رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

في يقظة ونوم وحركة وسكون ، تريد أنه ما تصرف ولا كان على حال من الأحوال إلا في أمر مقرب إلى الله فجميع الطاعات كلها من فعل وترك إذا فعلت أو تركت لأجل الله ، فذلك من ذكر الله أي الله ذكر فيها ومن أجله فعلت أو تركت على حكم ما شرع فيها ، وهذا هو ذكر الموفقين من العلماء بالله ـ إشارة للعارفين ـ يغار أكثر أهل الطريق ولا سيما أهل الورع منهم أن يذكر الله بين العامة ، فيذكرونه بقلوب غافلة عن الحضور عما يجب لله من التعظيم ، وقد أخطؤوا في ذلك ، فإن القلب وإن غفل عن الذكر الذي هو حضوره مع المذكور ، فإن الإنسان من كونه سميعا قد سمع ذكر الله من لسان هذا الذاكر ، فخطر بالقلب ووعى ما جاء به هذا الذاكر ، ولم يجىء إلا بذكر اللسان الذي وقع بالسمع ، فجرد له هذا القلب ما يناسبه من الذاكرين منه وهو اللسان ، فذكر الله بلسانه موافقة لذكر ذلك المذكّر له ، والقلب مشغول في شأنه الذي كان فيه ، مع أنه لم يشتغل عن تحريك اللسان بالذكر ، فلم يشغله شأن عن شأن ، فما ذكر أحد الله عن غفلة قط ، وما بقي إلا حضور باستفراغ له أو حضور بغير استفراغ ، بل بمشاركة ، ولكن زمان أمره اللسان بالذكر ما هو زمان اشتغاله بغيره ، فما ذكره غافل قط أي عن غفلة في حال أمر القلب اللسان بالذكر إلا في حال ذكر اللسان ، ثم إن اللسان قد وفّى حقه في العلانية من الذكر ، فإنه من الأشياء المسبحة لله ، فمن غار على الله لم يعرفه ، وإنما يغار له لا عليه.

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢)

(وَسَبِّحُوهُ) أي صلوا له ، ولهذا قال : (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) يعني صلاة الغداة والعشي ، فأمرنا هنا بالصلاة بكرة وأصيلا ، فإن في ذلك غذاء العقول والأرواح ، كما أن غذاء الجسم في هذه الأوقات في قوله : (لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ورزق كل مخلوق بحسب ما تطلبه حقيقته ، فالأرواح غذاؤها التسبيح ، فقيل لها : سبحه أي صل له في هذه الأوقات واذكره على كل حال ، فقيد التسبيح وما قيد الذكر ، فعلمنا أن التسبيح ذكر خاص مربوط بهذه الأوقات.

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ

٤٠١

وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٤٣)

مسمى الصلاة يضاف إلى ثلاثة وإلى رابع ثلاثة بمعنيين ، بمعنى شامل وبمعنى غير شامل ، فتضاف الصلاة إلى الحق بالمعنى الشامل ، والمعنى الشامل هو الرحمة ، فإن الله وصف نفسه بالرحيم ووصف عباده بها فقال : (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إنما يرحم الله من عباده الرحماء] قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أي يرحمكم بأن يخرجكم من الظلمات إلى النور ، يقول من الضلالة إلى الهدى ، ومن الشقاوة إلى السعادة ، وتضاف إلى الملائكة بمعنى الرحمة والاستغفار والدعاء للمؤمنين ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) فصلاة الملائكة ما ذكرناها ، قال الله عزوجل في حق الملائكة (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ويقولون : (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) اللهم استجب فينا صالح دعاء الملائكة ، وتضاف الصلاة إلى البشر بمعنى الرحمة والدعاء والأفعال المخصوصة المعلومة شرعا ، فجمع البشر هذه المراتب المسماة صلاة ، قال تعالى آمرا لنا : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) وتضاف الصلاة إلى كل ما سوى الله من جميع المخلوقات ملك وإنسان وحيوان ونبات ومعدن بحسب ما فرضت عليه وعيّنت له ، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) فأضاف الصلاة إلى الكل والتسبيح ، أما قوله تعالى هنا : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) فتفسيره من وجوه ـ الوجه الأول ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) الصلاة المنسوبة إلى الحق هي رحمته بعباده ، فأخبر أنه يصلي علينا ، والمفهوم من هذا أمران : الأمر الواحد أنه يصلي علينا فينبغي لنا أن نذكره بالمدح والثناء ونصلي له بكرة وأصيلا ، والأمر الآخر أنكم إذا صليتم وذكرتم الله فإنه يصلي عليكم ، فإنه لما أمرنا بالذكر والصلاة قال : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) فصلاتنا وذكرنا له سبحانه بين صلاتين من الله تعالى ، صلى علينا فصلينا فصلى علينا ، فمن صلاته الأولى علينا صلينا له ، ومن صلاته الثانية علينا كانت السعادة لنا بأن جنينا ثمرة صلاتنا له وذكرنا ، لذلك جاءت إقامة الصلاة المفروضة بالفعل الماضي [قد قامت الصلاة] أراد قيام صلاة الله على العبد ليقوم العبد إلى الصلاة ، فيقيم بقيامه نشأتها ـ الوجه الثاني ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) أي يؤخر ذكره عن ذكركم

