رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٠)

اعلم أن الذات الإلهية منزهة عن أن يكون لها بعالم الكون والخلق والأمر مناسبة أو تعلق بنوع ما من الأنواع ، لأن الحقيقة تأبى ذلك ، مع كون أصل الأشياء كلها وجود الحق تعالى ، إذ لو لم يكن هذا الأصل الإلهي موجودا ، والحق المخلوق به معقولا ، لما صح هذا الفرع المحدث الكائن بعد أن لم يكن ، ولما تصور ، فإذا نظرنا العالم على ما هو عليه ، وعرفنا حقيقته ومورده ومصدره ، ونظرنا ما الحاكم المؤثر في هذا العالم ، نجد أن الأسماء الحسنى ظهرت في العالم كله ظهورا لا خفاء به كليا ، وحصلت فيه آثارها وأحكامها لا بذواتها ولكن بأمثالها لا بحقائقها لكن برقائقها.

إيجاز البيان بضرب من الإجمال : بدء الخلق الهباء وأول موجود فيه الحقيقة المحمدية الرحمانية ، ولا أين يحصرها لعدم التحيز ـ ومم وجد؟ وجد من الحقيقة المعلومة التي لا تتصف بالوجود ولا بالعدم ـ وفيم وجد؟ في الهباء ـ وعلى أي مثال وجد؟ على الصورة المعلومة في نفس الحق ـ ولم وجد؟ لإظهار الحقائق الإلهية ، فأوجد العالم سبحانه ليظهر سلطان الأسماء ، فإن قدرة بلا مقدور ، وجودا بلا عطاء ، ورزّاقا بلا مرزوق ، ومغيثا بلا مغاث ، ورحيما بلا مرحوم ، حقائق معطلة التأثير ـ وما غايته؟ التخلص من المزجة فيعرف كل عالم حظه من منشئه من غير امتزاج ، فغايته إظهار حقائقه ، ومعرفة أفلاك الأكبر من العالم وهو ما عدا الإنسان ، والعالم الأصغر يعني الإنسان ، روح العالم وعلته وسببه

٣٢١

وأفلاكه ومقاماته وحركاته وتفصيل طبقاته.

ونظمنا في ترتيب نضد العالم.

الحمد لله الذي بوجوده

ظهر الوجود وعالم الهيمان

والعنصر الأعلى الذي بوجوده

ظهرت ذوات عوالم الإمكان

من غير ترتيب فلا متقدم

فيه ولا متأخر بالآن

حتى إذا شاء المهيمن أن يرى

ما كان معلوما من الأكوان

فتح القدير عوالم الديوان

بوجود روح ثم روح ثان

ثم الهباء كذا الهيولى ثم جسم قابل

لعوالم الأفلاك والأركان

فأداره فلكا عظيما واسمه الع

رش الكريم ومستوى الرحمن

يتلوه كرسي انقسام كلامه

فتلوح من أقسامه القدمان

من بعده فلك البروج وبعده

فلك الكواكب مصدر الأزمان

ثم النزول مع الخلاء لمركز

ليقيم فيه قواعد البنيان

فأدار أرضا ثم ماء فوقه

كرة الهواء وعنصر النيران

من فوقه فلك الهلال وفوقه

فلك يضاف لكاتب الديوان

من فوقه فلك لزهرة فوقه

فلك الغزالة مصدر الملوان

من فوقه المريخ ثم المشتري

ثم الذي يعزى إلى كيوان

ولكل جسم ما يشاكل طبعه

خلق يسمى العالم النوراني

فهم الملائكة الكرام شعارهم

حفظ الوجود من اسمه المحسان

فتحركت نحو الكمال فولدت

عند التحرك عالم الشيطان

ثم المعادن والنبات وبعده

جاءت لنا بعوالم الحيوان

والغاية القصوى ظهور جسومنا

في عالم التركيب والأبدان

لما استوت وتعدلت أركانه

نفخ الإله لطيفة الإنسان

وكساه صورته فعاد خليفة

يعنو له الأملاك والثقلان

وبدورة الفلك المحيط وحكمه

أبدى لنا في عالم الحدثان

في جوف هذا الأرض ماء أسودا

نتنا لأهل الشرك والطغيان

٣٢٢

يجري على متن الرياح وعندها

ظلمات سخط القاهر الديان

دارت بصخرة مركز سلطانه

الروح الإلهي العظيم الشان

فهذا ترتيب الوضع الذي أنشأ الله عليه العالم ابتداء ، واعلم أن التفاضل في المعلومات على وجوه ، أعمها التأثير ، فكل مؤثر أفضل من أكثر المؤثر فيه ، من حيث ذلك التأثير خاصة ، وقد يكون المفضول أفضل منه من وجه آخر ، وكذلك فضل العلة على معلولها ، والشرط على مشروطه ، والحقيقة على المحقق ، والدليل على المدلول من حيث ما هو مدلول لا من حيث عينه ، وقد يكون الفضل بعموم التعلق على ما هو أخص تعلقا منه كالعالم والقادر ، ولما كان الوجود كله فاضلا مفضولا ، أدى ذلك إلى المساواة ، وأن يقال : لا فاضل ولا مفضول ، بل وجود شريف كامل ، تام لا نقص فيه ، ولا سيما وليس في المخلوقات على اختلاف ضروبها أمر إلا وهو مستند إلى حقيقة ونسبة إلهية ، ولا تفاضل في الله ، لأن الأمر لا يفضل نفسه ، فلا مفاضلة بين العالم من هذا الوجه ، وهو الذي يرجع إليه الأمر من قبل ومن بعد ، وعليه عوّل أهل الجمع والوجود وبهذا سموا أهل الجمع لأنهم أهل عين واحدة كما قال تعالى : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) فمن كشف الأمر على ما هو عليه علم ما ذكرناه في ترتيب العالم [راجع سورة الفرقان الآية ٢].

