رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) (٦٠)

(٣١) سورة لقمان مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٧)

٣٦١

(كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) وهو ثقل الأسباب الدنيوية التي تصرفه عن الآخرة.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ) (١٠)

(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) الإنسان قطب الفلك وهو العمد ، ألا تراه إذا انتقل من الدنيا خربت ، وزالت الجبال وانشقت السماء وانكدرت النجوم ، فالإنسان هو العين المقصودة ، فهو مجموع الحكم ، ومن أجله خلقت الجنة والنار ، والآخرة والأحوال كلها والكيفيات ، وفيه ظهر مجموع الأسماء الإلهية وآثارها ، وهو المكلف المختار ، وهو المجبور في اختياره ، وله يتجلى الحق بالحكم والقضاء والفصل ، وعليه مدار العالم كله ، ومن أجله كانت القيامة ، وبه أخذ الجان ، وله سخر ما في السموات والأرض ، ففي حاجته يتحرك العالم كله علوا وسفلا دنيا وآخرة ، فالإنسان الكامل عمد السماء الذي يمسك الله بوجوده السماء أن تقع على الأرض ، فإذا زال الإنسان الكامل وانتقل إلى البرزخ هوت السماء وانشقت (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) خلق الله الأرض مثل الكرة أجزاء ترابية وحجرية ، وضم الله بعضها إلى بعض ، فلما خلق الله السماء بسط الأرض بعد ذلك ليستقر عليها من خلقت له مكانا ، ولذلك مادت ، فخلق سبحانه الجبال فقال بها عليها دفعة واحدة ، فكل ما تراه عاليا شامخا فيها فهو جبل ووتد ، ثقّلها الله به ليسكن ميدها.

(هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١١)

إن الخلق يراد به المخلوق في موضع مثل قوله : (هذا خَلْقُ اللهِ) فإن الفعل قد يكون نفس المفعول بالشيئية والأشياء ، فقوله تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ) أي مخلوق الله.

٣٦٢

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) (١٢)

(وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) وهنا تظهر عناية الله بعبده إذا أنزل كل حكمة في موضعها.

(وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣)

لما علم لقمان أن الشرك ظلم عظيم للشريك مع الله أوصى بها ابنه ، فإن الله آتاه الحكمة ، وتصغير لقمان اسم ابنه تصغير رحمة ، ولهذا وصاه بما فيه سعادته إذا عمل بذلك فقال (لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) وما ظهر هذا الظلم العظيم من موجود إلا من هذا النوع الإنساني ، فإنه تقع أمور كثيرة يعظم في النفوس قدرها بحيث لا تتسع النفس لغيرها ، ولا سيما في الأمور الهائلة التي تؤثر الخوف في النفوس ، ومنها الشرك بالله ، فقال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) في نفس الموحد ، يشاهد عظمته في نفس المشرك لا في نفسه ، فيشاهده ظلمة عظيمة ، والمشركون هم الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، وهو الظلم العظيم الذي ظلموا به هذا المقول عليه إنه إله مع الله ، فظلموا الله في وحدانية الألوهية له ، وظلموا الشريك في نسبة الألوهية إليه ، فاتخاذ الشريك من مظالم العباد ؛ فإن من اتّخذ إلها من غير دعوى منه ، بل هو في نفسه عبد غير راض بما نسب إليه ، وعاجز عن إزالة ما ادّعي فيه ، فإنه مظلوم حيث سلب عنه هذا المدعي ما يستحقه ، وهو كونه عبدا ، فظلمه ، فينتصر الله له لا لنفسه ، فيأخذ الله المشركين بظلم الشريك لا بظلمه في أحديته ، فإن الذي جعلوه شريكا يتبرأ منهم يوم القيامة ، حيث تظهر الحقوق إلى أربابها المستحقين لها.

