رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

فرعون وآله ، فأنتج له ذلك الفرار الحكم الذي هو الإمامة والخلافة والرسالة ، مع كون السبب الموجب الذي ذكره ـ تحقيق ـ لا شيء ألطف من الخواطر والأوهام ، وهي الحاكمة على الكثائف ، لضعف الكثيف وقوة سلطان اللطيف ، الدليل التغير بالخوف ، والمخوف من حلوله ماله عين وجودية. وقد أحدث الخوف في جسم الخائف حركة الهرب ، وطلب الستر والمدافعة ، وما وقع شيء إلا عين الخوف وهو لطيف.

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢٢)

(وَتِلْكَ نِعْمَةٌ) هو قول فرعون (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً)؟ فتلك النعمة تربية فرعون ، والمنّ يبطل الإنعام ، لأنه استعجال الجزاء ، ولما كان من شأن فرعون إذلال بني إسرائيل ، وموسى عليه‌السلام منهم ، وكان قد أعزه وتبناه ، فهذا معنى قوله (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ).

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٣)

لما دعا موسى فرعون إلى الله رب العالمين ، فسأله فرعون : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) يسأله عن الماهية ، ولما كانت ذات الله لا يجوز أن تطلب «بما» كما طلب فرعون ، فأخطأ في السؤال ، لهذا عدل موسى عليه‌السلام عن جواب سؤاله ، لأن السؤال إذا كان خطأ لا يلزم الجواب عنه ، وكان المجلس مجلس عامة ، فلذلك تكلم موسى بما تكلم به ، وفي السؤال عن الحق بلفظ (ما) خلاف ، فإن الحق سبحانه ما نهى فرعون على لسان موسى عليه‌السلام عن سؤاله ، بل أجاب بما يليق به الجواب عن ذاك الجناب العالي ، وإن كان وقع الجواب غير مطابق للسؤال ، فذلك راجع لاصطلاح من اصطلح على أنه لا يسأل بذلك إلا عن الماهية المركبة ، واصطلح عن أن الجواب بالأثر لا يكون جوابا لمن سأل «بما» وهذا الاصطلاح لا يلزم الخصم ، فلم يمنع هذا السؤال بهذه الصيغة عليه ، إذ كانت الألفاظ لا تطلب لنفسها ، وإنما تطلب لما تدل عليه من المعاني التي وضعت لها ، فإنها بحكم الوضع ، وما كل طائفة وضعتها بإزاء ما وضعتها الأخرى ، فيكون الخلاف في عبارة لا في حقيقة ، ولا يعتبر الخلاف إلا في المعاني ، ومذهبنا في ذلك هو : أن ما حجّر الشرع علينا حجّرناه ،

٢٦١

وما أوجب علينا أن نخوض فيه خضنا فيه طاعة أيضا ، وما لم يرد فيه تحجير ولا وجوب فهو عافية ، إن شئنا تكلمنا فيه ، وإن شئنا سكتنا عنه ، وهذا ينطبق على أمهات المطالب الأربعة : هل ، وما ، وكيف ، ولم ؛ والنهي شرعا لا يكون إلا ما يرد من الله ، أو من رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فمن ادعى التحجير في إطلاق هذه العبارات فعليه بالدليل ، والأولى التوقف عن الحكم بالمنع أو الجواز ، إذ لا حكم إلا للشرع فيما يجوز أن يتلفظ به أو لا يتلفظ به ، يكون ذلك طاعة أو غير طاعة ، والحق سبحانه لا يقال فيه : إن له ماهية ، وإن سئل عنه «بما» فالجواب بصفة التنزيه ، أو صفة الفعل لا غير ذلك ، لذلك قال موسى عليه‌السلام :

(قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) (٢٤)

(إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) يقول إن استقر في قلوبكم ما يعطيه الدليل والنظر الصحيح من الدّال ، فأخذ موسى عليه‌السلام ـ العالم ـ في التعريف بماهية الحق ، ـ والرسل عندنا أعلم الخلق بالله ـ فقال فرعون ، وقد علم أن الحق مع موسى فيما أجابه به ، إلا أنه أوهم الحاضرين واستخفهم ، لأن السؤال منه إنما وقع بما طابقه الحق ، وهو قوله (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) فما سأله إلا بذكر العالمين ، فقال موسى عليه‌السلام (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) فطابق الجواب السؤال ، فقال فرعون لقومه :

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) (٢٥)

أسأله عن الماهية ، فيجيبني بالأمور الإضافية ، فغالطهم وهو ما سأل إلا عن الرب المضاف ، فقال له موسى :

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) (٢٦)

فخصص الإضافة لدعوى فرعون في قومه أنه ربهم الأعلى.

(قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) (٢٧)

٢٦٢

لما رأى فرعون أن موسى عليه‌السلام ما أجابه على حد ما سأل ، لأنه تخيل أن سؤاله هذا متوجه ، وما علم أن ذات الحق لا تدخل تحت مطلب «ما» ، وإنما تدخل تحت مطلب «هل» وهل سؤال عن وجود المسؤول عنه هل هو متحقق أم لا؟ فقال فرعون وقد علم ما وقع فيه من الجهل ، إشغالا للحاضرين لئلا يتفطنوا لذلك (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ) ولو لا ما علم الحق فرعون ما أثبت في هذا الكلام أنه أرسله مرسل ، وأنه ما جاء من نفسه ، لأنه دعا إلى غيره ، وكذا نسبه فرعون إلى ما كان عليه موسى بقوله (لَمَجْنُونٌ) ـ الوجه الأول ـ أي مستور عنكم فلا تعرفونه ، فعرفه موسى بجوابه إياه ، وما عرفه الحاضرون كما عرفه علماء السحرة ، وما عرفه الجاهلون بالسحر ـ الوجه الثاني ـ (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) أي قد ستر عنه عقله ، لأن العاقل لا يسأل عن ماهية شيء فيجيب بمثل هذا الجواب ، فقال له موسى لقرينة حال اقتضاها المجلس ، ما قال إبراهيم عليه‌السلام لنمروذ.

(قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٨)

المشرق لا يسمى لطلوع القمر ولا النجوم ، بل للشمس فقط ، ولذلك قال تعالى (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) أي طلوع الشمس وغروبها ، ولو لم يقل (وَما بَيْنَهُما) لجاز ، لأنه ليس بينهما شيء ، وذلك لأن عين حال الشروق في ذلك الحيّز هو عين استوائها وهو عين غروبها ، فكل حركة واحدة من الشمس في حيّز واحد شروق واستواء وغروب ، فما ثمّ ما ينبغي أن يقال ما بينهما ، لكنه قال (وَما بَيْنَهُما) لغموضه على الحاضرين ، فإنهم لا يعرفون ما فصلناه في إجمال (وَما بَيْنَهُما) فجاء بالمشرق والمغرب المعروف بالعرف ثم قال لهم «إن كنتم تعلمون» فأحالهم على النظر العقلي.

(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) (٣٠)

يظهر له المانع من تعديه عليه ، فلم يسع فرعون إلا أن يقول له :

٢٦٣

(قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣١)

حتى لا يظهر فرعون عند الضعفاء الرأي من قومه بعدم الإنصاف ، فكانوا يرتابون فيه ، وهي الطائفة التي استخفها فرعون فأطاعوه.

(فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) (٣٢)

أي حية ظاهرة ، فجاءهم بما يناسب ما كانوا عليه ، وكذلك معجزة كل نبي هي ما يناسب قومه. ـ تفسير من باب الإشارة ـ (فَأَلْقى عَصاهُ) وهي صورة ما عصى به فرعون موسى في إبائه عن إجابة دعوته (فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ).

(وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (٣٧) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٢) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (٤٦) ـ راجع سورة طه : آية ٦٩.

٢٦٤

لما علم سحرة فرعون أن الذي جاء به موسى من عند الله ، وأن الذي رأوه ليس في مقدور البشر ، فآمنوا بما جاء به موسى عن آخرهم ، وخروا سجدا عند هذه الآية ، و.

(قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (٤٨)

أي الرب الذي يدعو إليه موسى وهارون ، حتى يرتفع الالتباس ، فإنهم لو وقفوا على العالمين ، لقال فرعون : أنا رب العالمين ، إياي عنوا ، فزادوا رب موسى وهارون ، أي الذي يدعو إليه موسى وهارون ، فارتفع الإشكال ، فتوعدهم فرعون بالعذاب.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (٥١) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥)

٢٦٥

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦٨) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (٦٩) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (٧٠) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (٧١) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (٧٢) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٧٤) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (٧٧) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (٧٩) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (٨٠)

ومن أدب إبراهيم عليه‌السلام قوله : ولم يقل يجوعني. ولم يقل أمرضني ، فأضاف الفعل المذموم والمكروه في الطبع والعادة والعرف إلى نفسه ، إيثارا منه لجناب ربه ، حتى لا ينسب إليه ما جرى عليه لسان ذم ، كالذنب ، ولسان كراهة الطبع ، كالمرض والجوع ، غيرة على الجناب الإلهي ، وفداء له بنفسه ، ثم قال (فَهُوَ يَشْفِينِ) فأضاف الشفاء إليه تعالى ، والمرض لنفسه ، وإن كان الكل من عنده ، ولكنه تعالى هو أدّب رسله ، إذ كان المرض لا تقبله النفوس ، والمرض شغل شاغل عن أداء ما أوجب الله على العبد أداءه من حقوق الله لإحساسه بالألم ، وهو في محل التكليف ، وما يحس بالألم إلا الروح الحيواني ، فيشغل الروح المدبر لجسده عما دعي إليه في هذه الدنيا ، فلهذا أضاف المرض إليه ، والشفاء للحق ، وذلك من أدب الإضافة والألفاظ ، فالشافي مزيل الأمراض ، ومعطي الأغراض ، فإن الأمراض إنما تظهر أعيانها لعدم ما تطلبه الأغراض ، فلو زال الغرض ، لزال الطلب ، فكان يزول المرض ، ورد في الخبر عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال [أذهب الباس رب الناس ، اشف أنت الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك] وما ثمّ شفاء إلا شفاؤه ، فإن الكل