(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ

٣٢٣

وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧)

إسحق عليه‌السلام موهوب من غير سؤال ، وإسماعيل عليه‌السلام جمع له بين الكسب والوهب ، فهو مكسوب من جهة سؤال إبراهيم عليه‌السلام (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) موهوب من جهة الفداء (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) وهو قول كل نبي (إن أجري إلا على على الله) أجر التبليغ فآتاه الله أجره في الدنيا بأن نجاه من النار ، فجعلها عليه بردا وسلاما (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) للأجر ما نقصه كونه في الدنيا قد حصله بما يناله في الآخرة شيء. ولما كان الصلاح من خصائص العبودية ، وذكر تعالى عن أنبيائه أنهم من الصالحين ، ذكر عن إبراهيم الخليل (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) من أجل الثلاثة الأمور التي صدرت منه في الدنيا ، وهي قوله عن زوجته سارة : إنها أخته بتأويل ، وقوله : إني سقيم اعتذارا ، وقوله : بل فعله كبيرهم إقامة حجة ، فبهذه الثلاثة يعتذر يوم القيامة للناس إذا سألوه أن يسأل ربه فتح باب الشفاعة ، فلهذا ذكر صلاحه في الآخرة إذ لم يؤاخذه بذلك.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٢٩)

وذلك مبالغة منهم في التكذيب ، إذ لو احتمل عندهم صدق الرسول ما قالوا مثل هذا القول ، فإن النفوس قد جبلت على جلب المنافع ودفع المضار عنها ..

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ

٣٢٤

بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها

٣٢٥

لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ) (٤٣)

الأمثال ما جاءت مطلوبة لأنفسها ، وإنما جاءت ليعلم منها ما ضربت له ، وما نصبت من أجله ، فهي كآيات الاعتبار كلها من القرآن ، وما خلق الله العالم الخارج عن الإنسان إلا ضرب مثال للإنسان ، ليعلم أن كل ما ظهر في العالم هو فيه ، والإنسان هو العين المقصودة ، فهو مجموع الحكم ، ومن أجله خلقت الجنة والنار ، والدنيا والآخرة ، والأحوال كلها والكيفيات ، وفيه ظهر مجموع الأسماء الإلهية ، وآثارها (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) اعلم أيدك الله أن العالم من علم علم الظاهر والباطن ، ومن لم يجمع بينهما فليس بعالم خصوصي ولا مصطفى ، وسبب ذلك أن حقيقة العلم تمنع صاحبها أن يقوم في أحواله بما يخالف علمه ، فكل من ادعى علما وعمل بخلافه في الحال الذي يجب عليه عقلا وشرعا العمل به فليس بعالم ، ولا ظاهر بصورة عالم ، ولا تغالط نفسك فإن وبال ذلك ما يعود على أحد إلا عليك ، فإن قلت : قد نجد من يعلم ولا يرزق التوفيق للعمل بعلمه ، فقد يكون العلم ولا عمل ، قلنا : هذا غلط من القائل به ، ولتعلم أن مسمى العلم ينطلق اسمه على ما هو علم وما ليس بعلم ، وما نرى أحدا يتوقف بالعمل فيما يزعم أنه عالم به إلا وفي نفسه احتمال ، ومن قام له في شيء احتمال فليس بعالم به ، ولا بمؤمن بمن أخبره بذلك إيمانا يوجب له العلم ، مع أنك لو سألته لقال لك : ما نشك أن ما جاء به هذا الشخص حق ، يعني الرسول عليه‌السلام ، وأنا به مؤمن ، فهذا قول ليس بصحيح إلا في وقت دعواه عند بعض الناس ، ثم إذ خلي بفكره قام معه الاحتمال فكان ذلك الذي تخيل أنه علم أمرا عرض له ، فالعلم يعطي العمل من خلف حجاب رقيق ، ألا ترى أن الله تعالى ما نصب الآيات وكثرها إلا ليحصل بها العلم ، لعلمه أن العلم إذا حصل لزم العمل فالعالم هو صاحب الفهم عن الله بحكم آيات الله وتفاصيلها ، وكل من ادعى علما من غير عمل فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب عمل ، وما تلا عليك سبحانه كلامه إلا لتعقل عنه إن كنت عالما.

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤٤)

