رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

يراه عزيزا إن تجلى بذاته

فليس لمخلوق على حمله وسع

فكنت أبا حفص وكنت عليّنا

فمني العطاء الجزل والقبض والمنع

ـ إشارة لا تفسير ـ لما جعل الله قلب عبده بيتا كريما وحرما عظيما ، ذكر أنه وسعه حين لم يسعه سماء ولا أرض ، علمنا قطعا أن قلب المؤمن أشرف من هذا البيت ، وجعل الخواطر تمر عليه كالطائفين ولما كان في الطائفين من يعرف حرمة البيت فيعامله في الطواف به بما يستحقه من التعظيم والجلال ، ومن الطائفين من لا يعرف ذلك فيطوفون به بقلوب غافلة لاهية وألسنة بغير ذكر الله ناطقة ، بل ربّما يطوفون بفضول من القول وزور ، كذلك الخواطر التي تمر على قلب المؤمن منها مذموم ومنها محمود ، وكما كتب الله طواف كل طائف للطائف بالبيت على أي حالة كان ، وعفا عنه فيما كان منه ، كذلك الخواطر المذمومة عفا الله عنها ، ما لم يظهر على ظاهر الجوارح إلى الحس ، فقلب العبد المؤمن أعظم علما وأكثر إحاطة من كل مخلوق ، فإنه محل لجميع الصفات ، وارتفاعه بالمكانة عند الله لما أودع الله فيه من المعرفة به ، ولما كان للبيت أربعة أركان ، فللقلب خواطر أربعة ، خاطر إلهي وهو ركن الحجر ، وخاطر ملكي وهو الركن اليمني ، وخاطر نفسي وهو الركن الشامي ، وهذه الثلاثة الأركان هي الأركان الحقيقية للبيت من حيث أنه مكعب الشكل ، وعلى هذا الشكل قلوب الأنبياء مثلثة الشكل ، ليس للخاطر الشيطاني فيها محل ، ولما أراد الله ما أراد من إظهار الركن الرابع جعله للخاطر الشيطاني ، وهو الركن العراقي ، وإنما جعلنا الخاطر الشيطاني للركن العراقي ، لأن الشارع شرع أن يقال عنده : أعوذ بالله من الشقاق والنفاق وسوء الأخلاق ، وبالذكر المشروع عند كل ركن تعرف مراتب الأركان ، وعلى هذا الشكل المربع قلوب المؤمنين ، وما عدا الرسل والأنبياء المعصومين ، ليميز الله رسله وأنبياءه من سائر المؤمنين بالعصمة التي أعطاهم وألبسهم إياها ، فليس لنبي إلا ثلاثة خواطر ، إلهي وملكي ونفسي ، وكما أن الله تعالى أودع في الكعبة كنزا كذلك جعل الله في قلب العارف كنز العلم بالله ، فشهد لله بما شهد به الحق لنفسه من أنه لا إله إلا الله ، ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ، فقال تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) فجعلها كنزا في قلوب العلماء بالله ، فالله بيته قلب عبده المؤمن ، والبيت بيت اسمه تعالى ، والعرش مستوى الرحمن ، فبين القلب والعرش في المنزلة ما بين الاسم الله والاسم الرحمن ، فإن مشهد الألوهية أعم ، لإقرار

١٦١

الجميع ، فما أنكر أحد الله ، وأنكر الرحمن ، فإنهم قالوا : [وما الرحمن؟] ولما كان الحج لبيت الله الحرام تكرار القصد في زمان مخصوص ، كذلك القلب تقصده الأسماء الإلهية في حال مخصوص ، إذ كل اسم له حال خاص يطلبه ، فمهما ظهر ذلك الحال من العبد طلب الاسم الذي يخصه ، فيقصده ذلك الاسم ، فلهذا تحج الأسماء الإلهية بيت القلب ، وقد تحج إليه من حيث أن القلب وسع الحق ، والأسماء تطلب مسماها ، فلا بد لها أن تقصد مسماها ، فتقصد البيت الذي ذكر أنه وسعه السعة التي يعلمها سبحانه ، والعمرة التي هي الزيارة بمنزلة الزور الذي يخص كل إنسان ، فعلى قدر اعتماره تكون زيارته لربه. فالطائفون بالكعبة كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، فيلزم الطائف التسبيح في طوافه والتحميد والتهليل وقول : [لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم].

جسم يطوف وقلب ليس بالطائف

ذات تصدّ وذات ما لها صارف

يدعى وإن كان هذا الحال حليته

هذا الإمام الهمام الهمهم العارف

هيهات هيهات ما اسم الزور يعجبني

قلبي له من خفايا مكره خائف

ولما كان الحج تكرار القصد سمي تكرار الخواطر حجا.

(وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) (٢٧)

روي عن إبراهيم الخليل عليه‌السلام أنه لما بنى البيت أمره ربه تعالى أن يصعد عليه وأن يؤذن في الناس بالحج ، فقال يا رب وما عسى يبلغ صوتي فأوحى إليه عليك النداء وعلي البلاغ ، فنادى إبراهيم عليه‌السلام يا أيها الناس إن لله بيتا فحجوه ، قال فأسمع الله ذلك النداء عباده ، فمنهم من أجاب ومنهم من لم يجب ، وكانت إجابتهم مثل قولهم بلى حين أشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ، فمنهم من سارع إلى إجابة الحق وهم الذين يسارعون في الخيرات ، والقائلون بأن الحج على الفور للمستطيع ، ومنهم من تلكأ في الإجابة فلم يسرع إلا بعد حين ، وهو الذي يقول الحج مع الاستطاعة على التراخي ، ثم إن الذين أجابوه منهم من كرر الإجابة ومنهم من لم يكرر ، فمن لم يكرر لم يحج إلا واحدة ، ومن كرر حج على قدر ما كرر وله أجر فريضة في كل حجة ، (يَأْتُوكَ رِجالاً) يريد على أرجلهم لا يركبون (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).

١٦٢

(لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ) (٢٨)

(لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) سميت البهائم بهائم لإبهام أمرهم علينا (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ).