٤٠٢

حتى تذكروه ، قال تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخبرا عن ربه : [من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه] فهو المصلي عن سابق ذكر العبد ، ولا تذكرونه حتى يوفقكم ويلهمكم ذكره ، فيذكركم بذكره إياكم ، فتذكرونه به أو بكم ، فيذكركم بكم وبه ـ الوجه الثالث ـ لما وصل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عروجه إلى المقام الذي لا يتعداه البراق وليس في قوته أن يتعداه ، تدلى إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرفرف ، فنزل عن البراق واستوى على الرفرف ، وصعد به الرفرف وفارقه جبريل ، فسأله الصحبة فقال : إنه لا يطيق ذلك ؛ وقال له : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) ولما وصل المعراج الرفرفي بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مقامه الذي لا يتعداه الرفرف ، زجّ به في النور زجة غمره النور من جميع نواحيه ، ولم ير معه أحدا يأنس به ولا يركن إليه ، وقد أعطته المعرفة أنه لا يصح الأنس إلا بالمناسب ، ولا مناسبة بين الله وعبده ، فأعطته صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه المعرفة الوحشة لانفراده بنفسه ، وهذا مما يدلك أن الإسراء كان بجسمه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الأرواح لا تتصف بالوحشة ولا الاستيحاش ، فلما علم الله منه ذلك وكيف لا يعلمه وهو الذي خلقه في نفسه؟! وطلب عليه‌السلام الدنو بقوة المقام الذي هو فيه ، فنودي بصوت يشبه صوت أبي بكر ، تأنيسا له إذ كان أنيسه في المعه د ، فحنّ لذلك وأنس به ، وتعجب من ذلك اللسان في ذلك الموطن ، وكيف جاءه من العلو وقد تركه بالأرض؟ وقيل له في ذلك النداء : [يا محمد قف ، إن ربك يصلي] فأخذه لهذا الخطاب انزعاج وتعجب ، كيف تنسب الصلاة إلى الله تعالى فتلا عليه في ذلك المقام (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) فعلم ما المراد بنسبة الصلاة إلى الله ، فسكن روعه مع كونه سبحانه لا يشغله شأن عن شأن ، ولكن قد وصف نفسه بأنه لا يفعل أمرا حتى يفرغ من أمر آخر فقال : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) فمن هذه الحقيقة قيل له : [قف إن ربك يصلي] أي لا يجمع بين شغلين ، يريد بذلك العناية بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حيث يقيمه في مقام التفرغ له ، فهو تنبيه على العناية به ، والله أجل وأعلى في نفوس العارفين به من ذلك ، فإن الذي ينال الإنسان من المتفرغ إليه أعظم وأمكن من الذي يناله ممن ليس له حال التفرغ إليه ، لأن تلك الأمور تجذبه عنه ، فهذا في حال النبي عليه‌السلام وتشريفه ، فكان معه في هذا المقام بمنزلة ملك استدعى بعض عبيده ليقربه ويشرفه ، فلما دخل حضرته وقعد في منزلته طلب أن ينظر إلى

٤٠٣

الملك في الأمر الذي وجه إليه فيه ، فقيل له : تربص قليلا فإن الملك في خلوته يعزل لك خلعة تشريف يخلعها عليك ، فما كان شغله عنه إلا به ، ولذلك فسّر له صلاة الله بقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) فشرف بأن قيل له : إنما غاب عنك من أجلك وفي حقك ـ الوجه الرابع ـ (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) عموما وقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) خصوصا بخصوص صلاة ، وقد جاء بالملائكة في قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) بعد ما ذكرنا وفصل بنا بين صلاته وبين الملائكة ، بقوله (عَلَيْكُمْ) ثم قال : (لِيُخْرِجَكُمْ) فأفرد الخروج إليه ، وما جاء بضمير جامع يجمع بين الله وبين الملائكة في الصلاة على المؤمنين كما فعل في قوله : (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) فعمنا كلنا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملتنا بقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) وأفرد نفسه في ذلك ثم قال : (وَمَلائِكَتُهُ) فأفرد الملائكة بالصلاة على العباد وفيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلجميع الخلق توحيد الصلاة من الله وتوحيد الصلاة من الملائكة ، وخصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده فيما أخبرنا به ، وأما قوله (وَمَلائِكَتُهُ) أي أيضا يصلون عليكم بما قد شرع لها من ذلك وهو قوله (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) الآية فصلاة الملائكة علينا كصلاتنا على الجنازة سواء لمن عقل ، فهي شفاعة ، ثم قال : (لِيُخْرِجَكُمْ) بلام السبب (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ابتداء منه ومنّة ، وبدعاء الملائكة وهو قولهم : (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) فإن السيئات ظلمات ، فمنهم من يخرج من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمات المخالفة إلى نور الموافقة ، ومن ظلمات الضلال إلى نور الهدى ، ومن ظلمات الشرك إلى نور التوحيد ، ومن ظلمات الشقاء والتعب إلى نور السعادة والراحة ، فكما أن الصلاة الإلهية وهي عموم رحمته بمخلوقاته ، كذلك صلاة الملائكة تامة الخلقة ، فإنها دعت للذين تابوا وقالت أيضا (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) فعمت ، فما بقي أمر إلا دخل في صلاة الملائكة من طائع وعاص على أنواع الطاعات والمعاصي ، ثم قال : (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ) أي المصدقين (رَحِيماً) أي رحمهم لما صدقوا به من وجوده الذي هو أعم من التصديق بالتوحيد ، فإنه يندرج بعد الإيمان بالوجود الإلهي كل ما يجب به الإيمان على طبقاته ثم قال :

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (٤٤)

٤٠٤

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) أي إذا وقع اللقاء بشر بالسلامة أنه لا يشقى بعد اللقاء أبدا. ، فلله رجال يلقونه في الحياة الدنيا ويبشرون بالسلام ، وثمّ من يلقاه إذا مات ، وثمّ من يلقاه عند البعث ، وثمّ من يلقاه في تفاصيل مواقف القيامة على كثرتها ، ومنهم من يلقاه بعد دخول النار وبعد عذابه فيها ، ومتى وقع اللقاء حيّاه الله بالسلام فلا يشقى بعد ذلك اللقاء ، فلهذا جعل السلام عند اللقاء ، ولم يعين وقتا مخصوصا لتفاوت الطبقات في لقائه ، فآخر لاق يلقاه المؤمن بوجوده خاصة ، فإنه قال : (بِالْمُؤْمِنِينَ) ولم يقيد فلا نقيد ، ثم قال : (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) كل أجر على قدر ما عنده من الإيمان ، وأقلهم أجرا ، المؤمن بوجود الله إلها إلى ما هو أعظم في الإيمان ، فصلاة الله رحمته بخلقه ، وصلاة الحق كائنة على كل موجود وهي عموم رحمته بمخلوقاته.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) (٤٦)