٢٦٦

خلقه ، ولهذا قال الخليل (فَهُوَ يَشْفِينِ) فنص على الشافي ، وما ذكر شفاء لغيره ، فأزال إبراهيم عليه‌السلام الاحتمال ، لما جعل الله في الأدوية من الشفاء ، وإزالة الأمراض ، ويحتمل أن يريد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله [لا شفاء إلا شفاؤك] أن كل مزيل لمرض إنما هو شفاء الله الذي أودعه في ذلك المزيل ، فأثبت الأسباب ، وهذا كان غرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع تقرير الأسباب ، لأن العالم ما يعرفون شفاء الله من غير سبب ، مع اعتقادهم أن الشافي هو الله ، ويحتمل لفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثبات أشفية ، لكن لا تقوم في الفعل قيام شفاء الله ، فقال لا شفاء إلا شفاؤك] والأول في التأويل أولى بمنصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما دخل الاحتمال ، كان البيان من هذا الوجه في خبر إبراهيم الخليل عليه‌السلام ، واقتضى مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يبيّن أن الأشفية التي تكون عند الاستعمال أسبابها أنها شفاء الله ، إذ لا يتمكن رفع الأسباب من العالم عادة ، وقد ورد أن الله ما خلق داء إلا وخلق له دواء. وانظر إلى آداب النبوة التي لا يبلغها أدب ، عند قول الخليل (وَإِذا مَرِضْتُ) فهو نهاية في الأدب ، ولم يقل : وإذا أمرضني ، لما كان المرض عيبا عرفا أضاف المرض إلى نفسه ، إذ كان عيبا عنده ، فجمع عليه‌السلام في هذه المسئلة بين أدب نسبة المرض إلى نفسه ، وبين الأدب في التعريف أن ذلك المرض حكم لاسم إلهي من غير تصريح ، لكن بالتضمين والإجمال ، وأضاف الشفاء إلى ربه إذ كان حسنا فقال (فَهُوَ يَشْفِينِ) فنسب الشفاء إلى ربه ، ولم ينسب إليه المرض ، لأنه شر في العرف بين الناس ، وإن كان في طيه خير في حق المؤمن ، ولما أوحى الله أن نتبع ملة إبراهيم ، أخبر نبيه بحديث إبراهيم وقوله هذا تعليما له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليتأدب بأدبه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [والشر ليس إليك] فقول الخليل (فَهُوَ يَشْفِينِ) بداية التحقيق وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [لا شفاء إلا شفاؤك] نهاية النهاية ، فهي أتمّ والإتيان بالأمرين أولى وأعم ، ومع هذا القصد من الخليل عليه‌السلام في قوله (وَإِذا مَرِضْتُ) فإن الظاهر في اللفظ الإضافة الحقيقية إليه فلذلك قال بعد قوله :

(وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (٨١) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (٨٢)

يقول إنه أخطأ ، وإن كان القصد الأدب ، حيث نسب المرض لنفسه وما نسبه إلى الله ، وما قصد إلا الأدب معه ، حتى لا يضيف ما هو عيب عندهم عرفا إلى الله ، ولذلك

٢٦٧

عرّف من غير تصريح ، لكن بالتضمين والإجمال ولم يسم الخطيئة ما هي ، (يَوْمَ الدِّينِ) يقول : يوم الجزاء.

(رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (٨٣) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (٨٤) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (٨٥) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (٨٦) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (٨٧) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (٩١) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٩٢) مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (٩٣) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (٩٤) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (٩٥) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (٩٦) تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ) (٩٩)

وهم أهل النار الذين هم أهلها ، الذين يقول الله فيهم : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ).

(فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (١٠٠) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) (١٠١)

أي شفيق ، فإن الحميم الصاحب الشفيق.

(فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٠٤) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (١٠٥) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٠٦) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٠٧) فَاتَّقُوا اللهَ

٢٦٨

وَأَطِيعُونِ (١٠٨) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٠٩)

جعل الله الإنسان لا يسعى إلا لنفسه ، ولهذا قرن بسعيه الأجر حتى يسعى لنفسه ، بخلاف من لا أجر له من العالم الأعلى والأسفل ، وليس بعد الرسل ومرتبتهم في العلم بالله مرتبة ، فهم المطرقون والمنبهون ، ومع هذا فما منهم من رسول إلا قيل له : قل لأمّتك (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي على ما بلغتكم (مِنْ أَجْرٍ). ولما كان أداء الرسائل عملا من المؤدي لأن المرسل استعمله في أداء رسالته لمن أرسله إليه ، فوجب أجره عليه ، لأن المرسل إليه ما استعمله حتى يجب عليه أجره ، ولهذا قالت الرسل لأممها عن أمر الله ، تعريفا للأمم بما هو الأمر عليه (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) فإنه الذي استخدمه وأرسله ، فالأجر عليه ، فذكروا استحقاق الأجر على من يستعملهم ، ولم يقولوا ذلك إلا عن أمره ، فإنه قال لكل رسول (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ).

