رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

قول الصديق الأكبر : العجز عن درك الإدراك إدراك ؛ فما رأى شيئا عند ذلك إلا ورأى الله قبله ، فرجوعهم سفر لاقتناص علوم لم ينالوها في العروج ، فما لهم غاية يقفون عندها ، فهم يظهرون في كل مرتبة بما تقتضيه تلك المرتبة ، وإذا تكمل العبد كانت المراتب عنده على السواء ، ومتى نسبت الشخص إلى مقام بعينه فقد رجحته في ذلك المقام ، وإذا كان حكمه في كل مقام حكمه في الباقي كان ذلك عظيما.

نفي المقام هو المكان وإنه

لليثربي بسورة الأحزاب

من كان فيه يكون مجهولا لذا

ما ناله أحد بغير حجاب

رب المكان هو الذي يدعى إذا

دعي الرجال بسيد الأحباب

وله الوسيلة لا تكون لغيره

وهو المقدّم من أولي الألباب

وهو الإمام وما له من تابع

وهو المصرف حاجب الحجاب

اعلم أن عبور المقامات والأحوال هو من خصائص المحمديين ، ولا يكون إلا لأهل الأدب ، جلساء الحق على بساط الهيبة مع الأنس الدائم ، لأصحابه الاعتدال والثبات والسكون ، غير أن لهم سرعة الحركات في الباطن في كل نفس ، فترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب ، إن تجلّى لهم الحق في صورة محدودة أطرقوا ، فرأواه في إطراقهم مقلبا أحوالهم على غير الصورة التي تجلى لهم فيها فأورثهم الإطراق ، فهم بين تقييد وإطلاق ، لا مقام يحكم عليهم ، فإنه ما ثمّ ، فهم أصحاب مكان في بساط النشأة ، وهم أصحاب مكانة في عدم القرار ، فهم من حيث مكانتهم ومن حيث مكانهم ثابتون ، فهم بالذات في مكانهم وهم بالأسماء في مكانتهم ، والمكان ثبوت في المكانة ، فمن الأسماء لهم المقام المحمود ، والمكانة الزلفى في اليوم المشهود ، والزور والوفود ، ومن الذات لهم المكان المحدود والمعنى المقصود والثبات على الشهود وحالة الوجود ، ورؤيته في كل موجود ، في سكون وخمود ، والأمر الحقيقي للمكانة فإنه لا يصح الثبوت على أمر واحد في الوجود ، فالمكان ثبوت في المكانة كما نقول في التمكين : إنه تمكين في التلوين ، لا أن التلوين يضاد التمكين. ـ نصيحة ـ لا راحة مع الخلق ، فارجع إلى الحق فهو أولى بك ، إن عاشرتهم على ما هم عليه بعدت منه ، فإنهم على ما لا يرضاه ، وإن لم تعاشرهم وقعوا فيك ، فلا راحة.

٣٨١

(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١)

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) لمن سمع القول فاتبع أحسنه ، وبهذه الآية ثبتت وتأيّدت عصمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإنه لو لم يكن معصوما ما صح التأسي به ، فنحن نتأسّى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأحواله وأقواله ، ما لم ينه عن شيء من ذلك على التعيين في كتاب أو سنّة ، فإن الله جعله أسوة يتأسى به ، فلو لم يقمه الله في مقام العصمة للزمنا التأسي به فيما يقع منه من الذنوب إن لم ينص عليها ، كما نصّ

٣٨٢

على نكاح الهبة أن ذلك خالص له مشروع ، وهو حرام علينا ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [خذوا عني مناسككم] فإن الله تعالى يقول : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وقال : [من رغب عن سنتي فليس مني] فأبان بفعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن مراد الله منا في العبادات ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [العلماء ورثة الأنبياء] فاعلم أن الورث على نوعين : معنوي ومحسوس ، فالمحسوس منه ما يتعلق بالألفاظ والأفعال وما يظهر من الأحوال ، فأما الأفعال فأن ينظر الوارث إلى ما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعله مما أبيح للوارث أن يفعله اقتداء به ـ لا مما هو مختص به عليه‌السلام مخلص له في نفسه ومع ربه ـ وفي عشرته لأهله وولده وقرابته وأصحابه وجميع العالم ، ويتبع الوارث ذلك كله في الأخبار المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، الموضحة لما كان عليه في أفعاله من صحيحها وسقيمها ، فيأتيها كلها على حدّ ما وردت لا يزيد عليها ولا ينقص منها ، وإن اختلفت فيها الروايات فليعمل بكل رواية ، وقتا بهذه ووقتا بهذه ولو مرة واحدة ، ويدوم على الرواية التي ثبتت ، ولا يخلّ بما روي من ذلك وإن لم يثبت من جهة الطريق فلا يبالي ، إلا أن يتعلق بتحليل أو تحريم فيغلب الحرمة في حق نفسه فهو أولى به ، فإنه من أولي العزم ، وما عدا التحليل أو التحريم فليفعل بكل رواية ، وإذا أفتى ـ إن كان من أهل الفتيا ـ وتتعارض الأدلة السمعية بالحكم من كل وجه ، ويجهل التاريخ ولا يقدر على الجمع ، فيفتي بما هو أقرب لرفع الحرج ، ويعمل هو في حق نفسه بالأشد فإنه في حقه الأسدّ ، وهذا من الورث اللفظي فإنه المفتى به ، فيصلي صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليله ونهاره ، وعلى كيفيتها في أحوالها وكمياتها في أعدادها ، ويصوم كذلك ، ويعامل أهله من مزاح وجدّ كذلك ، ويكون على أخلاقه في مأكله ومشربه وما يأكل وما يشرب ، كأحمد بن حنبل فإنه كان بهذه المثابة ، روينا عنه أنه ما أكل البطيخ حتى مات ، وكان يقال له في ذلك فيقول : ما بلغني كيف كان يأكله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلّ ما كان من فعل لم يجد فيه حديثا يبين فيه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فعله بكيفية خاصة ، وإن كان من الكميات بكمية خاصة ولكن ورد فيه حديث فاعمل به ، كصومه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يصوم حتى نقول : إنه لا يفطر ، ويفطر حتى نقول : إنه لا يصوم ، ولم يوقت الراوي فيه توقيتا ، فصم أنت كذلك وأفطر كذلك ، وأكثر من صوم شعبان ولا تتمّ صوم شهر قط بوجه من الوجوه إلا شهر رمضان ، وكل صوم أو فعل مأمور به وإن لم يرو فيه فعله فاعمل به لأمره ، وهذا معنى قول الله :