من شرط من يدعى الإجابة إلى ذلك ، وجعله بإلى في قوله (إِلَى اللهِ) وهو حرف غاية ، وهو انتهاء المطلوب ، فتضمنت حرف إلى أن المدعو لا بد أن يكون له سعي من نفسه إلى الله ، فقال تعالى (بِإِذْنِهِ) أي بأمره ، لم يكن ذلك من نفسك ولا من عقلك ونظرك ، فافتقر المدعو إلى نور يكشف به ما يصده عن مطلوبه ، ويحرمه الوصول إليه لما دعاه ، مثل الشبه المضلة للإنسان في نظره إذا أراد القرب من الله بالعلم من حيث عقله ، فجعل الحق شرعه سراجا منيرا ، يتبين لذلك المدعو بالسراج الطريق الموصلة إلى من دعاه إليه ؛ وجعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (سِراجاً مُنِيراً) أي يظهر به للمدعو ما يمنعه من الوصول فيجتنبه على بصيرة ، ولما كان السراج مفتقرا إلى الإمداد بالدهن لبقاء الضوء ، كان الرسول سراجا منيرا للإمداد الإلهي الذي هو الوحي ، وجعله منيرا أي ذا نور لما فيه من الاستعداد لقبول هذا الإمداد ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم سراج منير ، لأن الله يمده بنور الوحي الإلهي في دعائه إلى الله عباده ، فهو نور ممدود بإمداد إلهي لا بإمداد عقلي ، وهذا إجابة الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه بقوله لربه : [واجعلني نورا].

٤٠٥

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٠)

هذه الآية نص على نكاح الهبة أن ذلك خالص لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو له مشروع وهو حرام علينا ، فهذا مما اختص به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لما لم يكن في الأنكحة أفضل من نكاح الهبة ، لأنه لا عن عوض كالاسم الواهب الذي يعطي لينعم ، اختص به لفضله أفضل الخلق وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنكاح الهبة خاص لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرام على الأمة بلا خلاف.

(تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً) (٥١)

٤٠٦

زوجات النبي اللاتي كان يساوي بينهن في القسمة أربع : عائشة وحفصة وأم سلمة وزينت بنت جحش.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) (٥٢)

نزلت هذه الآية جبرا لأزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإيثارا لهن ومراعاتهن بعد أن خيّرهن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاختاروه ، وكانت هذه الآية. من أشق آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [حبب إليّ من دنياكم ثلاث : النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة] فأبقى عليه تعالى رحمة به لما جعل في قلبه من حب النساء ملك اليمين ، وقوله تعالى : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ) تقوية للحكم بتحريم ذلك عليه ، قالت عائشة [ما كان الله ليعذب قلب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والله ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى أحلّ له النساء] (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) جواريه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مارية بنت شمعون القبطية ، ولدت له سيدنا إبراهيم عليه‌السلام ، وريحانة بنت زيد من بني قريظة من بني النضير. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) ـ الوجه الأول ـ هو معنى قوله تعالى (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) أي العالم الأعلى والأسفل ، فلا يزال الحق مراقبا لعالم الأجسام والجواهر العلوية والسفلية ، كلما انعدم منها عرض به وجوده خلق في ذلك الزمان عرضا مثله أو ضده يحفظه به من العدم في كل زمان ، فهو خلّاق على الدوام ، والعالم مفتقر إليه تعالى على الدوام افتقارا ذاتيا ، من عالم الأعراض والجواهر ، وهذه مراقبة الحق خلقه لحفظ الوجود عليه ، وهذه هي الشؤون التي عبر عنها في كتابه أنه كل يوم في شأن ، ولا يشغله شأن عن شأن ـ الوجه الثاني ـ ومراقبة أخرى للحق في عباده ، وهي نظره إليهم فيما كلفهم من أوامره ونواهيه ورسم لهم من حدوده ، وهذه مراقبة كبرياء ووعيد ، فمنهم من وكل به من يحصي عليهم جميع ما يفعلونه ، مثل قوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) ومثل قوله : (كِراماً كاتِبِينَ يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) وقوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فهو سبحانه لا يغفل عن حالات عبده في حركاته وسكناته ، ولا يشغله عن مراقبته شيء ،

٤٠٧

وليس في الحضرات من يعطي التنبيه على أن الحق معنا بذاته في قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) إلا هذا الاسم الرقيب وهذه الحضرة ، لأنه على الحقيقة من الرقبى ، والرقبى أن تملك رقبة الشيء بخلاف العمرى ، فإذا ملكت رقبة الشيء تبعته صفاته كلها وما ينسب إليه ، والرقيب اسم فاعل (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) وهو المرقب عليه ، فإنه المشهود لكل شيء ، فيرقب العبد في جميع حركاته وسكناته ، ويرقبه العبد في جميع آثاره في قلبه وخواطره وحركاته وحركات ما خرج عنه من العالم ، فأسعد العبيد من يراقب سيده مراقبة سيده إياه ، فيراقب الحق مراقبة عبده لمن يراقب ، فيكون معه بحيث يرى منه ، ومن ملك المراقبة كان له التصرف كيف شاء في المراقب ، فإن الله مع عبده حيث كان ، فالعبد وإن كان مقيدا بالشرع ، فإن الشرع قد جعله مسرّح العين في تصرفه ، ويحمده الميزان ويذمه ، والمراقب معه أينما كان من محمود ومذموم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) (٥٣)

(وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ) وذلك ليس من صفات الخلق ، من لا يكون إلا ما يريد لا يستحي من العبيد ، فإن استحى في حال ما ، فلطلب الاسم المسمى.

(إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي

٤٠٨

آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) (٥٥)

وهو رؤية عباده في حركاتهم وتصرفاتهم ، فشهوده لكل شيء هو إحسانه ، فإنه بشهوده يحفظه من الهلاك.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦)

قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) فعمنا كلنا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جملتنا ، وأفرد نفسه في ذلك كما أفرد ملائكته بالصلاة على العباد وفيهم النبي ، فلجميع الخلق توحيد الصلاة من الله وتوحيد الصلاة من الملائكة ، وخصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده فيما أخبرنا به بقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) فهي خصوص صلاة فإن الضمير في قوله : (يُصَلُّونَ) يجمع الحق والملائكة ، فتميز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر البشر بمرتبة لم يعطها أحد سواه ، بأن جمع له بصلاة جامعة اشترك فيها الله وملائكته ، ومعلوم أن الصلاة في الجمعية ما هي الصلاة في حال الإفراد فإن الحالتين متميزتان ، ففاز النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذه الصلاة ، فثبت شرفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر البشر في هذه المرتبة ، فإنه شرف محقق الوجود بالتعريف ، وإن ساواه أحد ممن لم نعرّف به فذلك شرف إمكاني ، فتعين فضله بالتعيين على من لم يتعين ، وإن كان قد صلى عليه مثل هذا في نفس الأمر ولم نخبر ، فثبت له الفضل بكل حال ، ويتضح في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) أنه لو لم يكن من شرف الملائكة على سائر المخلوقات إلا جمع الضمير في (يُصَلُّونَ) بينهم وبين الله لكفاهم ، وما احتيج بعد ذلك إلى دليل آخر ، ونصب الملائكة بالعطف حتى يتحقق أن الضمير جامع للمذكورين قبل ، ولا يتمكن للملائكة أن تلحق صلاة الله على عبده ، فإنها لا تتعدى مرتبتها ، فيكون الحق ينزل في هذه الصلاة إلى صلاة الملائكة لأجل الضمير الجامع ، فتكون صلاة الله على

٤٠٩

النبي من مقام صلاة الملائكة على النبي ، ثم أمرنا تعالى أن نصلي عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فأمرنا أن نصلي عليه بمثل هذه الصلاة الجامعة بصلاتنا عليه ، والصلاة على النبي في الصلاة وغيرها دعاء من العبد المصلي لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بظهر الغيب ، وقد علّمنا كيف نصلي عليه أي كيف ندعو له ، وقد أمرنا أن ندعو له بالوسيلة والمقام المحمود ، وقد ورد في الصحيح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [أنه من دعا بظهر الغيب قال له الملك ولك بمثله وفي رواية ولك بمثليه] فشرع ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمر بها ليعود هذا الخير من الملك على المصلي عليه من أمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمر بالسلام عليه بقوله : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) فأكده بالمصدر ، فقد يحتمل أن يريد بذلك السلام المذكور في التشهد ، ويحتمل أن يريد به السلام من الصلاة ، أي إذا فرغتم من الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسلموا من صلاتكم تسليما (١) ، فالصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التشهد فرض ، والتعوذ من الأربع المأمور بها في التشهد واجب ، وهي أن يتعوذ من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا وفتنة الممات ومن فتنة المسيح الدجال ، ولو لم يأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتعوذ منها لكان الاقتداء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أولى ، إذ كان التعوذ منها من فعله ، فكيف وقد انضاف إلى فعله أمره أمته بذلك؟ وأما التسليم من الصلاة فهو واجب ، والثابت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يسلم تسليمتين ، سأل المؤمنون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن كيفية الصلاة التي أمرهم الله أن يصلوها عليه ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل ابراهيم] أي مثل صلاتك على إبراهيم وعلى آل ابراهيم ، ويظهر من هذا الحديث فضل إبراهيم عليه‌السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ طلب أن يصلي عليه مثل الصلاة على إبراهيم ، فاعلم أن الله أمرنا بالصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يأمرنا بالصلاة على آله في القرآن ، وجاء الإعلام في تعليم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إيانا الصلاة عليه بزيادة الصلاة على الآل ، فما طلب صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة من الله عليه مثل صلاته على ابراهيم من حيث أعيانهما ، فإن العناية الإلهية برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتم ، إذ قد خصّ بأمور لم يخصّ بها نبي قبله لا إبراهيم ولا غيره ، وذلك من صلاته تعالى عليه ، فكيف يطلب الصلاة من الله عليه مثل صلاته على إبراهيم من حيث عينه؟ إنما المراد من ذلك أن الصلاة على الشخص قد تصلى عليه من حيث عينه

__________________

(١) راجع الإشارة في نهاية البحث.

٤١٠

ومن حيث ما يضاف إليه غيره ، فكأن الصلاة عليه من حيث ما يضاف إليه غيره هي الصلاة من حيث المجموع ، إذ للمجموع حكم ليس للواحد إذا انفرد. واعلم أن آل الرجل في لغة العرب هم خاصته الأقربون ، وخاصة الأنبياء وآلهم هم الصالحون ، العلماء بالله المؤمنون به ، وقد علمنا أن إبراهيم كان من آله أنبياء ورسل الله ، ومرتبة النبوة والرسالة قد ارتفعت في الشاهد في الدنيا ، فلا يكون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أمته نبي يشرع الله له بخلاف شرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا رسول ، وما منع المرتبة ولا حجرها من حيث لا تشريع ولا سيما وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيمن حفظ القرآن ، إن النبوة قد أدرجت بين جنبيه أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال في المبشرات إنها جزء من أجزاء النبوة ، فوصف بعض أمته بأنهم قد حصل لهم المقام وإن لم يكونوا على شرع يخالف شرعه ، وقد علمنا ـ بما قال لنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنّ عيسى عليه‌السلام ينزل فينا حكما مقسطا عدلا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ، ولا نشك قطعا أنه رسول الله ونبيه ، وهو ينزل بعده ، فله عليه‌السلام مرتبة النبوة بلا شك عند الله ، وما له مرتبة التشريع عند نزوله ، فعلمنا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنه [لا نبي بعدي ولا رسول] وأن النبوة قد انقطعت والرسالة ، إنما يريد بهما التشريع ، فلما كانت النبوة أشرف مرتبة وأكملها ، ينتهي إليها من اصطفاه الله من عباده ، علمنا أن التشريع في النبوة أمر عارض بكون عيسى عليه‌السلام ينزل فينا حكما من غير تشريع ، وهو نبي بلا شك ، فخفيت مرتبة النبوة في الخلق بانقطاع التشريع ، ومعلوم أن آل إبراهيم من النبيين والرسل الذين كانوا بعده ، مثل إسحق ويعقوب ويوسف ومن انتسل منهم من الأنبياء والرسل بالشرائع الظاهرة الدالة على أن لهم مرتبة النبوة عند الله ، أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يلحق أمته ـ وهم آله العلماء الصالحون منهم ـ بمرتبة النبوة عند الله وإن لم يشرعوا ، ولكن أبقى لهم من شرعه ضربا من التشريع ، فقال : [قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد] أي صل عليه من حيث ما له آل [كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم] أي من حيث أنك أعطيت آل إبراهيم النبوة تشريفا لإبراهيم ، فظهرت نبوتهم بالتشريع ، وقد قضيت أن لا شرع بعدي ، فصلّ عليّ وعلى آلي بأن تجعل لهم مرتبة النبوة عندك ، وإن لم يشرعوا ، فكان من كمال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ألحق آله بالأنبياء في المرتبة ، وزاد على إبراهيم بأن شرعه لا ينسخ ، وبعض شرائع إبراهيم ومن بعده نسخت الشرائع بعضها بعضا ، وما علّمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة عليه على هذه الصورة إلا بوحي من الله ،

