هذه النفس ، يقول الله لها : نبعث عليك شاهدا من نفسك ، فتقول في نفسها : من يشهد علي؟ خرّج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : [قالوا يا رسول الله : هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم ، فيلقى العبد فيقول : أي قل : ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول : بلى يا رب؟ فيقول : أفظننت أنك ملاقي؟ فيقول : آمنت بك وبكتابك وبرسلك ، وصليت وصمت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع ، فيقول : ها هنا إذا ، قال ثم يقال له : الآن نبعث شاهدا عليك ، ويتفكر في نفسه ، من ذا الذي يشهد علي؟ فيختم على فيه ويقال لفخذه : انطقي ، فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله ، وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق ، وذلك الذي سخط الله عليه] فيسأل الله تعالى الجوارح عن تلك الأفعال التي صرفها فيها ، فيقول للعين : قولي فيما صرفك ، فتقول له : يا رب نظر بي إلى أمر كذا وكذا ، وتقول الأذن : أصغى بي إلى كذا وكذا ، وتقول اليد : بطش بي في كذا وكذا ، يعني في غير حق فيما حرم عليه البطش فيه ، وتقول الرجل : كذلك والجلود كذلك والألسنة كذلك وجميع الجوارح (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) فيقول الله له : هل تنكر شيئا من ذلك؟ فيحار ، ويقول : لا ؛ والجوارح لا تعرف ما الطاعة ولا المعصية ، فيقول الله : ألم أقل لك على لسان رسولي وفي كتبي لا تنظر إلى كذا ، ولا تسمع كذا ، ولا تسع إلى كذا ، ولا تبطش بكذا؟ ويعين له جميع ما تعلق من التكليف بالحواس ، ثم يفعل كذلك في الباطن فيما حجر عليه من سوء الظن وغيره ؛ فعليك بحفظ الجوارح ، فإنه من أرسل جوارحه أتعب قلبه ، فهذه الآية إعلام من الله لنا أن كل جزء فينا شاهد عدل مزكى مرضي ، وذلك بشرى خير لنا ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون صورة الخير فيها ، فإن الأمر إذا كان بهذه المثابة يرجى أن يكون المآل إلى خير وإن دخل النار ، فإن الله أجل وأعظم وأعدل من أن يعذب مكرها مقهورا ، وقد قال : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وقد ثبت حكم المكره في الشرع ، وعلم حد المكره الذي اتفق عليه والمكره الذي اختلف فيه ، وهذه الجوارح من المكرهين المتفق عليهم أنهم مكرهون ، فتشهد هذه الأعضاء بلا شك على النفس المدبرة لها السلطانة عليها ، والنفس