٣٨٣

(إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) فلتتبعه في كل شيء لأن الله يقول : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ما لم يخصص شيئا من ذلك بنهي عن فعله ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [صلوا كما رأيتموني أصلي] وقال في الحج [خذوا عني مناسككم] وإن حججت فإن قدرت على الهدي فادخل به محرما بالحج أو العمرة ، وإن حججت مرة أخرى فادخل أيضا إن قدرت على الهدي محرما بالحج ، وإن لم تجد هديا فاحذر أن تدخل محرما بالحج ، ولكن ادخل متمتعا بعمرة مفردة ، فإذا طفت وسعيت فحل من إحرامك الحل كله ، ثم بعد ذلك أحرم بالحج وانسك نسيكة كما أمرت ، واعزم على أن لا تخلّ بشيء من أفعاله وما ظهر من أحواله مما أبيح لك من ذلك ، والتزم آدابه كلها جهد الاستطاعة ، لا تترك شيئا من ذلك إذا ورد مما أنت مستطيع عليه ، فإن الله ما كلفك إلا وسعك ، فابذله ولا تترك منه شيئا ، فإن النتيجة لذلك عظيمة لا يقدر قدرها ، وهي محبة الله إياك ، وقد علمت حكم الحب من المحب ـ الحديث ـ وأما الورث المعنوي فما يتعلق بباطن الأحوال من تطهير النفس من مذام الأخلاق وتحليتها بمكارم الأخلاق ، وما كان عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذكر ربه على كل أحيانه ، وليس إلا الحضور والمراقبة لآثاره سبحانه في قلبك وفي العالم ، فلا يقع في عينك ولا يحصل في سمعك ولا يتعلق بشيء قوة من قواك ، إلا ولك في ذلك نظر واعتبار إلهي ، تعلم موقع الحكمة الإلهية في ذلك ، فهكذا كان حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما روت عنه عائشة ، وكذلك إن كنت من أهل الاجتهاد في الاستنباط للأحكام الشرعية ، فأنت وارث نبوة شرعية ، فإنه تعالى قد شرع لك في تقرير ما أدى إليه اجتهادك ودليلك من الحكم ، أن تشرعه لنفسك وتفتي به غيرك إذا سئلت ، وإن لم تسأل فلا ، فإن ذلك أيضا من الشرع الذي أذن الله لك فيه ، ما هو من الشرع الذي لم يأذن به الله ، ومن الورث المعنوي ما يفتح عليك به من الفهم في الكتاب وفي حركات العالم كله ، فالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بعثه الله تعالى إلا ليتمم مكارم الأخلاق ، فأحواله كلها مكارم أخلاق ، فهو مبين لها بالحال وهو أتم وأعدل وأمضى في الحكم من القول :.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا

٣٨٤

اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (٢٣)

(وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) في أخذ الميثاق الذي أخذ عليهم ، فوفوا به ، وقيل فيهم : صدقوا ، لأنهم غالبوا فيه وفي الوفاء به الدعاوى المركوزة في النفوس ، التي أخرجت بعض من أخذ عليه الميثاق أو أكثره عن الوفاء بما عاهد عليه الله ، فليس الرجل إلا من صدق مع الله في الوفاء بما أخذ عليه ، والصدق سيف الله في الأرض ، ما قام بأحد ولا اتصف به إلا نصره الله ، لأن الصدق نعته ، والصادق اسمه ، فقوله تعالى : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) أي من وفى بعهده ، وهو العهد الخالص في أخذ الميثاق ، فإن النحب العهد (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) لأن العبد ما دام في الحياة الدنيا لا يأمن التبديل ، فإن الله يفعل ما يريد ، فلا يأمن مكر الله لعلمه بالله (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) فلله رجال بهذه المثابة جعلنا الله منهم ، فما أعظم بشارتها من آية ، ولا بلغ إلينا تعيين أحد من أهل هذه الصفة إلا طلحة بن عبيد الله من العشرة ، صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [هذا ممن قضى نحبه] وهو في الحياة الدنيا فأمن من التبديل.

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) (٢٤)

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) بعد أن يسأل الصادقين عن صدقهم ، فإذا ثبت لهم جازاهم به ، وجزاؤهم به هو صدق الله فيما وعدهم به ، فجزاء الصدق الصدق الإلهي ، وجزاء ما صدق فيه من العمل والقول بحسب ما يعطيه ذلك العمل أو القول ، فهذا معنى الجزاء.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) (٢٦)

٣٨٥

إذا كانت اليد بالنواصي أنزلت العصم من الصياصي ، ولم تغنها ما عندها من الصياصى.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) (٢٩)

لما جرى من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما جرى ، أداه ذلك إلى الانفراد مع الله وهجرهن ، فآلى من نسائه شهرا ، فلما فرغ الشهر ناجاه الحق بآية التخيير ، فخيّر نساءه ، فإنه كان المطلوب بذلك التوقيت ما فتح له به ، فإن الحق يجري مع العبد في فتحه على حسب قصده والسبب الذي أداه إلى الانفراد به.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠)

(يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) وذلك لمكانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفعل الفاحشة.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) (٣١)

القنوت هو الطاعة لله ورسوله ، والأجر هنا للعمل الصالح الذي عملته ، وكان مضاعفا للعمل الصالح ومكانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، في مقابلة قوله تعالى في حقهن : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ).