٤١١

وبما أراه الله ، وأن الدعوة في ذلك مجابة ، فقطعنا أن في هذه الأمة من لحقت درجته درجة الأنبياء في النبوة عند الله لا في التشريع ، ولهذا بيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأكد بقوله : [فلا رسول بعدي ولا نبي] فأكد بالرسالة من أجل التشريع ، فأكرم الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن جعل آله شهداء على أمم الأنبياء ، كما جعل الأنبياء شهداء على أممهم ، ثم أنه خصّ هذه الأمة أعني علماءها ، بأن شرع لهم الاجتهاد في الأحكام ، وقرر حكم ما أداه إليه اجتهادهم ، وتعبدهم به وتعبد من قلدهم به ، كما كان حكم الشرائع للأنبياء ومقلديهم ، ولم يكن مثل هذا لأمة نبي ما لم يكن بوحي منزل ، فجعل الله وحي علماء هذه الأمة في اجتهادهم ، كما قال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) فالمجتهد ما حكم إلا بما أراه الله في اجتهاده ، فهذه نفحات من نفحات التشريع ما هو عين التشريع ، فلآل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم المؤمنون من أمته العلماء ، مرتبة النبوة عند الله ، تظهر في الآخرة ، وما لها حكم في الدنيا إلا هذا القدر من الاجتهاد المشروع ، فلم يجتهدوا في الدين والأحكام إلا بأمر مشروع عند الله ، فإن اتفق أن يكون أحد من أهل البيت بهذه المثابة من العلم والاجتهاد ولهم هذه المرتبة كالحسن والحسين وجعفر وغيرهم من أهل البيت ، فقد جمعوا بين الأهل والآل ، فلا تتخيل أن آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم أهل بيته خاصة ، ليس هذا عند العرب ، فإن الآل لا يضاف بهذه الصفة إلا للكبير القدر في الدنيا والآخرة ، فلهذا قيل لنا قولوا : [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم] أي من حيث ما ذكرناه لا من حيث أعيانهما خاصة دون المجموع ، فهي صلاة من حيث المجموع ، وذكرناه لأنه تقدم بالزمان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ثبت أنه سيد الناس يوم القيامة ، ومن كان بهذه المثابة عند الله ، كيف تحمل الصلاة عليه كالصلاة على إبراهيم من حيث أعيانهما؟ فلم يبق إلا ما ذكرناه ، روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : [علماء هذه الأمة كأنبياء سائر الأمم] وفي رواية [أنبياء بني إسرائيل] وإن كان إسناد هذا الحديث ليس بالقائم ، ولكن أوردناه تأنيسا للسامعين أن علماء هذه الأمة قد التحقت بالأنبياء في الرتبة ، وتلخيص ما ذكرناه هو أن يقول المصلي [اللهم صل على محمد] بأن تجعل آله من أمته [كما صليت على إبراهيم] بأن جعلت آله أنبياء ورسلا في المرتبة عندك ، [وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم] بما أعطيتهم من التشريع والوحي ، فأعطاهم الحديث فمنهم المحدثون ، وشرع لهم الاجتهاد وقرره حكما شرعيا ،

