رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(٣٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٤٠) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (٤١) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (٤٢) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٤٣) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٤) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (٤٥) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (٤٦) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (٤٧) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ) (٤٨)

فبالحياء قصر الطرف ، فهن قاصرات الطرف ، فلا يشاهدن في نظرهن أحسن من أزواجهن.

(كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (٤٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٥٠) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (٥١) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (٥٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (٥٣) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (٥٤) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (٥٥)

هذه قصة الرجلين اللذين ذكرهما الله في سورة الكهف المضروب بهما المثل ، وهو قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) إلى آخر الآيات في قصتهما في الدنيا ، وذكر في الصافات حديثهما في الآخرة في قوله تعالى : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ) وفيها ذكر المعاتبة وفي قوله : (تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) لما اطلع فرآه في سواء الجحيم ، وهو قوله : (ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) فاعلم وفقنا الله وإياك أن درجات الجنة على عدد دركات النار ، فما من درج إلا ويقابله درك من النار ، وذلك أن الأمر والنهي لا يخلو الإنسان إما أن يعمل بالأمر أو لا يعمل ، فإذا عمل به كانت له درجة في الجنة معينة لذلك العمل خاصة ، وفي موازنة هذه الدرجة المخصوصة لهذا العمل الخاص إذا تركه الإنسان درك في النار ، لو سقطت حصاة من تلك الدرجة من الجنة لوقعت على خط استواء في ذلك

٤٨١

الدرك من النار ، فإذا سقط الإنسان من العمل بما أمر فلم يعمل ، كان ذلك الترك لذلك العمل عين سقوطه إلى ذلك الدرك ، قال تعالى : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) فالاطلاع على الشيء من أعلى إلى أسفل ، والسواء حد الموازنة على الاعتدال ، فما رآه إلا في ذلك الدرك الذي في موازنة درجته ، فإن العمل الذي نال به هذا الشخص تلك الدرجة تركه هذا الشخص الآخر الذي كان قرينه في الدنيا بعينه.

(قالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ) (٥٦)

معاتبة على قوله له في الدنيا (ما أظن الساعة قائمة).

(وَلَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٥٧)

ـ نصيحة ـ لا تصاحب أحدا إلا من ترى معه الزيادة في دينك ، فإن نقص منه فاهرب منه كهروبك من الأسد بل أشد ، فإن الأسد يهدم دنياك فيعطيك الدرجات ، وقرين السوء يحرمك الدنيا والآخرة.

(أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (٥٨) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٥٩) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٦٠)

اعلم أن أحدا لا يؤاخذه على ما جناه سوى ما جناه ، فهو الذي آخذ نفسه ، فلا يلومن إلا نفسه ، ومن اتقى مثل هذا فقد فاز فوزا عظيما.

(لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦١)

إذ ولا بد من إضافة العمل إلينا ، فإن الله أضاف الأعمال إلينا ، وعيّن لنا محالها وأماكنها وأزمنتها وأحوالها ، وأمرنا بها وجوبا وندبا وتخييرا ، كما أنه نهانا عزوجل عن أعمال معينة عيّن لها محالها وأماكنها وأزمانها وأحوالها ، تحريما وتنزيها ، وجعل لذلك كله جزاء بحساب

٤٨٢

وبغير حساب ، من أمور ملذة وأمور مؤلمة ، دنيا وآخرة ، وخلقنا وخلق فينا من يطلب الجزاء الملذ وينفر بالطبع عن الجزاء المؤلم.

(أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (٦٢) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (٦٣) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ) (٦٤)

ما ذكر الله تعالى في القرآن إلا ثمرات الجنة ، فإنه جعلها منزل موافقة ، وذكر الشجرة في النار فقال : «إنها شجرة تخرج من أصل الجحيم» فإنها دار نزاع وتشاجر.

(طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (٦٥) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٦٦) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ) (٦٧)

أهل النار يجوعون ويظمئون ، لأن المقصود منهم أن يتألموا ، فإنهم في دار بلاء فيأكلون عن جوع ويشربون عن عطش.

(ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (٦٨) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (٦٩) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (٧٠) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (٧١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (٧٢) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (٧٤) وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ

٤٨٣

مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢) وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (٨٣) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٨٧) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (٨٨) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) (٨٩)

إشارة إلى حكمة علوية صدرت من الاسم الحكيم.

(فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (٩٠) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٩١) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (٩٢) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (٩٣) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (٩٤) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٩٥)

وقع التوبيخ بهذه الآية ، وأخذوا بجهلهم حيث عبدوا من يعلمون أنه ليس بفاعل ، فإن إضافة الفعل إلى المخلوقين فيه إشكال ولبس ، وإن كانت القدرة التي للمخلوقين ذوي الأفعال لا تزيد على قدرة العابد إياهم ، فهي قاصرة عن سريانها في جميع الأفعال ، فإن القدرة الحادثة لا تخلق المتحيّزات من أعيان الجواهر والأجسام ، فعبدوا من لم يخلق أعيانهم ، ولهذا وبخهم بقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) وبهذا القدر أخذ عبدة المخلوقين ذوي الأفعال.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٩٦)

رد الحق كل صورة في العالم تظهر عن الأسباب المنشئة لها إلى نفسه في الخلق ، فقال في كل عامل (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فهو خالقك وخالق ما أضاف عمله إليك ، فأنت العامل لا العامل ، كما قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) والعمل ليس لجسم