٣٨٦

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٣٢)

كلام المرأة يثير الشهوة بالطبع ، ولا سيما إن كان في كلامها خضوع وانكسار ، وفي خيال السامع أنها أنثى وفي قلبه مرض ، والله قد نهاهن عن الخضوع في القول ، ففي هذه الآية إباحة كلام النساء الرجال على وصف خاص.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣)

(يا نِساءَ النَّبِيِّ) أعلمهن أن ذلك كله مما ورد في هذه الآية وما قبلها بكونهن أزواجه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا ينسبن إلى قبيح ، فيعود ذلك العار على بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) الرجس هو القذر عند العرب ، هكذا حكى الفراء ، والمعني به هنا الفحش (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) من دنس الأقوال المنسوبة إلى الفحش ، فطهر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأهل بيته تطهيرا ليذهب عنهم الرجس وهو كل ما يشينهم ، فلا يضاف إليهم إلا مطهر ، مثل سلمان الفارسي الذي قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [سلمان منا أهل البيت] وشهد الله لهم بالتطهير وذهاب الرجس عنهم ، وإذا كان لا يضاف إليهم إلا مطهر مقدس ، وحصلت لهم العناية الإلهية بمجرد الإضافة ، فما ظنك بأهل البيت في نفوسهم؟ فهم المطهرون بل هم عين الطهارة ، فهذه الآية تدل على أن الله قد شرك أهل البيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وأي وسخ وقذر أقذر من الذنوب وأوسخ ، فلا رجس أرجس من المعاصي ، وقد طهر الله أهل البيت تطهيرا ، وهو خبر والخبر لا يدخله النسخ ، وخبر الله صدق وقد سبقت به الإرادة الإلهية ، فكل ما ينسب إلى أهل البيت مما يقدح فيما أخبر الله به عنهم من التطهير وذهاب الرجس ،

٣٨٧

فإنما ينسب إليهم من حيث اعتقاد الذي ينسبه ، لأنه رجس بالنسبة إليه ، وذلك الفعل عينه ارتفع حكم الرجس عنه في حق أهل البيت ، فطهر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمغفرة من الذنوب ودخل الشرفاء أولاد فاطمة كلهم ومن هو من أهل البيت مثل سلمان الفارسي إلى يوم القيامة في حكم هذه الآية من الغفران ، فهم المطهرون اختصاصا من الله وعناية بهم ، لشرف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعناية الله به ، ولا يظهر حكم هذا الشرف لأهل البيت إلا في الدار الآخرة ، فإنهم يحشرون مغفورا لهم ، وأما في الدنيا فمن أتى منهم حدا أقيم عليه ، وينبغي لكل مسلم مؤمن بالله وبما أنزله أن يصدق الله تعالى في قوله : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) فأخبر الله تعالى أنه طهرهم وأذهب عنهم الرجس ، وخبره صدق ، وهذا يدل على عصمة أهل البيت في حركاتهم ، وحفظ الله لهم في ذلك ، وليس ذلك لغيرهم ، فيعتقد في جميع ما يصدر من أهل البيت أن الله قد عفا عنهم فيه ، فلا ينبغي لمسلم أن يلحق المذمة بهم ، ولا ما يشنأ أعراض من قد شهد الله بتطهيره وذهاب الرجس عنه ، لا بعمل عملوه ولا بخير قدموه ، بل سابق عناية من الله بهم ، فبالنسبة لحقوقنا وما لنا أن نطالبهم به ، فنحن مخيرون إن شئنا أخذنا وإن شئنا تركنا ، والترك أفضل عموما ، فكيف في أهل البيت؟ فإذا نزلنا عن طلب حقوقنا وعفونا عنهم في ذلك ، أي فيما أصابوا منا كانت لنا بذلك عند الله اليد العظمى والمكانة الزلفى ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما طلب منّا عن أمر الله إلا المودة في القربى ، وفيه سر صلة الرحم ، ومن لم يقبل سؤال نبيه فيما سأل فيه مما هو قادر عليه بأي وجه يلقاه غدا أو يرجو شفاعته؟ وهو ما أسعف نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما طلب منه من المودة في قرابته ، فكيف بأهل بيته؟ فهم أخصّ قرابته ، وأرجو أن يكون عقب علي بن أبي طالب وسلمان تلحقهم العناية كما ألحقت أولاد الحسن والحسين وعقبهم وموالي أهل البيت لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [مولى القوم منهم] فإن رحمة الله واسعة واعلم أن الشياطين ألقت إلى أهل البدع والأهواء أصلا صحيحا لا يشكون فيه ، ثم طرأت عليهم التلبيسات من عدم الفهم حتى ضلوا ، وأكثر ما ظهر ذلك في الشيعة ولا سيما الإمامية منهم ، فدخلت عليهم شياطين الجن أولا بحب أهل البيت واستفراغ الحب فيهم ، ورأوا أن ذلك من أسنى القربات إلى الله ، وكذلك هو ، لو وقفوا ولا يزيدون عليه ، إلا أنهم تعدوا من حب أهل البيت إلى طريقين : منهم من تعدّى إلى بغض الصحابة وسبهم حيث لم يقدموهم ، وتخيلوا أن أهل البيت أولى بهذه المناصب

٣٨٨

الدنيوية ، فكان منهم ما قد عرف واستفاض ، وطائفة زادت إلى سب الصحابة القدح في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفي جبريل عليه‌السلام وفي الله جل جلاله ، حيث لم ينصوا على رتبتهم وتقديمهم في الخلافة ، حتى أنشد بعضهم [ما كان من بعث الأمين أمينا] وهذا كله واقع من أصل صحيح ، وهو حبّ أهل البيت ، أنتج في نظرهم فاسدا فضلوا وأضلوا ، فانظر ما أدى إليه الغلو في الدين ، أخرجهم عن الحدّ فانعكس أمرهم إلى الضد ـ إشارة ـ إذا كانت عناية الله بأهل البيت النبوي المحمدي كما ذكر الله في كتابه لنا ، فما ظنك بأهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته؟ وأقل الأهلية في ذلك حمل حروفه محفوظة في الصدور ، فإن تخلّق بما حمل وتحقق به وكان من صفاته فبخ على بخ ، ومن عناية الله تعالى بسلمان الفارسي أن قال فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [سلمان منّا أهل البيت] وإذا كانت منزلة مخلوق عند الله بهذه المثابة بأن يشرف المضاف إليهم بشرفهم ، وشرفهم ليس لأنفسهم ، وإنما الله تعالى هو الذي اجتباهم وكساهم حلة الشرف ، كيف يا ولي بمن أضيف إلى من له الحمد والمجد والشرف لنفسه وذاته؟ فهو المجيد سبحانه وتعالى ، فالمضاف إليه من عباده الذين هم عباده ، وهم الذين لا سلطان لمخلوق عليهم في الآخرة ، وما تجد في القرآن عبادا مضافين إليه سبحانه إلا السعداء خاصة ، وجاء اللفظ في غيرهم بالعباد ، فما ظنك بالمعصومين المحفوظين منهم القائمين بحدود سيدهم الواقفين عند مراسمه؟ فشرفهم أعلى وأتم.