اعلم أن الأشياء على ثلاث مراتب لا رابع لها ، والعلم لا يتعلق بسواها ، وما عداها

٣٢٦

فعدم محض لا يعلم ولا يجهل ولا هو متعلق بشيء ، فإذا فهمت هذا فنقول إن هذه الأشياء الثلاثة منها ما يتصف بالوجود لذاته فهو موجود بذاته في عينه لا يصح أن يكون وجوده عن عدم ، بل هو مطلق الوجود لا عن شيء فكان يتقدم عليه ذلك الشيء ، بل هو الموجد لجميع الأشياء وخالقها ومقدرها ومفصلها ومدبرها ، وهو الوجود المطلق الذي لا يتقيد سبحانه ، وهو الله الحي القيوم العليم المريد القدير الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، ومنها موجود بالله تعالى وهو الوجود المقيد المعبر عنه بالعالم : العرش والكرسي والسموات العلى وما فيها من العالم والخلق والأرض وما فيها من الدواب والحشرات والنبات وغير ذلك من العالم ، فإنه لم يكن موجودا في عينه ثم كان ، من غير أن يكون بينه وبين موجده زمان يتقدم به عليه فيتأخر هذا عنه ، فيقال فيه : بعد أو قبل ، هذا محال ؛ وإنما هو متقدم بالوجود كتقدم أمس على اليوم ، فإنه من غير زمان لأنه نفس الزمان ، فعدم الزمان لم يكن في وقت ، لكن الوهم يتخيل أن بين وجود الحق ووجود الخلق امتدادا ، وذلك راجع لما عهده في الحس من التقدم الزماني بين المحدثات وتأخره ، وأما الشيء الثالث فما لا يتصف بالوجود ولا بالعدم ولا بالحدوث ولا بالقدم ، وهو مقارن للأزلي الحق أزلا فيستحيل عليه أيضا التقدم الزماني على العالم والتأخر ، كما استحال على الحق وزيادة لأنه ليس بموجود ، فإن الحدوث والقدم أمر إضافي يوصل إلى العقل حقيقة ما. وذلك أنه لو زال العالم لم نطلق على الواجب الوجود قديما ، وإن كان الشرع لم يجىء بهذا الاسم أعني القديم وإنما جاء باسمه الأول والآخر ، فإذا زلت أنت لم يقل : أولا ولا آخرا إذ الوسط العاقد الأولية والآخرية ليس ثمّ ، فلا أول ولا آخر ، وهكذا الظاهر والباطن وأسماء الإضافات كلها ، فيكون موجودا مطلقا من غير تقييد بأولية أو آخرية ، وهذا الشيء الثالث الذي لا يتصف بالوجود ولا بالعدم مثله في نفي الأولية والآخرية بانتفاء العالم كما كان الواجب الوجود سبحانه ، وكذلك لا يتصف بالكل ولا بالبعض ، ولا يقبل الزيادة والنقص وأما قولنا فيه كما استحال على الحق وزيادة ، فتلك الزيادة كونه لا موجودا ولا معدوما ، فلا يقال فيه : أول وآخر ، وكذلك لنعلم أيضا أن هذا الشيء الثالث ليس العالم يتأخر عنه أو يحاذيه بالمكان ، إذ المكان من العالم ، وهذا أصل العالم وأصل الجوهر الفرد وفلك الحياة والحق المخلوق به وكل ما هو عالم من الموجود المطلق ، وعن هذا الشيء الثالث ظهر العالم ، فهذا

٣٢٧

الشيء هو حقيقة حقائق العالم الكلية المعقولة في الذهن الذي يظهر في القديم قديما ، وفي الحادث حادثا ، فإن قلت : هذا الشيء هو العالم صدقت وإن قلت : إنه الحق القديم سبحانه صدقت ، وإن قلت : إنه ليس العالم ولا الحق تعالى وأنه معنى زائد صدقت ، كل هذا يصح عليه ، وهو الكلي الأعم الجامع الحدوث والقدم ، وهو يتعدد بتعدد الموجودات ، ولا ينقسم بانقسام الموجودات ، وينقسم بانقسام المعلومات ، وهو لا موجود ولا معدوم ، ولا هو العالم وهو العالم ، وهو غير ولا هو غير ، لأن المغايرة في الوجودين والنسبة انضمام شيء ما إلى شيء آخر ، فيكون منه أمر آخر يسمى صورة ما والانضمام نسبة ، فهذا الشيء الذي نحن بسبيله لا يقدر أحد أن يقف على حقيقته عبارة ، لكن نومىء إليه بضرب من التشبيه والتمثيل ، فنقول : نسبة هذا الشيء الذي لا يحد ولا يتصف بالوجود ولا بالعدم ، ولا بالحدوث ولا بالقدم ، إلى العالم كنسبة الخشبة إلى الكرسي والتابوت والمنبر والمحمل ، والفضة إلى الأواني والآلات التي تصاغ منها كالمكحلة والقرط والخاتم ، فبهذا تعرف تلك الحقيقة ، فخذ هذه النسبة ولا تتخيل النقص فيه كما تتخيل النقص في الخشبة بانفصال المحبرة عنها ، واعلم أن الخشبة صورة مخصوصة في العودية ، فلا تنظر أبدا إلا للحقيقة المعقولة الجامعة التي هي العودية ، فتجدها لا تنقص ولا تتبعض ، بل هي في كل كرسي ومحبرة على كمالها من غير نقص ولا زيادة ، وإن كان في صورة المحبرة حقائق كثيرة منها : الحقيقة العودية والاستطالية والتربيعية والكمية وغير ذلك ، وكلها فيها بكمالها ، وكذلك الكرسي والمنبر ، وهذا الشيء الثالث هو هذه الحقائق كلها بكمالها ، فسمه إن شئت حقيقة الحقائق ، فالمعقولات العشرة وهي الجوهر والعرض والحال والزمان والمكان والعدد والإضافة والوضع وأن يفعل وأن ينفعل ، تكوّن الحقيقة التي أوجد الحق من مادتها الموجودات العلويات والسفليات ، فهو الأم الجامعة لجميع الموجودات ، وهي معقولة في الذهن غير موجودة في العين ، وهو أن تكون لها صورة ذاتية لكنها في الموجودات حقيقة من غير تبعيض ولا زيادة ولا نقص ، فوجودها عن بروز أعيان الموجودات قديمها وحديثها ، ولو لا أعيان الموجودات ما عقلناها ، ولو لاها ما عقلنا حقائق الموجودات ، فوجودها موقوف على وجود الأشخاص ، والعلم بالأشخاص تفصيلا موقوف على العلم بها ، إذ من لا يعرفها لم يفرق بين الموجودات. وقال مثلا : إن الجماد والملك والقديم شيء واحد ، إذ لا يعرف الحقائق

٣٢٨

ولا بماذا تتميز الموجودات بعضها عن بعض ، فهي متقدمة في العلم ظاهرة في الموجودات ، فإن أطلق عليها تأخر فلتأخر وجود الشخص لا لعينها ، فهي بالنظر إلى ذاتها كلية معقولة لا تتصف بالوجود ولا بالعدم ، وهي المادة لجميع الموجودات ، فقد ظهرت بكمالها بظهور الموجودات ، وما بقي شيء يوجد بعد. ـ راجع سورة الأنعام آية ٧٣ ، الحجر آية ٨٥ ، سورة النحل آية ٣ ـ «إن في ذلك لآية لقوم يؤمنون».

(اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤٥)

(إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) الوجه الأول يعني بصورتها ، فإن التكبيرة الأولى تحريمها ، والسلام منها تحليلها ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، هكذا أخبر تعالى إنباء عن حقيقة لأجل ما فيها من الإحرام ، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر بسبب تكبيرة الإحرام ، فإنه حرم على المصلي التصرف في غير الصلاة ما دام في الصلاة ، فذلك الإحرام نهاه عن الفحشاء والمنكر ، فإن الإحرام المنع من التصرف في شيء مما يغاير كونه مصليا ، فانته المصلي ، فصح له أجر من عمل بأمر الله وطاعته ، وأجر من انته عن محارم الله في نفس الصلاة وإن كان لم ينو ذلك ، فانظر ما أشرف الصلاة كيف أعطت هذه المسئلة العجيبة!! وهي أن الإنسان إذا تصرف في واجب ، فإن له ثواب من تصرف في واجب ويتضمن شغله بذلك الواجب عدم التفرغ لما نهي عنه أن يأتيه من الفحشاء والمنكر ، فيكون له ثواب من نوى أن لا يفعل فحشاء ولا منكرا ، فإن أكثر الناس تاركون ما لهم هذا النظر ، لعدم الحضور باستحضار الأولى ، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أعطى فائدة في قوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ولا تنهى عن غيرها من الطاعات فيها مما لا يخرجك فعله عن أن تكون مصليا شرعا. ـ الوجه الثاني ـ الصلاة فعل العبد ، فهو بصلاته ممن ينهى عن الفحشاء والمنكر ، فيكون له بالصلاة أجر من ينهى عن الفحشاء والمنكر وهو لم يتكلم فله أجر عبادتين : أجر الصلاة وهي عبادة ، وأجر النهي عن الفحشاء وهو عبادة ، فالصلاة بذاتها تنهى عن (الْفَحْشاءِ) وهو ما ظهر من المخالفة

٣٢٩

(وَالْمُنْكَرِ) وهو ما تنكره القلوب ، وذلك الظاهر للتحريم والتحليل الذي فيها. (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ـ الوجه الأول ـ الصلاة تشتمل على أقوال وأفعال ، فتحريك اللسان بالذكر من المصلي من جملة أفعال الصلاة ، والقول المسموع من هذا التحريك هو من أقوال الصلاة ، وليس في أقوالها شيء يخرج عن ذكر الله ، في حال قيام وركوع وخفض ورفع إلا ما يقع به التلفظ من ذكر نفسك بحرف ضمير ، أو ذكر صفة تسأله أن يعطيكها ، مثل : اهدني وارزقني ، ولكن هو ذكر شرعا لله ، فإن الله سمى القرآن ذكرا وفيه أسماء الشياطين والمغضوب عليهم ، والمتلفظ به يسمى ذكر الله ، فإنه كلام الله فذكرتهم بذكر الله ، فيكون قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ) فيها (أَكْبَرُ) يعني القول فيها أشرف أفعال المكلف ، فإنها تشتمل على أفعال وأقوال ، أي (وَلَذِكْرُ اللهِ) فيها (أَكْبَرُ) أعمالها وأكبر أحوالها ، أي ذكر الله أكبر ما فيها ، فهو أكبر من جملة أفعالها ، فإنها تشتمل على أقوال وأفعال ، فذكر الله في الصلاة أكبر أحوال الصلاة ، قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) والفاتحة تجمع الذكر والشكر ، وهي التي يقرأها المصلي في قيامه ، فالشكر فيها قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهو عين الذكر بالشكر ، إلى كل ذكر فيها وفي سائر الصلاة ، فذكر الله في حال الصلاة وشكره أعظم وأفضل من ذكره سبحانه في غير الصلاة ، فإن الصلاة خير موضوع العبادات ، فذكر الله في الصلاة أكبر من جميع أفعالها وأقوالها ، فإنك إن ذكرت الله فيها كان جليسك في تلك العبادة ، فإنه أخبر أنه جليس من ذكره ، فذكر الله في الصلاة أكبر فيها من أفعالها ، وفيه وقعت القسمة بين الله وبين المصلي في الصلاة ، فإن أفضل ما في الصلاة ذكر الله من الأقوال ، والسجود من الأفعال ، لأن الذكر جزء منها وهو أكبر أجزائها ، فذكر الله في الصلاة أشرف أجزاء الصلاة ، لا أن الذكر أشرف من الصلاة ، فما كل الصلاة ذكر ، فإن فيها الدعاء ، وقد فرق الحق بين الذكر والدعاء ، فقال : من شغله ذكري عن مسألتي ؛ وهي الدعاء ، فما هو الذكر هنا الذكر الخارج عن الصلاة حتى ترجحه على الصلاة ، إنما هو الذكر الذي في الصلاة ، فينبغي لكل من أراد أن يذكر الله تعالى ويشكره باللسان والعمل أن يكون مصليا وذاكرا بكل ذكر نزل في القرآن لا في غيره ، وينوي بذلك الذكر والدعاء الذي في القرآن ليخرج عن العهدة ، فإنه من ذكره بكلامه فقد خرج من العهدة فيما ينسب في ذلك الذكر إلى الله ، ليكون في حال ذكره تاليا لكلامه ،