٢٠٨

هي المطلوبة عند الله عن حدوده والمسؤولة عنها ، وهي مرتبطة بالحواس والقوى لا انفكاك لها عن هذه الأدوات الجسمية الطبيعية العادلة الزكية المرضية المسموع قولها ؛ ولا عذاب للنفس إلا بواسطة تعذيب هذه الجسوم ، وهي التي تحسّ بالآلام المحسوسة لسريان الروح الحيواني فيها ، وعذاب النفس بالهموم والغموم وغلبة الأوهام والأفكار الرديئة ، وما ترى في رعيتها مما تحس به من الآلام ويطرأ عليها من التغييرات ، كل صنف بما يليق به من العذاب ، وقد أخبر بمآلها لإيمانها إلى السعادة ، لكون المقهور غير مؤاخذ بما جبر عليه ، فالإنسان سعيد من حيث نشأته الطبيعية ومن حيث نشأة نفسه الناطقة بانفراد كل نشأة عن صاحبتها ، وبالمجموع ظهرت المخالفة ، فما عذبت الجوارح بالألم إلا لإحساسها باللذة فيما نالته من حيث حيوانيتها ، ولا عمل للنفوس إلا بهذه الأدوات ، ولا حركة في عمل للأدوات إلا بالأغراض النفسية ، فكما كان العمل بالمجموع وقع العذاب بالمجموع ، ثم تقضي عدالة الأدوات في آخر الأمر إلى سعادة المؤمنين ، فيرتفع العذاب الحسي ، ثم يقضى حكم الشرع الذي رفع عن النفس ما همت به ، فيرتفع أيضا العذاب المعنوي عن المؤمن ، فلا يبقى عذاب معنوي ولا حسي على أحد من أهل الإيمان ، وبقدر قصر الزمان في الدار الدنيا بذلك العمل لوجود اللذة فيه ـ وأيام النعيم قصار ـ تكون مدة العذاب على النفس الناطقة الحيوانية الدرّاكة مع قصر الزمان المطابق لزمان العمل ، فإن أنفاس الهموم طوال ، فما أطول الليل على أصحاب الآلام وما أقصره بعينه على أصحاب اللذات والنعيم ، فزمان الشدة طويل على صاحبه وزمان الرخاء قصير ، فإذا عذبت النفس في دار الشقاء فبما يمسّ الجوارح من النار وأنواع العذاب فأما الجوارح فتستعذب جميع ما يطرأ عليها من أنواع العذاب ، ولذا سمي عذابا لأنّها تستعذبه كما يستعذب ذلك خزنة النار حيث تنتقم لله ، وكذلك الجوارح حيث جعلها الله محلا للانتقام من تلك النفس التي كانت تحكم عليها ، والآلام تختلف على النفس الناطقة بما تراه في ملكها وبما تنقله إليها الروح الحيواني ، فإن الحسّ ينقل للنفس الآلام في تلك الأفعال المؤلمة ، والجوارح ما عندها إلا النعيم الدائم في جهنم ، مثل ما هي الخزنة عليه ممجدة لله تعالى مستعذبة لما يقوم بها من الأفعال ، كما كانت في الدنيا ، فيتخيل الإنسان أن العضو يتألم لإحساسه في نفسه بالألم وليس كذلك إنما هو المتألم بما تحمله الجارحة ،

٢٠٩

فتبين لك إن كنت عاقلا. من يحمل الألم منك ومن يحس به ممن لا يحمله ولا يحسّ به ، ولو كانت الجوارح تتألم لأنكرت كما تنكر النفس ، وما كانت تشهد عليه ، فقد علمت يا أخي من يعذّب منك ومن يتنعم وما أنت سواك ، فلا تجعل رعيتك تشهد عليك فتبوء بالخسران ، وقد ولاك الله الملك فيقال لك : ما فعلت برعيتك؟ ألا ترى الوالي الجائر إذا أخذه الملك وعذبه عند استغاثة رعيته به كيف تفرح الرعية بالانتقام من واليها؟ كذلك الجوارح يكشف لك يوم القيامة عن فرحها ونعيمها بما تراه في النفس التي كانت تدبرها في ولايتها عليها ، لأن حرمة الله عظيمة عند الجوارح ، قال تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ).

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥)

(الْحَقُّ الْمُبِينُ) أي الظاهر ، فمن شهدت عليه جوارحه ، فما تعظم فضيحته من حيث شهادة جوارحه عليه ، وإنما تعظم فضيحته من حيث عجزه وجهله بالذّب عن نفسه.

(الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٢٦)

جعل الله الطيبين للطيبات والطيبات للطيبين من كونه طيبا ، فالطيب من يميز الخبيث من الطيب ، وجعل تعالى الخبيثين للخبيثات والخبيثات للخبيثين من كونه حكيما ، فإنه هو الجاعل للأشياء والمميز بين الأشياء والأحكام ، واعلم وفقك الله أن الحلال طيب لا ينتج إلا طيبا ، قال تعالى : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) ففي هذا من الاعتبار الصوفي والنظر الإلهي بعض ما نذكره الآن ، وذلك أن من كان عند الله خبيثا فلا يغذيه إلا بالخبيثات من المطاعم ، ولا تصدر الأفعال الخبيثات إلا من الخبيثين ، وكذلك الطيبات من المطاعم وهي الحلال ، لا يغذي بها الله تعالى إلا من كان عنده من الطيبين ، وكذلك الطيبون عند الله تعالى لا تصدر منهم إلا طيبات الأفعال ، أو تلك المطاعم بأعيانها إنما أهّلت الخبيثات التى هي الحرام للخبيثين كما أهلوا لها ، وكذلك

٢١٠

الطيبات مع الطيبين ، فإنه من أهّل لشيء فقد أهل له ذلك الشيء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (٢٧)

إذا جئت بيت قوم فاستأذن ثلاث مرات ، فإن أذن لك وإلا فارجع ، ولا تنظر في بيت أخيك من حيث لا يعرف بك ، فإنك إذا نظرت فقد دخلت ، وإنما جعل الإذن من أجل البصر.

(فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) (٢٨)

ثبت في الحديث الاستئذان ثلاث ، فإن أذن لك وإلا فارجع.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٣٠)

العبد مأمور بأن لا ينظر إلى ما لا يحل له النظر إليه شرعا ، وبجميع ما يختص برأسه من التكليف ، ومأمور بأن لا يسعى بأقدامه إلى ما لا يحل له السعي إليه وفيه ومنه ، وما بينهما مما كلفه الله أن يحفظه في تصرفه ، من يد وبطن وفرج وقلب ، والغض نقص ما تمتد العين إليه ، وهذه الآية والتي بعدها خطاب للنفس بالحياء ، فإنه من الحياء غض البصر عن محارم الله ، والحياء منه فرض وسنة أي مستحب ، فإن النظر إلى عورة امرأتك وإن كان قد أبيح لك ولكن استعمال الحياء فيه أفضل وأولى.

٢١١

(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١)

التوبة قرين الحوبة ، علامتها الندم ، مما جرى به القدم ، وتعلق به العلم في القدم ، ثم أقلع فرجع ، عند ما سمع (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) أمر الله عباده المؤمنين بالتوبة ، والتوبة تختلف باختلاف المقامات ، فمنهم من رجع إليه من نفسه ، والعارف رجع إليه منه ، والعلماء رجعوا إليه من رجوعهم إليه ، والعامّة رجعت من المخالفات إلى الموافقة ، وحدّ التوبة ترك الزلة في الحال والندم على ما فات ، والعزم على أنه لا يعود لما رجع عنه عند علماء الرسوم ، ويفعل الله بعد ذلك ما يريد ، والندم توبة وهو الركن الأعظم ، وميم الندم منقلبة عن باء ، مثل لازم ولازب ، وهو أثر حزنه على ما فاته يسمى ندبا ، والندب الأثر ، فقلبت ميما وجعلت لأثر الحزن خاصة ؛ ولما كان توبة الله على عبده مقطوعا لها بالقبول ، وتوبة العبد في محل الإمكان ، لما فيها من العلل وعدم العلم باستيفاء حدودها وشروطها وعلم الله فيها ، فالعارفون يسألون من ربهم أن يتوب عليهم ، وحظهم من التوبة الاعتراف والسؤال لا غير ذلك ، فهذا معنى قوله (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً) أي ارجعوا إلى الاعتراف والدعاء ، كما فعل أبوكم آدم ، فإن الرجوع إلى الله بطريق العهد وهو لا يعلم ما في علم الله فيه خطر عظيم ، فإنه إن كان قد بقي عليه شيء من المخالفة ، فلا بد من نقض ذلك العهد ، فالتوبة

٢١٢

التي طلب منا إنما هي صورة ما جرى من آدم عليه‌السلام ، أما العزم على عدم العودة كما يشترطه علماء الرسوم في حد التوبة فهو سوء أدب مع الله بكل وجه ، فإنه لا يخلو أن يكون عالما بعلم الله فيه أنه لا يقع منه زلة في المستأنف أم لا ، فإن كان عالما بذلك فلا فائدة في العزم على أن لا يعود بعد علمه أنه لا يعود ، وإن لم يعلم وعاهد الله إلى ذلك وكان ممن قضى الله عليه أن يعود ، ناقض عهد الله وميثاقه ، وإن أعلمه الله أنه يعود ، فعزمه بعد العلم أنه يعود مكابرة ، فعلى كل وجه لا فائدة للعزم في المستأنف لا لذي العلم ولا لغير العالم ، فالناصح نفسه من سلك طريقة آدم عليه‌السلام ، والتوبة المشروعة من المقامات المستصحبة إلى حين الموت ما دام مخاطبا بالتكليف ، ولم يأمر الله تعالى بالتوبة إلا المؤمنين بقوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) وأيه بغير ألف لحكمة أخفاها يعرفها العالم ولا يشعر بها المؤمن ، فهي بالألف هاء التنبيه إذا قال أيها المؤمنون ، وهي بغير الألف هي هويته ، قرأها الكسائي برفع هاء «أيه» وحذف الواو لالتقاء الساكنين ، يقول : هو المؤمنون لأنه المؤمن ، وما يسمع نداء الحق إلا بالحق ، والسامع مؤمن والسامعون كثيرون ، فهو المؤمنون. (عَوْراتِ النِّساءِ) ليست العورة في المرأة إلا السوءتين ، وإن أمرت المرأة بالستر فهو مذهبنا لكن لا من كونها عورة ، وإنما ذلك حكم مشروع ورد بالستر ، ولا يلزم أن يستر الشيء لكونه عورة ، والوجه والكفان من المرأة ما هما بعورة ، ويبعد أن يكون القدمان عورة تستر.

(وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا

٢١٣

وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٣)

(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) روي أن بعض الصالحين لم يكن له شيء من الدنيا ، فتزوج فجاءه ولد وما أصبح عنده شيء فأخذ الولد وخرج ينادي به : هذا جزاء من عصى الله ، فقيل له : زنيت؟ قال : لا إنما سمعت الله يقول في كتابه العزيز : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فعصيت أمر الله وتزوجت وأنا لا أجد نكاحا فافتضحت ، فرجع إلى منزله بخير كثير.

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٣٥)

ـ الوجه الأول ـ (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) لا نقول فيه كما قال المفسرون معناه منور أو هاد ، فذلك له اسم خاص وهو الهادي الذي هداهم لإباية حمل الأمانة ، وإلى الإتيان بالطاعة لأمره ، وأما هنا فما قال : إلا أنه نور السموات والأرض ، والنور النفور ، ويؤيد ذلك التشبيه بالمصباح على الوصف الخاص ، فإن مثل هذا النور المصباحي ينفر ظلمة الليل ، بل هو عين نفور ظلمة الليل مع بقاء الليل ليلا ، فإنه ليس من شرط وجود الليل وجود الظلمة ، وإنما عين الليل غروب الشمس إلى حين طلوعها سواء أعقب المحل نور آخر سوى نور الشمس أو ظلمة ، فقد يكون الليل ولا ظلمة كما أنه قد يكون النهار ولا ضوء ، فإن النهار ليس إلا زمان طلوع الشمس إلى غروبها وإن طلعت مكسوفة فلا يزول الحكم عن كون النهار موجودا ، ولما فصل الحق إضافة النور إلى السموات وهو ما غاب من القوى