٤٨٤

الإنسان بما هو جسم ، وإنما العمل فيه لقواه ، وقد أخبر أن العمل الذي يظهر من الإنسان المضاف إليه أنه لله خلق ، فالأعمال خلق لله مع كونها منسوبة إلينا ، فلم ينسبها إليه من جميع الوجوه ، وأضاف العمل إلينا بهذا الحكم مع كون ذلك العمل خلقا له وإبداعا ، ومن ذلك تعلم أن ظاهر الشريعة ستر على حقيقة حكم التوحيد بنسبة كل شيء إلى الله ، فأنت مكلّف من حيث وجود عينك ، محل للخطاب ، وهو العامل بك من حيث أنه لا فعل لك ، إذ الحدث لا أثر له في عين الفعل ، ولكن له حكم في الفعل ، إذ كان ما كلفه الحق من حركة وسكون لا يعمله الحق إلا بوجود المتحرك والساكن ، فإن الحق تعالى عن الحركة والسكون أو يكون محلا لتأثيره في نفسه ، فقوله تعالى : (وَما تَعْمَلُونَ) أثبت بالضمير ، ونفى بالفعل الذي هو خلق ، أي خلق ما تعملون ، فالعمل لك والخلق لله ، فنسب العمل إليهم وإيجاده لله تعالى ، فإن أفعال العباد وإن ظهرت منهم لو لا الله ما ظهر لهم فعل أصلا ، والخلق قد يكون بمعنى الإيجاد ويكون بمعنى التقدير ، كما أنه قد يكون بمعنى الفعل ، وما أضاف الحق إليه تعالى عين ما أضافه إليك إلا لتعلم أن الأمر الواحد له وجوه ، فمن حيث ما هو عمل أضافه إليك ويجازيك عليه ، ومن حيث هو خلق هو لله تعالى ، فالعمل لك والخلق لله ، وبين الخلق والعمل فرقان في المعنى واللفظ ، فنسب الله الفعل للعبد ونسب الناس الفعل للمخلوق ، وإن كان الحق أصاره إلى ذلك فصار ، فنسبة صار تجعل الفعل للعبد ، ونسبة أصار تجعل الفعل لله ، وظهور الفعل من العبد المخلوق بالاختيار والقصد والمباشرة حقيقة مشهودة للبصر ، والفعل من المخلوق من كون الحق أصاره إلى ذلك فكان له كالآلة للفاعل ، والآلة هي المباشرة للفعل ، وينسب الفعل لغير الآلة بصرا وعقلا ، وبهذا القدر تعلق الجزاء والتكليف لوجود الاختيار من الآلة ، وهي مسئلة دقيقة في غاية الغموض ، ولا دليل في العقل يخرج الفعل عن العبد ، ولا جاء به نص من الشارع لا يحتمل التأويل ، فالأفعال من المخلوقين مقدرة من الله ، ووجود أسبابها كلها بالأصالة من الله ، وليس للعبد ولا لمخلوق فيها بالأصالة مدخل إلا من حيث ما هو مظهر لها ، ومظهر اسم فاعل واسم مفعول ، فما عمل أحد إلا ما أهّل له ، ممن كبّره أو هلله ، وما هو إلا من حيث أنه محل لظهوره ، وفتيلة لسراجه ونوره ، يقول الله تعالى : (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويقول وهو القائل على لسان عبده : [سمع الله لمن حمده] ويقول : [كنت سمعه الذي يسمع به

٤٨٥

وبصره ولسانه ويده ورجله وغير ذلك] قولا شافيا ، لأنه ذكر أحكامها فقال : [الذي يبطش بها ويسعى بها ويتكلم به ويسمع به ويبصر به ويعلم] ومعلوم أنه يسمع بسمعه أو بذاته يسمع ، وعلى كل حال فجعل الحق هويته عين سمع عبده وبصره ويده وغير ذلك ، والملك مع علمه بذلك يقول : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) والجن يقول : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) والرسول يقول : (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به) ومن الناس من يقول : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) والسموات والأرض والجبال تأبى وتشفق من حمل الأمانة وتقول : (أتينا طائعين) وقال الهدهد : (أحطت) علما (بما لم تحط به) وقالت نملة : (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) وقال الله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) وقالت الجلود : (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) وقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فما ترك شيئا من المخلوقات إلا وأضاف الفعل إليه ، فما في العالم إلا من نسب الفعل إليه ، أي إلى نفسه ، مع علم العلماء بالله أن الفعل لله لا لغيره ، والله يقول : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فأضاف العمل إليهم وهو خالقه وموجده ، أعني العمل ، فهذه المسئلة لا يتخلص فيها توحيد أصلا ، لا من جهة الكشف ولا من جهة الخبر ، فالأمر مربوط بين حق وخلق ، وما ثمّ عقل يدلّ على خلاف هذا ، ولا خبر إلهي في شريعة تخلص الفعل من جميع الجهات إلى أحد الجانبين ، وما ثمّ إلا كشف وشرع وعقل ، وهذه الثلاثة ما خلصت شيئا ولا يخلص أبدا دنيا ولا آخرة ـ من باب الإشارة لا التفسير ـ قال أهل الإشارة «ما» هنا نافية. فمن كرم الله سبحانه وتعالى أن يخلق في عباده طاعته ويثني عليهم بأنهم أطاعوا الله ورسوله ، وما بأيديهم من الطاعة شيء ، غير أنهم محل لها ، فمن كرمه أنه أثنى عليهم بخلق هذه الصفات والأفعال فيهم ومنهم ، ثم أثنى عليهم بأن أضاف ذلك كله إليهم ، إذ كانوا محلا للصفات المحمودة شرعا ، فهذه أعظم آية وردت في ثبوت الحيرة في العالم ، فمن وقف مع المقالة المشروعة وجعل لها الحكم على ما أعطاه النظر العقلي من نقيض ما دل عليه الشرع ، فذلك السالم الناجي ، ومن زاد على الوقوف العمل بالتقوى ، جعل الله له فرقانا يفرق به بين أصحاب النحل والملل وما تعطيه الأدلة العقلية ، التي تزيل حكم الشرع عند القائل بها ، فيتأولها ليردها إلى دليل عقله ، فهو على خطر وإن أصاب ، فعليك بفرقان التقوى فإنه عن شهود وصحة وجود ـ لطيفة ـ (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما

٤٨٦

تَعْمَلُونَ) فهو العامل ، فالعارف يبذل المجهود وهو على بينة من ربه أن الله هو العامل لما هو العبد له عامل ، ولو لا ذلك ما كان التكليف ، فلا بد من نسبة في العمل للعبد ، فالنسبة إلى الخلق والعمل للحق ، فهو تشريف ، أعني إضافة العمل إليه ، سواء شعر بذلك العبد أو لم يشعر. واعلم أنه ما من عمل إلا وهو أمر وجودي ، وما من أمر وجودي إلا وهو دلالة على وجود الله وتوحيده ، سواء كان ذلك الأمر مذموما عرفا وشرعا أو محمودا عرفا وشرعا ، والتوحيد المؤثر في إزالة حكم الشريعة كمن ينسب الأفعال كلها إلى الله من جميع الوجوه ، فلا يبالي فيما يظهر عليه من مخالفة أو موافقة ، فمثل هذا التوحيد يجب التنزيه منه لظهور هذا الأثر ، فإنه خرق للشريعة ورفع لحكم الله ، فالأعمال خلق لله مع كونها منسوبة إلينا ، فلم تنسب إليه من كل الوجوه ، فإن الله تعالى خلق الأفعال كلها ، ثم قسمها إلى محمود ومذموم ، فانظر حيث يقيمك ، فإن أقامك في مذموم فاعلم أنك في الوقت ممقوت ، فاستدرك بالإزالة والتفرغ والإنابة ، وإذا أقامك في محمود فاعلم أنك في الوقت محبوب ، فإن فعلت ما لا يرضي الحق منك فارجع على نفسك بالمذمة والتقصير ، فأنت مأجور في هذه الشركة ، بل هو حقيقة التوحيد ، فإن توحيدا بغير أدب ليس بتوحيد ، فإن لم تر العيب من نفسك ، ولا رجعت عليها بالذم ، ولا ندمت على فعلك ، لم يصح لك توبة ، وإذا لم تتب لم تكن محبوبا ولا تنفعك تلك الحقيقة في الدنيا ولا في الآخرة ـ إشارة ـ كما أن الإنسان إذا ترك ما للناس عند الناس أحبه الناس ، كذلك إذا تركت ما لله عند الله ولم تطمع فيه ، ولا أضفت شيئا إلى نفسك من جميع أفعالك ، كنت على الحقيقة زاهدا وعلى التوحيد راشدا.

(قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (٩٧) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (٩٨) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (١٠١) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ

٤٨٧

افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١٠٢)

اعلم أن رؤيا الأنبياء وحي ، ولكنه إذا رأى صاحب الرؤيا سواء كان نبيا أو غير نبي الأمر كما هو في نفسه فليس بحلم ، وإنما ذلك كشف لا حلم ، سواء كان في نوم أو يقظة ، كما أن الحلم قد يكون في اليقظة كما هو في النوم ، كصورة دحية التي ظهر بها جبريل عليه‌السلام في اليقظة ، فدخلها التأويل ، ولا يدخل التأويل النصوص ، فالحلم في النوم يفسد المعنى عن صورته ، لأنه ألحقه بالحس وليس بمحسوس حتى يراه من لا علم له بأصله فيحكم عليه بما رآه من الصورة التي رآه عليها ، ويجيء العارف بذلك فيعبر تلك الصورة إلى المعنى الذي جاءت له وظهر بها ، فيردها إلى أصلها ، كما أفسد الحلم العلم فأظهره في صورة اللبن وليس بلبن ، فرده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتأويل رؤياه إلى أصله وهو العلم ، فجرد عنه تلك الصورة ، كذلك قول إبراهيم لابنه وقد رأى أنه يذبح ابنه ، فأخذ بالظاهر على أن الأمر كما رآه ، وما كان إلا الكبش ، وهو الذبح العظيم ظهر في صورة ابنه ، فرأى أنه يذبح ابنه فذبح الكبش ، فهو تأويل رؤياه على غير علم منه قال إبراهيم عليه‌السلام لابنه (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) والمنام حضرة الخيال ، فلم يعبرها وكان كبشا ظهر في صورة ابن إبراهيم عليه‌السلام في المنام ، فصدق إبراهيم الرؤيا ، لأن الأنبياء يعطون العلم في مرائيهم ، العلم في نفس الرؤيا ، فيستغنون عن التأويل لوجود النص في الخطاب البرزخي ، ولذلك لم يحتج إبراهيم إلى تأويل ، بل قال : (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) ولذلك قال تعالى : (وَفَدَيْناهُ) يعني تلك الصورة ، وهي ابنه التي رآها إبراهيم عليه‌السلام ، ولما بشر إبراهيم عليه‌السلام في إجابة دعائه في قوله : (رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) ابتلي فيما بشّر به لأنه سأل من الله سواه ، والله غيور ، فابتلاه بذبحه وهو أشد عليه من ابتلائه بنفسه ، وذلك أنه ليس له في نفسه منازع سوى نفسه ، فبأدنى خاطر يردها فيقل جهاده ، وابتلاؤه بذبح ابنه ليس كذلك ، لكثرة المنازعين فيه ، فيكون جهاده أقوى ، ولما ابتلي بذبح ما سأله من ربه ، وتحقق نسبة الابتلاء وصار بحكم الواقعة ، فكأنه قد ذبح وإن كان حيا ، بشّر بإسحاق عليه‌السلام من غير سؤال ، فجمع له بين الفداء وبين البدل مع بقاء المبدل منه ، فجمع له بين الكسب والوهب ، فالذبح مكسوب من جهة السؤال وموهوب من جهة الفداء ، فإن فداءه لم يكن

٤٨٨

مسؤولا ، وإسحاق موهوب ، فلما كان إسماعيل قد جمع له بين الكسب والوهب في العطاء ، فكان مكسوبا موهوبا لأبيه فكانت حقيقة كاملة ، لذلك كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صلبه ، فكانت في شريعتنا ضحايانا فداء لنا من النار.

(فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١٠٣)

ـ إشارة ـ اتخذ إبراهيم عليه‌السلام ابنه قربانا ، ليصح كرمه حقيقة وبرهانا ، فإنه قصد قرى الواحد المالك ، وذلك أنه لما نزل إلى قلبه ، تعينت عليه ضيافة ربه ، ولم يضفه بنفسه دون غيره ، لأنه لم يكن له فيها منازعون ينازعونه ، فإن نفسه لم يكن له فيها منازع ، وأما الولد فكانت أمه تنازعه فيه ، والنفس تنازع فيه من نسبة الأبوة ، والعجلة من الشيطان إلا في خمسة ، منها تقديم الطعام للضيف ، لذا بادر إبراهيم إلى ضيافة ربه بولده.

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (١٠٥)

وما قال له : صدقت في الرؤيا أنه ابنك ، لأنه ما عبّرها ، بل أخذ بظاهر ما رأى ، والرؤيا تطلب التعبير ، فلو صدق في الرؤيا لذبح ابنه ، وإنما صدق الرؤيا في أن ذلك عين ولده ، وما كان عند الله إلا الذبح العظيم في صورة ولده.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) (١٠٦)

أي الاختبار المبين ، أي الظاهر ، ويعني الاختبار في العلم ، هل يعلم ما يقتضيه موطن الرؤيا من التعبير أم لا؟ لأنه يعلم أن موطن الخيال يطلب التعبير ، فما وفّى الموطن حقه وصدّق الرؤيا ، وكل عذاب في الدنيا يكون بلاء ، إذ كانت دار اختبار.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (١٠٧)

(وَفَدَيْناهُ) من أسر الهلاك يعني تلك الصورة وهي ابنه التي رآها إبراهيم عليه‌السلام (بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) وهو الكبش ففداه ربه بالذبح العظيم الذي هو تعبير رؤيا إبراهيم عليه‌السلام

٤٨٩

عند الله وهو لا يشعر ، فالتجلي الصوري في حضرة الخيال يحتاج إلى علم آخر ، فجعل الله الكبش قيمة روح نبي مكرم ، وعظّمه وجعله فداء ولد إبراهيم ، نبي ابن نبي ، فليس في الحيوان بهذا الاعتبار أرفع درجة من الغنم ، وهي ضحايا هذه الأمة.

فداء نبي ذبح ذبح لقربان

وأين ثؤاج كبش من نوس إنسان

وعظّمه الله العظيم عناية

بنا أو به لم أدر من أي ميزان

ولا شك أن البدن أعظم قيمة

وقد نزلت عن ذبح كبش لقربان

فياليت شعري كيف ناب بذاته

شخيص كبيش عن خليفة رحمان

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢) وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ

٤٩٠

عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢) وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١٣٨)

أي تعلمون منهم في الصباح ما تعلمون منهم في الليل ، فالليل والصباح عندهم سواء في العبرة ، فهذا معنى قوله (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ) (١٤٥)

استجاب الله ليونس عليه‌السلام دعاءه ، فنجاه من الغم من ظلمة بطن الحوت والبحر ، فقذفه الحوت من بطنه ، فلم يولد أحد من ولد آدم ولادتين سوى يونس عليه‌السلام ، فخرج ضعيفا كالطفل كما قال : (وَهُوَ سَقِيمٌ) ورباه باليقطين ، فإن ورقه ناعم ولا ينزل عليه الذباب فقال.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) (١٤٦)

فإن ورق اليقطين مثل القطن في النعومة ، بخلاف سائر ورق الأشجار كلها ، فإن فيها خشونة ، فمن لطفه تعالى أنبت عليه شجرة من يقطين ، إذ خرج كالفرخ ، فلو نزل عليه الذباب آذاه.

٤٩١

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) (١٤٧)

فجاء بأو التي للشك ، وهذا محال على الله تعالى ، فلما نزل الحق في جماله في هذه الآية مباسطة معنا ، والشك منوط بنا ، فقام للعبد ضرب من المناسبة ، فإن كان العبد جاهلا حمل ربه على نفسه ووصفه بالشك فضلّ ، وإن كان محققا هرب إلى قوله تعالى (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) فوقف على سر ذلك ، وألحق الشك بالرؤية البشرية المعتادة على الخطاب المتعارف بين العرب بالكثرة ، فيعود الشك على المخلوق ، وإن أراد إحصاء العدد وأراد أن ينزه نفسه من غير الوجه الذي نزه بارئه ، فليأخذها على إرادة الكثرة لا عن العدد ، وإن كانت لا تخلو عن عدد محقق ، ولكن لم يرد القائل هنا الإعلام بتعيين العدد ، وإنما تعلقت الإرادة بالإعلام بالكثرة ، فهذه الصيغة إذا كانت المتعارفة بين المرسل إليهم لا يريدون بها الوقوف على عدد محقق.

(فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١٤٨)

(فَآمَنُوا) أرضى الله تعالى يونس عليه‌السلام في أمته فنفعها إيمانها ولم يفعل ذلك مع أمة قبلها (فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) لما اشتد البلاء على قوم يونس ، وكانت اللحظة الزمانية عندهم في وقت رؤية العذاب كالسنة أو أطول ، ذكر أنه تعالى جعل في مقابلة هذا الطول الذي وجدوه في نفوسهم أن متعهم إلى حين ، فبقوا في نعيم الحياة زمنا طويلا لم يكن يحصل لهم لو لا هذا البلاء ، فانظر ما أحسن إقامة الوزن في الأمور ، وقد قيل إن الحين الذي جعله غاية تمتعهم أنه القيامة والله أعلم.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ) (١٥٠)

أنكر الله على المشركين نسبة الأنوثة إلى الملائكة بقوله : (أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ).

(أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢)

٤٩٢

أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ) (١٥٣)

جعلت هذه الطائفة لله ما يكرهون ، فقالوا الملائكة بنات الله ، فحكموا عليه بأنه اصطفى البنات على البنين ، فتوجه عليهم الحكم بالإنكار في حكمهم ، مع كونهم يكرهون ذلك لنفوسهم.

(ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (١٥٤) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٥٥) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (١٥٦) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٥٧) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (١٥٨)

يعني بالجنة هنا الملائكة ، فإن الله تعالى لما خلق الأرواح النورية والنارية أعني الملائكة والجان ، شرّك بينهما في أمر وهو الاستتار عن أعين الناس ، مع حضورهم معهم في مجالسهم وحيث كانوا ، ولهذا سمى الله الطائفتين من الأرواح جنا ، أي مستورين عنا فلا نراهم ، فقال تعالى في الذين قالوا إن الملائكة بنات الله (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً) والجنة من الملائكة هم الذين يلازمون الإنسان ويتعاقبون فينا بالليل والنهار ولا نراهم عادة ، وإذا أراد الله عزوجل أن يراهم من يراهم من الإنس من غير إرادة منهم لذلك ، رفع الله الحجاب عن عين الذي يريد الله أن يدركهم ، فيدركهم ، وقد يأمر الله الملك والجن بالظهور لنا فيتجسدون لنا فنراهم ، أو يكشف الله الغطاء عنا فنراهم رأي العين ، فقد نراهم أجسادا على صور ، وقد نراهم لا على صور بشرية بل نراهم على صور أنفسهم (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) الجنة هنا قد تكون الملائكة والشياطين ، فإن الملائكة رسل من الله إلى الإنسان موكلون به ، حافظون كاتبون أفعالنا ، والشياطين مسلطون على الإنسان بأمر الله ، فهم مرسلون إلينا من الله.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٠) فَإِنَّكُمْ وَما

٤٩٣

تَعْبُدُونَ (١٦١) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (١٦٣) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١٦٤)

فمنهم أهل العروج بالليل والنهار ، من الحق إلينا ومنا إلى الحق ، في كل صباح ومساء ، وما يقولون إلا خيرا في حقنا ، ومنهم المستغفرون لمن في الأرض ، ومنهم المستغفرون للمؤمنين لغلبة الغيرة الإلهية عليهم كما غلبت الرحمة على المستغفرين لمن في الأرض ، ومنهم الموكلون بإيصال الشرائع ، ومنهم أيضا الموكلون باللمات ، ومنهم الموكلون بالإلهام وهم الموصلون العلوم إلى القلوب ، ومنهم الموكلون بالأرحام ، ومنهم الموكلون بتصوير ما يكوّن الله في الأرحام ، ومنهم الموكلون بنفخ الأرواح ، ومنهم الموكلون بالأرزاق ، ومنهم الموكلون بالأمطار ، وما من حادث يحدث الله في العالم إلا وقد وكّل الله بإجرائه ملائكة ، كما منهم أيضا الصافات والزاجرات والتاليات والمقسمات والمرسلات والناشرات والنازعات والناشطات والسابقات والسابحات والملقيات والمدبرات ، وهم جميعا تحت سلطان الولاة الأثني عشر ، ملائكة البروج ، فإنهم ينفذون أوامر الله في خلقه ، ومن ذلك في عروج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما وصل إلى المقام الذي لا يتعداه البراق ، وليس في قوته أن يتعداه ، تدلى إلى الرسول الرفرف فنزل عن البراق واستوى على الرفرف وصعد به الرفرف ، وفارقه جبريل ، فسأله الصحبة فقال : إنه لا يطيق ذلك ، وقال له (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) فبالمقامات فضل الله كل صنف بعضه على بعض ، فاعترفت الملائكة بأن لهم حدودا يقفون عندها لا يتعدونها ، وذلك أن كل واحد منهم على شريعة من ربه متعبد بعبادة خاصة ، ومن ذلك يعلم أن الملائكة مع كونها لها مقامات معلومة لا تتعداها ، لها الترقي بالعلم لا بالعمل ، وقد عرفنا الله تعالى أنه علّمهم الأسماء على لسان آدم عليه‌السلام ، فزادهم علما إلهيا لم يكن عندهم ـ إشارة ـ اعلم أن الملائكة قالت (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) وهكذا كل موجود ما عدا الثقلين ، وإن كان الثقلان أيضا مخلوقين في مقامهما ، غير أن الثقلين لهما في علم الله مقامات معينة مقدرة عنده غيبت عنهما ، إليها ينتهي كل شخص منهما بانتهاء أنفاسه ، فآخر نفس هو مقامه المعلوم الذي يموت عليه ، ولهذا دعوا إلى السلوك فسلكوا

