رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

له ذلك المثل ، فهو عينه من حيث ذلك الجامع ، وما هو عينه من حيث ما هو مثل ، ولذلك قال تعالى : (يَهْدِي اللهُ) بما ضربه لعباده من هذا النور بالمصباح (لِنُورِهِ) الممثّل به (مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فهذا مصباح مخصوص ما هو كل مصباح ، فلا ينبغي أن يقال : إن نور الله كالمصباح من كونه يكشف المصباح كل ما انبسط عليه نوره لصاحب بصر ، مثل هذا لا يقال : فإن الله ما ذكر ما ذكره من شروط هذا المصباح ونعوته وصفاته الممثل به سدى ، فمثل هذا المصباح هو الذي يضرب به المثل ، فإن الله يعلم كيف يضرب الأمثال ـ قراءة ـ العارف يقف في التلاوة على مصباح ثم يقول : (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) فيكون حديثه مع المصباح لا مع النور الإلهي ، والآية مثل لقلب المؤمن التقي النقي الورع ، فليس له عامر إلا الله ، والله هو النور لأنه نور السموات والأرض ، فمثل القلب بالمشكاة فيها مصباح وهو النور ، نور العلم بالله ، وما بقي من الكلام فإنما هو من تمام كمال النور الذي وقع به التشبيه ، ما هو من التشبيه ، فلا تغلط فتخطىء الطريق إلى ما أبان الحق عنه في هذه الآية ، فالقلب مشبه بالمشكاة والمشكاة الكوة ـ تفسير من مبشرة ـ رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام فقلت : قوله تعالى (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ) إلى آخر الآية ، ما هذه الشجرة؟ فقال : كنّى عن نفسه سبحانه ، لذلك نفى عنها الجهات ، فإنه لا يتقيد بالجهات ، والغرب والشرق كناية عن الفرع والأصل ، فهو الله خالق المواد وأصلها ، ولو لا هو ما كانت ـ في كلام طويل وتفصيل واضح.

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦)

ربط الله إقامة الصلوات المفروضة بأماكن وهي المساجد فقال : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي أمر الله أن ترفع حتى تتميز البيوت المنسوبة إلى الله من البيوت المنسوبة إلى المخلوقين (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) بالأذان والإقامة والتلاوة والذكر والموعظة (يُسَبِّحُ) يقول : يصلى (لَهُ فِيها) أي من أجل أن أمرهم الله بالصلاة فيها (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ـ الوجه الثاني ـ (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أمر الله تعالى برفع المساجد عما

٢٢١

يجوز من العمل في البيوت (يُسَبِّحُ) يصلي (لَهُ) لله (فِيهَا) في المساجد ، فهل ترفع عن دخول الكفار فيها ، هي مسئلة خلاف فيما يحرم من ذلك ، وأما تنزيهها عن ذلك على جهة الندب فلا خلاف فيه ، فمن خرج (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) أي أمر وحمله على الوجوب منع من دخول الكفار جميع المساجد المشركين وغيرهم ، وأما المسجد الحرام الذي بمكة فقد ورد النص بأن لا يقربه مشرك وأنه نجس ، فمن علل المنع بالنجاسة وجعل النجاسة لكفره وعلّل المسجد لكونه مسجدا منع الكفار كيفما كانوا من جميع المساجد ، ومن رأى أن ذلك خاص بالمسجد الحرام ، ولهذا خصّ بالذكر وأن ما عدا المشرك وإن كان كافرا لا يتنزل منزلته منع دخول المشرك المسجد الحرام وكل مسجد لقوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ) وجوز الدخول فيه لمن ليس بمشرك ، ومن أخذ بالظاهر ولم يعلل منع المشرك خاصة من المسجد الحرام خاصة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبس في المسجد في المدينة ثمامة بن أثال حين أسر وهو مشرك وهو الأوجه ، ولم يمنع غير المشرك من المسجد الحرام ومن المساجد ، ومنع المشرك من سائر المساجد أولى لقوله تعالى : (أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) إلا أن يقترن بذلك أمر وحالة فلا بأس ، وأما قوله تعالى في سورة البقرة : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) ففيه إباحة الدخول للكفار في المساجد على هذه الحالة من ظهور الإسلام عليهم.

(رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧)

(رِجالٌ) هنا له وجه تعلق يطلبه «يسبح» بالفاعلية ، ووجه يطلبه الابتداء بالمبتدئية ، وضمير (لا تُلْهِيهِمْ) يعود عليهم في الوجهين معا ، وقوله : (رِجالٌ) المراد بالرجال في هذه الآية والآيات الثلاث (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً) ما أراد بالرجال في هذه الآيات الذكران خاصة ، وإنما أراد الصنف الإنساني ذكرا أو أنثى ، فلم يذكر النساء لأن الرجل يتضمن المرأة ، فاكتفى بذكر الرجال دون النساء تشريفا للرجال وتنبيها على لحوق النساء بالرجال ، فسمّى النساء هنا رجالا ، فإن درجة الكمال لم تحجر عليهن ، بل يكملن كما تكمل الرجال ، وثبت في الخبر كمال مريم وآسية امرأة فرعون (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) لا تشغلهم تجارة فهم في تجارتهم في ذكر