٢١٤

وعلا ، وإلى الأرض وهو ما ظهر من القوى الحسية ودنا ، قال الله تعالى : إنه عين نفورها عن ذاتها ، فلم يشهد إلا هو ، فهو عين السموات والأرض ، فإن الخلق ظلمة ولا يقف للنور فإنه ينفرها ، والظلمة لا ترى النور ، وما ثمّ إلا نور الحق ، فمن النور ما يدرك به ولا يدرك في نفسه ، والنور لا يرى أبدا ، والظلمة وإن حجبت فإنها مرئية للمناسبة التي بينها وبين الرائي ، فإنه ما ثمّ ظلمة وجودية إلا ظلمة الأكوان ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في دعائه : واجعلني نورا ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطلب بهذا الدعاء أن يكون الحق بصره حتى يراه به ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [نور أنّى أراه] فإنه ما رآه مني إلا هويته ، وظلمتي لا تدركه ، فقال (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو الذي أنارت به العقول العلوية ، وهو قوله : السموات ، والصور الطبيعية وهو قوله (وَالْأَرْضِ) ـ الوجه الثاني ـ (اللهُ نُورُ) تسمى الحق بالنور ولم يتسم بالظلمة إذ كان النور وجودا والظلمة عدما ، وإذ كان النور لا تغالبه الظلمة بل النور الغالب ، كذلك الحق لا يغالبه الخلق بل الحق الغالب ، فسمى نفسه نورا ، فهو أصل الموجودات كلها من اسمه النور (السَّماواتِ) وهي ما علا (وَالْأَرْضِ) وهي ما سفل ، فالأجسام الطبيعية أصلها النور ، والطبيعة نور في أصلها ، فأول موجود العقل وهو القلم وهو نور إلهي إبداعي ، وأوجد عنه النفس وهو اللوح المحفوظ ، وهي دون العقل في النورية للوساطة التي بينها وبين الله ، وما زالت الأشياء تكثف حتى انتهت إلى الأركان والمولدات ، وبما كان لكل موجود وجه خاص إلى موجده به كان سريان النور فيه ، وبما كان له وجه إلى سببه به كان فيه الظلمة والكثافة ما فيه ، فلهذا كان الأمر كلما نزل أظلم وأكثف ، فأين منزلة العقل من منزلة الأرض؟ كم بينهما من الوسائط؟ والإنسان آخر مولد فهو آخر الأولاد ، مركب من حمأ مسنون صلصال ، فيه من الأنوار المعنوية والحسية والزجاجية ما فيه ، مما لا تجده في غيره من المولدات بما أعطاه الله من القوى الروحانية ، فما قبلها إلا بالنورية التي فيه ، فلو لا النورية التي في الأجسام الكثيفة ما صح للمكاشف أن يكشف ما خلف الجدران وما تحت الأرض ، فلا يدرك الشيء إن لم يكن فيه نور يدرك به من ذاته ، وهو عين وجوده واستعداده بقبول إدراك الأبصار بما فيها من الأنوار له ، واختص الإدراك بالعين عادة ، وإنما الإدراك في نفسه إنما هو لكل شيء ، فكل شيء يدرك بنفسه وبكل شيء ألا ترى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف كان يدرك من خلف ظهره كما

٢١٥

كان يدرك من أمامه ، ولم يحجبه كثافة عظم الرأس وعروقه وعظامه وعصبه ومخه ، وذلك خرق عادة لقوة إلهية أعطاه الله إياها ولبعض الأشخاص ، ومن هذا نعلم أن خلق الأجسام الطبيعية أصلها من النور ، ولذلك إذا عرف الإنسان كيف يصفّي جميع الأجسام الكثيفة الظلمانية أبرزها شفافة للنورية التي هي أصل ، مثل الزجاج إذا خلص من كدورة رمله يعود شفافا ، وما ترى جسما قط خلقه الله وبقي على أصل خلقته مستقيما قط ، ما يكون أبدا إلا مائلا للاستدارة ، لا من جماد ولا من حيوان ولا سماء ولا أرض ولا جبل ولا ورق ولا حجر ، وسبب ذلك ميله إلى أصله وهو النور ـ الوجه الثالث ـ لو لا النور ما ظهر للممكنات عين ، ولو لا ما أنت في نفسك ذو نور عقلي ما عرفته وذو نور بصري ما شهدته ، فما شهدته إلا بالنور ، وما ثمّ نور إلا هو ، فما شهدته ولا عرفته إلا به ، فهو نور السموات من حيث العقول ، والأرض من حيث الأبصار ، وما جعل الله عزوجل صفة نوره إلا بالنور الذي هو المصباح ، وهو نور أرضي لا سماوي ، فشبه نوره بالمصباح لأنه لو لا نزوله إلينا ما عرفناه.

فلو لا النور لم تشهده عين

ولو لا العقل لم يعرفه كون

فبالنور الكوني والإلهي كان ظهور الموجودات التي لم تزل ظاهرة له في حال عدمها ، كما هي لنا في حال وجودها ، فنحن ندركها عقلا في حال عدمها وندركها عينا في حال وجودها ، والحق يدركها عينا في الحالين ، فلو لا أن الممكن في حال عدمه على نور في نفسه ما قبل الوجود ولا تميز عن المحال ، فبنور إمكانه شاهده الحق ، وبنور وجوده شاهده الخلق ، فبين الحق والخلق ما بين الشهودين ، فالحق نور في نور ، والخلق نور في ظلمة في حال عدمه ، وأما في وجوده فهو نور على نور ، لأنه عين الدليل على ربه ، ولما كان الحق لا يتمكن أن يشهد ويعلم إلا بضرب مثل ، لهذا ضرب الله لنا المثل ، وجعل لنا مثل نوره في السموات والأرض (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) والزيت مادة الأنوار ، وهو مثل للإمداد بالنور الإلهي الذي أودع الله في الزيت لبقاء النور ، ثم قال (نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ) من هذين النورين ، فيعلم المشبه والمشبه به (مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) فجعله ضرب مثل للتوصيل ، ويجوز في ضرب الأمثال المحال الذي لا يمكن وقوعه ، فكما