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) (٣٤)

من أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ، وكان الله به لطيفا خبيرا ، لطيفا من حيث أنه علّمه من حيث لم يعلم فعلم ، وما علم أن الله هو المعلم ، ثم اختبره فكان خبيرا ، وكان الله على كل شيء قديرا ، فمن سأل الحكمة ، فقد سأل النعمة ، ومن أعطي الحكمة ، فقد أوتي الرحمة ، فإن سرمد العذاب بعد ذلك هذا المالك ، فما هو ممّن عمت وجوده الرحمة ، ولا كان من أهل الحكمة ، فإن قال بالرجوع إليها ، وحكم بذلك عليهم وعليها ، فذلك الحكيم العليم ، المسمى بالرؤوف الرحيم ، وهو الشديد العقاب ، لأنه لشدته في ذلك أعقب أهل النار حسن المآب.

٣٨٩

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (٣٥)

نعت الله أقواما من النساء والرجال بصفات ومنزلة ، فما نعتهم الله بهذه النعوت سدى ، والمتصفون بهذه الأوصاف قد طالبهم الحق بما تقتضيه هذه الصفات ، وما تثمر لهم من المنازل عند الله ، فقال تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) وهؤلاء تولاهم الله بالإسلام وهو انقياد خاص لما جاء من عند الله لا غير ، فإذا وفّى العبد الإسلام بجميع لوازمه وشروطه وقواعده فهو مسلم ، وإن انتقص شيئا من ذلك فليس بمسلم فيما أخلّ به من الشروط ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده] واليد هنا بمعنى القدرة ، أي سلم المسلمون مما هو قادر على أن يفعل بهم مما لا يقتضيه الإسلام ، من التعدي لحدود الله فيهم ، فأتى بالأعم ، وذكر اللسان لأنه قد يؤذي بالذكر من لا يقدر على إيصال الأذى إليه بالفعل ، وهو البهتان هنا خاصة لا الغيبة ، فإنه قال : المسلمون ولو قال : الناس لدخلت الغيبة وغير ذلك من سوء القول ، فلم يثبت الشارع الإسلام إلا لمن سلم المسلمون ، وهم أمثاله في السلامة ، فالمسلمون هم المعتبر في هذا الحديث ، وهم المقصود ، فإن المسلمين لا يسلمون من لسان من يقع فيهم إلا حتى يكونوا أبرياء مما نسب إليهم ، ولذلك فسرناه بالبهتان ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [إذا قلت في أخيك ما ليس فيه فذلك البهتان ، وفي رواية فقد بهته] فخاب سهمك الذي رميته به ، فإنه ما وجد منفذا ، فإنك نسبت إليه ما ليس هو عليه ، فسماهم الله مسلمين ، فمن وقع فيمن هذه صفته فليس بمسلم ، لأن ذلك الوصف الذي وصف المسلم به ورماه به ولم يكن المسلم محلا له عاد على قائله ، فلم يكن الرامي له بمسلم ، فإنه ما سلم مما قال إذ عاد عليه سهم كلامه الذي رماه به ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما] وقال تعالى في حق قوم قيل لهم : (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ

٣٩٠

كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) قال الله فيهم (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) فأعاد الصفة عليهم لما لم يكن المسلمون المؤمنون أهل سفه ، فليس المسلم إلا من سلم من جميع العيوب الأصلية والطارئة ، فلا يقول في أحد شرا ولا يؤثر فيه إذا قدر عليه شرا أصلا ، وليس إقامة الحدود بشر فإنه خير فلا يخرجه ذلك عن الإسلام ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم اشترط سلامة المسلمين ، ومن آذاك ابتداء عن قصد منه فليس بمسلم ، فإنك ما سلمت منه ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [من سلم المسلمون] فلا يقدح القصاص في الإسلام ، فإنك ما آذيت مسلما من حيث آذاك ، فإن المسلم لا يؤذي المسلم ، بل أسقط القصاص في الدنيا القصاص في الآخرة ، فقد أنعم عليه بضرب من النعم ، فإن عفا وأصلح ولم يؤاخذه وتجاوز عن سيئته فذلك المقام العالي وأجره على الله ، بشرط ترك المطالبة في الآخرة ، وحق الله ثابت قبله لأنه تعدى حده ، فقدح في إسلامه قدر ما تعدى ، فإن قيل : إن عصى المسلم ربه في غير المسلم هل يكون مسلما بذلك أم لا؟ قلنا : لا يكون مسلما ، فإن الله يقول : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) والمسلم لا يكون ملعونا ، فلقائل أن يقول : هنا بالمجموع كانت اللعنة ، ونحن إنما قلنا : من آذى الله وحده ، قلنا : كل من آذى الله وحده في زعمه فقد آذى المسلمين ، فإن المسلم يتأذى إذا سمع في الله من القول ما لا يليق به ، فهو مؤاخذ من جهة ما تأذى به المسلمون ، من قولهم (١) في الله ما لا يليق به ، فإن قيل : فإن لم يعرف ذلك المسلمون منه حتى يتأذوا من ذلك ، قلنا : حكم ذلك حكم الغيبة ، فإنه لو عرف من اغتيب تأذى ، وهو مؤاخذ بالغيبة فهو مؤاخذ بإيذائه الله وإن لم يعرف بذلك مسلم ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا أحد أصبر على أذى من الله] ، فالمسلم من كان بهذه المثابة ، وهو السعيد المطلق وقليل ما هم : (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المؤمنون والمؤمنات تولاهم الله بالإيمان الذي هو القول والعمل والاعتقاد ، وحقيقته الاعتقاد شرعا ولغة ، وهو في القول والعمل شرعا لا لغة ، فالمؤمن من كان قوله وفعله مطابقا لما يعتقده في ذلك الفعل ، فأولئك من الذين أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [المؤمن من أمنه الناس على أموالهم] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [المؤمن من أمن جاره بوائقه] ولم يخصّ مؤمنا ولا مسلما ، بل قال : الناس والجار من غير تقييد ، فإن المسلم قيّده بسلامة المسلمين ، ففرق بين المسلم

__________________

(١) الضمير هنا يعود على غير المسلمين الذين آذاهم المسلم.