٢٢٢

الله ، لأن التجارة على الحد المرسوم الإلهي من ذكر الله ، كما قالت عائشة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه كان يذكر الله على كل أحيانه ، مع كونه يمازح العجوز والصغير (وَلا بَيْعٌ) فالتجارة أن يبيع ويشتري معا ، والبيع أن يبيع فقط (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي لا يلهيهم شيء عن ذكر الله حين سمعوا المؤذن في هذا البيت يدعو إلى الله وهو حاجب الباب ، فقال لهم : [حيّ على الصلاة] أي أقبلوا على مناجاة ربكم ، فهؤلاء الرجال بادروا من بيعهم وتجارتهم المعلومة في الدنيا إلى هذا الذكر عند ما سمعوه ، ورد : المسجد بيت كل تقي ، فأضافه تعالى إلى المتقين من عباده وقد كان مضافا إلى الله تعالى ؛ واعلم أن القائلين بالأسباب إذا اعتمدوا عليها وتركوا الاعتماد على الله لحقوا بالأخسرين أعمالا ، وإذا أثبتوا الأسباب واعتمدوا على الله ولم يتعدوا فيها منزلتها التي أنزلها الله فيها ، فأولئك الأكابر من الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وأثبت لهم الحق الرجولة في هذا الموطن ، ومن شهد له الحق بأمر فهو على حق في دعواه إذا ادعاه (وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) الخائفون أثنى الله عليهم بالخوف ، فالتحقوا بالملأ الأعلى في هذه الصفة ، فإنه قال فيهم : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فمن كان بهذه المثابة تميز مع الملأ الأعلى ، ومن أدبهم مع الله أنهم خافوا اليوم لما يقع فيه لكون الله خوفهم منه ، ولما تحققوا بهذا الأدب أثنى الله عليهم بأنهم يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ، فهذا خوف الزمان ، وأما خوف الحال فهو قوله تعالى : (وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ) فأهل الأدب مع الله وفقوا له حيث وفقهم ، فإن كثيرا من الناس لا يتفطنون لهذا الأدب ولا يعرجون على ما خوفوا به من الأكوان وعلّقوا أمرهم بالله ، أوحى الله إلى رسوله موسى عليه‌السلام : يا موسى خفني وخف نفسك ـ يعني هواك ـ وخف من لا يخافني ـ وهم أعداء الله ـ ، فأمره بالخوف من غيره ، فامتثل الأدباء أمر الله ، فمشاهدة العقاب تمنع من الإدلال ، قال تعالى : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) وقال (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ).

(لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨)

٢٢٣

(وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) تلك الزيادة من جنات الاختصاص (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) عليه.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (٣٩)

ـ الوجه الأول ـ هذا مثل ضربه الله في أعمال الكفار فقال : (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) وذلك لظمئه ، لو لا ذلك ما حسبه ماء ، لأن الماء موضع حاجته ، فيلجأ إليه لكونه مطلوبه ومحبوبه ، لما فيه من سر الحياة ، فجعل الحق في عين الرائي صورة الماء ، وهو ليس بالماء الذي يطلبه الظمآن ، فتجلى له في عين حاجته (حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً) يعني الماء ، ونكّر وما قال الماء ، (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) أي عند السراب حين لم يجده شيئا ، يعني السراب ـ الوجه الثاني ـ (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) لمّا لم يكن السراب إلا في عين الرائي الطالب الماء ، فرجع هذا الرائي لنفسه لما لم يجد مطلوبه في تلك البقعة ، (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) لانقطاع الأسباب عنه فلجأ إليه في إغاثته بالماء أو المزيل لذلك الظمأ القائم به ، فما وجد الله إلا عند الاضطرار ، فإن المضطر يرجع إلى الله بكليته مثل الظمآن المضطر عند ما يسفر له السراب عن عدم الماء فيرجع إلى الله ولهذا قلنا : إذا لم تجد شيئا وجدت الله ، فإنه لا يوجد إلا عند عدم الأشياء التي يركن إليها ـ تحقيق ـ كل ما يعطيه الحس من المغاليط ليس على الحقيقة نسبة الغلط إلى الحس ، وإنما الغلط للحاكم ، وهو أمر آخر وراء الحس ـ تفسير من باب الإشارة ـ إذا اعتبرنا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي ستروا محبتهم ، وهم معطوفون على من سبقهم من الرجال في الآية السابقة ، وهؤلاء الذين ستروا محبتهم من المحبين ، فإن الحب يلطف أرواحهم لطافة السراب ، فإن السراب يحسبه الظمآن ماء لكونه مطلوبه ومحبوبه لما فيه من سر الحياة ، وقال (بِقِيعَةٍ) إشارة إلى مقام التواضع ، والظمآن إذا جاء السراب لم يجده شيئا ، وإذا لم يجده شيئا وجد الله عنده عوضا من الماء ، فكأن قصده حسا للماء ، والله يقصد به إليه من حيث لا يشعر ، فكما أنه تعالى يمكر بالعبد من حيث لا يشعر ، كذلك يعتني بالعبد في الالتجاء إليه والرجوع إليه والاعتماد عليه ، بقطع الأسباب عنه عند ما يبديها له من حيث لا يشعر ، فوجود الله عنده عند فقد الماء المتخيل له في السراب ، هو رجوعه