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٢٩)

(ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) أي ليلقوا الوسخ ، وإزالة الشعث من الحاج لحفظ القوى مما ينالها من الضرر لسد المسام وانعكاس الأبخرة ، المؤذية لها المؤثرة فيها وما في معناها ، لأن الطهارة والنظافة مقصودة للشارع لأنه القدوس ، (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) التطوع قد يكون واجبا بإيجاب الله إذا أوجبه العبد على نفسه كالنذر ، فإن الله أوجبه بإيجاب العبد ـ نصيحة ـ لا تزد في العهود ويكفيك ما جبرت عليه ، ولهذا كره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم النذر وأوجب الوفاء به ، لأنه من فضول الإنسان (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الطواف ثلاثة ، طواف القدوم وطواف الإفاضة ويقال له طواف الزيارة وطواف الوداع ، وقد أجمع العلماء على أن الواجب من هذه الأطواف الثلاثة هو طواف الإفاضة ، فإن المعرّف إذا قدم مكة بعد الرمي أجزأه طواف الإفاضة عن طواف القدوم وصح حجه وإن المودع إذا طاف في زعمه طواف الوداع ولم يكن طاف طواف الإفاضة كان ذلك الطواف طواف إفاضة أجزأ عن طواف الوداع ، لأنه طواف بالبيت معمول به في وقت طواف الوجوب الذي هو الإفاضة ، فقبله الله طواف إفاضة وأجزأ عن طواف الوداع ، والمتمتع إن لم يكن قارنا فعليه طوافان ، وإن كان قارنا فطواف واحد ، والمكي عليه طواف واحد ، وليست الطهارة شرطا في صحة الطواف ، فإنه يجوز الطواف بغير وضوء للرجل والمرأة ، إلا أن تكون حائضا فإنها لا تطوف ، وإن طافت لا يجزئها وهي عاصية لورود النص في ذلك ، وما ورد شرع بالطهارة للطواف إلا ما ورد في الحائض خاصة ، وما كل عبادة يشترط فيها هذه الطهارة الظاهرة ، ويجوز الطواف

١٦٣

في الأوقات كلها وبعد صلاة الصبح والعصر ، إلا أني أكره الدخول في الصلاة حال الطلوع وحال الغروب إلا أن يكون قد أحرم بها قبل حال الطلوع والغروب ، وصفة الطواف أن يجعل البيت على يساره ويبتدىء فيقبل الحجر الأسود إن قدر عليه ، ثم يسجد عليه أو يشير إليه إن لم يتمكن له الوصول إليه ، ويتأخّر عنه قليلا بحيث أن يدخله في الطواف بالمرور عليه ، ثم يمشي إلى أن ينتهي إليه يفعل ذلك سبع مرات ، يقبل الحجر في كل مرة ويمس الركن اليماني الذي قبل ركن الحجر بيده ولا يقبله ، فإن كان في طواف القدوم فيرمل ثلاثة أشواط ويمشي أربعة أشواط ، ولكن في أشواط رمله يمشي قليلا بين الركنين اليمانين ويقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) إلى أن تفرغ الأشواط السبعة ، كل ذلك بقلب حاضر مع الله ويتخيل أنه في تلك العبادة كالحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، فيلزم التسبيح في طوافه والتحميد والتهليل وقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، جاء في الخبر أن جبريل طاف بآدم حين أنزله الله بالكعبة ، فسأله آدم ما كنتم تقولون في طوافكم بهذا البيت ، فقال جبريل عليه‌السلام كنا نقول في طوافنا بهذا البيت سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، فقال آدم لجبريل عليهما‌السلام وأزيدكم أنا [ولا حول ولا قوة إلا بالله] فبقيت سنة في الذكر في الطواف لبنيه ولكل طائف به إلى يوم القيامة ، فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذه الكلمة أعطيها آدم من كنز من تحت العرش. واعلم أن الله لما نسب العرش إلى نفسه وجعله محل الاستواء الرحماني جعل الملائكة حافين به من حول العرش بمنزلة الحرس حرس الملك والملازمين بابه لتنفيذ أوامره ، وجعل الله الكعبة بيته ، ونصب الطائفين به على ذلك الأسلوب ، وتميز البيت على العرش وعلى الضراح وسائر البيوت الأربعة عشر بأمر ، ما نقل إلينا أنه في العرش ولا في غير هذا من البيوت ، وهو الحجر الأسود يمين الله في الأرض لنبايعه في كل شوط مبايعة رضوان وبشرى بقبول ما كان منا في كل شوط مما هو لنا أو علينا ، فما لنا فقبول وما علينا فغفران ، فإذا انتهينا إلى اليمين الذي هو الحجر استشعرنا من الله سبحانه بالقبول فبايعناه وقبلنا يمينه المضافة إليه قبلة قبول وفرح واستبشار ، هكذا في كل شوط ، فإن كثر الازدحام أشرنا إليه إعلاما بأنا نريد تقبيله ، وإعلاما بعجزنا عن الوصول إليه ولا نقف ننتظر النوبة حتى تصل إلينا فنقبله ، لأنه لو أراد ذلك منا ما شرع لنا الإشارة إليه إذا لم نقدر عليه فعلمنا أنه يريد منا اتصال المشي في السبعة