٣٩١

والمؤمن بما قيده به وبما أطلقه ، فعلمنا أن للإيمان خصوص وصف ، وهو التصديق تقليدا من غير دليل ، ليفرق بين الإيمان والعلم ، والمؤمن الذي اعتبره الشرع من أهل هذه الآية له علامتان في نفسه إذا وجدهما كان من المؤمنين ، العلامة الواحدة أن يصير الغيب له كالشهادة ، من عدم الريب فيما يظهر على المشاهد لذلك الأمر الذي وقع به الإيمان ، من الآثار في نفس المؤمن كما يقع في نفس المشاهد له ، فيعلم أنه مؤمن بالغيب ، والعلامة الثانية أن يسري الأمان منه في نفس العالم كله ، فيأمنوه على القطع على أموالهم وأنفسهم وأهليهم ، من غير أن يتخلل ذلك الأمان تهمة في أنفسهم من هذا الشخص ، وانفعلت لأمانته النفوس ، فذلك هو المشهود له بأنه من المؤمنين ، ومهما لم يجد هاتين العلامتين فلا يغالط نفسه ولا يدخلها مع المؤمنين ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) فمن ادعى الإيمان وزعم أن له نفسا يملكها فليس بمؤمن (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) هم الذين تولاهم الله بالقنوت ، وهو الطاعة لله في كل ما أمر به ونهى عنه ، وهذا لا يكون إلا بعد نزول الشرائع ، قال تعالى : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) أي طائعين فأمر بطاعته ، والساجدون لله على قسمين : منهم من يسجد طوعا ، ومنهم من يسجد كرها ، فالقانت يسجد طوعا ، وتصحيح طاعتهم لله وقنوتهم أن يكون الحق لهم بهذه الموازنة ، كما قال : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [ومن تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا] فالحق مع العبد على قدر ما هو العبد مع الحق ، ومن شرط القانت أن يطيع الله من حيث ما هو عبد الله ، لا من حيث ما وعده الله به من الأجر والثواب لمن أطاعه ، وأما الأجر الذي يحصل للقانت ، فذلك من حيث العمل الذي يطلبه لا من حيث الحال الذي أوجب له القنوت ، قال الله تعالى في القانتات من نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) فالأجر هنا للعمل الصالح الذي عملته ، وكان مضاعفا في مقابلة قوله تعالى في حقهن : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) لمكانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولفعل الفاحشة ، كذلك ضوعف الأجر للعمل الصالح ومكانة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبقي القنوت معرى عن الأجر ، فإنه أعظم من الأجر فإنه ليس بتكليف ، وإنما الحقيقة تطلبه ، وهو حال يستصحب العبد في الدنيا والآخرة ، والقنوت مع العبودية في دار التكليف لا مع الأجر ، ذلك هو القنوت المطلوب ، والحق إنما ينظر للعبد في طاعته بعين باعثه على تلك الطاعة ، ولهذا قال تعالى آمرا :

٣٩٢

(وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) ولم يسم أجرا ، ولا جعل القنوت إلا من أجله لا من أجل أمر آخر (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) هم الذين تولاهم الله بالصدق في أقوالهم وأفعالهم فقال تعالى : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) فهذا من صدق أحوالهم ، والصدق في القول معلوم وهو ما يخبر به ، وصدق الحال ما يفي به في المستأنف ، وهو أقصى الغاية في الوفاء لأنه شديد على النفس فلا يقع الوفاء به في الحال والقول إلا من الأشداء الأقوياء ، ولا سيما في القول ، فإنك لو حكيت كلاما عن أحد كان بالفاء فجعلت بدله واوا لم تكن من هذه الطائفة ، فانظر ما أغمض هذا المقام وما أقواه ، فإن نقلت الخبر على المعنى تعرّف السامع أنك نقلت على المعنى ، فتكون صادقا من حيث إخبارك عن المعنى عند السامع ، ولا تسمى صادقا من حيث نقلك لما نقلته ، فإنك ما نقلت عين لفظ من نقلت عنه ، ولا تسمى كاذبا فإنك قد عرفت السامع أنك نقلت المعنى ، فأنت مخبر للسامع عن فهمك لا عمن تحكي عنه ، فأنت صادق عنده في نقلك عن فهمك ، لا عن الرسول أو من تخبر عنه أن ذلك مراده بما قال ، فالصدق في المقال عسير جدا ، قليل من الناس من يفي به ، إلا من أخبر السامع أنه ينقل على المعنى فيخرج من العهدة ، فالصدق في الحال أهون منه إلا أنه شديد على النفوس ، فإنه يراعي جانب الوفاء لما عاهد من عاهد عليه ، وقد قرن الله الجزاء بالصدق والسؤال عنه فقال : (ليجزي الصادقين بصدقهم) ولكن بعد أن يسأل الصادقين عن صدقهم ، وجزاؤهم به هو صدق الله فيما وعدهم به (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) هؤلاء تولاهم الله بالصبر ، وهم الذين حبسوا نفوسهم مع الله على طاعته من غير توقيت ، فجعل الله جزاءهم على ذلك من غير توقيت ، فقال تعالى : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) فما وقّت لهم فإنهم لم يوقتوا ، فعم صبرهم جميع المواطن التي يطلبها الصبر ، فكما حبسوا نفوسهم على الفعل بما أمروا به ، حبسوها أيضا على ترك ما نهوا عن فعله ، فلم يوقتوا فلم يوقّت لهم الأجر ، وهم الذين أيضا حبسوا نفوسهم عند وقوع البلايا والرزايا بهم عن سؤال ما سوى الله في رفعها عنهم ، بدعاء الغير أو شفاعة أو طب ، إن كان من البلاء الموقوف إزالته على الطب ، ولا يقدح في صبرهم شكواهم إلى الله في رفع ذلك البلاء عنهم ، ألا ترى إلى أيوب عليه‌السلام سأل ربه رفع البلاء عنه بقوله : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ومع هذا أثنى عليه بالصبر وشهد له به ، فلو كان الدعاء إلى الله في رفع الضرر