٢٢٤

إلى الله ، لما تقطعت به الأسباب ، وتغلقت دون مطلوبه الأبواب ، رجع إلى من بيده ملكوت كل شيء ، وهو كان المطلوب به من الله ، هذا فعله مع أحباه ، يردهم إليه اضطرارا واختيارا ، كذلك أرواح المحبين يحسبونها قائمة بحقوق الله التي فرضها عليها ، وأنها المتصرفة عن أمر الله ، محبة لله ، وشوقا إلى مرضاته ، ليراها حيث أمرها ، فإذا كشف لها الغطاء واحتد بصرها ، وجدت نفسها كالسراب في شكل الماء ، فلم تر قائما بحقوق الله إلا خالق الأفعال ، وهو الله تعالى ، فوجدت الله عين ما تخيلت أنه عينها ، فذهبت عينها عنها ، وبقي المشهود الحق بعين الحق ، كما فني السراب عن السراب ، والسراب مشهود لنفسه وليس بماء ، كذلك الروح موجود في نفسه وليس بفاعل ـ إشارة لا تفسير ـ إذا جئت إلى السراب لتجده كما أعطاك النظر لم تجده في شيئيته ما أعطاك النظر ، كذلك معرفتك بالله مثل معرفتك بالسراب أنه ماء ، فإذا به ليس ماء وتراه العين ماء ، فكذلك إذا قلت عرفت الله وتحققت بالمعرفة عرفت أنك ما عرفت الله ، فالعجز عن معرفته هو المعرفة به ، فإن المتعطش إلى العلم بالله يأخذ في النظر في العلم به ، فيفيده تقييد تنزيه أو تشبيه ، فإذا كشف الغطاء وهو حال وصول الظمآن إلى السراب لم يجده كما قيده فأنكره ، ووجد الله عنده غير مقيد بذلك التقييد الخاص ، بل له الإطلاق في التقييد ، فوفاه حسابه أي تقديره ، فكأنه أراد صاحب هذا الحال أن يخرج الحق من التقييد فقال له الحق بقوله : (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) لا يحصل لك في هذا المشهد إلا العلم بي أني مطلق عن التقييد.

(أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠)

(ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ظلمة الجو تقترن معها ظلمة البحر ، تقترن معها ظلمة الموج ، تقترن معها ظلمة تراكم الموج ، تقترن معها ظلمة السحاب التي تحجب أنوار الكواكب ، (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) فوصفه بأنه ما رآها ولا قارب رؤيتها ، فإنه نفى القرب بدخول لم على يكاد ، وهو حرف نفي وجزم يدخل على الأفعال المضارعة للأسماء

٢٢٥

فينفيها (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً) ـ الوجه الأول ـ (نُوراً) هنا من إيمانه (فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) في القيامة ـ الوجه الثاني ـ (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) وهو العلم ، والظلمة الجهل ، وشبهه الله تعالى هنا في هذه الآية بالظلمات فقال : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) وهو جهل على جهل ، وهو من جهل ولا يعلم أنه جهل ، فنفى عنه أنه يقارب رؤية يده ، فكيف أن يراها؟ وأدخل اليد هنا دون غيرها لأنها محل وجود الاقتدار ، وبها يقع الإيجاد ، أي إذا أخرج اقتداره ليراه لم يقارب رؤيته لظلمة الجهل ، لأنه لو رآه لرآه عين الاقتدار الإلهي ، فظلمة الليل ظلمة الطبع ، وظلمة البحر ظلمة الجهل وهو فقد العلم ، وظلمة الفكر ظلمة الموج ، وظلمة الموج المتراكم ظلمة تداخل الأفكار في الشبه ، وظلمة السحاب ظلمة الكفر ، فمن جمع هذه الظلمات فقد خسر خسرانا مبينا ـ الوجه الثالث ـ (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) لو لا النور ما وجد للممكن عين ولا اتصف بالوجود ، فنبهنا الله على ذلك بقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) فالنور المجعول في الممكن ما هو إلا وجود الحق لأنه هو النور ، وقد قال تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) وهو ما بقي من الممكنات في شيئية ثبوتها ، لا حكم لها في الوجود الحق ، فأزال الحق بنوره ظلمة الكون الحادث ـ الوجه الرابع ـ لما كان الأمر سفرا وسلوكا ، اجتمع نور البصر مع النور من خارج وهو نور الشرع ، فكشف ما في الطريق من المهالك والحيوانات المضرة ، فاجتنب كل ما يخاف منها ويحذر ، وسلك محجة بيضاء ما فيها مهلك ولا حيوان مضر (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) بعد أن ظهر مصباح الشرع لم ينطف ولا زال ، فمن استدبره وأعرض عنه مشى في ظلمة ذاته ، وتلك الظلمة ظلمته فيكون ممن جنى على نفسه بإعراضه عن الشرع واستدباره ، فهذا حكم من ترك الشرع واستقل بنظره.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) (٤١)

(أَلَمْ تَرَ) خاطب الحق رسوله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : (أَلَمْ تَرَ) ولم يقل : ألم تروا ؛