٤٩٤

علوا بإجابة الدعوة المشروعة ، وسفلا بإجابة الأمر الإرادي من حيث لا يعلمون إلا بعد وقوع المراد ، فكل شخص من الثقلين ينتهي في سلوكه إلى المقام المعلوم الذي خلق له ، ومنهم شقي وسعيد ، وكل موجود سواهما فمخلوق في مقامه فلم ينزل عنه ، فلم يؤمر بسلوك إليه لأنه فيه ، من ملك وحيوان ونبات ومعدن ، فهو سعيد عند الله لا شقاء يناله ، فقد دخل الثقلان في قول الملائكة (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) عند الله ، ولا يتمكن لمخلوق من العالم أن يكون له علم بمقامه إلا بتعريف إلهي ، لا بكونه فيه ، فإن كل سوى الله ممكن ، ومن شأن الممكن أن لا يقبل مقاما معينا لذاته ، وإنما ذلك لمرجحه بحسب ما سبق في علمه به ، ولذلك يقال في الثقلين : إن المقامات مكاسب ، وهي استيفاء الحقوق المرسومة شرعا على التمام ، فإذا قام العبد في الأوقات بما تعين عليه من المعاملات وصنوف المجاهدات والرياضات التي أمره الشارع أن يقوم بها ، وعيّن نعوتها وأزمانها وما ينبغي لها ، وشروطها التمامية والكمالية الموجبة صحتها ، فحينئذ يكون صاحب مقام.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦)

أثنت الملائكة على أنفسهم بعد معرفتهم وتعريفهم بمقامهم.

(وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (١٦٧) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٦٨) لَكُنَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٦٩) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (١٧٠) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (١٧١)

بما سبقت به المشيئة ، فقد سبقت المشيئة بما سبقت ، وما تعلقت المشيئة الإلهية بكونه فلا بد من كونه ، فالخاتمة هي عين السابقة ، وإنما سميت سابقة من أجل تقديمها على الخاتمة.

(إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣)

(لَهُمُ الْغالِبُونَ) لمن نازعه في ملكه ، وهنا أضاف الحق الجند إلى نفسه بضمير الكناية

٤٩٥

عن ذاته ، ولم يصرح باسم إلهي معيّن منصوص عليه ، اكتفاء بتسميتهم جندا ، والأجناد لا تكون إلا للملك ، فالإضافة إليه سبحانه من اسمه الملك ، فهم عبيد الملك ، وبيّن أنهم أهل عدة ، إذ كانت العدة من خصائص الأجناد التي تقع بها الغلبة على الأعداء ، والأعداء الذين في مقابلة هؤلاء الأجناد الشياطين والأهواء والمصارف المذمومة كلها ، وسلطانهم الهوى ، وعدة هؤلاء الجند التقوى والمراقبة والحياء والخشية والصبر والافتقار ، والميدان الذي يكون فيه المصاف والمقابلة إذا تراءى الجمعان بينهم وبين الأعداء ، هو العلم في حق بعض الأجناد ، والإيمان في حق بعضهم ، والعلم والإيمان معا في حق الطبقة الثالثة من الجند ، والآلة التي يدفع بها العدو المنازع هو الدليل القطعي من جهة النظر عند العلماء بتوحيد الله ، أو بخرق العادة عند أهل الإيمان الذين لهم علم ضروري يجدونه في أنفسهم ، فتقوم لهم خرق العوائد مقام الأدلة للعالم ، فيدفعون بخرق العوائد أعداء الله وأعداءهم كما يدفعه صاحب الدليل ، وكل شخص يقدر على دفع عدو بآلة تكون عنده فهو من جنده سبحانه وتعالى ، الذين لهم الغلبة والقهر ، وهو التأييد الإلهي الذي به يقع ظهورهم على الأعداء ، وأما قوله تعالى : (لَهُمُ الْغالِبُونَ) الذين لا يغلبون ؛ فمنهم الريح العقيم ، ومنهم الطير التي أرسلت على أصحاب الفيل ، وكذلك كل جند ليس لمخلوق فيه تصرف ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [نصرت بالصبا] وقال : [نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر] وتختلف الجند ، فإن جند الرياح ما هي جند الطير ، ما هي جند المعاني الحاصلة في نفوس الأعداء كالروع والجبن ، ومنته كل جند إلى فعله الذي وجّه إليه من حصار قلعة وضرب مصاف أو غارة أو كبسة ، كل جند له خاصية في نفس الأمر لا يتعداها ، قال تعالى في الطير (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ) وقال في الريح (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) وقال في الرعب (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ).

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٤) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٥) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (١٧٦) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ) (١٧٧)

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يغير على مدينة إذا جاءها ليلا حتى يصبح ، فإن سمع أذانا أمسك

٤٩٦

وإلا أغار ، وكان يتلو إذا لم يسمع أذانا [إنا إذا نزلنا بساحة قوم ، فساء صباح المنذرين] فلو أجمع أهل مدينة على ترك سنة وجب قتالهم ، ولو تركها واحد لم يقتل.

(وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (١٧٨) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (١٧٩) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١٨٠)

ـ الوجه الأول ـ الخطاب لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق كل ناظر في صفات الله ، فيقول له (سُبْحانَ رَبِّكَ) لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضمير هذا الكاف ، أي ربك الذي أرسلك إليهم ، لتعرفهم بما أرسلك به إليهم وأنزله بوساطتك عليهم (رَبِّ الْعِزَّةِ) العزة الامتناع ، والتسبيح تنزيه ، والتنزيه بعد عما نسب إليه من الصاحبة والولد ، فذكر سبحانه أنّه امتنعت ذاته أن تكون محلا لما وصفه به الملحدون ، فإن العزة المنع ، فالحق منزه الذات لنفسه ، ما تنزه بتنزيه عبده إياه ، وتنزيه الخلق الحق إنما هو علم لا عمل ، إذ لو كان التنزيه من الخلق إلههم عملا لكان الله الذي هو المنزّه سبحانه محلا لأثر هذا العمل ، فكان قوله تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ) أي هو الممتنع لنفسه أن يقبل ما وصفوه به في نظرهم وحكموا عليه بعقولهم ، وأن الحق لا يحكم عليه الخلق ، والعقل والعاقل خلق ، وإنما يعرف الحق من الحق بما أنزله إلينا أو أطلعنا عليه كشفا وشهودا ، بوحي إلهي ، أو برسالة رسول ثبت صدقه وعصمته فيما يبلغه عن الله ، فدخل تحت قوله تعالى في تنزيه نفسه (عَمَّا يَصِفُونَ) العياذ برب العزة عما يصفون ، يريد مما يطلق عليه مما لا ينبغي لجلاله من الصاحبة والولد والأنداد ، وعما يصفه به عباده مما تعطيهم أدلتهم في زعمهم بالنظر الفكري ، فالفيلسوف نفى عن الحق العلم بمفردات العالم الواقعة في الحس ، لأن حصول هذا العلم على التعيين إنما هو للحس والله منزه عن الحواس ، وأما المتكلم الأشعري فانتقل من تنزيهه عن التشبيه بالمحدث إلى التشبيه بالمحدث ، فقال مثلا في استوائه على العرش : إنه يستحيل عليه أن يكون استواؤه استواء الأجسام لأنه ليس بجسم ، لما في ذلك من الحد والمقدار وطلب المخصص المرجح للمقادير ، فيثبت له الافتقار ، بل استواؤه كاستواء الملك على ملكه ، وأنشدوا في ذلك استشهادا على ما ذهبوا إليه من الاستواء.

٤٩٧

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

فشبهوا استواء الحق على العرش باستواء بشر على العراق ، واستواء بشر محدث ، فشبهوه بالمحدث ، والقديم لا يشبه المحدث ، فقال تعالى تنزيها (عَمَّا يَصِفُونَ) من حيث نظرهم ، واستدلوا بعقولهم أن العلم بالله لا يقبل التحول إلى الجهل ولا الدخول عليه ، وما من دليل عقلي إلا ويقبل الدخل والشبهة ، ولهذا اختلف العقلاء ، فكل واحد من المخالفين عنده دليل مخالفه شبهة لمخالفه ، لكونه خالف دليل هذا الآخر ، فعين أدلتهم هي عين شبهاتهم ، فأين الحق؟ وأين الثقة؟ وأصل الفساد إنما وقع من حيث حكّموا الخلق على الحق الذي أوجدهم ، فمن وصف الحق إنما وصف نفسه ، ولا يعرف منه إلا نفسه ، لأن رب العزة لا يعيّنه وصف ، ولا يقيده نعت ، ولا يدل على حقيقته اسم خاص ، وإن لم يكن الحكم ما ذكرناه فما هو رب العزة ، فإن العزيز هو المنيع الحمى ، ومن يوصل إليه بوجه ما من وصف أو نعت أو علم أو معرفة فليس بمنيع الحمى ، ولذلك عمم بقوله (عَمَّا يَصِفُونَ) فالعلم بالسلب هو العلم بالله سبحانه ، ولله الأسماء ما له الصفات ، فإنه تنزه عن الصفة لا عن الاسم ، فالحق سبحانه لا يعرف في ليس كمثله شيء ، وفيما ذكره في سورة الإخلاص ، وفي عموم قوله بالتسبيح الذي هو التنزيه (رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) والعزة تقتضي المنع أن يوصل إلى معرفته ، وإن كان تعبدنا بما وصف به نفسه شرعا ، فنقرره في موضعه ونقوله كما أمرنا به على جهة القربة إليه ، وما ظفر بالأمر إلا من جمع بين التنزيه والتشبيه ، فقال بالتنزيه من وجه عقلا وشرعا ، وقال بالتشبيه من وجه شرعا لا عقلا ، والشهود يقضي بما جاءت به الرسل إلى أممها في الله ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فكل واصف فإنما هو واقف مع نعت مخصوص ، فينزه الله نفسه عن ذلك النعت من حيث تخصيصه ، لا من حيث أنه له ، فإن له أحدية المجموع لا أحدية كل واحد من المجموع ، والواصف إنما يصفه بأحدية كل واحد من المجموع ، فهو المخاطب أعني من نعته بذلك ، بقوله (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) لذلك ما ورد خبر بالصفات ، لما فيها من الآفات ، ألا ترى من جعله موصوفا ، كيف يقول : إن لم يكن كذلك كان مؤوفا ، وما علم أن الذات إذا قام كمالها على الوصف ، فإنه حكم عليها بالنقص الخالص الصرف ، من لم يكن كماله لذاته ، افتقر بالدليل في الكمال إلى صفاته ، وصفاته ما هي عينه ، فقد جهل