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١١٠) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (١١١) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٢) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (١١٣) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (١١٤) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١١٥) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (١١٦) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١١٨) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (١٢٠) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٢١) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٢٢) كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ

٢٦٩

عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) (١٣٠)

فإنه لا أحد من المخلوقين أشد بطشا وانتقاما من الإنسان الحيوان ، ولا مخلوق أعظم رحمة من الإنسان الكامل ، وإن كان ذا بطش شديد ، فالإنسان الحيواني أشد بطشا منه ، لأنه يبطش بما لم يخلق ، فلا رحمة له فيه ، والحق يبطش بمن خلق ، فالرحمة مندرجة في بطشه حيث كان.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ

٢٧٠

الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (١٥٥)

(قالَ هذِهِ ناقَةٌ) يعني ناقة صالح.

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥) كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ

٢٧١

عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (١٩٣)

لما قال تعالى (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فعلّم القرآن أين محله الذي ينزل عليه من العالم ، فنزل على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نزل به الروح الأمين الذي هو روح القدس ، والروح هو الملقي إلى القلب علم الغيب على وجه مخصوص ، فقال تعالى :

(عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (١٩٤)

لما نزل القرآن نزل على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى قلوب التالين له دائما ، التي في صدورهم في داخل أجسامهم ، لا أعني اللطيفة الإنسانية التي لا تتحيز ولا تقبل الاتصاف بالدخول والخروج ، فيقوم للنفس الناطقة القلب الذي في الصدر ، ليصير لها مقام المصحف المكتوب للبصر ، فمن هنا تتلقاه النفس الناطقة. ـ راجع المائدة آية ٦٧ ـ فجعل الله القلب الذي في داخل الجسم في صدره مصحفا وكتابا مرقوما ، تنظر فيه النفس الناطقة ، فهذا قوله تعالى (عَلى قَلْبِكَ) فظهر القرآن في قلبه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على صورة لم يظهر بها في لسانه ،

٢٧٢

فإن الله جعل لكل موطن حكما لا يكون لغيره ، وظهر في القلب أحدي العين ، فجسّده الخيال وقسّمه ، فأخذه أللسان فصيره ذا حرف وصوت ، وقيد به سمع الآذان ، ليترجم عن القرآن ، بما علمه الحق من البيان ، الذي لم يقبله إلا الإنسان ، فأبان أنه مترجم عن الله لا عن الرحمن ، لما فيه من الرحمة والقهر والسلطان ، فقال تعالى (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) فتلاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلسانه أصواتا وحروفا ، سمعها الأعرابي بسمع أذنه في حال ترجمته ، فالكلام لله بلا شك ، والترجمة للمتكلم به ، ولا يزال القرآن ينزل على قلوب أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى يوم القيامة ، فنزوله في القلوب جديد لا يبلى ، فهو الوحي الدائم ، فلا يزال كلام الله من حين نزوله يتلى حروفا وأصواتا إلى أن يرفع من الصدور ، ويمحى من المصاحف ، فلا يبقى مترجم يقبل نزول القرآن عليه فلا يبقى الإنسان المخلوق على الصورة (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي المعلمين ، فذكر الإنذار ، وهكذا في قوله (يلقي الروح على من يشاء من عباده لينذر) من الزجر حيث ساق الإعلام بلفظة الإنذار (١) ، فهو إعلام بزجر ، وهو البشير النذير ، والبشارة لا تكون إلا عن إعلام ، فغلب في الإنزال الروحاني باب الزجر والخوف ، لما قام بالنفوس من الطمأنينة الموجبة إرسال الرسل ، ليعلموهم أنهم عن الدنيا إلى الآخرة منقلبون ، وإلى الله من نفوسهم راجعون.