٢٢٦

فإنا ما رأينا ، فالمخاطب بهذه الآية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي أشهده وأراه ، فهو لنا إيمان وهو لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عيان ، فإنه صاحب الكشف حيث يرى ما لا نرى (أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا تسبيح فطري ذاتي عن تجل إلهي ، فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتي ، وهي العبادة الذاتية التي أقامهم الله فيها (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) اعلم أيدنا الله وإياك أن البهائم أمم من جملة الأمم ، لها تسبيحات تخص كل جنس وصلاة مثل ما لغيرها من المخلوقات ؛ فتسبيحهم ما يعلمونه من تنزيه خالقهم ، وأما صلاتهم فلهم مع الحق مناجاة خاصة ، فكل شيء من المخلوقات له كلام يخصه يعلمه الله ويسمعه من فتح الله سمعه لإدراكه ، وجميع ما يظهر من الحيوان من الحركات والصنائع التي لا تظهر إلا من ذي عقل وفكر وروية ، وما يرى في ذلك من الأوزان تدل على أن لهم علما في أنفسهم بذلك كله ، ثم نرى منهم أمورا تدلّ على أنهم ما لهم ما للإنسان من التدبير العام ، فتعارضت عند الناظرين في أمرهم الأمور ، فانبهم أمرهم ، وربما سموا لذلك بهائم من إبهام الأمر ، وما أتي على من أتي عليه إلا من عدم الكشف ، لذلك فلا يعرفون من المخلوقات إلا قدر ما يشاهدون منهم ، فالحيوانات كلها عندنا ذوات أرواح وعقول تعقل عن الله كل» أي كل هؤلاء (قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ) ـ الوجه الأول ـ الضمير يعود على الله من قوله صلاته ، أي صلاة الله عليه بنفس وجوده ورحمته به في ذلك ـ الوجه الثاني ـ الصلاة تضاف إلى كل ما سوى الله من جميع المخلوقات : ملك وإنسان وحيوان ونبات ومعدن بحسب ما فرضت عليه وعيّنت له ، فأضاف الله الصلاة في هذه الآية إلى الكل (تَسْبِيحَهُ) الضمير يعود في تسبيحه على «كل» أي ما يسبح ربه به وهو صلاته له ، والتسبيح في لسان العرب الصلاة. قال عبد الله بن عمر وهو من العرب ـ وكان لا يتنفل في السفر ـ فقيل له في ذلك ، فقال : لو كنت مسبحا أتممت ؛ وقال تعالى : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ) (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) ـ الوجه الثالث ـ إن الله ما خلق الأشياء من أجل الأشياء ، وإنما خلقها ليسبحه كل جنس من الممكنات بما يليق به من صلاة وتسبيح ، لتسري عظمته في جميع الأكوان وأجناس الممكنات وأنواعها وأشخاصها ، فالكل له تعالى ملك ، ولذلك نقول : إن الله تعالى خلق الأشياء له لا لنا ، وأعطى كل شيء خلقه ، وبإعادة الضمير في صلاته على الله وصف الحق نفسه بالصلاة ، وما وصف نفسه بالتسبيح ، فعمّ بهذه الآية

٢٢٧

العالم الأعلى والأسفل وما بينهما برحمته ، فإن صلاة الله هي رحمته.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٤٣)

السحاب يتكون من الماء يكون بخارا ، فتصعد الأبخرة للحرارة التي فيها فتتكون سحابا ، والله يزجي السحاب والعين تشهد أن الريح يزجيها ، فبما في السحاب من الماء يثقل فينزل ، كما صعد بما فيه من الحرارة ، فإن الأصغر يطلب الأعظم فإذا ثقل اعتمد على الهواء ، فانضغط الهواء فأخذ سفلا ، فحك وجه الأرض فتقوت الحرارة التي في الهواء ، فطلب الهواء بما فيه من الحرارة القوية الصعود يطلب الركن الأعظم ، فوجد السحاب متراكما فمنعه من الصعود تكاثفه فاشتعل الهواء ، فخلق الله في تلك الشعلة ملكا سماه برقا ، فأضاء به الجو ، ثم انطفأ بقوة الريح كما ينطفىء السراج ، فزال ضوءه مع بقاء عينه ، فزال كونه برقا ، وبقي العين كونا يسبح الله ، ثم صدع الوجه الذي يلي الأرض من السحاب ، فلما مازجه خلق الله من ذلك ملكا سماه رعدا ، فسبح بحمد الله ، فكان بعد البرق ، لا بد من ذلك ما لم يكن البرق خلبا ، فكل برق يكون على ما ذكرناه ، لا بد أن يكون الرعد يعقبه ، لأن الهواء يصعد مشتعلا فيخلقه ملكا يسميه برقا ، وبعد هذا يصدع أسفل السحاب فيخلق الله الرعد مسبحا بحمد ربه لما أوجده ، وثمّ بروق وهي ملائكة يخلقها الله في زمان الصيف من حرارة الجو لارتفاع الشمس ، فتنزل الأشعة الشمسية فإذا أحرقت ركن الأثير زادت حرارة ، فاشتعل الجو من أعلى وما ثمّ سحاب ، لأن قوة الحرارة تلطف الأبخرة الصاعدة على كثافتها ، فلا يظهر للسحاب عين ، فيخلق الله من ذلك الاشتعال بروقا خلّبا لا يكون معها رعد أصلا (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) لأن البرق نور شعشعاني تذهب أشعته بالأبصار.

٢٢٨

(يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) (٤٤)

قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) فالعالم في كل نفس في تحول وانقلاب في الشؤون الإلهية ، فهو تعالى المحول القلوب في الليل والنهار بما يقلبها ، وفي السماء بما يوحي فيها ، وفي الأرض بما يقدر فيها ، وفيما بينهما بما ينزل فيه ، وفينا بما نكون عليه ، وهو معنا أينما كنا فنتحول لتحوله ونتقلب لتقلبه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) لاختلاف الآثار ، وما ذاك إلا لاختلاف استعداد المحل ، ومن عرف ذلك عرف اختلاف الملل والنحل ، فمن نظر في حقائق الأشياء عاش عيشة السعداء.

(وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤٥)

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ) وهي الحيّات (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا على ما ليس بشيء ، فإن لا شيء ، لا يقبل الشيئية ، إذ لو قبلها ما كانت حقيقته لا شيء ، ولا يخرج معلوم عن حقيقته ، فلا شيء محكوم عليه بأنه لا شيء أبدا ، وما هو شيء ، محكوم عليه بأنه شيء أبدا ، ومن هنا تعلم شيئية الأعيان الثبوتية التي قال الله تعالى فيها : (إِذا أَرادَ شَيْئاً) قال له : (كُنْ فَيَكُونُ).

(لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥٠)

٢٢٩

(أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) الحيف ميل إلى عدم الحق.

(إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ

٢٣٠

وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٨)

أول درجات التكليف إذا كان سبع سنين إلى أن يبلغ الحلم ، والبلوغ بالسن أو الإنبات أو الحلم للعاقل ، فيجب التكليف على العاقل إذا بلغ. واعلم أن الروح الإنساني لما خلقه الله خلقه كاملا بالغا عاقلا عارفا مؤمنا بتوحيد الله مقرا بربوبيته ، وهو الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ثم إن الله تعالى جعل له في الجسم الذي جعله الله له ملكا واستوى عليه ، جعل فيه قوى وآلات حسية ومعنوية ، وقيل له : خذ العلوم منها وصرفها على حد كذا وكذا ، وجعلت له هذه الآلات على مراتب ، فالقوى المعنوية كلها قوى كاملة إلا قوة الخيال ، فإنها خلقت ضعيفة والقوة الحساسة ، وجعلت هاتان القوتان تابعة للجسم ، فكلما نما الجسم وكبر وزادت كميته كلما تقوى حسه وخياله ، فلم تكن لطيفة الإنسان من حيث ذاتها مدركة لما تعطيها هذه القوى إلا بوساطتها ، فلو اتفق أن تعطيها هذه القوى المعلومات من أول ما يظهر الولد في عالم الحس قبلها الروح الإنساني قبولا ذاتيا ، ألا ترى أن الله قد خرق العادة في بعض الناس في ذلك؟ مثل كلام عيسى في المهد وصبي جريج ، هذا سبب تأخير التكليف عن الروح الإنساني إلى الحلم الذي هو حد كمال هذه القوى في علم الله ، فلم يبق عند ذلك عذر للروح الإنساني في التخلف عن النظر والعمل بما كلفه ربه ، لذا قال تعالى :

(وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ

٢٣١

أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١)

أمر الله العبد إذا دخل بيتا خاليا من كل أحد أن يسلم على نفسه في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) فيكون العبد هنا مترجما عن الحق في سلامه ، لأنه قال : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً) فجعل الحق العبد رسولا من عنده إلى نفس العبد بهذه التحية المباركة لما فيها من زوائد الخير (طَيِّبَةً) لأنها طيبة الأعراف بسريانها من نفس الرحمن ، فأمرنا الله تعالى بالسلام علينا ، وهذا يدلك على أن الإنسان ينبغي أن يكون في صلاته أجنبيا عن نفسه بربه حتى يصح له أن يسلم عليه بكلام ربه في قوله : (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فإنه قال : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً) فهو سلام الله على عبده وأنت ترجمانه إليك ـ إشارة ـ المؤوف لا حرج عليه ، والعالم كله مؤوف لا حرج عليه لمن فتح الله عين بصيرته ، ولهذا قلنا : مآل العالم إلى الرحمة وإن سكنوا النار وكانوا من أهلها (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) وما ثمّ إلا هؤلاء ، فما ثمّ إلا مؤوف ، فقد رفع الله الحرج بالعرج العاثر فيه ، فإنه ما ثمّ سواه ولا أنت ، والمريض المائل إليه ، لأنه ما ثمّ موجود يمال إليه إلا هو ، والأعمى عن غيره لا عنه ، لأنه لا يتمكن العمى عنه وما ثمّ إلا هو ، فالعالم كله أعمى أعرج مريض.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ

٢٣٢

رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٦٤)

(٢٥) سورة الفرقان مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١)

اعلم أن الله أنزل الكتاب فرقانا في ليلة القدر ، ليلة النصف من شعبان ، وأنزله قرآنا في شهر رمضان ، كل ذلك إلى السماء الدنيا ، ومن هناك نزل في ثلاث وعشرين سنة فرقانا نجوما ذا آيات وسور ، لتعلم المنازل ، وتتبين المراتب ، فمن نزوله إلى الأرض في شهر شعبان يتلى فرقانا ، ومن نزوله في شهر رمضان يتلى قرآنا.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٢)

أول أثر إلهي في الخلق التقدير ، لذلك قال تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) وأعلم أن الجوهر الثابت هو العماء ، وليس إلا نفس الرحمن ، والعالم جميع ما ظهر فيه من الصور فهي أعراض فيه ، وأما نضده على الظهور والترتيب ، فأرواح نورية إلهية مهيمة في صور نورية خلقية إبداعية في جوهر نفس هو العماء ، ومن جملتها العقل الأول ، وهو القلم ،