١٦٤

الأشواط من غير أن يتخللها وقوف إلا قدر التقبيل في مرورنا إذا وجدنا السبيل إليه ، وكل طواف قدوم فيه رمل هكذا السنة لمن أراد أن يتبعها ، وأجمع العلماء على أن الركوع بعد الطواف من سنن الطواف ، وهو أن يركع ركعتين ، والأولى أن يصلي عند انقضاء كل أسبوع (أي سبعة أشواط) فإن جمع أسابيع فلا ينصرف إلا عن وتر ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما انصرف من الطواف إلا عن وتر فإنه انصرف عن سبعة أشواط أو عن طواف واحد ، فإن زاد فينصرف عن ثلاثة أسابيع وهي واحد وعشرون شوطا ولا ينصرف عن أسبوعين ، فإنه شفع ، وبالأشواط الأربعة عشر شوطا وهي شفع فجاء بخلاف السنة في طوافه من كل وجه ، والأولى أن لا يؤخر الركعتين عن أسبوعهما ، وليصلهما عند انقضاء الأسبوع ـ إشارة ـ طواف القدوم يقابل طواف الوداع ، فهو كالاسم الأول والآخر ، وطواف الإفاضة بينهما برزخ ، فلطواف الزيارة وجه إلى طواف الوداع ووجه إلى طواف القدوم ، كالعقل إذا أقبل على الله بالاستفادة ، وطواف الوداع إذا أراد الخروج إلى النفس بالإفادة ، والبرزخ أبدا أقوى في الحكم لجمعه بين الطرفين ، فيتصور في أي صورة شاء ، ويقوم في حكم أي طرف أراد ، ويجزىء عنهما ، فله الاقتدار التام ، والرمل إسراع في نفس الخير إلى الخير فهو خير في خير.

(ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) (٣٠)

العالم حرم الحق ، والكون حرمه الذي أسكن فيه هؤلاء الحرم ، وأعظم الحرم ما له فيه أثر الطبع النكاحي لأنه محلّ التكوين ، فمن عظم حرمة الله فإنما عظم الله ، ومن عظم الله كان خيرا له ، وهو ما يجازيه به من التعظيم ، واعلم أن كل شعائر الله في دار التكليف قد حد لها للمكلف في جميع حركاته الظاهرة والباطنة حدودا عمت جميع ما يتصرف فيه روحا وحسا بالحكم ، وجعلها حرمات له عند هذا المكلف ، فقال : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) وتعظيمها أن يبقيها حرمات كما خلقها الله في الحكم ، (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) فمن يسقط حرمات الله في دار التكليف فلا يرفع بها رأسا ولا يجد لها تعظيما يفقد خيرها إذ

١٦٥

لم يعظمها عند ربه ونحن في دار التكليف ، فما فاتنا في هذه الدار من ذلك فاتنا خيره في الدار الآخرة ـ وجه آخر ـ (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) يعني خيرا له ممن يعظم شعائر الله إذا جعلنا خير بمعنى أفعل من ، ليميز بين تعظيم الشعائر وتعظيم حرمات الله ، فإن حرمة الله ذاتية فهو يقتضي التعظيم لذاته ، بخلاف الأسباب المعظمة ، فإن الناظر في الدليل ما هو الدليل له مطلوب لذاته ، فينتقل عنه ويفارقه إلى مدلوله ، فلهذا العالم دليل على الله لأنا نعبر منه إليه تعالى ، ولا ينبغي أن نتخذ الحق دليلا على العالم فكنا نجوز منه إلى العالم وهذا لا يصح قال تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ) إلى كذا ، وعدّد المخلوقات لتتخذ أدلة عليه لا ليوقف معها ، فهذا الفرق بين حرمات الله وشعائر الله ـ وجه آخر ـ العامل في ظرف «عند ربه» أي من يعظم حرمات الله عند ربه أي في المواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كالصلاة مثلا ، فإن المصلي يناجي ربه فهو عند ربه ، فإذا عظم حرمة الله في هذا الموطن كان خيرا له ، والمؤمن إذا نام على طهارة فروحه عند ربه ، فيعظم هناك حرمة الله فيكون الخير الذي له في مثل هذا الموطن المبشرة التي تحصل له في نومه أو يراها له غيره ، والمواطن التي يكون العبد فيها عند ربه كثيرة فيعظم فيها حرمات الله فليبحث العبد عن المواطن التي يكون فيها عند ربه فيعظم حرمة الله في تلك المواطن ، وتعظيمها أن يتلبس بها حتى تعظم (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) لأنه مال بصاحبه عن الحق الذي هو الأمر عليه وزال عن العدل.

(حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (٣١)

(حُنَفاءَ لِلَّهِ) فيكون العبد من المخلصين ويكون الدين مستخلصا من الشيطان ، أو من الباعث عليه من خوف ورغبة وجنة ونار ، فيميل العبد به عن الشريك ولهذا قال فيه : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي مائلين إلى جانب الحق ـ الذي شرعه وأخذه على المكلفين ـ من جانب الباطل (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) وهو مثل قوة حكم النفس (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ).

١٦٦

(ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (٣٢)

شعائر الله أعلامه ، وأعلامه الدلائل الموصلة إليه ، وكل شعيرة منها دليل على الله من حيث أمر ما خاص أراده الله وأبانه لأهل الفهم من عباده ، فيتفاضلون في ذلك على قدر فهمهم ، والشعائر ما دق وخفي من الدلائل ، وأخفاها وأدقها في الدلالة الآيات المعتادة ، فهي المشهودة المفقودة ، والمعلومة المجهولة ، فإذا رأيت ما يقال فيه إنه من شعائر الله وتجهل أنت صورته من الشعائر ، ولا تعلم ما تدل عليه هذه الشعيرة فاعلم أن تلك الشعيرة ما خاطبك الحق بها ولا وضعها لك ، وإنما وضعها لمن يفهمها عنه ، ولك أنت شعيرة أيضا غيرها ، وهي كل ما تعرف أنها دلالة لك عليه ، فقف عندها وقل رب زدني علما ، فيقوى فهمك فيما أنزله ويعلمك ما لم تكن تعلم ، فليس في العالم عين إلا وهو من شعائر الله من حيث ما وضعه الحق دليلا عليه ، ولما كان الشرف للموجودات إنما هو من حيث دلالتها على الله وجب تعظيمها ، فوصف من يعظم شعائر الله بقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها) أي الشعائر عينها ، وهي الأعلام والدلالات والأسباب التي وضعها الله تعالى في العالم شعائر وأعلاما لما يريد تكوينه وخلقه من الأشياء ، لما سبق في علمه أن يربط الوجود بعضه ببعضه ، ودل الدليل على توقف وجود بعضه على بعضه ، فالتعظيم لها ضرب من العلم به تعالى ، (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) فمن عظمها فهو تقي في جميع تقلباته ، فإن القلوب من التقليب ، لأنه لما كان الدليل يشرف بشرف المدلول ، والعالم دليل على وجود الله ، فالعالم شريف كله ، فلا يحتقر شيء منه ولا يستهان ، فإن الله ما حقره لما علق القدرة بإيجاده ، فما ثم تافه ولا حقير ، فإن الكل شعائر الله ، فإن احتقار شيء من العالم لا يصدر من تقي يتقي الله. ـ الوجه الثاني ـ (فَإِنَّها) يعني العظمة ، والعظمة راجعة لحال المعظم بكسر الظاء اسم فاعل ، لذلك فهي حالة القلب فقال : (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) أي فإن عظمتها من تقوى القلوب ، فإن كل شيء من العالم إذا نظرته بتعظيم الله لا بعظمته فهو عظيم وهو الأدب ، فإنه لا ينبغي أن ينسب إلى العظيم إلا ما يستعظم ، فإنه تعظم عظمته في نفس من نظره بهذا النظر ، وما قال سبحانه إن ذلك من تقوى النفوس ، ولا من تقوى الأرواح ، ولكن قال من تقوى القلوب ، لأن الإنسان يتقلب في الحالات مع الأنفاس ، ومن يتق الله في كل