(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (١٤)

٣٦٣

(وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) وقال تعالى : (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) على أقل ما يولد من زمن الحمل ويعيش ، وهو ستة أشهر حملا وسنتان رضاعا على التمام ، وإن أتم الحمل المعتاد في الغالب وهو تسعة أشهر ، كانت مدة الرضاع حولين إلا ربع حول ، وهي إحدى وعشرون شهرا (أَنِ اشْكُرْ لِي) من الوجه الخاص ، فقدم نفسه سبحانه ليعرفك أنه السبب الأول والأولى ، ثم عطف وقال (وَلِوالِدَيْكَ) وذلك في مقام إيجاد عين العبد ، حيث كان إيجاده عند سبب اجتماع والديه بالنكاح وتعبهما في إيجاده ، فقال (وَلِوالِدَيْكَ) من الوجه السببي وهي الأسباب التي أوجدك الله عندها لتنسبها إليه سبحانه ، ويكون لها عليك فضل التقدم بالوجود خاصة ، لا فضل التأثير ، لأنه في الحقيقة لا أثر لها وإن كانت أسبابا لوجود الآثار ، فبهذا القدر صح لها الفضل ، وطلب منك الشكر ، وشكرهما هو أن تنسبهما إلى مالكهما وموجدهما ، (أَنِ اشْكُرْ لِي) هو قوله (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) في قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ) (وَلِوالِدَيْكَ) هو قوله (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) ففي هذه الآية شكر الله حقيقة ، وشكر السبب عن أمر الله عبادة من حيث أمرهم بشكره قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لا يشكر الله من لم يشكر الناس] فمن علم أن الله هو المعطي لم يشكر غيره إلا بأمره ، ولذلك تمم فقال (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فالعامل في الكل حقا وخلقا الله ، ولذلك قال بعد أن شرك (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) فوحد بعد أن شرّك في الشكر.

(وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٥)

أمر الإنسان بالإحسان لأبويه والبر بهما ، وامتثال أوامرهما ما لم يأمره أحد الأبوين بمخالفة أمر الحق فلا يطيعه ، كما قال تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ) فأمر باتباع المنيبين إلى الله ومخالفة نفوسهم إن أبت ذلك (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

٣٦٤

(يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللهُ إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (١٦)

ينبه الحق بهذه الآية على أن الرزق مضمون ، لا بد أن يوصله للعبد ، فإن رزقه ورزق عياله لا بد أن يأت به الله ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها] كما أنه لن تموت نفس حتى يأتيها أجلها المسمى ، وسواء كان الرزق قليلا أو كثيرا ، فيقول لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) أي أينما كانت مثقال هذه الحبة من الخردل لقلتها بل خفائها (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) أي عند ذي قلب قاس لا شفقة له على خلق الله ، قال تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) روي في النبوة الأولى أن لله تعالى تحت الأرض صخرة صماء ، في جوف تلك الصخرة حيوان لا منفذ له في الصخرة ، وأن الله قد جعل له فيها غذاء ، وهو يسبح الله ويقول : سبحان من لا ينساني على بعد مكاني ؛ يعني من الموضع الذي تأتي منه الأرزاق ، لا على بعد مكانها من الله (أَوْ فِي السَّماواتِ) بما أودع الله في سباحة الكواكب في أفلاكها من التأثيرات في الأركان لخلق أرزاق العالم أو الأمطار أيضا ، فإن السماء في لسان العرب : المطر ، قال الشاعر : إذا سقط السماء بأرض قوم ؛ يعني بالسماء هنا المطر (أَوْ فِي الْأَرْضِ) بما فيها من القبول والتكوين للأرزاق ، فإنها محل ظهور الأرزاق ، كذلك الكوكب يسبح في الفلك وعن سباحته يكون ما يكون في الأركان الأمهات من الأمور الموجبة للولادة ، فأينما كان مثقال هذه الحبة (يَأْتِ بِهَا اللهُ) ولم يقل يأت إليها ، ومن هذا يستدل أن صاحب الرزق من يأكله لا من يجمعه ، فإن الله يأتي به ، فهو تعالى الآتي برزقك إليك حيث كنت وكان رزقك ، فهو يعلم موضعك ومقرك ويعلم عين رزقك (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) أي هو أخفى أن يعلم ويوصل إليه ـ أي إلى العلم به ـ من حبة الخردل (خَبِيرٌ) للطفه بمكان من يطلب تلك الخردلة منه ، لما له من الحرص على دفع ألم الفقر عنه ، فإن الحيوان ما يطلب الرزق إلا لدفع الآلام لا غير ـ تنبيه ـ نبهنا الله بهذا التعريف لتأتيه أنت بما كلفك أن تأتيه به ، فإنك ترجوه فيما تأتيه به ولا يرجوك فيما أتاك به ، فإنه غني عن العالمين وأنت من الفقراء إليه ، فإتيانك إليه بما

٣٦٥

كلفك الإتيان به آكد في حقك أن تأتي به ، لافتقارك وحاجتك لما يحصل لك من المنفعة بذلك.

(يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٧) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) (١٨)

فإنه لا يظهر بهذه الصفة إلا من هو جاهل ، فإنه لا يخلو أن يفتخر على مثله أو على ربه وخالقه ، فإن افتخر على مثله فقد افتخر على نفسه ، والشيء لا يفتخر على نفسه ، ففخره واختياله جهل ، ومحال أن يفتخر على خالقه ، لأنه لا بد أن يكون عارفا بخالقه أو غير عارف بأن له خالقا ، فإن عرف وافتخر عليه فهو جاهل بما ينبغي أن يكون لخالقه من نعوت الكمال ، وإن لم يعرف كان جاهلا ، فما أبغضه الله إلا لجهله ، فإن الجهل مذموم.

(وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (١٩) أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٢٠)

(أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من ملك وكوكب سابح في فلك ، فمن الملائكة الموكل بالوحي والإلقاء ، ومنهم الموكل بالأرزاق ، ومنهم الموكل بقبض الأرواح ، ومنهم الموكل بإحياء الموتى ، ومنهم الموكل بالاستغفار للمؤمنين والدعاء لهم ، ومنهم الموكلون بالغراسات في الجنة جزاء لأعمال العباد ، (وَما فِي الْأَرْضِ) وما بينهما من الخلق جميعا منه ، قال تعالى في سورة الجاثية (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً

٣٦٦

مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فأدخل الحق العالم كله أجمع تحت تسخير هذا الإنسان الأرفع ، فما من ملأ أعلى إلا به مستعل ، وما من ملأ أدنى إلا يتضرع إليك ويبتهل ، فهم بين مستغفر لك ومصلّ عليك ، وملك سلام يوصله من الحق تعالى إليك ، وإذا كان السيد الحق يصلي عليك فكيف بملائكته؟ وإذا كان ناظرا إليك فما ظنك بخليقته؟ وما من فاكهة ونعمة عند تناهيها إلا متضرعة لك خاضعة أن تؤدي لك ما أودع الله من المنافع فيها ، فما في الوجود كله حقيقة ولا دقيقة إلا ومنك إليها ومنها إليك رقيقة ، فانظر أين مرتبتك في الوجود؟ فالعالم كله على الحقيقة أيها الإنسان تحت تسخيرك ، إذ سلم من نظرك وتدبيرك ، فإن كل شيء خلقه الله للإنسان ومن أجله وسخر له ، لما علم الله من حاجته إليه ، فهو فقير إلى كل شيء ليس له غنى عنه ، ولذلك استخدم الله له العالم كله ، فما من حقيقة صورية في العالم الأعلى والأسفل إلا وهي ناظرة إلى هذا الإنسان نظر كمال ، أمينة على سر أودعها الله إياه لتوصله إليه (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) كل نعم الله عظيمة ظاهرة وباطنة ، فظاهرة ما شوهد منها ، وباطنة ما علم ولم يشهد ، وظاهرة التعظيم عرفا وباطنة التعظيم عند أهل الله وأهل النظر المستقيم مما ليس بعظيم في الظاهر ، فلا أرى شيئا ليس عندي بعظيم ، لأني أنظر بعين اعتناء الله به حيث أبرزه في الوجود ، فأعطاه الخير ، فليس عندنا أمر محتقر ، فالكل نعمته ظاهرة وباطنة ، وقد أسبغها على عباده ، وكم من نعمة لله أخفاها شدة ظهورها ، واستصحاب كرورها على المنعم عليه ومرورها ، ومن النعم الباطنة المعارف والعلم به.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٢١) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) (٢٢)

(وَمَنْ يُسْلِمْ) وهو الإسلام والانقياد الذاتي للعبد ، لأنه تعالى قال (وَجْهَهُ) ووجه الشيء حقيقته وذاته (إِلَى اللهِ) وجاء هنا بالاسم الله ، لأن الله قد عصم هذا الاسم أن يسمى به غير الله ، فلا يفهم منه عند التلفظ به وعند رؤيته مرقوما إلا هوية الحق لا غير (وَهُوَ مُحْسِنٌ) أي فعل ذلك عن شهود منه ، لأن الإحسان أن ترى ربك في عبادتك ،

