رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

العلم الذي لا تعمل لهم فيه بخاطر أصلا ، حتى لا يشوبه شيء من كدورات الكسب ، والنبوات كلها علوم وهبية ، لأن النبوة ليست مكتسبة ، فالشرائع كلها من علوم الوهب وكل علم حصل عن دعاء فيه أو بدعاء مطلق فهو مكتسب ، والعلم المكتسب لا يصلح إلا للرسل صلوات الله عليهم ، فإنهم في باب تشريع الاكتساب ، فإذا وقفوا مع نبوتهم لا مع رسالتهم كان حالهم مع الله ترك طلب ما سواه ، فالكسب هو توفيقه وإلهامه إلى ترك جميع المعلومات وجميع العالم من خاطره ، ويجلس فارغ القلب مع الله بحضور ومراقبة وسكينة وذكر إلهي باسم الله ذكر قلب ، ولا ينظر في دليل يوصله إلى علمه بالله ، فإذا لزم الباب وأدمن القرع بالذكر علّمه الله من لدنه علما ، وهذا مقام المقربين وهو بين الصديقية ونبوة التشريع ، فلم يبلغ منزلة نبي التشريع من النبوة العامة ، ولا هو من الصديقين الذين هم أتباع الرسل لقول الرسل ، وغير الرسل من العلماء بالله مثل الخضر وأمثاله لم يكله إلى عنديته ولا إلى نفسه ، بل تولى تعليمه ليريحه ، لما هو عليه من الضعف ، وأعطاه هذا العلم من أجل قوله (لَدُنَّا) والغصن اللدن هو الرطيب ، فهي هنا اللين والعطف وهي الرحمة المبطونة في المكروه ، وبهذه الرحمة قتل الغلام وخرق السفينة ، وبالرحمة التي في الجبلة أقام الجدار ، وأضاف الحق التعليم إليه تعالى لا إلى الفكر ، فعلمنا أن ثمّ مقاما آخر فوق الفكر يعطي العبد العلم بأمور شتى ، يقول عنه بعض العلماء إنه وراء طور العقل ، ومن العلوم ما يمكن أن يدركها العقل من حيث الفكر ، ومنها ما يجوّزها الفكر وإن لم تحصل لذلك العقل من الفكر ، ومنها ما يجوزها الفكر وإن كان يستحيل أن يعينها الفكر ، ومنها ما يستحيل عند الفكر ويقبلها العقل من الفكر مستحيلة الوجود لا يمكن أن يكون له تحت دليل الإمكان ، فيعلمها هذا العقل من جانب الحق واقعة صحيحة غير مستحيلة ، ولا يزول اسم الاستحالة ولا حكم الاستحالة عقلا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله ، فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله] هذا من العلم الذي يكون تحت النطق ، فما ظنك بالعلم الخارج عن الدخول تحت حكم النطق ، فما كل علم يدخل تحت العبارات وهي علوم الأذواق كلها ، وفي هذه الآية جمع بنون الجمع في قوله تعالى آتيناه وعلمناه ولدنا ، أي جمع له في هذا الفتح العلم الظاهر والباطن ، وعلم السر والعلانية ، وعلم الحكم والحكمة ، وعلم العقل

٢١

والوضع ، وعلم الأدلة والشبه ، ومن أعطي العلم العام وأمر بالتصرف فيه كالأنبياء ومن شاء الله من الأولياء أنكر عليه ، ولم ينكر هذا الشخص على أحد ما يأتي به من العلوم وإن حكم بخلافه ، ولكن يعرف موطنه وأين يحكم به ، وهذا العلم من الوجه الخاص الذي بين العبد وبين الله وهو لكل مخلوق ، وهو وجه لا يطلع عليه من العبيد نبي مرسل ولا ملك مقرب ، ولذلك قال الخضر لموسى عليه‌السلام : أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، لأنه كان من الوجه الخاص الذي من الله لعبده ، لا يطلع على ذلك الوجه إلا صاحبه ، ثم قال له الخضر : وأنت أيضا على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ، فإن كان موسى عليه‌السلام قد علم وجهه الخاص عرف ما يأتيه من ذلك الوجه ، وإن كان لم يعلم ذلك فقد نبهه الخضر عليه ليسأل الله فيه ـ استدراك ـ اعلم أن العلم وسوء الخلق لا يجتمعان في موفق ، فكل عالم فهو واسع المغفرة والرحمة ، وسوء الخلق من الضيق والحرج وذلك لجهله ، واعلم أن العلم وإن كان شريفا فإن له معادن ، أشرفها ما يكون من لدنه ، فإن الرحمة مقرونة به ، ولها النفس الذي ينفّس الله به عن عباده ما يكون من الشدة فيهم ، والعبد إذا لزم الخلوة والذكر ، وفرغ المحل من الفكر ، وقعد فقيرا لا شيء له عند باب ربه ، حينئذ يمنحه الله تعالى ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية ، والمعارف الربانية التي أثنى الله بها على عبده خضر ما يغيب عنده كل متكلم على البسيطة ، بل كل صاحب نظر وبرهان ليست له هذه الحالة ، فإنها وراء النظر العقلي ، إذ كانت العلوم على ثلاث مراتب ـ علم العقل ـ وهو كل علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نظر في دليل ، بشرط العثور على وجه ذلك الدليل ، وشبهه من جنسه من عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلوم ، ولهذا يقولون في النظر : منه صحيح ومنه فاسد ـ والعلم الثاني ـ علم الأحوال ـ ولا سبيل إليها إلا بالذوق ، فلا يقدر عاقل على أن يحدّها ولا يقيم على معرفتها دليلا ، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق وما شاكل هذا النوع من العلوم ، فهذه علوم من المحال أن يعلمها أحد إلا بأن يتصف بها ويذوقها ، وشبهها من جنسها في أهل الذوق ، كمن يغلب على محله طعمة المرة الصفراء ، فيجد العسل مرا وليس كذلك ، فإن الذي باشر محل الطعم إنما هو المرة الصفراء ـ والعلم الثالث ـ علوم الأسرار ـ وهو العلم الذي فوق طور العقل ، وهو علم نفث روح القدس في الروع ، يختص به النبي والولي ،