٢١٦

لا يكون المحال الوجود وجودا بالفرض ، كذلك لا يكون الخلق حقا بضرب المثل ، فما هو موجود بالفرض قد لا يصح أن يكون موجودا بالعين ، ولو كان عين المشبه ضرب المثل ، لما كان ضرب مثل إلا بوجه ، فلا يصح أن يكون هنا ما وقع به التشبيه وضرب المثل موجودا إلا بالفرض ، فعلمنا بضرب هذا المثل أننا في غاية البعد منه تعالى في غاية القرب أيضا ، ولهذا قبلنا ضرب المثل ، فجمعنا بين القرب والبعد ، وهو القريب البعيد ، قريب بالمثل بعيد بالصورة ، لأن فرض الشيء لا يكون كهو ولا عين الشيء ، فهذه الآية من أسرار المعرفة بالله تعالى في ارتباط الإله بالمألوه والرب بالمربوب ، فإن المربوب والمألوه لو لم يتول الله حفظه دائما لفني من حينه ، إذ لم يكن له حافظ يحفظه ويحفظ عليه بقاءه ، فمن فهم هذه الآية علم حفظ الله العالم ، فهو روح العالم الذي يستمد منه حياته ، قال تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلو احتجب الله عن العالم في الغيب انعدم العالم ، فمن هنا الاسم الظاهر حاكم أبدا وجودا ، والاسم الباطن علما ومعرفة ، فبالاسم الظاهر أبقى العالم ، وبالاسم الباطن عرفناه ، وبالاسم النور شهدناه ، ثم مثّل فقال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) وهي الكوة (فِيها مِصْباحٌ) وهو النور أي صفة نوره صفة المصباح ولم يقل صفة الشمس ، فإن الإمداد في نور الشمس يخفى ، بخلاف المصباح فإن الزيت والدهن يمده لبقاء الإضاءة ، فهو باق بإمداد دهني ، (مِنْ شَجَرَةٍ) نسبة الجهات إليها نسبة واحدة ، منزهة عن الاختصاص بحكم جهة ، وهو قوله (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) وهذا الإمداد من نور السبحات الظاهرة من وراء سبحات العزة والكبرياء والجلال ، فما ينفذ من نور سبحات هذه الحجب هو نور السموات والأرض ، ومثله كمثل المصباح ، والنور الذي في الدهن معلوم غير مشهود ، وضوء المصباح من أثره يدل عليه ، وعلى الحقيقة ما هو نور وإنما هو سبب لبقاء النور واستمراره ، فالنور العلمي منفّر ظلمة الجهل من النفس ، فإذا أضاءت ذات النفس أبصرت ارتباطها بربها في كونها وفي كون كل كون ، وجعل هذا النور في مشكاة وزجاجة مخافة الهواء أن يحيره ويشتد عليه فيطفيه ، فكأن مشكاته وزجاجته نشأته الظاهرة والباطنة ، فإنهما من حيث هما معصومان ، فإنهما من الذين يسبحون بحمد الله الليل والنهار لا يفترون ـ فنور السّراج أدلّ على الحق من نور الشمس عند الناظرين بمشاهدتهم المادة التي بها بقاؤه ـ وأنزل الأنوار ما يفتقر إلى مادة وهو المصباح ، فإذا أنزل الحق نوره في التشبيه إلى مصباح وهو