٣٦٧

فإن العبادة لا تصح من غير شهود ، وإن صح العمل فالعمل غير العبادة ، فإن العبادة ذاتية للخلق ، والعمل عارض من الحق عرض له ، فتختلف الأعمال منه وفيه والعبادة واحدة العين (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) أي التي لا تتصف بالانخرام ، فكان عمل العبد في مقام الشهود من حيث قوله تعالى : [كنت سمعه وكنت بصره وكنت يده] وقوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فأرجع الحق هذا التفصيل كله إلى عين واحدة فقال : (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ).

(وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٢٣) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (٢٤) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٥) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (٢٦)

(إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي المثنى عليه بالغنى ، لأن صفة الغنى لا شيء أعلى منها ، وهي صفة ذاتية للحق تعالى.

(وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٧)

سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا : إنا أوتينا التوراة فيها موعظة وتفصيل كل شيء ، فلا حاجة إلى ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فأنزل الله تعالى (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) الآية ، أي لو كان كلّ ما في الأرض من الأشجار تفيد من كلام الله تعالى ما أفادته شجرة موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما نفدت كلمات الله ولا حصل الاستغناء عنها. واعلم أن الممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد ، وهي تحدث أي تظهر دائما ، فالوجود والإيجاد لا يزال دائما ، فمخلوقاته لا تزال توجد ولا يزال خالقا. وليست كلمات الله سوى صور

٣٦٨

الممكنات وهي لا تتناهى ، وما لا يتناهى لا ينفد ولا يحصره الوجود ، من حيث ثبوته لا ينفد ، فإن خزانة الثبوت لا تعطي الحصر ، فإنه ليس لاتساعها غاية تدرك ، فكلما انتهيت في وهمك في اتساعها إلى غاية فهو من وراء تلك الغاية ، ومن هذه الخزانة تظهر كلمات الله في الوجود على التتالي والتتابع أشخاصا بعد أشخاص ، وكلمات إثر كلمات ، والبحار والأقلام من جملة الكلمات ، والمادة التي ظهرت فيها كلمات الله التي هي العالم هي نفس الرحمن ، ولهذا عبّر عنه بالكلمات ، فقيل في عيسى عليه‌السلام : إنه كلمة الله ، وصدرت هذه الكلمات عن تركيب يعبر عنه في اللسان العربي بلفظة كن ، فكلمات الله كلها عن كلمة الله كن ، وعنها تنشأ الكائنات ، وقد أخبر الله أنه ما من شيء يريد إيجاده إلا يقول له كن ، وجاء بلفظة كن لأنها لفظة وجودية ، فنابت مناب جميع الأوامر الإلهية ، فتظهر أعيان الكلمات وهو المعبر عنها بالعالم بكلمة كن ، فالكلمة ظهورها في النفس الرحماني ، والكون ظهورها في العماء ، فيما هو للنفس يسمى كلمة وأمرا ، وبما هو في العماء يسمى كونا وخلقا وظهور عين ؛ فكلمات الله لا تنفد وهي أعيان موجوداته ، والوجود كله كلمات الله التي لا تنفد أبدا. واعلم أن فائدة الكلام الإفهام بالمقاصد للسامعين ، والأحوال مفهمة وهي الكلام ، ولا يخلو موجود أن يكون على حال ما ، فحاله عين كلامه ، لأنه المفهم الذي ينظر إليه ما هو عليه في وقته ، فلا لسان أفصح من لسان الأحوال ، وقرائن الأحوال تفيد العلوم التي تجيء بطريق العبارات ، والعبارات من جملة الأحوال ، فانطلق في الاصطلاح اسم الكلام على العبارات.

(ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٢٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٩)

راجع سورة الحج آية ـ ٦١ ـ (كُلٌّ) يثبت إلى وقت معين ثم يزول حكمه لا عينه ، فإنه تعالى قال : (يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فإذا بلغ جريانه الأجل زال جريانه وإن بقي عينه. واعلم أن الله تعالى جعل لكل صورة في العالم أجلا تنتهي إليه في الدنيا والآخرة ،

٣٦٩

إلا الأعيان القابلة للصور فإنه لا أجل لها ، بل لها منذ خلقها الله الدوام والبقاء ، قال تعالى : (كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) فجاء بكل وهي تقتضي الإحاطة والعموم ، وقد قلنا : إن الأعيان القابلة للصور لا أجل لها ، فبماذا خرجت عن حكم (كُلٌّ)؟ قلنا : ما خرجت وإنما الأجل الذي للعين إنما هو ارتباطها بصورة من الصور التي تقبلها ، فهي تنتهي في القبول لها إلى أجل مسمى ، وهو انقضاء زمان تلك الصورة ، فإذا وصل الأجل المعلوم عند الله في هذا الارتباط انعدمت الصورة وقبلت العين صورة أخرى ، فقد جرت الأعيان إلى أجل مسمى في قبول صورة ما ، كما جرت الصورة إلى أجل مسمى في ثبوتها لتلك العين الذي كان محل ظهورها ، فقد عم الكل الأجل المسمى ، فقد قدر الله لكل شيء أجلا ، في أمر ما ينتهي إليه ، ثم ينتقل إلى حالة أخرى يجري فيها أيضا إلى أجل مسمى ، فإن الله خلّاق على الدوام مع الأنفاس ، فمن الأشياء ما يكون مدة بقائه زمان وجوده وينتهي إلى أجله في الزمان الثاني من زمان وجوده ، وهي أقصر مدة في العالم ، وفعل الله ذلك ليصح الافتقار مع الأنفاس من الأعيان إلى الله تعالى ، فلو بقيت زمانين فصاعدا لاتصفت بالغنى عن الله في تلك المدة ، وهذه مسئلة يقول بها الأشاعرة من المتكلمين ، وموضع الإجماع من الكل في هذه المسئلة التي لا يقدرون على إنكارها الحركة ، إلا طائفتين : من يجعل الحركة نسبة لا وجود لها وهو الباقلاني من المتكلمين ، وأصحاب الكمون والظهور القائلون به ، وإن قال القائلون بالكمون والظهور بذلك فإنهم تحت حيطة (كُلٌّ) بهذا المذهب ، فإنه قد جرى في كمونه إلى أجل مسمى ، وهو زمان ظهوره ، فقد انقضت مدة كمونه ، ولا يلزم من جريانهم إلى الأجل أن المراد عدمهم ، بل يجوز أن يكون له العدم ، ويجوز أن يكون الانتقال مع بقاء العين الموصوفة بالجري ، ويجوز أن يكون منه أجل يعدمه ، ومنه ما يكون له أجل بانتقاله يعدمه ، وهو الذي نذهب إليه ونقول به ، فإنه لا بد لكل شيء من غاية ، والأشياء لا يتناهى وجودها فلا تنتهي غاياتها ، فالله يجدد في كل حين أشياء ، وكل شيء له غاية تلك الغاية أجله المسمى ، فليس الأجل إلا لأحوال الأعيان ، والأعيان غايتها عين لا غاية.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (٣٠)

٣٧٠

(أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ) في شأنه وذاته عما يليق بسمات الحدوث وصفات المحدثات (الْكَبِيرُ) بما نصبه المشركون من الآلهة ، ولهذا قال الخليل في معرض الحجة على قومه ، مع اعتقاده الصحيح أن الله هو الذي كسر الأصنام المتخذة آلهة حتى جعلها جذاذا ، مع دعوى عابديها بقولهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فنسبوا الكبر له تعالى على آلهتهم ، فقال إبراهيم عليه‌السلام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) فلو نطقوا لاعترفوا بأنهم عبيد ، وأن الله هو الكبير العلي العظيم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) (٣١)

(لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ) آياته هي الدلائل عليه ، ولما كانت الدار دار بلاء لا يخلص فيها النعيم عن البلاء وقتا واحدا ، وأقله طلب الشكر من المنعم بها عليها ، وأي تكليف أشق منه على النفس؟ يؤيد ذلك قوله تعالى في حق راكب البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) إذا اشتد الريح عليه وبرد ، فبما فيها من النعمة يطلب منه الشكر عليها ، وبما فيها من الشدة والخوف يطلب منه الصبر.

(وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (٣٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٣٣)

يا ربنا أسمعتنا فسمعنا ، وأعلمتنا فعلمنا ، فاعصمنا ، وتعطف علينا ، فالمنصور من نصرته ، والمؤيد من أيدته ، والمخذول من خذلته ، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ

٣٧١

ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (٣٤)

قوله تعالى (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) فإنه الخالق ما فيها وهو قوله تعالى (يَعْلَمُ السِّرَّ) فإن السر النكاح.

(٣٢) سورة السّجدة مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢)

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أنزله بصفة العلم ، وقلوب كلمات الحق محله ، وهو نزول يتنزه عن أن تدرك ذاته (لا رَيْبَ فِيهِ) عند أهل الحقائق (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) (٤) راجع الأعراف آية ـ ٥٤ ـ.

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٨)

٣٧٢

(مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) وهو الماء الذي استقر في رحم المرأة.

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) (٩)

(ثُمَّ سَوَّاهُ) فبعد تسوية أرض البدن وقبوله للاشتعال بما فيه من الرطوبة والحرارة ، نفخ الله فيه فاشتعل ، فكان ذلك الاشتعال روحا له (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) وهي القوى والمعاني التي لا توجد إلا في هذه الأرض البدنية الإنسانية (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

(وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢)

يحشر المجرمون وهم أصحاب الشمال منكوسين ، أما السعداء فيحشرون على حال الاستقامة.

(وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١٣)

لا حكم لأداة لو ، فإن كلمة لو لو زرعت ما نبت عنها شيء ويخسر البذر ، فمتى سمعت ـ لو ـ حيث سمعتها فلا تنظر إلى ما تحتها ، فإن ما تحتها ما يوجد ، فلا تخف منها ولا من دلالتها ، وليكن مشهودك الواقع خاصة.

٣٧٣

(فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٤) إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (١٥)

(إِنَّما) إن حرف تحقيق وتنكير (يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) يقول : إن الذي يصدق بآياتنا أنها آيات نصبن ، لها دلالات على وجودنا وصدق أرسالنا ، ما هي عن همم نفوسهم هم (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها) والتذكر لا يكون إلا عن علم غفل عنه أو نسيان من عاقل ، يقول : إنها مدركة بالنظر العقلي أنها دلالات على ما نصبناها عليه (خَرُّوا سُجَّداً) فإذا ذكروا بها وقعوا على وجوههم (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) فنزهوا ربهم بما نزه به نفسه على ألسنة رسلهم (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ولم يعطهم العلم الأنفة عن ذلك ، فيفرق بين مدارك عقله وما يعطيه نظره وبين ما يعطيه إيمانه ، فينزه ربه إيمانا وعقلا ، ويأخذ العلم والحكمة حيث وجدها.

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (١٦)

(تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) فإن الثواب لهم مشهود ، والقيامة وأهوالها والجنة والنار مشهودتان ، شغلهم هول المعاد عن الرقاد ، فياليت شعري من أقامهم من المضاجع حين نوّم غيرهم؟ أترى ذلك من نفوسهم؟ لا والله ، بل هو خلق فيهم طاعته ، وأثنى عليهم بأنهم أطاعوه ، فقال : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) فمما رزقهم التجافي عن المضاجع وعن دار الغرور ، ومما رزقهم الدعاء والابتهال ، ومما رزقهم الخوف منه والطمع فيه ، فأنفقوا ذلك كله عليه فقبله منهم ـ إشارة ـ من باب (يحبهم ويحبونه).

نادى الحبيب : من الذي

بالباب؟ قلت : فتى دعي

قال : ادعى هل شاهد

يدريه؟ قلت له : معي

إن كنت أكذب سيدي

حسبي شهادة أدمعي

وتسهدي وتبلدي

وتوجعي وتفجعي

وتلهفي وتحيري

وتسرعي بتشرعي

٣٧٤

ما زلت أسهر باكيا

حتى بكاني مضجعي

شهدت بذلك زفرتي

وسنا النجوم الطلّع

قوله : «وتسرعي بتشرعي» أي إنك ناديتني بالإسراع فيما شرعت ، وقد فعلته ، فهو أيضا من شهودي على صدق دعواي ، وقوله : «حتى بكاني مضجعي» أي ومن الشهود مضجعي حيث تجافى جنبي عنه ، فكنت ممن قيل فيهم في معرض الثناء الإلهي (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ).