٣٩٣

ورفع البلاء يناقض الصبر المشروع المطلوب لم يثن الله به على أيوب بالصبر وقد أثنى عليه به ، بل من سوء الأدب مع الله أن لا يسأل العبد رفع البلاء عنه ، لأن فيه رائحة من مقاومة القهر الإلهي بما يجده من الصبر وقوته ، وهذا لا يناقض الرضا بالقضاء ، فإن البلاء إنما هو عين المقضي لا القضاء ، فيرضى بالقضاء ويسأل الله في رفع المقضي عنه ، فيكون راضيا صابرا (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) قوم تولاهم الله بالخشوع من ذل العبودية القائم بهم ، لتجلي سلطان الربوبية على قلوبهم في الدار الدنيا ، فينظرون إلى الحق سبحانه من طرف خفي ، يوجده الله لهم في قلوبهم في هذه الحالة ، خفي عن إدراك كل مدرك إياه ، بل لا يشهد ذلك النظر منهم إلا الله ، فمن كانت حالته هذه في الدار الدنيا من رجل أو امرأة فهو الخاشع وهي الخاشعة ، فيشبه القنوت من وجه إلا أن القنوت يشترط فيه الأمر الإلهي ، والخشوع لا يشترط فيه إلا التجلي الذاتي ، وكلتا الصفتين تطلبهما العبودية ، فلا يتحقق بهما إلا عبد خالص العبودية والعبودة ، وله حال ظاهر في الجوارح التي لها الحركات ، وحال باطن في القلوب ، فيورث في الظاهر سكونا ويؤثر في الباطن ثبوتا ، والقنوت يورث في الظاهر بحسب ما ترد به الأوامر من حركة وسكون ، فإن كان القانت خاشعا فحركته في سكون ولا بد إن ورد الأمر بالتحرك ، ويورث القنوت في الباطن انتقالات أدق من الأنفاس ، متوالية مع الأوامر الإلهية الواردة عليه في عالم باطنه ، فالخاشع في قنوته في الباطن ثبوته على قبول تلك الأوامر الواردة عليه من غير أن يتخللها ما يخرجها عن أن تكون مشهودة لهذا الخاشع ، فالخاشع والقانت خشوعه وقنوته أخوان متفقان في الموفقين من عباد الله (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) وهم الذين تولاهم الله بجوده ليجودوا بما استخلفهم الله فيه مما افتقر إليه خلق الله ، فأحوج الله الخلق إليهم لغناهم بالله ، فالكلمة الطيبة صدقة ، ولما كان حالهم التعمل في الإعطاء لا العمل ، دل على أنهم متكسبون في ذلك ، لنظرهم أن ذلك ليس لهم وإنما هو لله ، فلا يدعون فيما ليس لهم ، فلا منة لهم في الذي يوصلونه إلى الناس أو إلى خلق الله من جميع الحيوانات ، وكل متغذ عليهم لكونهم مؤدين أمانة كانت بأيديهم أوصلوها إلى مستحقيها ، فلا يرون أن لهم فضلا عليهم فيما أخرجوه ، وهذه الحالة لا يمدحون بها إلا مع الدوام والدؤوب عليها في كل حال (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) قوم تولاهم الله بالإمساك الذي يورثهم الرفعة عند الله تعالى عن كل شيء أمرهم الحق أن يمسكوا

٣٩٤

عنه أنفسهم وجوارحهم ، فمنه ما هو واجب ومندوب ، والصوم المعه د داخل فيه ، والمقام الأكمل لمن تحقق بهذ الإمساك ، فأورثه الرفعة عند الله ، فإن الصوم هو الرفعة ، قال الشاعر : إذا صام النهار وهجر ؛ أي ارتفع النهار (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) وهو خصوص من عموم حفظ حدود الله ، ولهذا قال فيهم : (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) أي سترا ، لأن الفرج عورة تطلب الستر ، فهو إنباء عن حقيقة والحافظون فروجهم على طبقتين : منهم من يحفظ فرجه عما أمر بحفظه منه ولا يحفظه مما رغب في استعماله ، لأمور إلهية وحكم ربانية أظهرها إبقاء النوع على طريق القربة ، ومنهم من يحفظ فرجه إبقاء على نفسه لغلبة عقله على طبعه ، وغيبته عما سنه أهل السنن من الترغيب في ذلك ، فإن انفتح له عين وانفرج له طريق إلى ما تعطيه حقيقة الوضع المرغب في النكاح فذلك صاحب فرج فلم يحفظه الحفظ الذي أشرنا إليه ، وأما صاحب الشرع الحافظ به فلا بد له من الفتح ، ولكن إذا اقترنت مع الحفظ الهمة (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) وهم الذين تولاهم الله بإلهام الذكر ليذكروه فيذكرهم ، قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وقال : [من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه] والذكر أعلى المقامات كلها ، ولما كان الذاكرون أعلى الطوائف لأن الله جليسهم ، لهذا ختم الله بجلسائه وبذكرهم صفات المقربين من أهل الله ، ذكرانهم وإناثهم ، فالذاكر هو الرجل الذي له الدرجة على غيره من أهل المقامات ، فإن الله تعالى مع الذاكرين له بمعية اختصاص ، وما ثمّ إلا مزيد علم ، به يظهر الفضل ، فكل ذاكر لا يزيد علما في ذكره بمذكوره فليس بذاكر ، وإن ذكر بلسانه ، لأن الذاكر هو الذي يعمه الذكر كله ، فذلك هو جليس الحق ، فلا بد من حصول الفائدة ، لأن العالم الكريم الذي لا يتصور فيه بخل لا بد أن يهب جليسه أمرا لم يكن عنده ، إذ ليس هنالك بخل ينافي الجود ، فلم يبق إلا المحل القابل ، ولا يجالس إلا ذو محل قابل ، فذلك هو جليس الحق ، وهم على الحقيقة جلساء الله من حيث الاسم الذي يذكرونه به ، وهذه مسئلة لا يعرفها كثير من الناس ، وما ذكر الله بعد الذاكرات شيئا ، فالذاكرون الله كثيرا والذاكرات آخر الطوائف ، ليس بعدهم أحد له نعت يذكر ، فختم بهم جلساءه ، وقوله تعالى : (كَثِيراً) أي في كل حال ، هذا معنى الكثير ، فإنه من الناس من يكون له هذه الحالة في أوقات ما ، ثم ينحجب ، ومن ذلك أن كل صفة علوية إلهية لا تنبغي إلا لله ويكون

٣٩٥

مظهرها في المخلوقين (مثل الغنى والعزة والجبروت) ، فإن العلماء بالله يذلون تحت سلطانها ولا تحجبهم المظاهر عنها ولا يعرف ذلك إلا العلماء بالله ، وأعلى الذكر أن نذكره بكلامه من حيث علمه بذلك لا من حيث علمنا ، فيكون هو الذي يذكر نفسه لا نحن (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) هؤلاء أعد الله لهم المغفرة والأجر العظيم قبل وقوع الذنب المقدر عليهم عناية منه ، فدلّ ذلك على أنهم من العباد الذين لا تضرهم الذنوب التي وقعت منهم بالقدر المحتوم ، لا انتهاكا للحرمة الإلهية ، وقد ورد في الصحيح في الخبر الإلهي [اعمل ما شئت فقد غفرت لك].