٤١٢

فاشبهت الأنبياء في ذلك ـ وهذا التفسير عن واقعة إلهية ، يقول رضي الله عنه (أي الشيخ الأكبر). وهذه مسئلة عظيمة جليلة القدر ، لم نر أحدا ممن تقدمنا تعرض لها ولا قال فيها مثل ما وقع لنا في هذه الواقعة ، إلا إن كان وما وصل إلينا ، فإن الله في عباده أخفياء لا يعرفهم سواه ـ وجه آخر ـ لكي ننال ما ناله إبراهيم عليه‌السلام من الخلة على قدر ما يعطيه حالنا ، قال لنا : [قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد] والمؤمنون آله [كما صليت على إبراهيم] وما اختص به إلا الخلة ، فلما دعونا بها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجاب الله دعاءنا فيه لنتخذ عنده يدا بذلك ، فصلى الله عنه علينا عشرا ، فقام تعالى عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمكافأة ، عناية منه به عليه‌السلام وتشريفا لنا ، حيث لم تكمل المكافأة في ذلك لملك ولا غيره ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك لما حصلت الإجابة من الله فيما دعوناه فيه لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لو كنت متخذ خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن صاحبكم] يعني نفسه [خليل الله] ولو صحت له هذه الخلة من قبل دعاء أمته له بذلك لكان غير مفيد صلاتنا عليه ، أي دعاءنا له بذلك ، وحكم الخلة ما ظهر هنا ، وإنما يظهر ذلك في الآخرة ، ففي الآخرة تنال الخلة لظهور حكمها هناك ، وأما الذي يظهر منها هنا لوامع تبدو وتؤذن بأنه قد أهّل لها واعتني به ـ تحقيق ـ من غيرة الله أن تكون لمخلوق على مخلوق منة لتكون المنة لله ، فما خلق مخلوقا إلا وجعل لمخلوق عليه يدا بوجه ما ، فإن أراد الفخر مخلوق على مخلوق لما كان منه إليه ، نكس رأسه ما كان من مخلوق آخر إليه ، والأنبياء والرسل والكمل من العلماء بالله لا يخطر لهم ذلك ، لمعرفتهم بحقائق الأمور وما ربط الله به العالم ، وما يستحقه جلاله مما ينبغي أن يفرد به ولا يشارك فيه ، فنصب الأسباب وأوقف الأمور بعضها على بعض لما تقتضيه الحكمة ، فقال لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) فهذا فخر ويد ومنة ، يتعرض فيها علة ومرض ، ولكن عصم الله نبيه من ذلك ، فجعل سبحانه في مقابلة هذه العلة دواء كما هي أيضا دواء لما هو لها دواء ، فقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) فإن افتخرنا بالصلاة عليه على طريق المنة ، وجدناه قد صلى علينا حين أمر بذلك ، وان تصوّر في الجواز العقلي أن يمتن بصلاته علينا ، منعته من ذلك صلاتنا عليه أن يذكر هذا ، مع كونه السيد الأعظم ، ولكن لم يترك له سبحانه المنة على خلقه ، ليكون هو سبحانه المنعم الممتن على عباده بجميع ما هم فيه ، وما يكون منهم في حق الله من الوفاء

٤١٣

بعهوده ـ إشارة ـ من قوله تعالى : (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) يريد به السلام من الصلاة. اعلم أن المسلّم من صلاته رجلان ، لهما طريقان ، فإن كانا في شخص واحد فقد جمعت له الحقيقتان ، فالعالي من سلّم لكونه انفصل عن أمر ما إلى أمر ما ، إلى اسم ما ، عن اسم آخر ، فيكون سلام توديع وإقبال ، إما من جليل إلى جلال ، أو من جميل إلى جمال ، والدون من سلّم على الرحمن وعلى الأكوان ، فسلامه على الرحمن لانفصاله ، وسلامه على الأكوان لرجوعه إليهم واتصاله ، ولهذا لا يسلم المصلي على يساره إلا إذا جاوره مثله ، فيظهر فيه ظلّه ، ومن خرج عن هاتين الحقيقتين لم يصح سلامه ، ولا قبل كلامه ، فإنه لم يكن عند الحق فينفصل عنه بسلام ، ولم يغب عن الكون فيسلّم عليه عند الإلمام ، وهذه صلاة العوام ، بريئة من الكمال والتمام ، ليس لها انتظام ولا التحام.

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) (٥٧)

(إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ) بالتكلم فيه بما لا ينبغي ، فوصف الله نفسه بأنه يؤذى ، ولم يؤاخذ عن أذاه في الوقت من آذاه ، فأمهلهم ولم يؤاخذهم ، وجعل له ذلك الأذى الاسم الصبور ، فوصف نفسه بالصبور ، وذكر لنا من يؤذيه وبماذا يؤذيه ، وطلب من عباده رفع الأذى مع قدرته على أن لا يخلق فيهم ما خلق ، مع بقاء اسم الصبور عليه ، ليعلمنا أنا إذا شكونا إليه ما نزل بنا من البلاء ، أن تلك الشكوى إليه لا تقدح في نسبة الصبر إلينا ، فنحن مع هذه الشكوى إليه في رفع البلاء عنا صابرون ، كما هو صابر مع تعريفنا وإعلامه إيانا بمن يؤذيه وبما يؤذيه ، لننتصر له وندفع عنه ذلك وهو الصبور ، فمن كان عدوا لله فهو عدو للمؤمن ، وقد ورد في الخبر [ليس من أحد أصبر على أذى من الله] لكونه قادرا على الأخذ وما يأخذ ، ويمهل باسمه الحليم ، وقد كذّب وشتم ورد في الصحيح [شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له] (الحديث) فقوله ولم يكن ينبغي له ذلك لما له عليه تعالى من فضل إخراجه من الشر الذي هو العدم إلى الخير الذي بيده تعالى وهو الوجود ، فكان التعريف بذلك ليرجع المكذب عن تكذيبه ، والشاتم عن شتمه ، فإن الدنيا موطن الرجوع والقبول منه ، والآخرة وإن كانت موطن الرجوع ولكن ليست بموطن قبول ، واتصف الحق بالصبر على أذى العبد ، وعرّف أهل الاعتناء من المؤمنين بذلك

٤١٤

ـ صورة الشاكي ـ ليدفعوا عنه ذلك الأذى ، فيكون لهم من الله أعظم الجزاء ، فلا أرفع ممن يدفع عن الله أذى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) أي أبعدهم ، واللعنة البعد ، وسببه وقوع الأذى منهم ، فوجبت عليهم اللعنة (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) لو كان الأمر كما يتوهمه من لا علم له من عدم مبالاة الحق بأهل الشقاء ، ما وقع الأخذ بالجرائم ، ولا وصف الله نفسه بالغضب ، ولا كان البطش الشديد ، فهذا كله من المبالاة والتهمم بالمأخوذ ، إذ لو لم يكن له قدر ما عذب ولا استعدّ له ، وقد قال في أهل الشقاء : (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً).

(وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٥٨) البهت أعظم من الجور.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٥٩)

العورة في المرأة السوأتان فقط ، كما قال تعالى : (وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) فسوّى بين آدم وحواء في ستر السوأتين وهما العورتان ، وإن أمرت المرأة بالستر فهو مذهبنا ، لا من كونها عورة وإنما ذلك حكم مشروع ورد بالستر ، ولا يلزم أن يستر الشيء لكونه عورة. أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : منهن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، ماتت قبل الهجرة ، وعائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ، ومنهن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ، ومنهن أم سلمة واسمها هند بنت أمية بن المغيرة ابن عبد الله ابن مخزوم ، وهي آخر من مات من أزواجه بعده ، ومنهن سودة بنت زمعة ابن عبد شمس بن عبد ودّ بن نضر بن مالك بن جابر بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ، ومنهم أم حبيبة واسمها رملة بنت أبي سفيان بن الحارث بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ابن قصي بن كلاب ، ومنهن زينت بنت جحش بن رباب بن أسد بن خزيمة ، وأمها عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنت عبد المطلب ، وهي أول من مات من أزواجه بعده ، وهي أول من

٤١٥

حملت جنازتها على نعش ، ومنهن زينب بنت خزيمة وهي أم المساكين ، وهي من عبد مناف ابن هلال بن عامر بن صعصعة ، توفيت في حياته عليه‌السلام ، ومنهن ميمونة بنت الحارث ابن حرب بن بحر بن الحرص بن رومية بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة ، وهي التي وهبت نفسها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقيل الواهبة نفسها خولة بنت حكيم السلمي ، وقيل : أم شريك ، وقيل : زينب بنت جحش ، ومنهن جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار بن الحارث بن عابد بن مالك بن المصطلق بن خزاعة ، سباها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوة المريسيع وتزوج بها ، ومنهن صفية بنت حيّي بن أخطب ، من بني النضير ، سباها يوم خيبر فهؤلاء إحدى عشر امرأة دخل بهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا خلاف ، ومات صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تسع منهن : ميمونة ، وسودة ، وصفية ، وجويرية ، وأم حبيبة ، وعائشة ، وحفصة ، وأم سلمة ، وزينب بنت جحش ، ومات في حياته منهن : خديجة بنت خويلد ، وزينب بنت خزيمة أم المساكين. بناته صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أكبرهن رقية ثم زينب ثم أم كلثوم ، ثم فاطمة.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) (خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا) (٦٧)

سيد القوم هو رئيسهم الذي له الرياسة عليهم.

٤١٦

(رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (٦٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) (٦٩)

كانت براءة موسى بفرار الحجر بثوب موسى عليه‌السلام حتى بدت لقومه سوأته ، ليعلموا كذبهم فيما نسبوه إليه ، أترى فرار الحجر هل كان عن غير أمر الله إياه بذلك؟ بل كان بوحي من الله (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ) لهذه البراءة (وَجِيهاً).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧٠)

يا رب وهل لمخلوق حول أو قوة إلا بك؟ وأي قول لنا إلا ما تقولنا؟ فاجعل نطقنا ذكرك ، وقولنا تلاوة كتابك ، وهنا أمر الله عباده المؤمنين أن يقولوا عند الشهود بنور الإيمان : لا فاعل إلا الله ؛ فقالوا قولا سديدا ، فإذا قالوه أصلح لهم أعمالهم وغفر لهم ذنوبهم ، فقال تعالى :.

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١)

فالسعيد من حال الله بينه وبين ربوبيته ، وأقامه عبدا في جميع أحيانه ، يخاف ويرجو إيمانا ، ولا يخاف ولا يرجى عيانا.

إنما العبد من يخاف ويرجو

ليس بالعبد من يخاف ويرجى

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢)

٤١٧

(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) ، وأي أمانة أعظم من النيابة عن الحق في عباده ، فلا يصرفهم إلا بالحق ، فلا بد من الحضور الدائم ومن مراقبة التصريف (عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) كان عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال بوحي يناسبها ، مثل قوله تعالى : (وأوحى في كل سماء أمرها) (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) لأنها كانت عرضا لا أمرا ، فلهذا أبت السموات والأرض القبول ، لعلمها أنها تقع في الخطر ، فلا تدري ما يؤول إليها أمرها في ذلك ، وأبين أن يحملنها من أجل الذم الذي كان من الله لمن حملها ، وهو أن الله وصف حاملها بالظلم والجهل ببنية المبالغة ، فإن حاملها ظلوم لنفسه ، جهول بقدر الأمانة (وَأَشْفَقْنَ مِنْها) أي خفن أن لا يقمن بحقها ، فاستبر أن لأنفسهن ، فهل ترى إباية السموات والأرض والجبال عن حمل الأمانة وإشفاقهن منها ، عن غير علم بقدر الأمانة وما يؤول إليه أمر من حملها فلم يحفظ حق الله فيها؟ وعلمهم بالفرق بين العرض والأمر ، فلما كان عرض تخيير احتاطوا لأنفسهم وطلبوا السلامة ، ولما أمرهم الحق تعالى بالإتيان فقال للسموات والأرض (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) طاعة لأمر الله ، وحذرا أن يؤتى بهما على كره ، أترى إباية من ذكر الله لجهلها؟ لا والله ، بل الحمل للأمانة كان لمجرد الجهل من الحامل ، وهل نعت الله بالجهل على المبالغة فيه والظلم لنفسه فيها لغيره إلا الحامل لها وهو الإنسان ، فعلمت الأرض ومن ذكر قدر الأمانة وأن حاملها على خطر ، فإنه ليس على يقين من الله أن يوفقه لأدائها إلى أهلها ، وعلمت مراد الله بالعرض أنه يريد ميزان العقل ، فكان عقل الأرض والجبال والسماء أوفر من عقل الإنسان ، حيث لم يدخلوا أنفسهم فيما لم يوجب الله عليهم ، فإن طلب حمل الأمانة كان عرضا لا أمرا ، وجعل بعض علماء الرسوم هذه الإباية والإشفاق حالا لا حقيقة ، وكذلك قوله عنهما (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) قول حال لا خطاب ، وهذا كله ليس بصحيح ، ولا مراد في هذه الآيات ، بل الأمر على ظاهره كما ورد ، وهكذا يدركه أهل الكشف (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) عرضا أيضا لما وجد في نفسه من قوة الصورة التي خلق عليها ، لأنه لما خلق الله آدم على صورته أطلق عليه جميع أسمائه الحسنى ، وبقوتها حمل الأمانة المعروضة ، وما أعطته هذه الحقيقة أن يردها كما أبت السموات والأرض والجبال حملها (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) ـ الوجه الأول ـ (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لو لم يحملها (جَهُولاً) لأن العلم بالله عين الجهل به ، فالعجز عن درك الإدراك إدراك