١٦٧

تقلب يتقلب فيه فهو غاية ما طلب الله من الإنسان ، ولا يناله إلا الأقوياء الكمل من الخلق ، لأن الشعور بهذا التقليب عزيز ، ولهذا قال شعائر الله أي هي تشعر بما تدل عليه ، وما تكون شعائر إلا في حق من يشعر بها ، ومن لا يشعر بها وهم أكثر الخلق فلا يعظمها ، فإذا لا يعظمها إلا من قصد الله في جميع توجهاته وتصرفاته كلها ، ولهذا ما ذكرها الله إلا في الحج الذي هو تكرار القصد ، ولما كان القصد لا يخلو عنه إنسان كان ذكر الشعائر في آية الحج وذكر المناسك ، وهي متعددة أي في كل قصد ، ثم إن كل شعائر الله في دار التكليف قد حد لها للمكلف في جميع حركاته الظاهرة والباطنة حدودا عمت جميع ما يتصرف فيه روحا وحسا بالحكم ، وجعلها حرمات له عند هذا المكلّف ، فقال : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) وتعظيمها أي يبقيها حرمات كما خلقها الله في الحكم ، وهذا لا يكون إلا من تقوى القلوب ، فكل شيء في العالم أوجده الله لا بد أن يكون مستندا في وجوده إلى حقيقة إلهية ، فمن حقره واستهان به فإنما حقر خالقه واستهان به ، لأن كل ما في الوجود حكمة أوجدها الله ، لأنه صنعة حكيم ، فلا يظهر إلا ما ينبغي لما ينبغي كما ينبغي ، فمن عمي عن حكمة الأشياء فقد جهل ذلك الشيء ، ومن جهل كون ذلك الأمر حكمة فقد جهل الحكيم الواضع له ، ولا شيء أقبح من الجهل ، ولا تكون التقوى من جاهل ، والشعائر وإن كانت عظيمة في نفسها بما تدل عليه وعظيمة من حيث إن الله أمر بتعظيمها ، فموجدها وخالقها الآمر بتعظيمها أكبر منها وأعظم ، وما يقوم بحق التعظيم إلا من عظمه باستمرار الصحبة ، لا من عظمه عندما فجأه ، ذلك تعظيم الجاهل ، فمن عاين الخلق الجديد لم يزل معظما للشعائر الإلهية.

(لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) (٣٣)

(لَكُمْ فِيها) يعني البدن (مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) اعلم أن البدن جعلها الله من شعائره ، ولهذا تشعر ليعلم أنها من شعائر الله ، وما وهب لله لا رجعة فيه ، ألا تراها إذا ماتت قبل وصولها إلى البيت كيف ينحرها صاحبها ويخلي بينها وبين الناس ولا يأكل منها شيئا ، وما عظم الله شعائره سدى ، لأنه ما عظم إلا من يقبل التعظيم ، وأما العظيم فلا يعظم ، فالله عظيم والعالم كله لإمكانه حقير ، إلا أنه يقبل التعظيم ، ولم يكن له طريق في التعظيم إلا أن يكون من شعائر الله عليه ـ إشارة ـ البيت العتيق عند أهل

١٦٨

الإشارات هو بيت الإيمان ، وليس إلا قلب المؤمن الذي وسع عظمة الله وجلاله ، والشعائر هي الدلائل الموصلة إليه تعالى وإلى معرفته.

(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (٣٤)

(وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) فنؤمن به من حيث ما جاء به الخبر لا من حيث الدليل ، فذلك التصديق هو الإيمان ، والمخبتون هم الذين تولاهم الله بالإخبات وهو الطمأنينة ، والخبت المطمئن من الأرض ، فالذين اطمأنوا بالله من عباده وسكنت قلوبهم لما اطمأنوا إليه سبحانه فيه وذلوا لعزته أولئك هم المخبتون الذين أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابه أن يبشرهم فقال له : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) ، فإن قيل ومن المخبتون قل.

(الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣٥)

فهذه صفات المخبتين أي كانوا ساكنين فحركهم ذكر الله بحسب ما وقع به الذكر ، وصبروا أي حبسوا نفوسهم على ما أصابهم من ذلك ولم يمنعهم ذلك الوجل ولا غلبة الحال عن إقامة الصلاة إذا حضر وقتها على أتم نشأتها لما أعطاهم الله من القوة على ذلك ، ثم مع ما هم فيه من الصبر على ما نابهم من الشدة فسألهم سائل ـ وهم بتلك المثابة في رزق علمي أو حسي من سد جوعة أو ستر عورة ـ أعطوه مما سألهم منه ، فلم يشغلهم شأن عن شأن ، فهذا نعت المخبتين الذي نعتهم الله به ، وهم ساكنون تحت مجاري الأقدار عليهم راضون بذلك ، من خبت النار إذا سكن لهيبها.

(وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ

١٦٩

كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٣٦)

النعم كلها من شعائر الله ، فإن كل شعيرة منها دليل على الله من حيث أمر خاص أراده الله وأبانه لأهل الفهم من عباده ، والبدن هي الإبل وجعلها من شعائر الله عند كل حليم أواه ، ولم يكن المقصود منها إلا أنتم ، بقوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر» يعني من البدن التي جعلها سبحانه من شعائر الله ، والقانع السائل والسّؤال من الله لا من غيره ، يقال قنع قنوعا إذا سأل وهو الذي رفع سؤاله إلى الله ، ومن سأل غير الله فليس بقانع ويخاف عليه من الحرمان والخسران ـ اعتبار من إشعار البدن ـ اعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ذكر في الإبل أنها شياطين وجعل ذلك علة في منع الصلاة في معاطنها ، والشيطنة صفة بعد من رحمة الله لا من الله ، لأن الكل في قبضة الله وبعين الله ، والإشعار الإعلام ولا أبعد من شياطين الإنس والجن ، والهدية بعيدة من المهدى إليه لأنها في ملك المهدي فهي موصوفة بالبعد ، وما يتقرب المتقرب إلى الله من أهل الدعاء إلى الله بأولى من رد من شرد عن باب الله وبعد إلى الله ليناله رحمة الله ، فإن الرسل ما بعثت بالتوحيد إلا للمشركين وهم أبعد الخلق من الله ليردوهم إلى الله ويسوقوهم إلى محل القرب وحضرة الرحمة ، فلهذا أهدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم البدن مع ذكره فيها أنها شياطين ، ليثبت عند العالمين به أن مقامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رد البعداء من الله إلى حال التقريب ، ثم إنه أشعرها في سنامها الأيمن ، وسنامها أرفع ما فيها ، فهو الكبرياء الذي كانوا عليه في نفوسهم ، فكان إعلاما من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لنا بأنه من هذه الصفة أتي عليهم ، لنجتنبها ، فإن الدار الآخرة إنما جعلها الله للذين لا يريدون علوا في الأرض ، والسنام علو ، ووقع الإشعار في صفحة السنام الأيمن ، فإن اليمين محل الاقتدار والقوة ، والصفحة من الصفح ، إشعار من أن الله يصفح عمن هذه صفته إذا طلب القرب من الله وزال عن كبريائه الذي أوجب له البعد ، لأنه أبى واستكبر ، وجعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم الدلالة على إزالة الكبرياء في شيطنة البدن جعل النعال في رقابها ، إذ لا يصفع بالنعال إلا أهل الهون والذلة ، ومن كان بهذه المثابة فما بقي فيه كبرياء يشهد ، وعلق النعال في قلائد من عهن وهو الصوف ليتذكر بذلك ما أراد الله بقوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ) فإذا كانت هذه صفته كان قربانا من التقريب إلى الله ،

١٧٠

فحصلت له القربة بعد ما كان موصوفا بالبعد إذ كان شيطانا ، فإذا كانت الشياطين قد أصابتهم الرحمة فما ظنك بأهل الإسلام ـ نحر البدن ـ خرج أبو داود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه كانوا ينحرون البدنة معقولة اليد اليسرى ، قائمة على ما بقي من قوائمها.

(لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) (٣٧)

ولذلك قال تعالى في الآية السابقة (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) من حيث أن الإنفاق له وجهان وجه إلى الحق ووجه إلى الخلق (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها) بل عادت منفعتها علينا من أكل لحومها والأجر الجزيل في نحرها والصدقة بلحومها (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) فنالنا منها لحومها ونال الحق منها التقوى منا فيها ، فالحق تناله التقوى أعني تقوى القلوب ، فإنها شعائر الله ، ومن تقوانا تعظيمها ، وهو ضرب من العلم بالله من تقوى القلوب ، واعلم أن المراد بإثبات النيل هنا وعدم النيل في جانب الحق أن الله سبحانه ما يناله شيء من أعمال الخلق ، مما كلفهم العمل فيه نيل افتقار إليه وتزين به ليحصل له بذلك حالة لم يكن عليها ، ولكن يناله التقوى وهو أن تتخذوه وقاية مما أمركم أن تتقوه به على درجات التقوى ومنازله ، فمعنى يناله التقوى أنه يتناولها منك ليلبسك إياها بيده تشريفا لك حيث خلع عليك بغير واسطة ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنما هي أعمالكم ترد عليكم ، فيكسوكم الحق من أعمالكم حللا على قدر ما حسّنتموها واعتنيتم بأصولها ، فمن لابس حريرا ، ومن لابس مشاقة كتان وقطن وما بينهما ، فسواء كانت الخلعة من رفيع الثياب أو دنيئها فذلك راجع إليك ، فإنه ما ينال منك إلا ما أعطيته ، وإن جمع ذلك التقوى ، فإنه لا يأخذ شيئا سبحانه من غير المتقي ، فلهذا وصف نفسه بأن التقوى تناله من العباد ، والتقوى من المتقين من خلقه ، (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) الذين أشهدهم كبرياءه.

(إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ

١٧١

دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٤٠)

(وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) فالحمد لله واضع الملل وشارع النحل ، تارة بالوحي وتارة بالإلهام ، فوقتا خلف حجاب الإشراق ووقتا خلف حجاب الظلام ، فأضل وهدى ، وأنجى وأردى ، وأقام أعلام الضلالة والهدى ، ففصل بها بين الأولياء والأعداء ، فجعل الهدى لحزب السعادة سلما ، ونصب الضلالة لحزب الشقاوة علما ، وأوقع بينهما الفتن والحرب ، في عالم الشهادة والغيب ، وثبتت في صدورهم الشحناء ، وبدت بينهم العداوة والبغضاء ، فسفكت الدماء ، واتبعت الأهواء ، فالسعيد منا من ناضل عن شرعه المؤيد بالآيات ، وقاتل عن وضعه المقرر بالمعجزات ، والشقي من احتمى بحمى الضلالات ، ودافع عنها بمجرد الحمايات ، وأعمى نفسه عن ملاحظة الصواب ، فيما وقع به الخطاب ، فبادروا إلى نصرة الدين المكي ، وقاتلوا بما ثبت في نفوسكم من اليقين اليمني ، وقد خاب من طلب أثرا بعد عين ، ورجع بعد معرفته بعلو مرتبة الصدق إلى المين ، جعلنا الله وإياكم ممن ذب عن شرعه المعصوم ، وناضل عن دينه المعلوم.

(الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٤١)

وهو الحمد فإن عواقب الثناء كله يرجع إلى الله لا إلى غيره.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ

١٧٢

فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦)

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) ما جعلها عقلا إلا ليعقل عنه العبد بها ما يخاطبه بها ، فاعلم أيدك الله أن العلم تحصيل القلب أمرا ما على حد ما هو عليه ذلك في نفسه ، معدوما كان ذلك الأمر أو موجودا ، فالعلم هو الصفة التي توجب التحصيل من القلب ، والعالم هو القلب والمعلوم هو ذلك الأمر المحصل ، فالقلب مرآة مصقولة كلها وجه لا تصدأ أبدا ، فإن أطلق يوما عليها أنها صدئت كما قال عليه‌السلام إن القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد ـ الحديث ـ وفيه أن جلاءها ذكر الله وتلاوة القرآن ، فليس المراد بهذا الصدأ أنه طخاء طلع على وجه القلب ، ولكنه لما تعلق واشتغل بعلم الأسباب عن العلم بالله كان تعلقه بغير الله صدأ على وجه القلب لأنه المانع من تجلي الحق إلى هذا القلب ، لأن الحضرة الإلهية متجلية على الدوام لا يتصور في حقها حجاب عنا ، فلما لم يقبلها هذا القلب من جهة الخطاب الشرعي المحمود لأنه قبل غيرها ، عبر عن قبول ذلك الغير بالصدأ والكن والقفل والعمى والران وغير ذلك ، فالقلوب أبدا لم تزل مفطورة على الجلاء مصقولة صافية ، فكل قلب تجلت فيه الحضرة الإلهية فذلك قلب المشاهد المكمل العالم ، ومن لم تتجل له من كونها من الحضرة الإلهية فذلك هو القلب الغافل عن الله تعالى المطرود من قرب الله تعالى ـ تحقيق ـ اعلم أن الله تعالى ابتلى الإنسان ببلاء ما ابتلى به أحدا من خلقه ، إما لأن يسعده أو يشقيه ، على حسب ما يوفقه إلى استعماله ، فكان البلاء الذي ابتلاه به أن خلق فيه قوة تسمى الفكر ، وجعل هذه القوة خادمة لقوة أخرى تسمى العقل ، وجبر العقل مع سيادته على الفكر أن يأخذ منه ما يعطيه ، ولم يجعل للفكر مجالا إلا في القوة الخيالية وجعل سبحانه القوة الخيالية محلا جامعا لما تعطيه القوة الحساسة ، وجعل له قوة يقال لها المصورة ، فلا يحصل في القوة الخيالية إلا ما أعطاه الحس ، أو أعطته القوة المصورة من المحسوسات ، وذلك

١٧٣

لأن العقل خلق ساذجا ليس عنده من العلوم النظرية شيء ، وقيل للفكر ميز بين الحق والباطل الذي في هذه القوة الخيالية ، فينظر بحسب ما يقع له ، فقد يحصل في شبهة ، وقد يحصل في دليل عن غير علم منه بذلك ، ولكن في زعمه أنه عالم بصور الشبه من الأدلة ، وأنه قد حصل على علم ، ولم ينظر إلى قصور المواد التي استند إليها في اقتناء العلوم فيقبلها العقل منه ويحكم بها ، فيكون جهله أكثر من علمه بما لا يتقارب ، ثم إن الله كلّف هذا العقل معرفته سبحانه ليرجع إليه فيها لا إلى غيره ، ففهم العقل نقيض ما أراد به الحق ، فاستند إلى الفكر وجعله إماما يقتدى به ، وغفل عن الحق في مراده بالتفكر ، أنه خاطبه أن يتفكر فيرى أن علمه بالله لا سبيل إليه إلا بتعريف الله ، فيكشف له عن الأمر على ما هو عليه ، فلم يفهم كل عقل هذا الفهم ، إلا عقول خاصة الله من أنبيائه ، وأوليائه ، فالذي ينبغي للعاقل أن يدين الله به في نفسه أن يعلم أن الله على كل شيء قدير ، نافذ الاقتدار ، واسع العطاء ، ليس لإيجاده تكرار ، بل أمثال تحدث في جوهر أوجده ، وشاء بقاءه ، ولو شاء أفناه مع الأنفاس (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) فإنها أدركت بلا شك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا تزييد في حديثكم وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى ولسمعتم ما أسمع (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وهي أعين البصائر ، تعمى عن النظر في مقدمات الأدلة وترتيبها (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) فبين مكان القلوب ، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه ، من أن مركز الروح وهو الخليفة المستخلف على الجسم إنما هو القلب ، فليست الإشارة للقلب النباتي فإن الأنعام يشاركوننا في ذلك ، لكن للسر المودع فيه وهو الخليفة ، والقلب النباتي قصره ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح سائر الجسد وإذا فسدت فسد سائر الجسد ألا وهي القلب ، فالقلب النباتي لا فائدة له إلا من حيث هو مكان لهذا السر المطلوب ، المتوجه عليه الخطاب ، والمجيب إذا ورد السؤال ، والباقي إذا فني الجسم والقلب النباتي ، فنقول كذلك إذا صلح الإمام صلحت الرعية وإذا فسد فسدت ، بذا جرت العادة وارتبطت الحكمة الإلهية ، فالقلب ما دام في الصدور فهو أعمى لأن الصدر حجاب عليه ، فإذا أراد الله أن يجعله بصيرا خرج عن صدره فرأى ، فالأسباب صدور الموجودات ، والموجودات كالقلوب ، فما دام الموجود ناظرا إلى السبب الذي صدر عنه كان أعمى عن شهود الله الذي أوجده ، فإذا أراد الله أن يجعله بصيرا ترك النظر إلى السبب الذي أوجده