٢٢

وهو نوعان : نوع منه يدرك بالعقل كالعلم الأول من هذه الأقسام ، لكن هذا العالم به لم يحصل له عن نظر ، ولكن مرتبة هذا العلم أعطت هذا ، والنوع الآخر على ضربين ، ضرب منه يلتحق بالعلم الثاني لكن حاله أشرف ، والضرب الآخر من علوم الأخبار وهي التي يدخلها الصدق والكذب ، إلا أن يكون المخبر به قد ثبت صدقه عند المخبر ، وعصمته فيما يخبر به ويقوله ، كإخبار الأنبياء صلوات الله عليهم عن الله ، وكإخبارهم بالجنة وما فيها ، فقوله إن ثمّ جنة من علم الخبر ، وقوله في القيامة إن فيها حوضا أحلى من العسل من علم الأحوال ، وهو علم الذوق ، وقوله كان الله ولا شيء معه ومثله من علوم العقل المدركة بالنظر ، فهذا الصنف الثالث الذي هو علم الأسرار العالم به يعلم العلوم كلها ويستغرقها ، وليس صاحب تلك العلوم كذلك ، فلا علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات ، وما بقي إلا أن يكون المخبر به صادقا عند السامعين له معصوما ، هذا شرطه عند العامة ، وأما العاقل اللبيب الناصح نفسه فلا يرمي به ، ولكن يقول : هذا جائز عندي أن يكون صدقا أو كذبا ، وكذلك ينبغي لكل عاقل إذا أتاه بهذه العلوم غير المعصوم ، وإن كان صادقا في نفس الأمر فيما أخبر به ، ولكن كما لا يلزم هذا السامع له صدقه لا يلزمه تكذيبه ، ولكن يتوقف ، وإن صدّقه لم يضره ، لأنه أتى في خبره بما لا تحيله العقول ، بل بما تجوّزه أو تقف عنده ، ولا يهد ركنا من أركان الشريعة ، ولا يبطل أصلا من أصولها ، فإذا أتى بأمر جوزه العقل وسكت عنه الشارع فلا ينبغي لنا أن نرده أصلا ، ونحن مخيرون في قبوله إن كانت حالة المخبر به تقتضي العدالة لم يضرنا قبوله ، كما تقبل شهادته ونحكم بها في الأموال والأرواح ، وإن كان غير عدل في علمنا فننظر ، فإن كان الذي أخبر به حقا بوجه ما عندنا من الوجوه المصححة قبلناه ، وإلا تركناه في باب الجائزات ولم نتكلم في قائله بشيء ، فإنها شهادة مكتوبة نسأل عنها ، قال تعالى : (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ) ولو لم يأت هذا المخبر إلا بما جاء به المعصوم فهو حاك لنا ما عندنا من رواية عنه ، فلا فائدة زادها عندنا بخبره ، وإنما يأتون رضي الله عنهم بأسرار وحكم من أسرار الشريعة ، مما هي خارجة عن قوة الفكر والكسب ، ولا تنال أبدا إلا بالمشاهدة والإلهام وما شاكل هذه الطرق ، ومن هنا تكون الفائدة بقوله عليه‌السلام : [إن يكن من أمتي محدّثون فمنهم عمر] وقوله في أبي بكر في فضله بالسر غيره ، ولو لم يقع الإنكار لهذه العلوم في الوجود لم يفد

٢٣

قول أبي هريرة [حفظت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعاءين ، فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قطع مني هذا البلعوم] ولم يفد قول ابن عباس حين قال في قول الله عزوجل (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ) لو ذكرت تفسيره لرجمتموني ، وفي رواية لقلتم إني كافر ، ولم يكن لقول الرضي من حفدة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معنى ، إذ قال :

يا رب جوهر علم لو أبوح به

لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمي

يرون أقبح ما يأتونه حسنا

فهؤلاء كلهم سادات أبرار فيما أحسب واشتهر عنهم ، قد عرفوا هذا العلم ورتبته ومنزلة أكثر العالم منه ، وأن الأكثر منكرون له ، وينبغي للعاقل العارف أن لا يأخذ عليهم في إنكارهم ، فإنه في قصة موسى مع خضر مندوحة لهم ، وحجة للطائفتين ، وإن كان إنكار موسى عن نسيان لشرطه ولتعديل الله إياه ، وبهذه القصة عينها نحتج على المنكرين ، لكنه لا سبيل إلى خصامهم. واعلم أن كل علم إذا بسطته العبارة حسن وفهم معناه أو قارب وعذب عند السامع الفهم فهو علم العقل النظري ، لأنه تحت إدراكه ومما يستقل به لو نظر ، إلا علم الأسرار ، فإنه إذا أخذته العبارة سمج واعتاص على الأفهام دركه وخشن ، وربما مجته العقول الضعيفة المتعصبة التي لم تتوفر لتصريف حقيقتها التي جعل الله فيها من النظر والبحث ، وأما علوم الأحوال فمتوسطة بين علم الأسرار وعلم العقول ، ثم لتعلم أنه إذا حسن عندك وقبلته وآمنت به فأبشر أنك على كشف منه ضرورة وأنت لا تدري ، لا سبيل إلا هذا ، إذ لا يثلج الصدر إلا بما يقطع بصحته ، وليس للعقل هنا مدخل ، لأنه ليس من دركه إلا إن أتى بذلك معصوم ، حينئذ يثلج صدر العاقل ، وأما غير المعصوم فلا يلتذ بكلامه إلا صاحب ذوق.

(قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٦٦)

اعلم أن الأنبياء أصحاب الشرائع هم أرفع عباد الله من البشر ، ومع هذا لا يبعد أن يخص الله المفضول بعلم ليس عند الفاضل ، ولا يدل تميزه عنه أنه بذلك العلم أفضل منه ،

٢٤

قال الخضر لموسى عليه‌السلام : أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا.

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) (٦٧)

ثم أنصفه في العلم وقال له : يا موسى أنا على علم ... الحديث ـ.

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨)

الخبر الذوق ، وهو علم حال لأنه وحي خاص إلهي ، ليس للملك فيه وساطة من الله ، فإن وحي الرسل إنما هو بالملك بين الله وبين رسوله ، فلا خبر له بهذا الذوق في عين إمضاء الحكم في عالم الشهادة ، فما تعود الأرسال لتشريع الأحكام الإلهية في عالم الشهادة إلا بواسطة الروح الذي ينزل به على قلبه أو في تمثله ، لم يعرف الرسول الشريعة إلا على هذا الوصف لا غير الشريعة ، فإن الرسول له قرب أداء الفرائض والمحبة عليها من الله ، وما تنتج له تلك المحبة ، وله قرب النوافل ومحبتها وما يعطيه محبتها ، ولكن من العلم بالله لا من التشريع وإمضاء الحكم في عالم الشهادة ، فخرق الخضر السفينة وقتل الغلام حكما ، وأقام الجدار مكارم أخلاق عن حكم أمر إلهي ، فلم يحط موسى عليه‌السلام به خبرا من هذا القبيل ، فهذا القدر الذي اختص به خضر دون موسى عليه‌السلام ، فلما علم الخضر أن موسى عليه‌السلام ليس له ذوق في المقام الذي هو الخضر عليه ، قال الخضر لموسى عليه‌السلام (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) ، لأنه كان في مقام لم يكن لموسى عليه‌السلام في ذلك الوقت الذي نفاه عنه العدل بقوله ، وتعديل الله إياه بما شهد له به من العلم ، مع كون موسى عليه‌السلام كليم الله ، وكما أن الخضر ليس له ذوق فيما هو موسى عليه من العلم الذي علمه الله ، إلا أن مقام الخضر لا يعطي الاعتراض على أحد من خلق الله ، لمشاهدة خاصة هو عليها ، ومقام موسى والرسل يعطي الاعتراض من حيث هم رسل لا غير ، في كل ما يرونه خارجا عما أرسلوا به ، ودليل ما ذهبنا إليه في هذا قول الخضر لموسى عليه‌السلام (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) ، فلو كان الخضر نبيا لما قال له (ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) فالذي فعله لم يكن من مقام النبوة ، وقال له في انفراد كل واحد منهما بمقامه الذي هو عليه [يا

٢٥

موسى أنا على علم ... الحديث] فافترقا وتميزا بالإنكار ، وما رد موسى على الخضر في ذلك ، ولا أنكر عليه في قوله المذكور في هذه الآية ، بل.

(قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) (٦٩)

قال ذلك لأنه قال له قبل ذلك (هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا) والصبر لا يكون إلا على ما يشق عليه ، وأدخل موسى نفسه عليه‌السلام في اتباع الخضر وتحت شرطه ، وموسى كليم الله ونجيه ، ومع هذا لم يصبر لأنه قدم الاستثناء ، فلو قدم موسى عليه‌السلام الصبر على المشيئة كما يفعل المحمدي لصبر ولم يعترض ، فإن الله قدمه في الإعلام تعليما لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) فأخر الاستثناء ، فمن أراد أن يحصل علم الله في خلقه فليقف عند ترتيب حكمته في الأشياء ، وليقدم ما قدم الله ويؤخر ما أخر الله ، فإذا أخرت ما قدمه أو قدمت ما أخره فهو نزاع خفي يورث حرمانا ، فالله أخر الاستثناء وقدمه موسى عليه‌السلام فلم يصبر ، فلو أخره لصبر ، والآية التي ذكرناها أنها نزلت على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذكورة باللسان العبراني في التوراة.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠)

كل أمر يقع التعجب منه فإن صاحبه الذي أوجده للتعجب ما أوجده بهذه الحالة إلا ليحدث منه ذكرا لهذا الذي تعجب منه ، فلا تستعجل ، فإنه لا بد أن يخبره موجده بحديثه ، إلا أن الإنسان خلق عجولا ، وما في العالم أمر لا يتعجب منه ، فالوجود كله عجيب ، فلابد أن يحدث الله منه ذكرا للمتعجبين ، فالعارفون أحدث الله لهم ذكرا منه في هذه الدار ، فعرفوا لما خلقوا له ولما خلق لهم ، والعامة تعرف حقائق الأمور في الآخرة ، فلابد من العلم سواء في الدنيا للعلماء أو في الآخرة للعامة.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما

٢٦

نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣)

العلم حاكم ، فإن لم يعمل العالم بعلمه فليس بعالم ، العلم لا يمهل ولا يهمل ، لما علم الخضر حكم ، ولما لم يعلم ذلك صاحبه اعترض عليه ونسى ما كان قد ألزمه ، فالتزم.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤)

(لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي ينكره شرعي ، فما أنكر موسى عليه‌السلام إلا بما شرع له الإنكار فيه ، ولكن غاب عن تزكية الله لهذا الذي جاء بما أنكره عليه صاحبه ، فهو في الظاهر طعن في المزكي. واعلم أنه ما أذهل موسى عليه‌السلام إلا سلطان الغيرة التي جعل الله في الرسل عليهم‌السلام على مقام شرع الله على أيديهم ، فلله أنكروا ، وتكرر منه عليه‌السلام الإنكار مع تنبيه العبد الصالح في كل مسئلة ، ويأبى سلطان الغيرة إلا الاعتراض ، لأن شرعه ذوق له ، والذي رآه من غيره أجنبي عنه ، وإن كان علما صحيحا ، ولكن الذوق أغلب والحال أحكم. واعلم أن الكشف لا ينكر شيئا ، بل يقرر كل شيء في رتبته ، من عقل وشرع وذوق ، فمن كان وقته الكشف أنكر عليه ولم ينكر هو على أحد ، ومن كان وقته العقل أنكر وأنكر عليه ، ومن كان وقته الشرع أنكر وأنكر عليه ، والمحقق ينكر مع الشرع ما ينكره الشرع ، لأن وقته الشرع ، ولا ينكره كشفا ولا عقلا.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٧٧)

٢٧

فكانت الثالثة ، ونسي موسى حالة قوله (إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) وما طلب الإجارة على سقايته مع الحاجة.

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨)

فحصل لموسى عليه‌السلام مقصوده ومقصود الحق في تأديبه ، فعلم أن لله عبادا عندهم من العلم ما ليس عنده.

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩)

من كلام خضر يعلم أدب الإضافة ، فقال (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) لذكره العيب وهو ما يذم ، وقال في الغلام (فأردنا أن يبدلهما) للاشتراك بين ما يحمد ويذم ، وقال في الجدار (فأراد ربك) لتخليص المحمدة فيه ، فيكتسب الشيء الواحد بالنسبة ذما ، وبالإضافة إلى جهة أخرى حمدا وهو عينه ، وتغير الحكم بالنسبة.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) (٨٠)

وقد شهد الله للخضر بأنه رحيم ، اقتلع رأس الغلام وقال : إنه طبع كافرا ، فلو عاش أرهق أبويه طغيانا وكفرا ، وانتظم الغلام في سلك الكفار ، فقتله الخضر رحمة به وبأبويه ، أما الصبي حيث أخرجه من الدنيا على الفطرة فسعد الغلام ـ والله أعلم ـ وسعد أبواه.

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١)

الضمير في قوله (فَأَرَدْنا) يعود على الخضر وعلى الله ، فيعود على الله تعالى بما كان في ذلك القتل من الرحمة بالأبوين وبالغلام ، وعلى الخضر بقتل نفس زكية بغير نفس ، فظاهره جور ، فشرك في الضمير بينه وبين الله.

٢٨

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

إن وقع الجدار ، ظهر كنز الأيتام الصغار ، فتحكمت فيه يد الأغيار ، وبقي الأيتام الصغار من الفقر في ذلة وصغار (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ـ الوجه الأول ـ يعني جميع ما فعله من الأعمال ، وكل ما جرى منه ، وجميع ما قال من الأقوال في العبارة لموسى عليه‌السلام عن ذلك ، يعني أن الحق علمني الأدب معه ، لأنه كان على شرعة من ربه ومنهاج ، فكان الخضر في حكمه على شرع رسول غير موسى ، فحكم بما حكم به مما يقتضيه شرع الرسول الذي اتبعه ، ومن شرع ذلك الرسول حكم الشخص بعلمه ، فحكم بعلمه في الغلام أنه كافر ، فلم يكن حكم الخضر فيه من حيث إنه صاحب شرع منزل ، وإنما حكم فيه مثل حكم القاضي عندنا بشرع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنبه الخضر موسى عليه‌السلام أنه ما فعل الذي فعل عن أمره ، فإنه ليس له أمر ، وما هو من أهل الأمر عن طريق الملائكة المخصوصة بالرسل والأنبياء ، ولو قال الخضر لموسى عليه‌السلام من أول ما صحبه : ما أفعل شيئا مما تراني أفعله عن أمري ما أنكره عليه ، ـ الوجه الثاني ـ (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) لو لا أن الخضر أمره الله أن يظهر لموسى عليه‌السلام بما ظهر ، ما ظهر له بشيء من ذلك ، فإنه من الأمناء ـ الوجه الثالث ـ (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) فعلم موسى عليه‌السلام أن فراق الخضر له كان عن أمر ربه ، فما اعترض عليه في فراقه ـ أدب الإضافة ـ كل ما ينسب إلى المخلوق من الأفعال فهو فيه نائب عن الله ، فإن وقع محمودا نسب إلى الله لأجل المدح ، فإن الله يحب أن يمدح ، كذا ورد في الصحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن تعلق به ذم أو لحق به عيب لم ننسبه إلى الله ، وكذلك فعل العالم العدل الأديب ، فكنّى عن نفسه في إرادة العيب فقال (فأردت أن أعيبها) وقال في المحمود (فأراد ربك) في حق اليتيمين ، وقال في موضع الحمد والذم (فأردنا) بنون الجمع ، لما فيه من تضمن الذم في قتل الغلام بغير نفس ، ولما فيه من تضمن الحمد في حق ما عصم الله بقتله أبويه ، فقال (فأردنا) وما أفرد ولا عيّن ،