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨)

(فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ) فنكّر ونفى العلم (ما أُخْفِيَ لَهُمْ) أي هؤلاء الذين بهذه المثابة (مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) يعني فيها ، فعلمنا على الإجمال أنه أمر مشاهد ، لكونه قرنه بالأعين ولم يقرنه بالأذن ولا بشيء من الإدراكات ، فتقر أعينهم بما شاهدوه ، فيعلمون ما أخفي لهم فيهم مما تقر به أعينهم ، ومتعلق الرؤية إدراك عين المرئي ـ تفسير من باب الإشارة ـ قال تعالى في صلاة الليل (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) يعني فيها ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [وجعلت قرة عيني في الصلاة] لأنه مناج ربه من حيث ما هو مصل ، وجليس من حيث ما هو ذاكر.

ما قرة العين غير عيني

فبيني كان الهوى وبيني

والله لو لا وجود كوني

ما لاح عيني لغير عيني

فكونه ما رأيت فيه

أكمل من صورتي وكوني

بالبين أوصلت كل بين

فقام شكر البين بيني

قد أحسن الله في وجودي

عند أداء الفروض عوني

أشهدني فيه علم ذاتي

في هذه الدار قبل حيني

لا فرّق الله يا حبيبي

ما بين أنفاسه وبيني

(أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)

٣٧٥

وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) (٢٢)

الإعراض عن الآيات التي نصبها الحق دلائل عليه دليل على عدم الإنصاف واتباع الهوى المردي ، وهو علة لا يبرأ منها صاحبها بعد استحكامها حتى يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب ، فعند ذلك يريد استعمال الدواء فلا ينفع ، كالتوبة عند طلوع الشمس من مغربها ، لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، والإيمان عند حلول البأس وعند الاحتضار والتيقن بالمفارقة.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٢٥) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) (٢٦)

اعلم أن الله ما ذكر أخبار القرون الماضية إلا لنكون على حذر من الأسباب التي أخذهم الله بها أخذته الرابية ، وبطش بهم البطش الشديد ، وأما الموت فأنفاس معدودة وآجال محدودة ، وليس الخوف إلا من أخذه وبطشه لا من لقائه ، فإن لقاءه يسر الولي ، والموت سبب اللقاء ، فهو أسنى تحفة يتحفها المؤمن ، فكيف به إذا كان عالما؟ بخ على بخ.

٣٧٦

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) (٢٧)

إن العين لا تخطىء أبدا ، لا هي ولا جميع الحواس ، فإن إدراك الحواس إدراك ذاتي ، ولا تؤثر العلل الظاهرة العارضة في الذاتيات ، وإدراك العقل على قسمين : إدراك ذاتي هو فيه كالحواس لا يخطىء ، وإدراك غير ذاتي ، وهو ما يدركه بالآلة التي هي الفكر وبالآلة التي هي الحس ، فالخيال يقلد الحس فيما يعطيه ، والفكر ينظر في الخيال فيجد الأمور مفردات فيحب أن ينشىء منها صورة يحفظها العقل ، فينسب بعض المفردات إلى بعض ، فقد يخطىء في النسبة الأمر على ما هو عليه وقد يصيب ، فيحكم العقل على ذلك الحد فيخطىء ، فالعقل مقلد ، ولهذا اتصف بالخطأ ، وقد حصرت الآيات في السمع والبصر ، فإما شهود وإما خبر.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (٣٠)

(٣٣) سورة الأحزاب مدنيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٣) ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما

٣٧٧

جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) (٤)

(وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي يبينه لتمشي عليه فإنه الكفيل.

(ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥)

لا يقال ابن إلا لبنوة الصلب وإن جازت بنوة التبني ولكن قول الله أولى ، جاء في الخبر النبوي [من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله] فبنوة التبنّي بالاصطفا والمرتبة واللفظ ، ولفظة الابن هي المنهي عنها.