٢٣٣

ثم النفس وهو اللوح المحفوظ ، ثم الجسم ، ثم العرش ومقره وهو الماء الجامد والهواء والظلمة ، ثم ملائكته ، ثم الكرسي ، ثم ملائكته ، ثم الأطلس ، ثم ملائكته ، ثم فلك المنازل ، ثم الجنات بما فيها ، ثم ما يختص بها وبهذا الفلك من الكواكب ، ثم الأرض ، ثم الماء ، ثم الهواء العنصري ، ثم النار ، ثم الدخان وفتق فيه سبع سموات : سماء القمر ، وسماء الكاتب ، وسماء الزهرة ، وسماء الشمس ، وسماء الأحمر ، وسماء المشتري ، وسماء المقاتل ، ثم أفلاكها المخلوقون منها ، ثم ملائكة النار والماء والهواء والأرض ، ثم المولدات المعدن والنبات والحيوان ، ثم نشأة جسد الإنسان ، ثم ما ظهر من أشخاص كل نوع من الحيوان والنبات والمعدن ، ثم الصور المخلوقات من أعمال المكلفين وهي آخر نوع ، هذا ترتيبه بالظهور في الإيجاد. وأما ترتيبه بالمكان الوجودي أو المتوهم ، فالمكان المتوهم المعقولات التي ذكرناها إلى الجسم الكل ، ثم العرش ، ثم الكرسي ، ثم الأطلس ، ثم المكوكب ـ وفيه الجنات ـ ثم سماء زحل ، ثم سماء المشتري ، ثم سماء المريخ ، ثم سماء الشمس ، ثم سماء الزهرة ، ثم سماء الكاتب ، ثم سماء القمر ، ثم الأثير ، ثم الهواء ، ثم الماء ، ثم الأرض. وأما ترتيبه بالمكانة : فالإنسان الكامل ، ثم العقل الأول ، ثم الأرواح المهيمة ، ثم النفس ، ثم العرش ، ثم الكرسي ، ثم الأطلس ، ثم الكثيب ، ثم الوسيلة ، ثم عدن ، ثم الفردوس ، ثم دار السلام ، ثم دار المقامة ، ثم المأوى ، ثم الخلد ، ثم النعيم ، ثم فلك المنازل ، ثم البيت المعمور ، ثم سماء الشمس ، ثم القمر ، ثم المشتري ، ثم زحل ، ثم الزهرة ، ثم الكاتب ، ثم المريخ ، ثم الهواء ، ثم الماء ، ثم التراب ، ثم النار ، ثم الحيوان ، ثم النبات ، ثم المعدن. وفي الناس : الرسل ، ثم الأنبياء ، ثم الأولياء ، ثم المؤمنون ، ثم سائر الخلق. وفي الأمم : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم أمة موسى عليه‌السلام ، ثم الأمم على منازل رسلها ، فنقول بعد هذا الإيجاز : إنه لما شاء سبحانه أن يوجد الأشياء من غير موجود ، وأن يبرزها في أعيانها بما تقتضيه من الرسوم والحدود ، لظهور سلطان الأعراض والخواص والفصول والأنواع والأجناس ، الدافعين شبه الشكوك ، والرافعين حجب الالتباس ، بوسائط العبارات الشارحة ، والصفات الرسمية والذاتية ، النيرة النبراس ، انجلى في صورة العلم صور الجواهر المتماثلات والأعراض المختلفات والمتماثلات والمتقابلات ، وفصل بين هذه الذوات بين المتحيزات منها وغير المتحيزات ، كما انجلى في ذوات الأعراض والجواهر صور الهيئات والحالات ، بالكيفيات وصور المقادير والأوزان المتصلات

٢٣٤

والمنفصلات بالكميات ، وصور الأدوار والحركات الزمانيات ، وصور الأقطار والأكوار المكانيات ، والصور الحافظات الماسكات نظام العالم ، الحاملات أسباب المناقب والمثالب العرضيات ، وأسباب المدائح أو المذام الشرعيات ، وأسباب الصلاح والفساد الوضعيات الحكميات ، وصور الإضافات بين المالك والمملوك ، والآباء والأبناء والبنات ، وصور التمليك بالعبيد والإماء الخارجات ، والحسن والجمال والعلم وأمثال ذلك الداخلات ، وصور التوجهات الفعلية القائمة بالفاعلات ، وصور المنفعلات التي هي بالفعل والفاعلات مرتبطات ، وقال عند ما جلّاها بالشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ، والنهار إذا جلّاها والليل إذا يغشاها ، والسماء وما بناها ، والأرض وما طحاها. هذه حقائق الآباء العلويات ، والأمهات السفليات ، ولها البقاء بالإبقاء ، مع استمرار التكوينات والتلوينات بالتغيير والاستحالات ، ليثبت عندها علم ما هي الحضرة الإلهية عليه من العزة والثبات ، فهذا هو الذي أبرز سبحانه من المعلومات ، ولا يجوز غير ذلك فإنه لم يبق سوى الواجبات والمحالات. فأول موجود أداره سبحانه فلك الإشارات إدارة إحاطة معنوية ، وهو أول الأفلاك الممكنات المحدثات المعقولات ، وأول صورة ظهر في هذا الفلك العمائي صور الروحانيات المهيمات ، الذي منها القلم الإلهي الكاتب العلام في الرسالات ، وهو العقل الأول الفياض في الحكميات والإنباءات ، وهو الحقيقة المحمدية ، والحق المخلوق به ، والعدل ، عند أهل اللطائف والإشارات ، وهو الروح القدسي الكل ، عند أهل الكشوف والتلويحات ، فجعله عالما حافظا باقيا تاما كاملا فياضا كاتبا من دواة العلم ، تحركه يمين القدرة عن سلطان الإرادة والعلوم الجاريات إلى نهايات ، وهو مستوى الأسماء الإلهيات. ثم أدار معدن فلك النفوس دون هذا الفلك وهو اللوح المحفوظ في النبوات ، وهو النفس المنفعلة عند أصحاب الإدراكات والإشارات والمكاشفات ، فجعلها باقية تامة غير كاملة وفائضة غير مفيضة فيض العقل ، فهي في محل القصور والعجز عن بلوغ الغايات ، ثم أوجد الهباء في الكشف ، والهيولى في النظر ، والطبيعة في الأذهان ، لا في الأعيان ، فأول صورة أظهر في ذلك الهباء صور الأبعاد الثلاثة فكان المكان ، فوجه عليه سبحانه سلطان الأربعة الأركان ، فظهرت البروج الناريات والترابيات والهوائيات والمائيات ، فتميزت الأكوان ، وسمى هذا الجسم الشفاف اللطيف المستدير المحيط بأجسام العالم ، العرش العظيم الكريم ،