٢٩

هكذا حال الأدباء ، فتعلمنا قصة الخضر مع موسى عليه‌السلام أدب الإضافة ، فقد أضاف الخضر خرق السفينة إليه ، إذ جعل خرقها عيبا ، وأضاف قتل الغلام إليه ، وإلى ربه لما فيه من الرحمة بأبويه ، وما ساءهما من ذلك أضاف إليه ، وأضاف إقامة الجدار إلى ربه لما فيه من الصلاح والخير ، فقال تعالى عن عبده خضر في خرق السفينة (فأردت أن أعيبها) تنزيها أن يضاف إلى الجناب العالي ما ظاهره ذم في العرف والعادة ، وقال في إقامة الجدار لما جعل إقامته رحمة باليتيمين لما يصيبانه من الخير الذي هو الكنز (فأراد ربك) يخبر موسى عليه‌السلام (أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك) وقال لموسى عليه‌السلام في حق الغلام : إنه طبع كافرا ، والكفر صفة مذمومة ، وأراد أن يخبره بأن الله يبدل أبويه خيرا منه زكاة وأقرب رحما ، فأراد أن يضيف ما كان في المسألة من العيب في نظر موسى عليه‌السلام ، حيث جعله نكرا من المنكر ، وجعله نفسا زاكية قتلت بغير نفس ، قال (فأردنا أن يبدلهما ربهما) فأتى بنون الجمع ، فإن في قتله أمرين : أمر يؤدي إلى الخير ، وأمر إلى غير ذلك في نظر موسى وفي مستقر العادة ، فما كان من خير في هذا الفعل فهو لله من حيث ضمير النون ، فنون الجمع لها وجهان لما فيها من الجمع ، وجه إلى الخير به أضاف الأمر إلى الله ، ووجه إلى العيب به أضاف العيب إلى نفسه ، وجاء بهذه المسألة والواقعة في الوسط لا في الطرف بين السفينة والجدار ، ليكون ما فيها من عيب من جهة السفينة ، وما فيها من خير من جهة الجدار ، فلو كانت مسألة الغلام في الطرف ابتداء أو انتهاء لم تعط الحكمة أن يكون كل وجه مخلصا من غير أن يشوبه شيء من الخير أو ضده ، وبذلك يلي وجه العيب جهة السفينة ، ويلي وجه الخير جهة الجدار فاستقامت الحكمة ـ إشارة ـ سفينتك مركبك فاخرقه بالمجاهدة ، وإن جعلتها النفس فاخرقها بالرياضات ، وغلامك هواك فاقتله بسيف المخالفة ، وجدارك عقلك ، لا بل الأمر المعتاد في العموم ، فأقمه تستر به كنز المعارف الإلهية عقلا وشرعا حتى إذا بلغ الكتاب أجله ، وهو إذا بلغ عقلك وشرعك فيك أشدهما ، وتوخيا ما يكون به المنفعة في حقهما استخرجا كنزهما ، فإن الجدار لم يمل إلا عبادة ليظهر ما تحته من كنوز المعارف ، التي يستغني بها العارف الواقف ، فخلق الله الغيرة في صورة الخضر فأقامه من انحنائه ، لما علم أن الأهلية ما وجدت في ذلك الوقت في رب المال ، فيقع التصرف فيه على غير وجهه ، (ولتعلمن نبأه بعد حين)

٣٠

فلو ظهر اتخذ عبثا وعاثت فيه الأيدي ، فسبحان واضح الحكم وناصب الآيات ومظهر جمال الدلالات.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) (٨٦)

(يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) أي يا مالك الصفتين ، وهما بلوغه المشرق والمغرب.

(قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) (٨٩) (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي اقفوا الأسباب.

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ

٣١

قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨)

بعد أن يدرك عيسى ابن مريم عليه‌السلام الدجال بباب لد فيقتله ، يلبث ما شاء الله ، ثم يوحي الله إليه أن أحرز عبادي إلى الطور ، فإني قد أنزلت عبادا لي لا يد لأحد بقتالهم ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج ، وهم كما قال الله تعالى (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) فيمر أولهم ببحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ثم يمر بها آخرهم فيقولون : لقد كان بهذه مرة ماء ، ثم يسيرون إلى أن ينتهوا إلى جبل بيت المقدس ، فيقولون : لقد قتلنا من في الأرض فهلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله عليهم نشابهم محمرا دما ، ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه ، حتى يكون رأس الثور يومئذ خيرا لهم من مائة دينار لأحدكم اليوم ، (يعني الصحابة) فيرغب عيسى ابن مريم إلى الله وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى موتى كموت نفس واحدة ، ويهبط عيسى ابن مريم وأصحابه ، فلا يجد موضع شبر إلا وقد ملأته زهمتهم ونتنهم ودماؤهم ، فيرغب عيسى إلى الله وأصحابه ، فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم بالمهبل ، ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين ، ويرسل الله عليهم مطرا لا يكن منه بيت ولا وبر ولا مدر ، فيغسل الأرض ويتركها كالزلفة.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ

٣٢

بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٠٤)

وما أحسنوا صنعا فإنهم ما كانوا على علم ، بل ظنوا وحدسوا ، فهم الدجاجلة وأصحاب الخيالات الفاسدة.

(أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٠٥)

المشركون لا قدر لهم ولا يوزن لهم عمل ، ولا من هو من أمثالهم ، ممن كذب بلقاء الله وكفر بآياته ، فإن أعمال خير المشرك محبوطة ، فلا يكون لشرهم ما يوازنه ، فقال تعالى (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) كما أنهم لم يقيموا للحق هنا وزنا ، فعادت عليهم صفتهم ، فما عذبهم بغيرهم ، فالله عزوجل لا يقيم للمجرمين يوم القيامة وزنا ولا يعبأ الله بهم ، من قبورهم إلى جهنم.

(ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً) (١٠٧)

الجنات كلها منازل حسية لا معنوية ، وليست المنزلة المعنوية لكل شخص إلا ما في نفس الله تعالى.

(خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩)

وذلك لعدم التناهي ، فإنه يستحيل أن ينقطع خبر الله وإخباره من العالم ، إذ لو انقطع

٣٣

لم يبق للعالم غذاء يتغذى به في بقاء وجوده ، وأعيان الموجودات كلها كلمات الحق ، وهي لا تنفد ، فمخلوقاته لا تزال توجد ، ولا يزال خالقا ، ولو لا الضيق والحرج ما كان للنفس الرحماني حكم ، فإن التنفيس هو إزالة عين الحرج والضيق ، والعدم نفس الحرج والضيق ، فإنه يمكن أن يوجد هذا المعدوم ، فإذا علم الممكن إمكانه وهو في حالة العدم كان في كرب الشوق إلى الوجود الذي تعطيه حقيقيته ، ليأخذ نصيبه من الخير ، فنفّس الرحمن بنفسه هذا الحرج فأوجده ، فكان تنفيسه عنه إزالة حكم العدم فيه ، وكل موجود سوى الله فهو ممكن ، فله هذه الصفة ، فنفس الرحمن هو المعطي صور الممكنات الوجود ، كما أعطى النفس الحروف ، فالعالم كلمات الله من حيث هذا النفس ، كما قال تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ) وليست غير عيسى عليه‌السلام ، لم يلق إليها غير ذلك.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

ما تميز العالم إلا بالمراتب ، وما شرف بعضه على بعضه إلا بها ، ومن علم أن الشرف للرتب لا لعينه لم يغالط نفسه في أنه أشرف من غيره ، وإن كان يقول إن هذه الرتبة أشرف من هذه الرتبة ، ولما كانت الخلافة ربوبية في الظاهر لأنه يظهر بحكم الملك ، فيتصرف في الملك بصفات سيده ظاهرا ، وإن كانت عبوديته له مشهودة في باطنه ، فلم تعم عبوديته عند رعيته الذين هم أتباعه ، وظهر ملكه بهم وباتباعهم والأخذ عنه ، فكان في مجاورتهم بالظاهر أقرب ، وبذلك المقدار يستتر من عبوديته ، لذلك كثيرا ما ينزل في الوحي على الأنبياء (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فكانت هذه الآية دواء لهذه العلة ، وبهذا المقدار كانت أحوال الأنبياء والرسل في الدنيا البكاء والنوح ، فإنه موضع تتقى فتنته ، فقال الكامل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) عن أمر الله ، قيل له : قل ، فقال ، وبهذا علمنا أنه عن أمر الله ، لأنه نقل الأمر إلينا كما نقل المأمور ، وكان هذا القول دواء للمرض الذي قام بمن عبد عيسى عليه‌السلام من أمته ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لنا كثيرا في هذا المقام في حق نفسه وتعليما لنا (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فلم ير لنفسه فضلا علينا ، أي حكم البشرية فيّ حكمها فيكم ،

٣٤

فكان ذلك من التأديب الإلهي الذي أدب الله تعالى به نبيه عليه‌السلام فيما أوحى به إليه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر] يعني لنفسه ولحق غيره ، [وأرضى كما يرضى البشر] يعني لنفسه ولغيره ، ويعني أن أغضب عليهم وأرضى لنفسي [اللهم من دعوت عليه فاجعل دعائي عليه رحمة له ورضوانا] ثم ذكر المرتبة وهو قوله (يُوحى إِلَيَّ) ولما كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تؤثر فيه المراتب إذا نالها ، قال وهو في المرتبة العليا [أنا سيد الناس] وفي رواية [أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر] فنفى أن يقصد بذلك الفخر ، لأنه ذكر الرتبة التي لها الفخر الذي هو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مترجم عنها وناطق بلسانها ، فذكر رتبة الشفاعة والمقام المحمود ، فالفخر للرتبة ولا فخر بالذات إلا لله وحده ، فلم تحكم فيه المرتبة ، وقال في كل وقت وهو في مرتبة الرسالة والخلافة (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، فلم تحجبه المرتبة عن معرفة نشأته ، وسبب ذلك أنه رأى لطيفته ناظرة إلى مركبها العنصري وهو متبدد فيها ، فشاهد ذاته العنصرية ، فعلم أنها تحت قوة الأفلاك العلوية ، ورأى المشاركة بينها وبين سائر الخلق الإنساني والحيواني والنبات والمعادن ، فلم ير لنفسه من حيث نشأته العنصرية فضلا على كل من تولد منها ، وأنه مثل لهم وهم أمثال له ، فقال : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ثم رأى افتقاره إلى ما تقوم به نشأته من الغذاء الطبيعي كسائر المخلوقات الطبيعية ، فعرف نفسه فقال : [يا أبا بكر ما أخرجك ، قال : الجوع ، قال : وأنا أخرجني الجوع] فكشف عن حجرين قد وضعهما على بطنه يشد بهما أمعاءه ـ إشارة ـ كان عليه‌السلام نائب الحق ، فهو وجهه في العالم ، فكان الحق يقول له : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي استتر بعبوديتك ، ولا تظهر مكانتك عندي. واعلم أن جميع ما سوى الله يمكن حصرهم في الأجناس الآتية ، وهم الملك والفلك والكوكب والطبيعة والعنصر والمعدن والنبات والحيوان والإنسان ، وما من صنف ذكرناه من هؤلاء الأصناف إلا وقد عبد منهم أشخاص ، فمنهم من عبد الملائكة ، ومنهم من عبد الكواكب ، ومنهم من عبد الأفلاك ، ومنهم من عبد العناصر ، ومنهم من عبد الأحجار ، ومنهم من عبد الأشجار ، ومنهم من عبد الحيوان ، ومنهم من عبد الجن والإنس ، فالمخلص في العبادة التي هي ذاتية له أن لا يقصد إلا من أوجده وخلقه ، وهو الله تعالى ، فتخلص له هذه العبادة ولا يعامل بها أحدا ممن ذكرناه ، أي لا يراه في شيء فيذل له ، واعلم أنه ما من شيء في الكون إلا وفيه ضرر ونفع ، فاستجلب بهذه الصفة الإلهية