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) (٦)

(النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ـ إشارة ـ فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الأب في الولادة الدينية ، فلذلك كان أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، وأزواجه في هذه الولادة المعنوية النفوس الطاهرات الصالحات لأن تكون موردا لأسراره ، وهم الرجال العلماء ، والمؤمنون ليسوا رجالا بهذا الاعتبار لأنهم أطفال في الرضاع ، فأعط الطين حقه وإن جاهدك على أن تشرك بالله ما ليس لك به علم فلا تطعه ، وصاحبه في الدنيا معروفا ، وانفر إلى رحمك الديني الذي هو أولى بك من نفسك ، قال تعالى في الرحم الديني : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ

٣٧٨

أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) وقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ـ إشارة ثانية ـ الحق أولى بعباده المضافين إليه المميزين من غيرهم ، وهم الذين لم يزالوا عباده في حالة الاضطرار والاختيار ، من نفوسهم ، وما هو مع من لم يضف إليه بهذه المثابة ، فلكل عالم حظ معلوم من الله لا يتعدى قسمه.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٧)

وكان هذا الميثاق قبل وجود جسد آدم وهو الميثاق الأول فإن الرسل خلفاء الله في الأرض ، فلا بد لهم من ميثاق خاص في التبليغ ، حتى يمتاز التابع من المتبوع ، والميثاق الثاني لما وجد آدم وقبض الحق على ظهره واستخرج منه بنيه كأمثال الذر وأشهدهم على أنفسهم.

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) (٨)

(لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) ـ الوجه الأول ـ ليسأل الصادقين فيما صدقوا فيه ، هل صدقوا فيما أمروا به وأبيح لهم؟ أو هل صدقوا في إتيان ما حرم عليهم إتيانه مع كونهم صادقين؟ فيقال لهم : فيما صدقتم؟ فإن النمامين صادقون ، والمغتابين صادقون ، وقد ذمّهم الله وتوعد على ذلك مع كونه صادقا ، فيسأل الصادق عن صدقه ولا يسأل ذو الحق إذا قام به ، فالغيبة والنميمة وأشباههما صدق لا حق إذ الحق ما وجب ، والصدق ما أخبر به على الوجه الذي هو عليه ، وقد يجب فيكون حقا وقد لا يجب ويكون صدقا لا حقا ، فلهذا يسأل الصادق عن صدقه إن كان وجب عليه نجا ، وإن كان لم يجب عليه بل منع من ذلك هلك فيه ، فمن علم الفرق بين الحق والصدق تعيّن عليه أن يتكلم في الاستحقاق ، فإن الله يسأل الصادقين عن صدقهم فيما صدقوا ـ الوجه الثاني ـ سؤال الصادقين عن صدقهم من حيث إضافة الصدق إليهم ، لأنه قال (عَنْ صِدْقِهِمْ) وما قال عن الصدق ، فإن أضاف الصادق إذا سئل صدقه إلى ربه لا إلى نفسه ، وكان صادقا في هذه الإضافة أنها وجدت منه في حين صدقه في ذلك الأمر في الدنيا ، ارتفع عنه الاعتراض ،

٣٧٩

فإن الصادق هو الله ، وهو قوله المشروع : [لا حول ولا قوة إلا بالله] فإذا كانت القوة به ـ وهي الصدق ـ فإضافتها إلى العبد إنما هو من حيث إيجادها فيه وقيامها به ، وإن قال عند سؤال الحق إياه عن صدقه : إنه لما صدق في فعله أو قوله في الدنيا ، لم يحضر في صدقه أن ذلك بالله كان منه ، كان صادقا في الجواب عند السؤال ، ونفعه ذلك عند الله في ذلك الموطن وحشر مع الصادقين ، وصدق في صدقه ، لهذا قال تعالى : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) فإذا ثبت لهم جازاهم به وهو قوله تعالى : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) ـ إشارة ـ من لا قدم له عند الحق لا صدق له ، ومن لا صدق له سقط حظه من الحق ، والصدق مسؤول عنه ، فكيف غير الصدق؟!.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً) (١٣)

حقيقة العورة الميل ، فقالوا : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) أي مائلة تريد السقوط لما استنفروا ، فأكذبهم الله عند نبيه بقوله : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) يعني بهذا القول مما دعوتهم إليه ـ إشارة ـ (يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) (أَهْلَ يَثْرِبَ) هم المحمديون من العارفين ، ولكن من باب الإشارة لا من باب النص والتفسير ، (لا مُقامَ لَكُمْ) لا نهاية لما تطلبون (فَارْجِعُوا) بالعجز عن الوصول أصلا ، لتحقق المعرفة بالجناب الأعز ، وهو

٣٨٠