رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (٤٥)

(٣٦) سورة يس مكيّة

سورة يس من القرآن قلب القرآن ، ومن قرأها كان كمن قرأ القرآن عشر مرات ، فهي تقوم مقام القرآن عشر مرات.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(يس) (١)

نداء مرخم ، أراد يا سيد ، فرخّم ، كما قال : يا أبا هر يا أبا هريرة ، فأثبت له السيادة بهذا الاسم ، وجعله مرخما للتسليم الذي تطلبه الرحمة ، والقطع مما بقي منه في الغيب الذي لا يمكن خروجه ، فصورته في الغيب صورة الظل في الشخص الذي امتد عنه الظل ، ألا ترى الشخص إذا امتد له ظل في الأرض ، أليس له ظل في ذات الشخص الذي يقابله ذلك الظل الممتد؟ فذلك الظل القائم بذات الشخص المقابل للظل الممتد ، ذلك هو الأمر الذي بقي من الإنسان ، الذي هو ظل الله الممدود في الغيب ، لا يمكن خروجه أبدا ، وهو باطن الظل الممتد ، والظل الممدود هو الظاهر ، فلا غيب أكمل من غيب الإنسان الكامل الذي هو ظل الله في كل ما سوى الله ، فأظهره من النفس الرحماني الخارج من قلب القرآن سورة

٤٦١

يس ، فلا غيب أكمل من غيب الإنسان وهو على صورة موجده ، فلما أبرزه الله للوجود ، أبرزه على الاستقامة وأعطاه الرحمة ، ففتح به مغاليق الأمور علوا وسفلا ، فأمد الأمثال بذاته ، وأمد غير الأمثال بمثله.

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠)

وذلك لأنهم قالوا (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) فكأن الله حكى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفه بأن حالهم ما ذكروه عن نفوسهم.

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢)

(وَكُلَّ شَيْءٍ) له شيئية وجودية (أَحْصَيْناهُ) فإن الإحصاء لا يكون إلا في الموجود (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) ـ الوجه الأول ـ فقوله تعالى : أحصيناه ، دليل على أنه ما أودع في الإمام المبين إلا علوما متناهية ، والإمام المبين هو اللوح المحفوظ الحاوي على المحو والإثبات ، فكل شيء فيه ، وكاتبه القلم الأعلى ، ثم تنزل الكتبة مراتبها في الديوان الإلهي ، فاللوح

٤٦٢

المحفوظ لا محو فيه ، كل أمر فيه ثابت ، وهو الذي يرفع إلى الحق ، وأما الذي بأيدي الكتبة ـ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما ذكر حديث الإسراء فقال : [حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام] ففيه ما يمحو الله وفيه ما يثبت ، على قدر ما تأتي به إليهم رسل الله من عند الله ، من إثبات ما شاء ومحو ما شاء ، ثم ينقل إلى الدفتر الأعلى ، فيقابل باللوح المحفوظ فلا يغادر حرفا ، فتعلم الكتبة عند ذلك أن الله قد أحاط بكل شيء علما ـ الوجه الثاني ـ الإمام المبين هو كتاب فيه ما يتكون عن المكلفين خاصة ، فلا تزال الكتابة فيه ما دام التكليف ، وبه تقوم الحجة لله على المكلفين ، وبه يطالبهم ، لا بأم الكتاب الذي فيه القضاء ، فهذا الإمام هو الحق المبين الذي يحكم به الحق تعالى ، الذي أخبرنا الله في كتابه أنه أمر نبيه أن يقول لربه : احكم بالحق ، يريد هذا الكتاب ، وهو كتاب الإحصاء ، فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وكل صغير وكبير مستطر ـ إشارة لا تفسير ـ إن الإمام على الحقيقة المبين من كان كل شيء مأموما به ، وهذا لا يصح في موجود ما لم يصح له المثلية اللغوية الفرقانية ، فإذا صحت المثلية صح وجود الإمام ، وإذا صح وجود الإمام بطلت الإمامة في حق غيره ، قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) وجاء في الخبر [خلق الله آدم على صورته] وقال تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فالعالم أسفله وأعلاه محصي في الإنسان ، فسماه البعض الإمام المبين.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (١٩)

٤٦٣

الطائر الحظ (قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) أي حظكم ونصيبكم معكم من الخير والشر.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) (٣٧)