٢١٧

نور مفتقر إلى مادة تمده وهي الدهن ، فما هو أعلى منه من الأنوار أقرب إلى التشبيه وأعلى في التنزيه ، وإنما أعلمنا الحق بذلك وجاء بكاف الصفة في قوله (كَمِشْكاةٍ) إلى آخر الآية ، إعلاما أنه نور كل نور ، بل هو كل نور ، وشرع لنا طلب هذه الصفة ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [واجعلني نورا] وكذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما ضرب الله المثل في هذه الآية للاسم الله وإنما عيّن سبحانه اسما آخر ، وهو قوله (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فضرب المثل بالمصباح لذلك الاسم النور المضاف إلى السموات والأرض ، أي هكذا فافعلوا ، ولا تضربوا الأمثال لله فإني ما ضربتها ، فنهينا أن نضرب المثل من هذا الوجه إلا أن نعين اسما خاصا ينطبق المثل عليه ، فحينئذ يصح ضرب المثل لذلك الاسم الخاص ، كما فعل الله في هذه الآية ، فإنه تعالى هنا لم يطلق على نفسه اسم النور المطلق الذي لا يقبل الإضافة وقال : (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليعلمنا ما أراد بالنور هنا ، فأثّر حكم التعليم والإعلام في النور المطلق الإضافة ، فقيدته عن إطلاقه بالسموات والأرض ، فلما أضافه نزل عن درجة النور المطلق في الصفة ، فقال : (مَثَلُ نُورِهِ) أي صفة نوره ، يعني المضاف إلى السموات والأرض كمشكاة ، إلى أن ذكر المصباح ومادته ، وأين صفة نور السراج ـ وإن كان بهذه المثابة ـ من صفة النور الذي أشرقت به السموات والأرض؟ فعلّمنا سبحانه في هذه الآية الأدب في النظر في أسمائه إذا أطلقناها عليه بالإضافة كيف نفعل ، وإذا أطلقناها عليه بغير الإضافة كيف نفعل ، مثل قوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) فأضاف النور هنا إلى نفسه لا إلى غيره ، وجعل النور المضاف إلى السموات والأرض هاديا إلى معرفة نوره المطلق ، كما جعل المصباح هاديا إلى نوره المقيد بالإضافة ، وتمم وقال : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) ونهانا في موطن آخر فقال (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإن الله اسم جامع لجميع الأسماء الإلهية ، محيط بمعانيها كلها ، وضرب الأمثال يخص اسما واحدا معينا ، فنهينا أن نضرب المثل من هذا الوجه إلا أن نعين اسما خاصا ينطبق المثل عليه ، فحينئذ يصح ضرب المثل لذلك الاسم الخاص كما فعل الله في هذه الآية ، وهذا مثل ضربه الله تعالى إخبارا بما هو الأمر عليه فقال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) فالمشكاة والزجاجة والمصباح والزيت أربعة ، مثل على الوجود القائم على التربيع ، وهو للحق كالبيت القائم على

٢١٨

أربعة أركان ، توقد من شجرة هويته ، مباركة فهي لا شرقية ولا غربية ، لا تقبل الجهات ، ومباركة في خط الاعتدال منزهة عن تأثير الجهات ؛ وعن هذه الزيتونة يكون الزيت وهو المادة لظهور هذا النور ، فالخامس للأربعة هو الهوية وهو الزيتونة المنزهة عن الجهات كنّى عنها بالشجرة ، من التشاجر ، وهو التضاد لما تحمله هذه الهوية من الأسماء المتقابلة كالمعزّ والمذلّ والضار والنافع ؛ فهي الخزانة للإمداد الإلهي للوجود الظاهر كله ، إمدادا باطنا بطون الزيت في الشجرة ، وقولنا مثل على الوجود القائم على التربيع ، فإن الحصر منع أن يكون سوى هذه الأربعة ، فهو القائل تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) فهي أربعة لا خامس لها إلا هويته ، فما ثمّ في العالم حكم إلا من هذه الأربعة (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ) نور المصباح ظاهر يمده نور باطن في زيت ، أي نور من نور ، فأبدل حرف من بعلى لما يفهم به من قرينة الحال ، وقد تكون على على بابها ، فإن نور السراج الظاهر يعلو حسا على نور الزيت الباطن وهو الممدّ للمصباح ، فلو لا رطوبة الدهن تمد المصباح لم يكن للمصباح ذلك الدوام ، وكذلك إمداد التقوى للعلم العرفاني الحاصل منها في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ـ الوجه الثاني ـ لله في قلب العبد عينان : عين بصيرة تنظر بالنور الذي يهدي به وهو علم اليقين ، وعين اليقين تنظر بالنور الذي يهدي إليه وهو نور اليقين ، فإذا اتصل النور الذي يهدي به بالنور الذي يهدي إليه ، عاين الإنسان ملكوت السموات والأرض ، ولا حظ سر القدر كيف تحكم في الخلائق ، وهو قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) لذلك قال تعالى : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) وهو نور اليقين الذي تنظر به عين اليقين ـ الوجه الثالث ـ نور الشرع صورة سراج مصباح لا تحركه الأهواء لكونه في مشكاة ، ومشكاته الرسول ، فهو محفوظ من الأهواء التي تطفيه ، وذلك المصباح في زجاجة قلبه ، وجسمه المصباح واللسان ترجمته ، والإمداد الإلهي زيته ، والشجرة حضرة إمداده ، فقال تعالى : (نُورُ) وهو النور المجعول (وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وهو الشرع الموحى به (عَلى نُورٍ) وهو النور الذاتي ، فاجتمع نور البصر مع النور الخارج وهو الشرع (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) وهو أحد النورين ، والنور الواحد مجعول بجعل الله على النور الآخر فهو حاكم عليه ، والنور المجعول عليه هذا النور متلبس به مندرج فيه ، فلا حكم إلا للنور المجعول وهو الظاهر ، وهذا حكم نور الشرع على نور العقل.