٤٩٨

القائل : إن الصفة كونه ، فقال تعالى : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) فأوقف العالم في مقام الجهل والعجز والحيرة ، ليعرف العارفون ما طلب منهم من العلم به ، وما لا يمكن أن يعلم ، فيتأدبون ولا يتجاوزون مقاديرهم ، كما قالت اليهود في الخبر النبوي المشهور : من كون الحق يضع الأرض يوم القيامة على أصبع والسموات على أصبع ـ الحديث ـ فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما قدروا الله حق قدره) فصاحب علم النظر الواقف مع عقله ، المتحكم على الحق بدليله ، هيهات أن يدرك الألوهية ، وأين الألوهية من الكون؟! وأين المحدث من حضرة العين؟! كيف يدرك من له شبه من لا شبه له؟ للعقل عقل مثله ، وليس للحق حق مثله ، محال وجود ذاتين وإلهين ، لا يشبه شيئا ، ولا يتقيد بشيء ، ولا يحكم عليه شيء ، بل ما يضاف إليه إلا بقدر ما تمس حاجة الممكن المقيّد إليه ، فالعقل ما عرفه ، كيف يلتمس بأمر هو خلقه عاجزا فقيرا مستمدا؟ تعالى الله عن إدراك المدركين علوا كبيرا (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فلا يطلب بالعقول ، ما لا يصح إليه الوصول ـ الوجه الثاني ـ اعلم أن عين العبد لا تستحق شيئا من حيث عينه ، لأنه ليس بحق أصلا ، والحق هو الذي يستحق ما يستحق ، فجميع الأسماء التي في العالم ويتخيل أنها حق للعبد حق لله ، فالاستحقاق بجميع الأسماء الواقعة في الكون الظاهرة الحكم إنما يستحقها الحق ، والعبد يتخلق بها ، وليس للعبد سوى عينه ، ولا يقال في الشيء : إنه يستحق عينه ، فإن عينه هويته ، فلا حق ولا استحقاق ، وكل ما عرض أو وقع عليه اسم من الأسماء إنما وقع على الأعيان من كونها مظاهر ، فما وقع اسم إلا على وجود الحق في الأعيان ، والأعيان على أصلها لا استحقاق لها ، فالوجود لله وما يوصف به من أية صفة كانت إنما المسمى بها هو مسمى الله ، فهو المسمى بكل اسم والموصوف بكل صفة والمنعوت بكل نعت ، ولذلك قال : (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) من أن يكون له شريك في الأسماء كلها ، فالكل أسماء الله ، أسماء أفعاله أو صفاته أو ذاته ، فما في الوجود إلا الله ، والأعيان معدومة في عين ما ظهر فيها ، فالصفات لله حقيقة جهلنا معناها بالنسبة إليه ، وعرفنا معناها بالنسبة إلينا ، من وجه معرفتنا بمعناها إذا نسبت إلينا ، ومن كون الباري اتصف بها على طريقة مجهولة عندنا ، فلا نعرف كيف ننسبها إليه لجهلنا بذاته ، فتكون أصلا فيه عارضة فينا ، فلا نستحق شيئا لا

٤٩٩

من أسمائه ولا مما نعتقد فيها أنها أسماؤنا ، وهذا موضع حيرة ومزلة قدم ، إلا لمن كشف الله عن بصيرته ، فقوله تعالى فيما وصف به نفسه مما هو عند النظار صفة للخلق حقيقة وأخذوه في الله تجوزا ، من جوع وظمأ ومرض وغضب ورضى وسخط وتعجب وفرح وتبشبش ، إلى قدم ويد وعين وذراع ، وأمثال ذلك ، مما وردت به الأخبار عن الله على ألسنة الرسل ، وما ورد من ذلك في الكلام المنسوب إلى الله المعبر عنه بصحيفة وقرآن وفرقان وتوراة وإنجيل وزبور ، فالأمر عند المحققين أن هذه كلها صفات حق لا صفات خلق ، وأن الخلق اتصف بها مزاحمة للحق ، كما اتصف العالم أيضا بجميع الأسماء الإلهية الحسنى ، فالكل أسماؤه من غير تخصيص ، هذا مذهب المحققين فيه فإنه صادق ، ولهذا نحن في ذلك على التوقيف ، فلا نصفه إلا بما وصف به نفسه ، ولا نسميه إلا بما سمى به نفسه ، لا نحترع له اسما ، ولا نحدث له حكما ، ولا نقيم به صفة ـ الوجه الثالث ـ (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) هي حضرة لا تقبل التنزيه ولا التشبيه ، فيتنزه عن الحد بنفي التنزيه الذي كان يتخيله المنزه ، فإن التنزيه يحدّه ويشير إليه ويقيده ، ويتنزه عن المقدار بنفي التشبيه ـ الوجه الرابع ـ التسبيح تنزيه ما هو ثناء بأمر ثبوتي ، لأنه لا يثنى عليه إلا بما هو أهل له ، وما هو له لا يقع فيه المشاركة ، وما أثني عليه إلا بأسمائه ، وما من اسم له سبحانه عندنا معلوم إلا وللعبد التخلق به والاتصاف به على قدر ما ينبغي له ، فلما لم يتمكن في العالم أن يثنى عليه بما هو أهله ، جعل الثناء عليه تسبيحا من كل شيء ، ولهذا أضاف الحمد إليه فقال (يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) أي بالثناء الذي يستحقه وهو أهله ، وليس إلا التسبيح ، فإنه سبحانه يقول (سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) والعزة المنع من الوصول إليه بشيء من الثناء عليه الذي لا يكون إلا له ، عما يصفون ، وكل مثن واصف ، فذكر سبحانه تسبيحه على كل حال ومن كل عين.

(وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ) (١٨١)

وهم المرحومون السالمون ، فما جاءت الرسل عليهم‌السلام إلا بما أحالته الأدلة النظرية وبما أثبتته ، فصدّق أهل النظر في نظرهم ، وأكذبهم في نظرهم ، فوقعت الحيرة عند أرباب النظر ، فإذا سلّموا له ما قاله عن نفسه على ألسنة رسله ، وانقادوا إليهم ، فإن انقيادهم

٥٠٠