٤٦٤

سميت مدة استنارة الجو من مشرق الشمس إلى مغربها نهارا لاتساع النور فيه ، مأخوذ من النهر الذي هو اتساع الماء في المسيل الذي يجري فيه ، ومدة الظلمة من غروب الشمس إلى طلوعها هو الليل ، واليوم مجموع الليل والنهار معا ، وأبان سبحانه أن الليل أم النهار ، وأن النهار متولد عنه ، كما ينسلخ المولود من أمه إذا اخرج منها ، والحية من جلدها فقال : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) فجعل الليل أصلا ، والنهار كان غيبا فيه ، ثم سلخ منه النهار كما نسلخ الشاة من جلدها ، فكان الظهور لليل والنهار مبطون فيه ، وليس معنى السلخ معنى التكوير ، فالنهار متأخر عن الليل لأنه مسلوخ منه ، ولذلك فإن العرب في الزمان العربي وفي اصطلاحهم وما تواطؤوا عليه يقدمون الليل على النهار ، على عكس العجم الذين حسابهم بالشمس يقدمون النهار على الليل ، ولهم وجه بهذه الآية وهو قوله : (فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) وإذا حرف يدل على زمان الحال أو الاستقبال ، ولا يكون الموصوف بأنه مظلم إلا بوجود الليل في هذه الآية ، فكان النهار غطاء عليه ثم سلخ منه أي أزيل ، فإذا هم مظلمون ، أي ظهر الليل الذي حكمه الظلمة ، فإذا الناس مظلمون ، وأعلم الحق تعالى بهذه الآية أن النور مبطون في الظلمة ، فلو لا النور ما كانت الظلمة ، فإنه تعالى لم يقل «نسلخ منه النور» إذ لو أخذ منه النور لانعدم وجود الظلام ، إن كان أخذ عدم ، وإن كان أخذ انتقال تبعه حيث ينتقل ، إذ هو عين ذاته ، والنهار من بعض الأنوار المتولدة عن شروق الشمس ، فلو لا أن للظلمة نورا ذاتيا لها ما صح أن تكون ظرفا للنهار ، ولا صح أن تدرك ، وهي مدركة ، ولا يدرك الشيء إن لم يكن فيه نور ، ويدرك به من ذاته ، وهو عين وجوده واستعداده بقبول إدراك الأبصار بما فيها من الأنوار له ، واختص الإدراك بالعين عادة ، ومن ذلك نعلم أن الليل ظل النور ، والنهار لما سلخ من الليل ظهر نورا ، فظهرت الأشياء التي كانت مستورة بالليل ، ظهرت بنور النهار ، فلم يشبه النهار الليل وأشبه النور ، فإنه لو سلخ من الظل جميعه أمر ما لخرج على صورة الظل ، والظل على صورة ما هو ظل له ، فالخارج من الظل المسلوخ منه على صورة الشخص ، فلذلك خرج النهار لما سلخ من الليل على صورة النور ، ـ تنبيه هذه هي عملية التصوير الشمسي ـ.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (٣٨)

٤٦٥

قرأ ابن مسعود «والشمس تجري لا مستقر لها» وهذا من حكم التقليب ، فترى الشمس التي هي علة الليل والنهار تجري لا مستقر لها ، ليلا ولا نهارا ، فإن الشمس لا مستقر لها عند من علمها وما جهلها ، فيقال : الشمس رجعت في زيادة النهار ونقصه وما عندها رجوع ، بل هي على طريقها ، فمن أغاليط النفس ، القول برجوع الشمس ، وما رجعت ، ولا نزلت ولا ارتفعت ، هي في فلكها سابحة ، غادية رائحة ، غدوها ورواحها حكم البصر ، وما يعطيه في الكرة النظر ، وقرأ غير ابن مسعود (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) فلها مستقر يراه عين المؤمن في الإيمان بالخبر ، وكل ذلك صحيح.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (٣٩)

(وَالْقَمَرَ) ولم يسمه بدرا ولا هلالا ، فإنه في هاتين الحالتين ما له سوى منزلة واحدة بل اثنتين ، فلا يصدق قوله (مَنازِلَ) إلا في القمر ، فللقمر درج التداني والتدلي ، وله الأخذ بالزيادة والنقص ، فهو يتغير في أحواله (قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) مقادير التقاسيم التي في فلك البروج ، عيّنها الحق تعالى لنا ، إذ لم يميزه البصر بهذه المنازل المعينة في الفلك المكوكب ، واسمه فلك المنازل ، وهو من تقدير العزيز العليم ، وجعلها ثماني وعشرين منزلة ، مقسمة على اثني عشر برجا ، فلكل برج منزلتان وثلث ، والقمر أحد السبعة الجواري التي في السموات السبع ، والتي تقطع في فلك البروج بين سريع وبطيء ، ويوم كل كوكب منها بقدر قطعه فلك البروج ، فأسرعها قطعا القمر ، فإن يومه ثمانية وعشرون يوما من أيام الدورة الكبرى التي تقدر بها هذه الأيام ، وهي الأيام المعه دة عند الناس ، فأقصر أيام لكواكب يوم القمر ، ومقداره ثمانية وعشرون يوما مما تعدون ـ بحث في فلك المنازل ـ هو في جوف الفلك الأطلس الذي هو السماء ذات البروج كحلقة في فلاة ، وهذا الفلك أرض الجنة ، والأطلس سماؤها ، وبينهما فضاء لا يعلم منتهاه إلا من أعلمه الله ، وعيّن الله في مقعر هذا الفلك ثماني وعشرين منزلة مع ما أضاف إلى هذه الكواكب التي سميت منازل لقطع السيارة فيها ، ولا فرق بينها وبين سائر الكواكب الأخرى التي ليست بمنازل في سيرها ، وفيما يختص به من الأحكام في نزولها الذي ذكرناه في البروج قال تعالى : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) يعني هذه المنازل المعينة في الفلك المكوكب ، وهي كالمنطقة بين الكواكب