٤١٨

ـ الوجه الثاني ـ (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لنفسه حيث عرّض بنفسه إلى أمر عظيم إذا كان عارفا بقدر الأمانة ، وإذا لم يوفق لأدائها كان ظالما لنفسه ولغيره (جَهُولاً) وذلك لجهل الإنسان ذلك من نفسه وبقدر ما تحمل وحمل ، وإن كان عالما بقدرها فما هو عالم بما في علم الله فيه من التوفيق إلى أدائها ، بل هو جهول كما شهد الله فيه ، لأنه جهل هل يؤدي الأمانة إلى أهلها أم لا؟ فكان قبول الإنسان الأمانة اختيارا لا جبرا ، فخان فيها لأنه وكل إلى نفسه وخذل ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [من طلب الإمارة وكل إليها ، ومن أعطيها من غير طلب بعث الله أو وكل الله به ملكا يسدده] فقال لنا تعالى لما حملنا الأمانة (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) فما حملها أحد من خلق الله إلا الإنسان ، ولا يخلو إما أن يحملها عرضا أو جبرا ، فإن حملها عرضا فقد خاطر بنفسه ، وإن حملها جبرا فهو مؤد لها على كل حال ، ومن ذلك نعلم أن من العالم ما هو مجبور فيما كلّف حمله ، وهو المعبر عنه بفرائض الأعيان وفرائض الكفاية ، ما لم يقم به واحد فيسقط الفرض عن الباقي ، ومن العالم ما لم يجبر في الحمل وإنما عرض عليه ، فإن قبله فما قبله إلا لجهله بقدر ما حمل من ذلك ، كالإنسان لما عرضت عليه الأمانة وحملها ، كان لذلك ظلوما لنفسه جهولا بقدرها ، والسموات والأرض والجبال لما عرضت عليهن أبين أن يحملنها وأشفقن منها ، لمعرفتهن بقدر ما حملوا ، فلم يظلموا أنفسهم ، فما وصف أحد من المخلوقات بظلمه لنفسه إلا الإنسان ، فكان خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس في المنزلة ، فإنهن كن أعلم بقدر الأمانة من الإنسان فبهذا كن أيضا أكبر من خلق الناس في المنزلة من العلم ، فإنهن ما وصفن بالجهل كما وصف الإنسان ، فإن الله لما عرض عليه الأمانة وقبلها كان بحكم الأصل ظلوما جهولا ، فإنه خوطب بحملها عرضا لا أمرا ، فإن حملها جبرا أعين عليها ، فكان الإنسان ظلوما لنفسه جهولا ، يعني بقدر الأمانة ، فهي ثقيلة في المعنى وإن كانت خفيفة في التحمل ، فكانت السموات والأرض والجبال في هذه المسئلة أعلم من الإنسان ، ولم تكن في الحقيقة أعلم ، وإنما الإنسان لما كان مخلوقا على الصورة الإلهية ، وكان مجموع العالم ، اغتر بنفسه وبما أعطاه الله من القوة بما ذكرناه ، فهان عليه حملها ، ثم إنه رأى الحق قد أهّله للخلافة من غير عرض عليه مقامها ، فتحقق أن الأهلية فيه موجودة ، ولم تقو السموات على الانفراد ولا الأرض على الانفراد ولا الجبال على الانفراد قوة جمعية الإنسان ، فلهذا أبين أن يحملنها وأشفقن منها ،

٤١٩

وما علم الإنسان ما يطرأ عليه من العوارض في حملها ، فسمي بذلك العارض خائنا ، فإنه مجبول على الطمع والكسل ، وما قبلها إلا من كونه عجولا ، فلو فسح الحق له في الزمان حتى يفكر في نفسه ، وينظر في ذاته وفي عوارضه ، لبان له قدر ما عرض عليه ، فكان يأبى كما أبته السماء وغيرها ممن عرضت عليه ، ومن الأمانة التي حملها الإنسان الصفات الإلهية ، وهي على قسمين : صفة إلهية تقتضي التنزيه ، كالكبير والعلي ، وصفة إلهية تقتضي التشبيه ، كالمتكبر والمتعالي ، وما وصف الحق به نفسه مما يتصف به العبد ، فمن جعل ذلك نزولا من الحق إلينا جعل الأصل للعبد ، ومن جعل ذلك للحق صفة إلهية لا تعقل نسبتها إليه لجهلنا به ، كان العبد في اتصافه بها يوصف بصفة ربانية في حال عبوديته ، فيكون جميع صفات العبد التي يقول فيها لا تقتضي التنزيه ، هي صفات الحق تعالى لا غيرها ، غير أنها لما تلبس بها العبد انطلق عليها لسان استحقاق للعبد ، والأمر على خلاف ذلك ، وهذا هو الذي يرتضيه المحققون ، وهو قريب إلى الأفهام إذا وقع الإنصاف ، وذلك أن العبد ما استنبطه ولا وصف الحق به ابتداء من نفسه ، وإنما الحق وصف بذلك نفسه على ما بلّغت رسله وما كشفه لأوليائه ، ونحن ما كنا نعلم هذه الصفات إلا لنا لا له بحكم الدليل العقلي ، فلما جاءت الشرائع بذلك ، وقد كان هو ولم نكن نحن ، علمنا أن هذه الصفات هي له بحكم الأصل ، ثم سرى حكمها فينا منه ، فهي له حقيقة وهي لنا مستعارة ، إذ كان ولا نحن ، فالإنسان ظلوم بما غصب من هذه الصفات من حيث جعلها لنفسه حقيقة ، جهول بمن هي له وبأنها غصب في يده ، فمن أراد أن يزول عنه وصف الظلم والجهالة فليرد الأمانة إلى أهلها ، والأمر المغصوب إلى صاحبه ، والأمر في ذلك هين جدا ، والعامة تظن أن ذلك صعب وليس كذلك.

(لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٣)

٤٢٠