٣٣٠

فيقول من التسبيحات ما في القرآن ، ومن التحميدات ما في القرآن ، ومن الأدعية ما في القرآن ، فتقع المطابقة بين ذكر العبد بالقرآن لأنه كلام الله وبين ذكر الله إياه في قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فيذكر الله الذاكر له أيضا ، (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) يعني في الصلاة ، أي الذكر الذي يكون من الله لعبده حين يجيب سؤاله والثناء عليه ، أكبر من ذكر العبد ربه فيها ، وذكره كلامه ، فتكون المناسبة بين الذكرين ، فإن ذكره بذكر يخترعه لم تكن له تلك المناسبة بين كلام الله في ذكره للعبد وبين ذكر العبد ، فإن العبد ما ذكره هنا بما جاء في القرآن ولا نواه ، وإن صادفه باللفظ ولكن هو غير مقصود ، ثم إن هذا الذكر بالقرآن جاء في الصلاة فالتحق بالأذكار الواجبة مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) اجعلوها في سجودكم وقوله في (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) اجعلوها في ركوعكم ، والأذكار الواجبة عند الله أفضل ، فينبغي للمحقق أن يكون ذكره في الصلاة بالأذكار الواردة في القرآن ، حتى يكون في ذكره تاليا ، فيجمع بين الذكر والتلاوة معا في لفظ واحد ، فيحصل على أجر التالين والذاكرين ، أعني الفضيلة ، وإذا ذكره من غير أن يقصد الذكر الوارد في القرآن فهو ذاكر لا غير ، فينقصه من الفضيلة على قدر ما نقصه من القصد ، ولو كان ذلك الذكر في القرآن غير أنه لم يقصده ، وقد ثبت أن الأعمال بالنيات ، وإنما لامريء ما نوى ، فينبغي لك إن قلت : لا إله إلا الله ؛ أن تقصد بذلك التهليل الوارد في القرآن ، مثل قوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وكذلك التسبيح والتكبير والتحميد ، وأنت تعلم أن أنفاس الإنسان نفيسة ، والنفس إذا مضى لا يعود ، فينبغي لك أن تخرجه في الأنفس والأعز ـ الوجه الثاني ـ أن قوله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) هذه الإضافة تكون من كونه ذاكرا ومن كونه مذكورا ، فهو أكبر الذاكرين ، فذكره نفسه لنفسه بنفسه أكبر من ذكره نفسه بخلقه ، فإنه تعالى يذكر نفسه من كونه متكلما ، ولما كانت كلمات الله ما تنفد ، فذكر الله لا ينقطع ، وهو ذكر مفصّل لأن الكلمات تفصيل لا إجمال فيها ، فذكره أكبر الأذكار ، والذكر وإن لم يخرج عنه فإن الله قد جعل بعضه أكبر من بعض ـ الوجه الثالث ـ ثم يتوجه فيه قصد آخر من أجل الاسم الله فيقول : (وَلَذِكْرُ اللهِ) بهذا الاسم الذي ينعت ولا ينعت به ، ويتضمن جميع الأسماء الحسنى ولا يتضمنه شيء في حكم الدلالة (أَكْبَرُ) من كل اسم تذكره به سبحانه ؛ من رحيم وغفور ورب وشكور وغير ذلك ،

٣٣١

فإنه لا يعطي في الدلالة ما يعطى الاسم الله ، لوجود الاشتراك في جميع الأسماء كلها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله] وهو الذكر الأكبر الذي قال الله فيه : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من يقول لا إله إلا الله ؛ هذا إذا أخذنا أكبر بطريق أفعل من كذا ـ راجع الذكر بالاسم المفرد سورة الأحزاب آية ٤١ ـ فإن لم تأخذها على أفعل من كذا فيكون إخبارا عن كبر الذكر من غير مفاضلة بأي اسم ذكر ، وهو أولى بالجناب الإلهي ، وإن كانت الوجوه كلها مقصودة في قوله تعالى (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) فإنه كل وجه تحتمله كل آية من كلام الله من فرقان وتوراة وزبور وإنجيل وصحيفة عند كل عارف بذلك اللسان ، فإنه مقصود لله تعالى في حق ذلك المتأول لعلمه الإحاطي سبحانه بجميع الوجوه ـ الوجه الرابع ـ (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ذكر الله هو القرآن ، فاذكره بالقرآن لا تكبره بتكبيرك ، إذ قد أمرك أن تكبره فقال : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) فإذا كبرت ربك فكبره كما كبر نفسه ولا تحكم على ربك بعقلك ـ مسألة ـ التكبير في الصلاة بلفظ (اللهِ أَكْبَرُ) اختلف علماء الشريعة في صفة لفظة التكبير في الصلاة ، فمن قائل لا يجزىء إلا لفظة الله أكبر ، ومن قائل يجزيء بغير الصيغة مثل الكبير ، ومن قائل يجوز التكبير على المعنى كالأجل والأعظم ، واتباع السنة أولى ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [صلوا كما رأيتموني أصلي] وما نقل إلينا قط إلا هذا اللفظ (اللهِ أَكْبَرُ) تواترا ، فلا نتحكم بسياق لفظ آخر ، فإنه لا بد لمن يعدل عنه أن يحرم فائدة ذلك الاختصاص ، ويتصف بالمخالفة بلا شك ، يقول العبد (اللهِ أَكْبَرُ) في تكبيرة الإحرام لما خصص حالا من الأحوال سماها صلاة ، فهو يقول : الله أكبر أن يقيد ربي حال من الأحوال ، بل الأحوال كلها بيده لم يخرج عنه حال من الأحوال ، فكبره عن مثل هذا الحكم ، وهو كبرياء لا يشاركه فيه كون من الأكوان ، ولذلك جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببنية المفاضلة ، لأن المشركين نسبوا الألوهة لغير الله تعالى ، ونسبتها إلى الله عندهم أتم وأعظم باعترافهم ، فالمفاضلة في الأسماء الإلهية إنما هي في المناسبة لا في الأعيان ، لا أن الحجارة أفضل ، ولا ما نحتوه ، ولا ما نسبوا إليه الألوهية من كوكب وغيره ، لأنه لا مفاضلة في الأعيان ، لأنه ليس بين العبد والسيد ، ولا الرب والمربوب ، ولا الخالق والمخلوق مفاضلة.