٣٥

نفوس المحتاجين إليه لافتقارهم إلى المنفعة ودفع المضار ، فأداهم ذلك إلى عبادة الأشياء وإن لم يشعروا ، ولما علم الله ما أودعه في خلقه ، وما جعل في الثقلين من الحاجة إلى ما أودع الله في الموجودات وفي الناس بعضهم إلى بعض قال : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) فذكر لقاء الله ليدل على حالة الرضى من غير احتمال ، كما ذكره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذلك في الجنة ، فإنها دار الرضوان ، فما كل من لقي الله سعيد (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) أي لا يشوبه فساد ، والصالح الذي لا يدخله خلل ، فإن ظهر فيه خلل فليس بصالح ، وليس الخلل في العمل وعدم الصلاح فيه إلا الشرك ، فقال : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) أي لا يذل إلا الله لا لغيره ، لأنه إذا لم ير شيئا سوى الله وأنه الواضع أسباب المضار والمنافع ، لجأ إلى الله في دفع ما يضره ونيل ما ينفعه من غير تعيين سبب ، ونكر (أَحَداً) فدخل تحته كل شيء له أحدية ، وعم كل ما ينطلق عليه اسم أحد ، وهو كل شيء في عالم الخلق والأمر ، وعم الشرك الأصغر ، وهو الشرك الذي في العموم ، وهو الربوبية المستورة المنتهكة ، في مثل فعلت وصنعت وفعل فلان ولو لا فلان ، فهذا هو الشرك المغفور ، فإنك إذا راجعت أصحاب هذا القول فيه رجعوا إلى الله تعالى ، والشرك الذي في الخصوص ، فهم الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، وهو الظلم العظيم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن الله إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ، فأول من يدعى به رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلته على رسولي؟ قال : بلى يا رب ، قال : فماذا عملت فيما علمت؟ قال : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول الملائكة له : كذبت ، ويقول الله : إنما قرأت ليقال فلان قارىء فقد قيل ذلك ، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال : بلى يا رب ، قال : فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدق ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جواد فقيل ذلك ، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول الله : فيماذا قتلت؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت ، فيقول الله له : كذبت ، وتقول له الملائكة : كذبت ، ويقول الله له : بل أردت أن يقال فلان جريء فقد قيل ذلك ، ثم ضرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ركبة أبي هريرة وقال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول من يسعر

٣٦

بهم النار يوم القيامة] فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يغشى عليه ، يقول الله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) وجاء في الحديث الغريب الصحيح [من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك] فنكر تعالى العمل وما خص عملا من عمل ، والضمير في فيه يعود على العمل ، والضمير في منه يعود على الغير الذي هو الشريك ، وضمير هو يعود على المشرك ـ تحقيق إخلاص العمل لله من الشرك ـ الإخلاص في العمل هو أن تقف كشفا على أن العامل ذلك العمل هو الله ، كما هو في نفس الأمر ، أي عمل كان ذلك العمل ، مذموما أو محمودا أو ما كان ، فذلك حكم الله تعالى فيه ما هو عين العمل ، لذلك فإن الله لا يتبرأ من العمل فإنه العامل بلا شك ، فإخلاص العمل لله هو نصيب الله من العمل ، لأن الصورة الظاهرة في العمل إنما هي في الشخص الذي أظهر الله فيه عمله ، فيلتبس الأمر للصورة الظاهرة ، والصورة الظاهرة لا تشك أن العمل بالشهود ظاهر منها ، فهي إضافة صحيحة ، فإن البصر لا يقع إلا على آلة وهي مصرّفة لأمر آخر ، لا يقع الحس الظاهر عليه ، بدليل الموت ووجود الآلة وسلب العمل ، فإذن الآلة ما هي العامل ، والحس ما أدرك إلا الآلة ، فكما علم الحاكم أن وراء المحسوس أمرا هو العامل بهذه الآلة والمصرف لها ، المعبر عنه عند علماء النظر العقلي بالنفس العاملة الناطقة والحيوانية ، فقد انتقلوا إلى معنى ليس هو من مدركات الحس ، فكذلك إدراك أهل الكشف والشهود ـ في الجمع والوجود ـ في النفس الناطقة ما أدرك أهل النظر في الآلة المحسوسة سواء ، فعرفوا أن ما وراء النفس الناطقة هو العامل ، وهو مسمى الله ، فالنفس في هذا العمل كالآلة المحسوسة سواء ، ومتى لم يدرك هذا الإدراك فلا يتصف عندنا بأنه أخلص في عمله جملة واحدة ، مع ثبوت الآلات وتصرفها لظهور صورة العمل من العامل ، فالعالم كله آلات الحق فيما يصدر عنه من الأفعال ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما صح عنه : [أتدرون ما حق الله على العباد ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : إن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ، ثم قال : أتدرون ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك ، أن يدخلهم الجنة] فنكر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله شيئا ليدخل فيه جميع الأشياء ، وهو قوله تعالى (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ـ وجه آخر في تفسير قوله تعالى في هذه الآية ،

٣٧

كأنه تعالى يقول : إن الحق لا يعبد من حيث أحديته ، لأن الأحدية تنافي وجود العابد ، فكأنه يقول : لا يعبد إلا الرب من حيث ربوبيته ، فإن الرب أوجدك ، فتعلق به وتذلل له ولا تشرك الأحدية مع الربوبية في العبادة ، فتتذلل لها كما تتذلل للربوبية ، فإن الأحدية لا تعرفك ولا تقبلك ، فيكون تعبد في غير معبد ، وتطمع في غير مطمع ، وتعمل في غير معمل ، وهي عبادة الجاهل ، فنفى عبادة العابدين من التعلق بالأحدية ، فإن الأحدية لا تثبت إلا لله مطلقا ، وإنما ما سوى الله فلا أحدية له مطلقا ، فهذا هو المفهوم من هذه الآية عندنا من حيث طريقنا في تفسير القرآن ، ويأخذ أهل الرسوم في ذلك قسطهم أيضا تفسيرا للمعنى ، فيحملون الأحد المذكور على ما اتخذوه من الشركاء ، وهو تفسير صحيح أيضا ، فالقرآن هو البحر الذي لا ساحل له ، إذ كان المنسوب إليه يقصد به جميع ما يطلبه الكلام من المعاني بخلاف كلام المخلوقين.