(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (١٩٥)

ـ إشارة ـ انظر في القرآن بما أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا تنظر فيه بما أنزل على العرب ، فتخيب عن إدراك معانيه ، فإنه نزل بلسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسان عربي مبين ، فإذا تكلمت في القرآن بما هو به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم متكلم ، نزلت عن ذلك الفهم إلى فهم السامع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الخطاب على قدر السامع ، لا على قدر المتكلم ، وليس سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفهمه فيه فهم السامع من أمته فيه إذا تلاه عليه ـ الفرق بين نزول القرآن على قلب النبي ونزوله على قلب الولي ـ من جاءه القرآن عن ظهر غيب أعطي الرؤية من خلفه كما أعطيها من أمامه ، إذ كان القرآن لا ينزل إلا مواجهة ، فهو للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وجهين : وجه معتاد ، ووجه غير معتاد ، وهو للوارث من وجه غير معتاد ، فسمي ظهرا بحكم الأصل ، وهو وجه بحكم الفرع ، والذي ينزل القرآن على قلبه ينزل بالفهم ، فيعرف ما يقرأ وإن كان

__________________

(١) في الأصل الإنزال.

٢٧٣

بغير لسانه ، ويعرف معاني ما يقرأ ، وإن كانت تلك الألفاظ لا يعرف معانيها في غير القرآن ، لأنها ليست بلغته ، ويعرفها في تلاوته إذا كان ممن ينزل القرآن على قلبه عند التلاوة.

(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٩٧)

العلماء هم الذين علموا الكائنات قبل وجودها ، وأخبروا بها قبل حصول أعيانها.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤)

لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على الصفا وجاء الناس يهرعون إليه ، فقال لأكرم الناس عليه : يا فاطمة بنت محمد انظري لنفسك ، لا أغني عنك من الله شيئا ؛ وقال مثل هذه المقالة لجميع الأقربين ، وكان عمه أبو لهب حاضرا فنفخ في يده ، وقال : ما حصل بأيدينا مما قاله شيء ، وصدق أبو لهب ، فإنه ما نفعه الله بإنذاره ولا أدخل قلبه منه شيئا ، لما أراد به من الشقاء.

٢٧٤

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) (٢١٨)

فيعلم حركاتك وسكناتك على التعيين والتفصيل ، وعم جميع أحوالك بقوله تعالى :

(وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) (٢١٩)

إشارة منه تعالى إلى تنوع الحالات عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حال السجود ، من غير رفع يتخلل ذلك ، ولقد رفع وقام وركع ، وثنّى السجود ، ولم يثن حالة من حالات صلاته إلا السجود ، لشرفه في حق العبد ، فأكد بالتثنية في كل ركعة فرضا واجبا ، وركنا لا ينجبر إلا بالإتيان به. ـ إشارة ـ القلب إذا سجد لا يرفع أبدا ، لأن سجوده للأسماء الإلهية لا للذات ، فإنها هي التي جعلته قلبا ، فهي تقلبه من حال إلى حال دنيا وآخرة ، فلهذا سمته قلبا ، فإذا تجلى له الحق مقلبا ، فيرى أنه في قبضة مقلبه ، وهو الأسماء الإلهية التي لا ينفك مخلوق عنها ، فهي المتحكمة في الخلائق ، فمن مشاهد لها ـ وهو الذي سجد قلبه ـ ومن غير مشاهد لها ، فلا يسجد قلبه ، وهو المدعي الذي يقول : أنا ؛ وعلى من هذا صفته يتوجه الحساب والسؤال يوم القيامة والعقاب إن عوقب ، ومن سجد قلبه فلا دعوى له ، فلا حساب ولا سؤال ولا عقاب ، فلا صفة أشرف من صفة العلم ، فإنه المعطي السعادة في الدارين ، والراحة في المنزلتين. فإذا سجد القلب لم يرفع ، لأنه سجد لربه ، وقبلته ربه ، وربه لا يزول ، ولا ترتفع عن الوجود ربوبيته ، فالقلب لا يرفع رأسه من سجوده أبدا ، لأن قبلته لا ترتفع. اللهم اجعلنا ممن سجد قلبه وعرف ربه.