٣٣٢

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ) (٤٧)

فإنهم يسترونها وإن عرفوها حسدا منهم ونفاسة وظلما.

(وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (٥٠)

إن من رحمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي بعثه الله بها ما أبان الله على لسانه وأمره بتبليغ ذلك ، فبلغ أنه ليس من شرط الرسالة ظهور العلامات على صدقه ، إنما هو شخص منذر مأمور بتبليغ ما أمر بتبليغه ، هذا حظه لا يجب عليه غير ذلك ، فإن أتى بعلامة على صدقه فذلك فضل الله ليس ذلك بيده ، فأقام عذر الأنبياء كلهم في ذلك ، فكان رحمة للرسل في هذا ، فجاء في القرآن قوله : «وقالوا لو لا أنزلت عليه آيات من ربه» وهذا قول غير العرب ما هو قول العرب ، لأنه جاء بالقرآن آية على صدقه للعرب ، إذ لا يعرف إعجازه وكونه آية غير العرب ، فلم يرد عنه أنه أظهر آية لكل من دعاه من غير العرب كاليهود والنصارى والمجوس ، ولكن أي شيء جاء من الآيات فذلك من الله لا بحكم الوجوب عليه ولا على غيره من الرسل ، فقيل له : (قُلْ) لهم (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ثم قال له :.

٣٣٣

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥١)

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً) بهم فإنا أرسلناك رحمة للعالمين ، فضمنا القرآن جميع ما تعرف الأمم أنه آية على صدق من جاء به ، إذ لم يعلموا منه بقرائن الأحوال أنه قرأ ولا كتب ولا طالع ولا عاشر ولا فارق بلده ، بل كان أميا من جملة الأميين ، وأخبرهم عن الله بأمور يعرفون أنه لا يعلمها من هو بهذه الصفة التي هو عليها هذا الرسول إلا بإعلام من الله ، فكان ما جاء في القرآن من ذلك آية كما قالوا وطلبوا ، وكان إعجازه للعرب خاصة إذ نزل بلسانهم وصرفوا عن معارضته ، أو لم يكن في قوتهم ذلك من غير صرف حدث لهم ، فجاء القرآن بما جاءت به الكتب قبله ، ولا علم له بما جاء فيها إلا من القرآن ، وعلمت ذلك اليهود والنصارى وأصحاب الكتب ، فحصلت الآية من عند الله لأن القرآن من عند الله.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٥٢)

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) فسماهم الحق مؤمنين ، ولكن تحقق في إيمانهم بالباطل أنهم ما آمنوا به من كونه باطلا ، وإنما آمنوا به من كونهم اعتقدوا فيه ما اعتقده أهل الحق في الحق ، فمن هنا نسب الإيمان إليهم ، وبما هو في نفس الأمر على غير ما اعتقدوه سماه الحق لنا باطلا ، لا من حيث ما توهموه ، فأظهروا ما ليس بوجود وجودا ، وأزالوا في عقدهم وجود ما هو وجود وهو الله ، فسماه الله سترا ، فكان مستورا عنهم وجود الحق بما ستروه ، إذ لم يستروه حتى تصوروه وبعد التصور ستروه ، فكانوا كافرين (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً

٣٣٤

وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (٥٦)

(إِنَّ أَرْضِي) فأضافها إليه أشد إضافة من قوله : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ) فهي إضافة خاصة ، ثم قال : (واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) يعني فيها ، ومما تعطيه هذه الآية من وجه من الوجوه لطبقة خاصة من المؤمنين أنهم نظروا ما هي أرض الله؟ فقالوا : كل أرض موات لا يكون عليها ملك لغير الله ، فتلك أرضه الخاصة به ، المضافة إليه ، البرئة من الشركة فيها ، البعيدة عن المعمور ، فإن الأرض الميتة القريبة من العمران يمكن أن يصل إليها بعض الناس فيحييها فيملكها بإحيائها ، والبعيدة من العمران سالمة من هذا التخيل ، فقالوا ما أمرنا الله بالعبادة فيها إلا ولها خصوص وصف ، وليس فيها من خصوص الأوصاف إلا كونها ليس فيها نفس لغير الله ، ففيها نفس الرحمن ، فإذا عبد الإنسان ربه في مثل هذه الأرض وجد أنسا من تلك الوحشة التي كانت له في العمران ، ووجد لذة وطيبا في قلبه وانفراده ، وذلك كله من أثر نفس الرحمن الذي نفّس الله به عنه ما كان يجده من الغم والضيق والحرج في الأرض المشتركة ، وهذا ما أدى بعض العباد إلى السياحة ، فرأوا في هذه الأرض من الآيات والعجائب والاعتبارات ما دعاهم إلى النظر فيما ينبغي لمالك هذه الأرض ، فأنار الله قلوبهم بأنوار العلوم ، وفتح لهم في النظر في الآيات ، وهي العلامات الدالة على عظمة من انقطعوا إليه وهو الله تعالى ـ تفسير من باب الإشارة ـ ثم لتعلم أيها الأخ الولي أن أرض بدنك هي الأرض الحقيقية الواسعة التي أمرك الحق أن تعبده فيها ، وذلك لأنه ما أمرك أن تعبده في أرضه إلا ما دام روحك يسكن أرض بدنك ، فإذا فارقها أسقط عنك التكليف مع وجود بدنك في الأرض مدفونا فيها ، فتعلم أن الأرض ليست سوى بدنك ، وجعلها واسعة لما وسعته من القوى والمعاني التي لا توجد إلا في هذه الأرض البدنية الإنسانية ، وأما قوله : (فَتُهاجِرُوا فِيها) فإنها محل للهوى ومحل للعقل ، فتهاجروا من أرض الهوى منها إلى أرض العقل منها ، وأنت في هذا كله فيها ما خرجت عنها ، فإن استعملك هواك أرداك وهلكت ،