٢٣٥

واستوى عليه باسمه الرحمن ، استواء منزها عن الحد والمقدار ، معلوما عنده غير مكيف ولا معلوم للعقول والأذهان ، ثم أدار سبحانه في جوف هذا الفلك الأول فلكا ثانيا ، سماه الكرسي ، فتدلت إليه القدمان ، فانفرق فيه كل أمر حكيم بتقدير عزيز عليم ، وعنده أوجد الخيرات الحسان ، والمقصورات في خيام الجنان ، ثم رتب فيه منازل الأمور كلها ، وأحكمها في روحانيات سخرها وحكّمها بالتأثيرات السبعية من ألف إلى ساعة عن اختلاف الملوان ، وجعل هذه المنازل بين وسط ممزوج ، وطرفي سعد مستقر ، ونحس مستمر ، بنزول المقدر المفرد الإنسان ، ثم أدار سبحانه في جوف هذا الفلك الثاني فلكا ثالثا ، وخلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ، مسخرا فقيرا ، أودع لديه كل أسود حالك ، وقرن به ضيق المسالك ، والوعر والحزن والكرب والحزن وحسرات الفوت ، وسكرات الموت ، وأسرار الظلمات ، والمفازات المهلكات ، والأشجار المثمرات ، والأفاعي والحيات ، والحيوانات المضرات ، والحرات الموحشات ، والطرق الدارسات ، والعنا والمشقات ، وخلق عند مساعدته النفس الكلية الجبال ، لتسكين الأرضين المدحيات ، وأسكن في هذا الفلك روحانية خليله إبراهيم عليه‌السلام ، عبده ورسوله. ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا رابعا ، خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ، أودع لديه النخل الباسقات ، والعدل في القضايا والحكومات ، وأسباب الخير والسعادات ، والبيض الحسان المنعمات ، والاعتدالات والتمامات ، وأسرار العبادات والقربات ، والصدقات البرهانيات ، والصلوات النوريات ، وإجابة الدعوات ، والناظرين إلى الواقفين بعرفات ، وقبول النسك بموضع رمي الجمرات ، وخلق عند مساعدته النفس الكلية تحليل المياه الجامدات ، وأسكن في هذا الفلك روحانية نبيه موسى عليه‌السلام عبده ونجيه. ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا خامسا ، خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ، أودع لديه حماية المذاهب بالقواضب المرهفات ، والموازن السمهريات ، وتجميز قدور راسيات ، وملء جفون كالجوابي المستديرات ، والتعصبات والحميات ، وإيقاع الفتن والحروب بين أهل الهدايات والضلالات ، وتقابل الشبه المضلات ، والأدلة الواضحات بين أهل العقول السليمة والتخيلات ، وخلق عند مساعدته النفس الكل لتلطيف الأهوية السخيفات ، وأسكن في هذا الفلك روح رسوليه هارون ويحيى عليهما‌السلام موضحي سبيليه. ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا سادسا ،

٢٣٦

خلق فيه كوكبا عظيما مشرقا سابحا ، وأودع لديه أسرار الروحانيات ، والأنوار المشرقات ، والضياآت اللامعات ، والبروق الخاطفات ، والشعاعات النيرات ، والأجساد المستنيرات ، والمراتب الكاملات ، والاستواآت المعتدلات ، والمعارف اللؤلؤيات واليواقيت العاليات ، والجمع بين الأنوار والأسرار الساريات ، ومعالم التأسيسات ، وأنفاس النور الجاريات ، وخلع الأرواح المدبرات ، وإيضاح الأمور المبهمات ، وحل المسائل المشكلات ، وحسن إيقاع السماع في النغمات ، وتوالي الواردات ، وترادف التنزلات الغيبيات ، وارتقاء المعاني الروحانيات ، إلى أوج الانتهاآت ، ودفع العلل بالعلالات النافعات ، والكلمات المستحسنات ، والأعراف العطريات ، وأمثال ذلك مما يطول ذكره ، وخلق عند مساعدته النفس الكل تحريك الفلك الأثير لتسخين العالم بهذه الحركات ، وأسكن في هذا الفلك إدريس النبي ، المخصوص بالمكان العلي. ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا سابعا خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ، أودع لديه التصوير التام ، وحسن النظام ، والسماع الشهي ، والمنظر الرائق البهي ، والهيبة والجمال ، والانس والجلال ، وخلق عند مساعدته النفس الكل تقطير ماء رطب في كل ركن البخارات ، وأسكن في هذا الفلك روحانية النبي الجميل يوسف عليه‌السلام. ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا ثامنا ، خلق فيه كوكبا سابحا من الخنس الكنس ، أودع لديه الأوهام والإيهام ، والوحي والإلهام ، ومهالك الآراء الفاسدة والقياسات ، والأحلام الرديئة والمبشرات ، والاختراعات الصناعيات والاستنباطات العمليات ، وما في الأفكار من الغلطات والإصابات ، والقوى الفاعلات والوهميات ، والزجر والكهانات والفراسات ، والسحر والعزائم والطلسميات ، وخلق عند مساعدته النفس الكل مزج البخارات الرطبة بالبخارات اليابسات ، وأسكن في هذا الفلك روحانية روحه وكلمته عيسى عليه‌السلام عبده ورسوله وابن أمته. ثم أدار في جوف هذا الفلك فلكا آخر تاسعا خلق فيه كوكبا سابحا أودع الله لديه الزيادة والنقصان ، والربو والاستحالات بالاضمحلالات ، وخلق عند مساعدته النفس الكل إمداد المولدات بركن العصارات ، وأسكن في هذا الفلك روحانية نبيه آدم عليه‌السلام عبده ورسوله وصفيه ، وأسكن هذه الأفلاك المستديرات أصناف الملائكة الصافات التاليات ، فمنها القائمات والقاعدات ، ومنها الراكعات والساجدات ، كما قال تعالى إخبارا عنهم (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ

٢٣٧

مَعْلُومٌ) فهم عمار السموات ، وجعل منهم الأرواح المطهرات ، المعتكفين بأشرف الحضرات ، وجعل منهم الملائكة المسخرات ، والوكلاء على ما يخلقه الله من التكوينات ، فوكل بالأرجاء الزاجرات والأنباء المرسلات ، وبالإلهام واللمات الملقيات ، وبالتفصيل والتصوير والترتيب المقسمات ، وبالترغيب والترحيب الناشرات ، وبالترهيب الناشطات ، والتشتيت النازعات ، وبالسوق السابحات ، وبالاعتناء السابقات ، وبالأحكام المدبرات. ثم أدار في جوف هذا الفلك كرة الأثير ، أودع فيها رجوم المسترقات الطارقات ، ثم جعل دونه كرة الهواء أجرى فيه الذاريات العاصفات ، السابقات الحاملات المعصرات ، وموّج فيه البحور الزاخرات الكائنات من البخارات المستحيلات ، ويسمى دائرة كرة الزمهرير ، تتعلم منه صناعة التقطير ، وأمسك في هذه الكرة أرواح الأجسام الطائرات ، وأظهر في هاتين الكرتين الرعود القاصفات ، والبروق الخاطفات ، والصواعق المهلكات ، والأحجار القاتلات ، والجبال الشامخات ، والأرواح الناريات الصاعدات النازلات ، والمياه الجامدات. ثم أدار في جوف هذه الكرة كرة أودع فيها سبحانه ما أخبرنا به في الآيات البينات ، من أسرار إحياء الموات ، وأجرى فيها الأعلام الجاريات ، وأسكنها الحيوانات الصامتات ، ثم أدار في جوفها كرة أخرى أودع فيها ضروب التكوينات من المعادن والنباتات والحيوانات ، فأما المعادن فجعلها عزوجل ثلاث طبقات : منها المائيات والترابيات والحجريات ، وكذلك النبات : منها النابتات والمغروسات والمزروعات ، وكذلك الحيوانات : منها المولدات المرضعات والحاضنات والمعفنات ، ثم كون الإنسان مضاهيا لجميع ما ذكرناه من المحدثات ، ثم وهبه معالم الأسماء والصفات ، فمهدت له هذه المخلوقات المعجزات ، ولهذا كان آخر الموجدات ، فمن روحانيته صح له سر الأولية في البدايات ، ومن جسميته صح له الآخرية في الغايات ، فبه بدء الأمر وختم ، إظهارا للعنايات وأقامه خليفة في الأرض ، لأن فيها ما في السموات ، وأيده بالآيات والعلامات والدلالات والمعجزات ، واختصه بأصناف الكرامات ، ونصب به القضايا المشروعات ، ليميز الله به الخبيثات من الطيبات ، فيلحق الخبيث بالشقاوات في الدركات ، ويلحق الطيب بالسعادات في الدرجات ، كما سبق في القبضتين اللتين هما صفتان للذات ، فسبحان مبدىء هذه الآيات ، وناصب هذه الدلالات ، على أنه واحد قهار الأرض والسموات.

٢٣٨

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) (٣)

من اتخذ إلها من غير دعوى منه ، بل هو في نفسه عبد ، غير راض بما نسب إليه ، وعاجز عن إزالة ما ادعي فيه ، فإنه مظلوم حيث سلب عنه هذا المدعي ما يستحقه ، وهو كونه عبدا ، فظلمه فينتصر الله له لا لنفسه ، فاتخاذ الشريك من مظالم العباد.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (١٣)

٢٣٩

(وَإِذا أُلْقُوا مِنْها) يعني من جهنم (مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) فإن النفوس تكون في أشد ألم ، وأضيق حبس ، إذا شقيت وحبست في المكان الضيق ، لأن الأرواح من عالم السعة والانفساح بالأصل ، فإذا انحصرت في هذا العالم الضيق بما اكتسبت كان الضيق عليها أشد عذابا ، فإن الضيق نقيض الرحمة. والثبور الهلاك.

(لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) (١٤)

ثبورا لا يتناهى ، فإن عذابكم لا يتناهى.

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) (١٧)

النجاة مطلوبة لكل نفس ولأهل كل ملة ، فهي محبوبة للجميع ، غير أنهم لما جهلوا الطريق الموصل إليها فكل ذي نحلة وملة يتخيل أنه على الطريق الموصل إليها ، فالقدح الذي يقع بين أهل الملل والنحل إنما هو من جهة الطرق التي سلوكها للوصول إليها ، لا من جهتها ، ولو علم المخطىء طريقها أنه على خطأ ما أقام عليه.

(قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) (١٩)

الظلم هنا الذي جاء في قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) وليس إلا الظلم الذي قال فيه لقمان لابنه (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) كذا فسره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٢٤٠