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦)

ولم يقل تعالى : ومن يعص الرسول فقد عصى الله ، كما أنزله في الطاعة ، لأن طاعة المخلوق لله ذاتية وعصيانه بالواسطة ، فلو أنزل الرسول هنا كما أنزله في الطاعة لم يكن إلها ، وهو إله ، فلا يعصى إلا بحجاب ، وليس الحجاب سوى عين الرسول ، ونحن اليوم أبعد في المعصية للرسول من أصحابه إلى من دونهم إلينا ، فنحن ما عصينا إلا أولي الأمر منا في وقتنا ، وهم العلماء منا بما أمر الله به ونهى عنه ، فنحن أقل مؤاخذة وأعظم أجرا ، لأن للواحد منا أجر خمسين ممن يعمل بعمل الصحابة ، يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [للواحد منهم أجر خمسين يعملون مثل عملكم] (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) الضلال هو الحيرة وقال تعالى : (مُبِيناً) لأنهم أوقعوا أنفسهم في الحيرة لكونهم عبدوا ما نحتوا بأيديهم ، وعلموا أنه لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم من الله شيئا ، فهي شهادة من الله بقصور نظرهم وعقولهم.

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ

٣٩٦

أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧)

ابتلى الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنكاح زوجة من تبناه ، وكان لو فعله عند العرب مما يقدح في مقامه ، وهو رسول الله ، وما بعثه الله تعالى إلا ليتمم مكارم الأخلاق ، فأحواله كلها مكارم أخلاق ، فهو مبين لها بالحال ، والرجل الكامل واقف مع ما تمسك عليه المروءة العرفية حتى يأتي أمر الله الحتم ، فإنه بحسب ما يؤمر ، فإن كان عرضا نظر إلى قرائن الأحوال ، فإن كانت قرينة الحال تخيره بقي على الأمر العرفي الذي يشهد له بمكارم الأخلاق ، ولذلك قال : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) فهو واقف مع حكم الله ، وكانت خشيته صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لا ترد دعوة الحق ، فأبان الله لهم عن العلة في ذلك ، وهو رفع الحرج عن المؤمنين في مثل هذا الفعل ، وكل معلل علّه الحق فإنه واقع ، كما أنه كل ترج من الله واقع.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) (٣٨)

الكامل له الوجود والجلال والهيبة ، لأن موطن الحكم عند المتحقق الكامل لا ينبغي أن يلحظ فيه الإرادة العاصية ، وإنما ينبغي أن يلحظ فيه الإرادة الآمرة ، ومرتبة الآمر من كونه آمرا لا من كونه مريدا ، فالنبي واقف مع حكم الله (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) وهكذا المؤمن الكامل الإيمان ما هو مع الناس ، وإنما هو مع ما يحكم الله به على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي بالإيمان به ثبت الإيمان له.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) (٤٠)

٣٩٧

لما ادّعي في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أبو زيد بن حارثة ، نفى الله تعالى عنه أن يكون أبا لأحد من رجالنا ، لرفع المناسبة وتمييزا للمرتبة ، ففصل بينه وبينهم بالرسالة والختم ، ألا تراه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما عاش له ولد ذكر من ظهره تشريفا له ، لكونه سبق في علم الله أنه خاتم النبيين. ـ أولاده صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الذكور منهم : القاسم ، وبه كان يكنّى ، ثم الطيب ، ثم الطاهر ، وعبد الله ، وجميع أولاده عليهم‌السلام من خديجة رضي الله عنها ، غير سيدنا ابراهيم عليه‌السلام فأمه مارية القبطية ، سريته صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) فثبت بهذه الآية أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر الأنبياء ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كنت نبيا وآدم بين الماء والطين] فبطن كونه خاتم النبيين في هذا الحديث ، وكان من ظهوره نبيا وآدم بين الماء والطين أن استفتح به مراتب البشر ، فقال [أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر] وختم الله به النبيين بعد بعثته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببشريته ، فظهر كونه خاتم النبيين بقوله : [إنّ الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا نبي بعدي ولا رسول] يعني أن الرسالة ـ وهي البعثة إلى الناس بالتشريع لهم ـ والنبوة قد انقطعت ، أي ما بقي من يشرع له من عند الله حكم يكون عليه ليس هو شرعنا الذي جئنا به ، فلا رسول بعدي يأتي بشرع يخالف شرعي إلى الناس ، ولا نبي فلا نبوة تشريع بعده ولا نبي يكون على شرع ينفرد به عند ربه يكون عليه ، فصرح أنه خاتم نبوة التشريع ، ولو أراد غير ما ذكرناه لكان معارضا لقوله : [إن عيسى عليه‌السلام ينزل فينا حكما مقسطا يؤمنا بنا] أي بالشرع الذي نحن عليه ، ولا نشك فيه أنه رسول ونبي ، فعلمنا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أراد أنه لا شرع بعده ينسخ شرعه ، ودخل بهذا القول كل إنسان في العالم من زمان بعثته إلى يوم القيامة ، فإن كان عيسى عليه‌السلام بعده ، وهو من أولي العزم والرسل وخواص الأنبياء ولكن زال حكمه عن هذا المقام لحكم الزمان عليه الذي هو لغيره ، فينزل فينا وليا وارثا خاتما ذا نبوة مطلقة ، يشركه فيها الأولياء المحمديون ، قد حيل بينه وبين نبوة التشريع والرسالة ، ولا ولي بعده أي عيسى عليه‌السلام بنبوة مطلقة ، كما أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتم النبوة نبوة التشريع خاصة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) (٤١)

أي في كل حال.