٣٣٥

وإن استعملك العقل الذي بيده سراج الشرع نجوت وأنجاك الله به ؛ فإن العقل السليم المبرأ من صفات النقص والشبه هو الذي فتح الله عين بصيرته لإدراك الأمور على ما هي عليه ، فعاملها بطريق الاستحقاق ، فأعطى كل ذي حق حقه ، ومن لم يعبد الله في أرض بدنه الواسعة فما عبد الله في أرضه التي خلقه منها وما دمت في أرض بدنك الواسعة مع وجود عقلك وسراج شرعك فأنت مأمور بعبادة ربك ، فهذه الأرض البدنية لك على الحقيقة أرض الله الواسعة التي أمرك أن تعبده فيها إلى حين موتك ، وهو قوله تعالى : «قل (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ـ إشارة ـ لما خلق الله أرض بدنك جعل فيها كعبة وهو قلبك ، وجعل هذا البيت القلبي أشرف البيوت في المؤمن ، فأخبر أن السموات وفيها البيت المعمور ، والأرض وفيها الكعبة ، ما وسعته وضاقت عنه ، ووسعه هذا القلب من هذه النشأة المؤمنة ، والمراد هنا بالسعة العلم بالله سبحانه ، فهذا يدلك على أنها الأرض الواسعة ، وأنها أرض عبادتك ، فتعبده كأنك تراه من حيث بصرك ، لأن قلبك محجوب أن يدركه بصرك ، فإنه في الباطن منك ، فتعبد الله كأنك تراه في ذاتك كما يليق بجلاله ، وعين بصيرتك تشهده ، فإنه ظاهر لها ظهور علم ، فتراه بعين بصيرتك ، وكأنك تراه من حيث بصرك ، فتجمع في عبادتك بين الصورتين ، بين ما يستحقه تعالى من العبادة في الخيال ، وبين ما يستحقه من العبادة في غير موطن الخيال ، فتعبده مطلقا ومقيدا ، وليس ذلك لغير هذه النشأة ، فلهذا جعل هذه النشأة المؤمنة حرمه المحرّم ، وبيته المعظم المكرم ، فكل من في الوجود يعبد الله على الغيب إلا الإنسان الكامل المؤمن ، فإنه يعبده على المشاهدة ، ولا يكمل العبد إلا بالإيمان ، فله النور الساطع ، بل هو النور الساطع الذي يزيل كل ظلمة ، فإذا عبده على الشهادة رآه جميع قواه ، فما قام بعبادته غيره ، ولا ينبغي أن يقوم بها سواه ، فما ثمّ من حصل له هذا المقام إلا المؤمن الإنساني ، فإنه ما كان مؤمنا إلا بربه ، فإنه سبحانه المؤمن. واعلم أنك إذا لم تكن بهذه المنزلة ، وما لك قدم في هذه الدرجة ، فأنا أدلك على ما يحصل لك به الدرجة العليا ، وهو أن تعلم أن الله ما خلق الخلق على مزاج واحد ، بل جعله متفاوت المزاج ، وهذا مشهود بالبديهة والضرورة ، لما بين الناس من التفاوت في النظر العقلي والإيمان ، وقد حصل لك من طريق الحق أن الإنسان مرآة أخيه ، فيرى منه ما لا يراه الشخص من نفسه إلا بواسطة مثله ، واعلم أن المرائي مختلفة الأشكال ،

٣٣٦

وأنها تصير المرئي عند الرائي بحسب شكلها من طول وعرض واستواء وعوج واستدارة ، ونقص وزيادة وتعدد ، وكل شيء يعطيه شكل تلك المرآة ، وقد علمت أن الرسل أعدل الناس مزاجا لقبولهم رسالات ربهم ، وكل شخص منهم قبل من الرسالة قدر ما أعطاه الله في مزاجه من التركيب ، فما من نبي إلا بعث خاصة إلى قوم معينين ، لأنه على مزاج خاص مقصور ، وأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بعثه الله إلا برسالة عامة إلى جميع الناس كافة ، ولا قبل هو مثل هذه الرسالة إلا لكونه على مزاج عام يحوي على مزاج كل نبي ورسول ، فهو أعدل الأمزجة وأكملها ، وأقوم النشآت ، فإذا علمت هذا وأردت أن ترى الحق على أكمل ما ينبغي أن يظهر به لهذه النشأة الإنسانية ، فاعلم أنك ليس لك ، ولا أنت على مثل هذا المزاج الذي لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الحق مهما تجلى لك في مرآة قلبك ، فإنما تظهره لك مرآتك على قدر مزاجها وصورة شكلها ، وقد علمت نزولك عن الدرجة التي صحت لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العلم بربه في نشأته ، فالزم الإيمان والاتباع ، واجعله أمامك مثل المرآة التي تنظر فيها صورتك وصورة غيرك ، فإذا فعلت هذا ، علمت أن الله تعالى لا بد أن يتجلى لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مرآته ، وقد أعلمتك أن المرآة لها أثر في ناظر الرائي في المرئي ، فيكون ظهور الحق في مرآة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكمل ظهور وأعدله وأحسنه ، لما هي مرآته عليه ، فإذا أدركته في مرآة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد أدركت منه كمالا لم تدركه من حيث نظرك في مرآتك ، ألا ترى في باب الإيمان وما جاء في الرسالة من الأمور التي نسب الحق لنفسه بلسان الشرع مما تحيله العقول ، ولو لا الشرع والإيمان ما قبلنا من ذلك من حيث نظرنا العقلي شيئا البتة ، بل نرده ابتداء ونجهّل القائل به ، فكما أعطاه بالرسالة والإيمان ما قصرت العقول التي لا إيمان لها عن إدراكها ذلك من جانب الحق ، كذلك قصرت أمزجتنا ومرائي عقولنا عند المشاهدة عن إدراك ما تجلى في مرآة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تدركه في مرآتها ، وكما آمنت به في الرسالة غيبا ، شهدته في هذا التجلي النبوي عينا ، فقد نصحتك وأبلغت لك النصيحة ، فلا تطلب مشاهدة الحق إلا في مرآة نبيك صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، واحذر أن تشهده في مرآتك ، أو تشهد النبي وما تجلى في مرآته في مرآتك ، فإنه ينزل بك عن الدرجة العالية ، فالزم الاقتداء والاتباع ، ولا تطأ مكانا لا ترى فيه قدم نبيك ، فضع قدمك على قدمه ، إن أردت أن تكون من أهل الدرجات العلى ، والشهود الكامل في المكانة الزلفى ، وقد أبلغت لك النصيحة كما أمرت.