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (٢٢٤)

٢٧٥

فإن النظم المسمى شعرا من نفخ الشيطان.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢٢٧)

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسان بن ثابت ، لما أراد أن يهجو قريشا ينافح بذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لما هجته قريش ، وهو منها ، وعلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذي انبعث إليه حسان ابن ثابت من هجاء قريش أن ذلك مما يرضي الله ، لحسن قصده في ذلك ، وما علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك إلا لما رأى روح القدس الذي يجيئه ، قد جاء إلى حسان بن ثابت يؤيده من حيث لا يشعر ، ما دام ينافح عن عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إني منهم ، فانظر ما تقول ، وكيف تقول ، وائت أبا بكر فإنه أعرف بالأنساب] فيخبرك حتى لا تقول كلاما يعود على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فتكون قد وقعت فيما وقعوا فيه ، فقال له حسان ابن ثابت : والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين ؛ لأنها لا يعلق بها شيء من العجين ، قال تعالى (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا) فلم يجعل الحق تعالى للشيطان على حسان سبيلا ، فإنه كان ينافح بنظمه عن عرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأييد الروح القدسي (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) وغاية الأمر أن الله عنده حسن المآب ، وما قرن الله قط بالمآب إليه سوءا تصريحا ، وغاية ما ورد في ذلك في معرض التهديد في الفهم الأول (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) فسيعلمون من كرم الله ما لم يكونوا يحتسبون قبل المؤاخذة لمن غفر له ، وبعد المؤاخذة لانقطاعها عنهم ، فرحمة الله واسعة ، ونعمته سابغة جامعة ، وأنفس العالم فيها طامعة ، لأنه كريم من غير تحديد ، ومطلق الجود من غير تقييد.

٢٧٦

(٢٧) سورة النّمل مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) (٤)

جاء الحق بنون الكناية عن نفسه في قوله : (زَيَّنَّا) ، ونسب الحيرة إليهم بقوله (يَعْمَهُونَ) أي يحارون بهذا التزيين لمن ينسبونه ، فلا فاعل إلا الله ، فهو تنبيه أن يعتقد ذلك ، وأنه بقضائه وقدره ، إذ كل شيء بيده.

(أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٨)

لما خرج موسى عليه‌السلام ساعيا لأهله ، لما كانوا يحتاجون إليه من النار ، وشغل بطلبها الذي تقتضيه بشريته ، نودي في عين حاجته ، لافتقاره إليها ، فتجلى الله له في عين صورة حاجته (فَلَمَّا جاءَها) أي جاء إليها (نُودِيَ) ناداه منها (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) فبسعيه على عياله ، واستفراغه ، ناداه الحق وكلمه في عين حاجته وهي النار (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ـ نصيحة ـ اعلم أن جلّ الخير في السعي على الغير ، فمن أراد من الله قضاء مآربه ، فليقض حاجة صاحبه ، وإن لم يستند فيها إلى جانبه ، ولو ذهب غير مذاهبه.

٢٧٧

(يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٩)

فسبحان من علا في نزوله ، ونزل في علوه ، ثم لم يكن واحدا منهما ، ولم يكن إلا هما ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، فيعرف معرفة لا يشهد معروفها ، فإنه سبحانه تجلى لموسى عليه‌السلام في عين حاجته ، فلم تكن نارا ، فلا يرى الحق إلا في الافتقار ، ولا يتجلى إلا في صور الاعتقادات وفي الحاجات ، وقلنا في ذلك من قصيدة لنا :

كنار موسى يراها عين حاجته

وهي الإله ولكن ليس يدريه

(وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) (١٠)

ـ إشارة ـ قلبت العصا ثعبانا لأن جزاء سيئة سيئة مثلها ، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ، فجاءهم بما يناسب ما كانوا عليه ، وكذلك معجزة كل نبي هي ما يناسب قومه ، وخاف موسى وهو في حال التمكين ، عقابا لقوله : إن معي ربي سيهدين ، فلما قدم نفسه كان الخوف مصاحبا له.

(إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (١٤)

(وَجَحَدُوا بِها) الجاحد هنا هو الكاذب ، لأنه عالم بكذبه في المواطن التي كلّف أن يصدق فيها ، والإقرار في ذلك الأمر المطلوب منه المعلوم عنده (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) التيقن : هو استقرار العلم في النفس ، فلو لا ما علموا ، ما تيقنوا أنها آيات ، يعني براهين

٢٧٨

على صدق الرسل فيما أخبروا به عن الله ، فمع الدلالات التي نصبها الله للمرسل إليهم على صدق رسله واستيقنوها ، حملهم سلطان الحسد الغالب عليهم ، أن يجحدوا ما هم به عالمون موقنون بصدقهم ، من حيث الدلالة ، لا من حيث نور الإيمان المقذوف في القلب ، فإنه لم يحصل عندهم من ذلك النور شيء ، فعلم أن الإيمان لا تعطيه إقامة الدليل ، بل هو نور إلهي يلقيه الله في قلب من شاء من عباده ، وقد يكون عقيب الدليل ، وقد لا يكون هناك دليل أصلا ، وهؤلاء عرفوا الحق ، وجحدوا بما دلهم عليهم ، فهؤلاء جاحدون معاندون ، ثم ذكر تعالى العلة فقال : (ظُلْماً) أي ظلموا بذلك أنفسهم (وَعُلُوًّا) على من أرسل إليهم ، فاندرج في ذلك علوهم على الله فذم الله من طلب علوا في الأرض ، فإنه من رياسة النفوس ، فقال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ولما كان لا يلزم العالم بالحق الإقرار به في الظاهر ، وإنما يستلزمه التصديق به في الباطن ، فهو مصدق به وإن كذّبه باللسان ، فقد عمل بما علم ، وهو التصديق ، لكن ما كل عمل يعطي عموم النجاة ، بل يعطي من النجاة قدرا مخصوصا من عموم أو خصوص. وأي آية كانت للعرب معجزة مثل القرآن؟ وقد قال تعالى فيه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦)

النطق سار في العالم كله ، ولا يختص به الإنسان ، كما جعلوه فصله المقوم له بأنه حيوان ناطق ، فالكشف لا يقول بخصوص هذا الحدّ في الإنسان ، وإنما حد الإنسان بالصورة الإلهية خاصة ، ومن ليس له هذا الحد فليس بإنسان ، وإنما هو حيوان يشبه في الصورة ظاهر الإنسان ، فاطلب لصاحب هذا الوصف حدا يخصه ، كما طلبته لسائر الحيوان.

(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ

٢٧٩

سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) (١٩)

الأنبياء وإن كانوا صالحين في نفس الأمر عند الله ، فهم بين سائل في الصلاح ، مثل سليمان عليه‌السلام ، ومشهود له به من الحق بشرى من الله ، مثل يحيى وعيسى وإبراهيم ومحمد عليهم‌السلام ، فإن الاسم الصالح من خصائص العبودية ـ إشارة ـ (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) الضعيف الذي ليس له قوة مقاومتك ، لا ترهب عليه.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) (٢١)

ـ إشارة ـ لا تعمل إلا عن بينة من ربك كما فعل سليمان ، وقد كان الحق مع الهدهد ، فلو عذبه قبل البينة لظلمه ، فلا تعجل أبدا بصفات القهر منك حتى يتبين لك موطنها ، وأما صفات الرحمة فأطلقها ولا تقيدها.

(فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) (٢٣)

المرأة هي بلقيس ، قيل : هي متولدة بين الجن والإنس ، فإن أمها من الإنس وأباها من الجن ، ولو كان أبوها من الإنس وأمها من الجن لكانت ولادتها عندهم ، وكانت تغلب عليها الروحانية ، ولهذا ظهرت بلقيس عندنا (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) فهو سرير ملكها وهو لها عظيم.

٢٨٠