٢١٩

فليس له سوى التسليم فيه

وليس له سوى ما يصطفيه

فإن أولته لم تحظ منه

بعلم في القيامة ترتضيه

 ـ الوجه الرابع ـ (نُورٌ عَلى نُورٍ) نور الشرع (عَلى نُورٍ) بصر التوفيق والهداية ، فإذا اجتمع النوران بان الطريق بالنورين ، فلو كان واحدا لما ظهر له ضوء ، ولا شك أن نور الشرع قد ظهر كظهور نور الشمس ، ولكن الأعمى لا يبصره ، كذلك من أعمى الله بصيرته لم يدركه فلم يؤمن به ، ولو كان نور عين البصيرة موجودا ولم يظهر للشرع نور بحيث أن يجتمع النوران فيحدث الضوء في الطريق لما رأى صاحب نور البصيرة كيف يسلك ، لأنه في طريق مجهولة لا يعرف ما فيها ولا أين تنتهي به من غير دليل موقّف ، ولما كان القرب بالسلوك والسفر إليه ، لذلك كان من صفته النور لنهتدي به في الطريق ، فإنه لو لا ما دعاك وبيّن لك طريق القربة وأخذ بناصيتك فيها ما تمكن لك أن تعرف الطريق التي تقرب منه ما هي ، ولو عرفتها لم يكن لك حول ولا قوة إلا به ـ الوجه الخامس ـ (نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي مثله بالمصباح شبّه النور الإلهي بنور المصباح وإن بعدت المناسبة ، ولكن اللسان العربي يعطي التفهم بأدنى شيء من متعلقات التشبيه ، فتكون المعارف على حسب ما وقع به التشبيه ، لأن المعارف متنوعة بالذي يريد صاحبها ، منها يدل عليه بأمر يناسبه ـ من وجه ما ـ مناسبة لطيفة لدلالة غيبية ، كما قال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) بشروطه من الزجاجة ، التنزيه الذي هو الجسم الشفاف الصافي ، فكان قوله في الزجاجة مقام الصفا ، في المشكاة مقام الستر من الأهواء ، فلم تصبه مقالات القائلين فيه بأفكارهم (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) وهو الإمداد (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) في مقام الاعتدال لا تميل عن غرض إلى شرق فيحاط بها علما ، ولا إلى غرب فلم تعلم رتبتها (نُورٌ عَلى نُورٍ) وجود على وجود ، وجود عيني على وجود مفتقر.

الله نور تعالى أن يماثله

نور وقد لاح لي في نار نبراس

لو قال خلق به من دون خالقه

لكفروه وما في القول من باس

لأنه مثل لو قلته قيل هل

لداء هذا الذي قد قال من آسي

فالولي هو من يعرف ما ضرب الله له الأمثال ، فيشهد الجامع بين المثل وبين ما ضرب

٢٢٠