فالحمد لله الذي قد وقى

من شر ما يمكن أن يحذرا

٣٩٨

لو لا كتاب سابق فيكمو

نبذتمو لفعلكم بالعرا

ما شرع الرحمن أذكاره

إلا لكي تعصمكم كالعرى

لأنها أعصم ما يتقى

لما به الرحمن قد قدّرا

تعوذوا منه به أسوة

بسيد يعلم ما قررا

واعلم أن كلام الله لا يضاهيه شيء من كل كلام مقرب إلى الله ، فينبغي للذاكر إذا ذكر الله متى ذكره أن يحضر في ذكره ذلك ذكرا من الأذكار الواردة في القرآن ، فيذكر الله به ليكون قارئا في الذكر ، وإذا كان قارئا فيكون حاكيا للذكر الذي ذكر الله به نفسه ، فلا يحمد الله ولا يسبحه ولا يهلله إلا بما ورد في القرآن عن استحضار منه لذلك ـ بحث في الذكر بالاسم المفرد ـ ما أمر الله بالكثرة من شيء إلا من الذكر ، فقال : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) وقال : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) وما أتى الذكر قط إلا بالاسم الله خاصة معرى عن التقييد ، فقال (اذْكُرُوا اللهَ) وما قال : بكذا وقال : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وما قال : بكذا ، ومثل ذلك من الآيات التي أمر فيها بالذكر ، وقال تعالى : في الحديث القدسي [من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه» فقوله تعالى : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) هو تكرار هذا الاسم ولم يذكر إلا الاسم الله خاصة ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله] فأتى به مرتين ولم يكتف بواحدة ، وأثبت بذلك أنه ذكر على الانفراد ، ولم ينعته بشيء ، وسكّن الهاء من الاسم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مأمور أن يبيّن للناس ما نزّل إليهم ، فلو لا أن قول الإنسان الله الله له حفظ العالم الذي يكون فيه هذا الذكر ، لم يقرن بزواله زوال الكون الذي زال منه ، وهو الدنيا ، وقال تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فلهذا الذكر المفرد إنتاج أمر عظيم في قلب الذاكر به لا ينتجه غيره وما قيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الاسم الله في هذا الحديث بأمر زائد على هذا اللفظ ، لأنه ذكر الخاصة من عباد الله الذين يحفظ الله بهم عالم الدنيا ، وكل دار يكونون فيها ؛ فإذا لم يبق منهم أحد لم يبق للدنيا سبب حافظ يحفظها الله من أجله ، فتزول وتخرب وكم من قائل الله باق في ذلك الوقت ، ولكن ما هو ذاكر باستحضار ، فلا يعتبر اللفظ دون استحضار ، وقد قال بعض العلماء بالرسوم : إنه لم ير هذا الذكر لارتفاع الفائدة عنده فيه ، إذ كل مبتدأ لا بد له من خبر ، فيقال له : لا

٣٩٩

يلزم ذلك في اللفظ ، بل له خبر ظاهر لا في اللفظ ، كإضافة إلى تنزيه أو ثناء بفعل ، ومعلوم أنه إذا ذكر أمر ما ، وكرر على طريق التأكيد له ، أنه يعطي من الفائدة ما لا يعطيه من ليس له هذا الحكم ، فمن هذه الآية وأمثالها ومن الحديث الذي ذكرناه ، رجّح أهل الله ذكر لفظة الله الله ، وذكر لفظه (هو) على الأذكار التي تعطي النعت ، ووجدوا لها فوائد ؛ واعلم أن الذكر ليس بأن تذكر اسمه ، بل لتذكر اسمه من حيث ما هو مدح له وحمد ، إذ الفائدة ترتفع بذكر الاسم من حيث دلالته على العين ، وما قصد أهل الله بذكرهم الله الله نفس دلالة اللفظ على العين ، وإنما قصدوا هذا الاسم أو الهو ، من حيث أنهم علموا أن المسمى بهذا الاسم أو هذا الضمير هو من لا تقيده الأكوان ومن له الوجود التام ، فإحضار هذا في نفس الذاكر عند ذكر الاسم بذلك وقعت الفائدة ، فإنه ذكر غير مقيد ، فإذا قيده بلا إله إلا الله لم ينتج له إلا ما تعطيه هذه الدلالة ، وإذا قيده بسبحان الله لم يتمكن أن يحضر إلا مع حقيقة ما يعطيه التسبيح ، وكذلك الله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وكل ذكر مقيد لا ينتج إلا ما تقيد به ، لا يمكن أن يجني منه ثمرة عامة ، فإن حالة الذاكر تقيده ، وقد عرفنا الله أنه ما يعطيه إلا بحسب حاله في قوله : [إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي] ـ الحديث ـ فلهذا رجحت الطائفة ذكر لفظة الله وحدها أو ضميرها من غير تقييد ، فما قصدوا لفظة دون استحضار ما يستحقه المسمى ، وبهذا يكون ذكر الحق عبده باسم عام لجميع الفضائل اللائقة به ، التي تكون في مقابلة ذكر العبد ربه بالاسم الله ، فالذكر من العبد باستحضار والذكر من الحق بحضور ، لأنا مشهودون له معلومون ، وهو لنا معلوم لا مشهود ، فلهذا كان لنا الاستحضار وله الحضور ـ شروط الذكر ـ قوله تعالى : (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً). ما قيّد حال طهارة من حال ، فكما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ، أو قال : على طهارة] فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الحمد لله على كل حال] وقالت عائشة رضي الله عنها : [كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الله على جميع أحواله لا تمنعه إلا الجنابة] لذلك فإن الذكر في طريق الله لا يختص بالقول فقط ، بل تصرف العبد إذا رزق التوفيق في جميع حركاته ، لا يتحرك إلا في طاعة الله تعالى من واجب أو مندوب إليه ، ويسمى ذلك ذكرا لله ، أي لذكره في ذلك الفعل أنه لله بطريق القربة سمي ذكرا ، لذلك قالت عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنه كان يذكر الله على كل أحيانه] فعمّت جميع أحواله

٤٠٠