١٧٤

الله عنده ، ونظر من الوجه الخاص الذي من ربه إليه في إيجاده جعله الله بصيرا ، فالأسباب كلها ظلمات على عيون المسببات ، وفيها هلك من هلك من الناس ، فالعارفون يثبتونها ولا يشهدونها ، ويعطونها حقها ولا يعبدونها ، وما سوى العارفين يعاملونها بالعكس ، يعبدونها ولا يعطونها حقها ، بل يغصبونها فيما تستحقه من العبودية التي هي حقها ويشهدونها ولا يثبتونها ، والعالم لم يزل في المعنى تحت تأثير الأسباب ، فإن الأسباب محال رفعها ، وكيف يرفع العبد ما أثبته الله ليس له ذلك ، ولكن الجهل عم الناس فأعماهم وحيرهم وما هداهم ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، بالروح الموحى من أمر الله ، فيهدي به من يشاء من عباده ، فقد أثبت الهداية بالروح ، وهذا وضع السبب في العالم ، فالوقوف عند الأسباب لا ينافي الاعتماد على الله ، ولهذا جعل سبحانه الأسباب مسببات لأسباب غيرها من الأدنى حتى ينته فيها إلى الله سبحانه ، فهو السبب الأول لا عن سبب كان به ، فالقلب في الصدور هو الرجوع لا واحد الصدور ، فإنا عن الحق صدرنا من كوننا عنده في الخزائن ، كما أعلمنا فعلمنا ، فهو صدور لم يتقدّمه ورود ، فالحق المعتقد في القلب هو إشارة إلى القلب ، فاقلب تجد ما ثبت في المعتقد ، فقوله تعالى : (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) على الوجهين الواحد من الوجهين للحصر وهي الصدور المعلومة والثاني للرجوع إلى الحق ، ومن وجه آخر تعمى القلوب التي في الصدور عن الحق والأخذ به ، فلو كانت غير معرضة عن الحق مقبلة عليه لأبصرت الحق فأقرت له بالربوبية في كل شيء ، فلما صدرت عن الحق بكونها ولم تشهده في عينها عميت في صدورها عمن أوجدها ، فإن عمى القلوب أشد من عمى الأبصار ، فإن عمى القلوب يحول بينك وبين الحق ، وعمى البصر الذي لم يرقط صاحبه ليس يحول إلا بينك وبين الألوان خاصة ، ليس له إلا ذلك ، وهذا العمى من الحجب التي احتجب بها الخلق عن الله ، وكذلك الصمم والقفل والكن.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٤٧)

يعني من أيامنا هذه المعلومة المعروفة وهو هذا اليوم الصغير الذي من شروق الشمس إلى شروق الشمس ، فبهذا الليل والنهار الموجودين في المعمور من الأرض بهما تعد أيام الأفلاك

١٧٥

وأيام الرب ، ونحن نعلم قطعا أن الأماكن التي يكون فيها النهار ستة أشهر والليل كذلك أن ذلك يوم واحد في حق ذلك الموضع ، فيوم ذلك الموضع ثلاثمائة وستون يوما مما نعده.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢)

الأنبياء لهم العصمة من الشيطان ظاهرا وباطنا وهم محفوظون من الله في جميع حركاتهم ، وذلك لأنهم قد نصبهم الله للناس ولهم المناجاة الإلهية ، فالأنبياء المرسلون معصومون من المباح أن يفعلوه من أجل نفوسهم ، لأنهم يشرعون بأفعالهم وأقوالهم ، فإذا فعلوا مباحا يأتونه للتشريع ليقتدى بهم ويعرفون الأتباع الحكم الإلهي فيه ، فهو واجب عليهم ليبينوا للناس ما أنزل إليهم ، والأنبياء معصومون أن يلقي الشيطان إليهم ، وكذلك الأنبياء يعطى لكل نبي أجر الأمة التي بعث إليهم سواء آمنوا به أو كفروا ، فإن نية كل نبي يود لو أنهم آمنوا ، فيتساوى الأنبياء في أجر التمني ، ويتميز كل واحد عن صاحبه في الموقف بالأتباع ، فالنبي يأتي ومعه السواد الأعظم ، وأقل وأقل حتى يأتي نبي ومعه الرجلان والرجل ، ويأتي النبي وليس معه أحد والكل في أجر التبليغ سواء ، وفي الأمنية (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فإن الحق لم يأت بالمعجزة إلا لمن يعلم أن في قوّته قبولها بما ركب الله فيه من ذلك ، ولذلك اختلفت الدلالات من كل نبي وفي حق كل طائفة ، ولو جاءهم بآية ليس في وسعهم أن يقبلوها لجهلهم ما آخذهم الله بإعراضهم ولا بتوليهم عنها ، فإن الله عليم حكيم عادل.

(لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ

١٧٦

الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٥٤)

وصف الحق نفسه بأنه الهادي ، والهادي هو الذي يكون أمام القوم ليريهم الطريق ، وهو قوله : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) فتقدم تعالى الأشياء ليهديها إلى ما فيه سعادتها ، وتأخر عنها بقوله : (مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) ، ليحفظها ممن يغتالها وهو العدم ، فإن العدم يطلبها كما يطلبها الوجود ، وهي في محل قابل للحكمين ليس في قوتها الامتناع إلا بلطف اللطيف.

(وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) (٥٥)

العقيم ما يوجب أن لا يولد منه ، فلا تكون له ولادة على مثله ، وسمى اليوم عقيما لأنه لا يوم بعده أصلا ، وهو من يوم الأسبوع يوم السبت ، وهو يوم الأبد ، فنهاره نور لأهل الجنة دائم لا يزال أبدا ، وليله ظلمة على أهل النار لا يزال أبدا.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٦٠)

(لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) ولو بعد حين (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) كل عاص ما اجترأ على الله إلا بما أشهده من نعوته تعالى ، من العفو والتجاوز والصفح والمغفرة وعموم الرحمة ولا سيما العفو.

١٧٧

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٦١)

اعلم أن الأيام في الدنيا كل يوم هو ابن اليوم قبله ، وهما توأمان ليلة ونهار ، فالليلة أنثى والنهار ذكر ، فيتناكحان فيلدان النهار والليل اللذين يأتيان بعدهما ، ويذهب الأبوان فإنهما لا يجتمعان أبدا ، وفي غشيان الليل النهار وإيلاج بعضهما في بعض يكون ولادة ما يتكون في كل واحد منهما من الأمور والكوائن التي هي من شؤون الحق ، فيكون الليل ذكرا والنهار أنثى لما يتولّد في النهار من الحوادث ، ويكون النهار ذكرا والليل أنثى لما يتولد في الليل من الحوادث ، فهذا التوالج لإيجاد ما سبق في علمه أن يظهر فيه من الأحكام والأعيان في العالم العنصري ، فنحن أولاد الليل والنهار ، فما حدث في النهار فالنهار أمه والليل أبوه ، وما ولد في الليل فالليل أمه والنهار أبوه ، ولا يزال الحال في الدنيا ما دام الليل والنهار يغشى أحدهما الآخر.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٦٢)

(هُوَ الْعَلِيُّ) لذاته لا بالإضافة ، لأن الكل تحت ذل الحصر والتقييد والعجز ، لينفرد جلال الله بالكمال على الإطلاق فالعلي لنفسه هو الذي يكون له الكمال الذي يستغرق به جميع الأمور الوجودية والنسب العدمية ، بحيث لا يمكن أن يفوته نعت منها ، وليس ذلك إلا لمسمى الله خاصة ، وليس علوه بالمكان ولا المكانة ، فإن علو المكانة يختص بولاة الأمر كالسلطان والحكام والوزراء والقضاة وكل ذي منصب ، سواء كان فيه أهلية ذلك المنصب أو لم يكن ، والعلو بالصفات ليس كذلك.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ

١٧٨

السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٦٥)

لرحمته بمن في الأرض من الناس مع كفرهم بنعمه ، فلا تهوي السماء ساقطة واهية حتى يزول الناس منها ، لذلك تمم (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) فيمسك الله صورة السماء على السماء لأجل الإنسان الموحد الذي لا يمكن أن ينفي فذكره الله لله ، لأنه ليس في خاطره إلا الله ، فما عنده أمر آخر يدعي عنده ألوهية فينفيه بلا إله إلا الله ، فليس إلا الله الواحد الأحد ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تقوم الساعة حتى لا يبقى على وجه الأرض من يقول الله الله ، فهذا هجير هذا الإمام الذي يقبض آخرا وتقوم الساعة فتنشق السماء ، فهذا وأمثاله كان العمد لأن الله ما أمسكها إلا من أجله أن تقع على الأرض.

(وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ

١٧٩

تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (٧٤)

المعرفة تتعلق بأمرين من كل معروف ، الأمر الواحد الحق والآخر الحقيقة ، فالحق من مدارك العقول من جهة الدليل ، والحقيقة من مدارك الكشف والمشاهدة ، وليس ثم مدرك ثالث البتة ، فلهذا قال حارثة أنا مؤمن حقا ، فأتى بالمدرك الأول فكان عنده مؤيدا بالمدرك الثاني ، ولكن سكت فقال له النبي عليه‌السلام فما حقيقة إيمانك ، يرى إن كان عنده المدرك الثاني ، فأجابه بالاستشراف والاطلاع والكشف ، فقال له النبي عليه‌السلام عرفت فالزم ، فلا تصح المعرفة للشيء على الكمال إلا بهاتين الحقيقتين الحق والحقيقة ، فإذا أخبر الله تعالى بأنا عاجزون عن إدراك حق قدره ، فكيف لنا بحقيقة قدره ، وليس القدر هنا إلا المعرفة بما يقتضيه مقام الألوهية من التعظيم ، ونحن قد عجزنا عنه فأحرى أن نعجز عن معرفة ذاته جلت وتعالت علوا كبيرا ، فلما عاين المحققون هذا الإجلال وقطعوا أنهم لا يقدرون قدره مع ما تقرر عندهم من التعظيم ، وقدر ما هم بالتقصير ، فعرفوا أنه ليس في وسع المحدثات أن تقدر قدر القديم ، لأن ذلك موقوف على ضرب من المناسبة الحقيقية ، ولا مناسبة في مفاوز الحيرة لهذا الجلال ، وما قدروا الله حق قدره فيما كيّف به نفسه مما ذكره في كتابه وعلى لسان رسوله من صفاته ، فالحق ذكر عن نفسه أن العبد يتحرك بحركة يضحك بها ربه ، ويتعجب منها ربه وتبشبش له من أجلها ربه ، ويفرح بها ربه ويرضى بها ربه ويسخط بها ربه ، وهذا حكم أثبته الحق ونفاه دليل العقل ، فعرفنا أن العقل قاصر عما ينبغي لله عزوجل ، وأنه لو ألزم نفسه الإنصاف للزم حكم الإيمان والتلقي ، وجعل النظر والاستدلال في الموضع الذي جعله الله ، ولا يعدل به عن طريقه الذي جعله الله له ، وهو الطريق الموصل إلى كونه إلها واحدا لا شريك له في ألوهيته ، ولا يتعرض لها لما هو عليه في نفسه ، فالحق قد أخبر عن نفسه أنه يجيب عبده إذا سأله ، ويرضى عنه إذا أرضاه ، ويفرح بتوبة عبده إذا تاب ، فانظر يا عقل لمن تنازع ، فالحق أعلم بنفسه ، فهو الذي نعت نفسه بهذا كله ،

١٨٠