٣٣٧

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٥٧)

من مات قامت قيامته ، وإن خفيت بالأرض قامته ، وما مات أحد إلا بحلول أجله ، وما قبض إلا دون أمله ، والفوت في الموت لكل ميت ، فإن الدار الدنيا محل بلوغ الأمل ، ما لم يخترمه الأجل ، هي مزرعة الآخرة فأين الزارع؟ وفيها تكسب المنافع ، والموت للمؤمن تحفة ، والنعش له محفة ، ينقله من العدوة الدنيا ، إلى العدوة القصوى ، حيث لا فتنة ولا بلوى ، ليس بخاسر ولا مغبون ، من كان أمله المنون ، فإن فيه اللقاء الإلهي ، والبقاء الكياني (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) فالكل إلى الله راجع ، لأنه الاسم الجامع.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤)

فسمى الحق الدار الآخرة دار الحيوان لحياتها ، فأهلها يتنعمون فيها حسا ومعنى ، والجنة أيضا أشد تنعما بأهلها الداخلين فيها ، ولهذا تطلب ملأها من الساكنين ، فالكل حيوان ، فإن الدار الآخرة دار ناطقة ظاهرة الحياة ، ثابتة العين ، غير زائلة ، بعكس الدار الدنيا فإنها

٣٣٨

خفية الحياة ، فانية ذاهبة العين ، متبدلة الصورة والوضع والشكل ، فما سماها الله بدار الحيوان إلا لأن الأمر ينكشف فيها للعموم ، فما ترى فيها شيئا إلا حيا ناطقا ، بخلاف حالك في الدنيا ، فإنه في نفس الأمر لكل صورة من العالم روح أخذ الله بأبصارنا عن إدراك حياة ما تقول عنه إنه ليس بحيوان مما ليس له روح في الشاهد في نظر البصر في المعتاد.

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) (٦٥)

(فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) عند ما بدت لهم آيات الله غير المعتادة ، ذهبت عنهم الغفلة (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) فعادوا إلى شركهم بعد إخلاصهم لله.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٦٦)

تهديد من الحق حيث يقولون في النار (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) فيقول الحق تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) كما عاد أصحاب الفلك إلى شركهم وبغيهم بعد إخلاصهم لله.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ) (٦٧)

فنسب الحق الجعل إليه ، وأطبق قلوب الكفار على ذلك ، فجعل في قلوبهم أن يشرعوا الأمان لكل من دخله ولاذ به ، جعل ذلك في قلوب المشركين وغيرهم ..

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) (٦٨)

٣٣٩

(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (٦٩)

ـ الوجه الأول ـ لما كان سبب الجهاد أفعالا تصدر من الذين أمرنا بقتالهم وجهادهم ، وتلك الأفعال أفعال الله خلقا وتقديرا ، فما جاهدنا إلا فيه لا في العدو ، وإذا لم يكن عدوا إلا بها ، فإذا جاهدنا فيه ، ولكن بامتثال أمره ، قال (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) التي قال فيها : (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) يعني السبيل التي لكم فيها السعادة ، وسبيل السعادة هي المشروعة ، فبيّن لنا سبلها ، فندخلها فلا نرى مجاهدا ومجاهدا فيه إلا الله ، فكان قوله تعالى : (لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) أي نبين لهم حتى يعلموا فيمن جاهدوا ، فيجاهدون عند ذلك أو لا يجاهدون ، ولذلك تمم الآية بقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإذا رأيته علمت أن الجهاد إنما كان منه وفيه ـ الوجه الثاني ـ الرياضة لنفس الإنسان والمجاهدة لهيكله ، فبالرياضة تهذبت أخلاقه ، وسهل انقياده ، وبالمجاهدة قل فضوله فظهر له ما فيه من الأصول والفروع ، فعلم بالمجاهدة من هو؟ ولمن هو؟ وهذه هي السبل (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) فمن علم أن الهداية إلى سبل الله في الجهاد هرب إلى السلم من الحرب ، ولا يجنح إلى السلم إلا من كان مشهوده ضعفه أو من كانت العين مشهوده ، ولذا قال (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) ـ إشارة ـ (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) فأين أنت؟ بعد الجهاد تتضح السبل ، وعند ذلك يكون السلوك عليها ، وهو سفر ، والسفر قطعة من العذاب ، فإنه منتقل من عذاب إلى عذاب ، فلا راحة.

(٣٠) سورة الرّوم مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ) (٢)

وفي قراءة غلبت بفتح الغين واللام ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا سمع أن الروم قد ظهرت على فارس يظهر السرور في وجهه ، مع كون الروم كافرين به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولكن الرسول لعلمه

٣٤٠