(١٩) سورة مريم مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) (٢)

في هذه الآية الرحمة هي التي تذكر العبد ما هو يذكرها ، فتعطيه بذكره حقيقة ما فيها لأنها تطلب منه التعشق بها ، فإنه لا ظهور لها إلا به ، فهي حريصة على مثل هذا ، وهذه الآية تعريف إلهي بوجوب حكم الرحمة فيمن تذكره من عباده سبحانه وتعالى ، وجاء زكريا لا لخصوص الذكر ، وإنما ساقته عناية العبد ، فإنها ما ذكرته إلا لكونه عبدا له تعالى في جميع أحواله ، فأي شخص أقامه الله في هذا المقام فبرحمته به أقامه لتذكره رحمة ربه عنده تعالى ، فحال عبوديته هو عين رحمته الربانية التي ذكرته ، فأعلمت ربها أنها عند هذا العبد ، فأي شيء صدر من هذا الشخص فهو مقبول عند الله تعالى ، ومن هذا المقام يحصل له من الله ما يختص به مما لا يكون لغيره ، وهو الأمر الذي يمتاز به ويخصه ، فإنه لا بد لكل مقرّب عند الله من أمر يختص به.

٣٨

(إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا) (٣)

لما كانت مريم محررة لله ، حاملة لروح الله ، محلا لكلمة الله ، مثنيا عليها بكلام الله ، مبرأة بشهادة ما سقط من التمر في هزها جذع النخلة اليابس ونطق ابنها في المهد بأنه عبد الله ، فكانت لله وبالله وعن الله ، لهذا غبطها زكريا نبي الله ، فتمنى مثلها على الله ، فنادى ربه نداء خفيا.

(قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا) (٤)

الاشتعال اسم مخصوص ونعت من نعوت أحوال النار المركبة ، فاستعير للشيب في قوله تعالى : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً).

(وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) (٥)

فقدم زكريا الحق على ذكر ولده.

(يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦)

فأكرمه الله بأن قضى حاجته ، وسماه بصفته حتى يكون اسمه تذكارا لما طلب منه نبيه زكريا ، لأنه عليه‌السلام آثر بقاء ذكر الله في عقبه ، إذ الولد سر أبيه ، فقال (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وليس موروث في حق هؤلاء إلا مقام ذكر الله والدعوة إليه.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) (٧)

أنزل الحق تعالى يحيى عليه‌السلام منزلته في الأسماء : فلم يجعل له من قبل سميا ، وخصه بأن لم يجعل له سميا من قبل من أنبياء الله ، وهو وإن كان في العالم يحيى كثير ، إلا أن له

٣٩

مرتبة الأولية في هذا الاسم ، فبه يحيا كل من يحيا من الناس من تقدم ومن تأخر ، فإن الله ما جعل له من قبل سميا ، فكل يحيى تبع له ، فبظهوره لا حكم لهم ، وبعد ذلك وقع الاقتداء به في اسمه ليرجع إليه ، وسماه الله يحيى ، أي يحيا به ذكر زكريا ، فجمع بين حصول الصفة وبين الاسم العلم ، وما جمع الله لأحد قبل يحيى بين ذلك إلا لزكريا عناية منه. ولما سلّط عليه الجبار عدوه فقتله ، وما حماه منه ولا نصره باقتراح بغيّ على باغ ، فإنه أراد بقاءه حيا فقتله شهيدا ، فأبقى حياته عليه ، فجمع له بين الحياتين فسماه يحيى ، وأثرت فيه همة أبيه لما أشرب قلبه من مريم ، وكانت منقطعة من الرجال فجعله حصورا بهذا التخيل ، وجاء في الخبر أن الله يأتي بالموت يوم القيامة فيوضع بين الجنة والنار ليراه هؤلاء وهؤلاء ويعرفون أنه الموت ، في صورة كبش أملح ، فيذبحه يحيى عليه‌السلام خاصة ، وذلك من سرّ اسمه ، فإن الموت ضد له ولا يبقى معه ، والدار دار الحيوان فلابد من إزالة الموت ، فلا مزيل له سوى يحيى.

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) (٨)

ليس أعجب من حال زكريا عليه‌السلام ، وهو الذي ظهر فيه سلطان الإنسانية حين يقول (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) فما سأل حتى تصور الوقوع ، فأين هذه الحالة من قوله (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) فإن لم يكن ثمّ قرينة حال جعلته أن يقول مثل هذا حتى يقال له في الوحي.

(قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) (٩)

(قالَ) له في الوحي (كَذلِكَ) الله يفعل ما يشاء ، فيكون قصد إعلام الله بذلك حتى يعلم غيره أن الله يفعل ما يشاء في المعتاد أن يخرقه كما وقع ، وإن كان ذلك القول الذي قال زكريا عليه‌السلام من نفسه فقد أعطته الإنسانية قوتها ، فإن الإنسان بذاته كما ذكره الله في كتابه ، فما ذكره الله في موضع إلا وذكر عند ذكره صفة نقص تدل على

٤٠