٤٦٦

من الشرطين إلى الرشا ، وهي تقديرات وفروض في هذا الجسم ، ولا تعرف أعيان هذه المقادير إلا بهذه الكواكب ، كما أنه ما عرفت أنها منازل إلا بنزول السيارة فيها ، ولو لا ذلك ما تميزت عن سائر الكواكب إلا بأشخاصها ، وكواكب المنازل تتكون من كوكب واحد كالصرفة ، إلى اثنين كالذراع ، إلى ثلاثة كالبطين والشرطين ، إلى أربعة كالجبهة ، إلى خمسة كالعوالي ، إلى ستة كالدبران ، إلى سبعة كالثريا ، إلى تسعة كالنعائم ، وليس للثمانية وجود في المنازل ، والسيارة لا نزول لها ولا سكون ، بل هي قاطعة أبدا ، وقد يكون مرورها على عين كواكب المنزلة ، وقد يكون فوقها وتحتها ، على الخلاف الذي في حد المنزلة ما هو ، فسميت منزلة مجازا ، فإن الذي يحل فيها لا استقرار له ، وإنه سابح كما كان قبل وصوله إليها في سباحته ، فراعى المسمي ما يراه البصر من ذلك ، فإنه لا يدرك الحركة ببصره إلا بعد المفارقة ، فبذلك القدر يسميها منزلة ، لأنه حظ البصر فغلّبه وجعل الله لكل كوكب من هذه الكواكب قطعا في الفلك الأطلس ، ليحصل من الخزائن التي في بروجه وبأيدي ملائكته الاثني عشر من علوم التأثير ما تعطيه حقيقة كل كوكب ، وجعلها على طبائع مختلفة ، والنور الذي فيها وفي سائر السيارة من نور الشمس ، وبسباحة هذه الكواكب تحدث أفلاكا في هذا الفلك أي طرقا ، وجعل الله في جوف هذا الفلك سبع سموات طباقا ، أجساما شفافة ، وجعل في كل سماء منها كوكبا وهي الجواري ، منها القمر في السماء الدنيا ، وأوحى في كل سماء أمرها ، وجعل إمضاء الأمور التي أودعها السموات في عالم الأركان عند سباحة هذه الجواري ، وجعلهم نوابا متصرفين بأمر الحق لتنفيذ هذه الأمور التي أخذوها من خزائن البروج في السنة بكمالها ، وقدّر لها المنازل المعلومة التي في الفلك المكوكب ، وجعل لها اقترنات وافتراقات ، كل ذلك بتقدير العزيز العليم ، وجعل الله بين السماء السابعة والفلك المكوكب كراسي عليها صور كصور الثقلين ، وستور مرفوعة بأيدي ملائكة مطهرة ليس لهم إلا مراقبة تلك الصور ، وبأيديهم تلك الستور ، فإذا نظر الملك إلى الصورة قد سمجت وتغيرت عما كانت عليه من الحسن أرسل الستر بينها وبين سائر الصور ، فلا يعرفون ما طرأ ، ولا يزال الملك من الله مراقبا تلك الصورة ، فإذا رأى تلك الصورة قد زال عنها ذلك القبح وحسنت رفع الستر فظهرت في أحسن زينة ، وتسبيح تلك الصور وهؤلاء الأرواح الملكية الموكلة بالستور [سبحان من

٤٦٧

أظهر الجميل وستر القبيح] وخلق تعالى في كل سماء عالما من الأرواح والملائكة يعمرونها ، فأما الملائكة فهم السفراء النازلون بمصالح العالم ، وما يحدث عن حركات الكواكب كلها وعن حركة الأطلس لا علم لهؤلاء السفرة بذلك حتى تحدث ، فلكل واحد منهم مقام معلوم لا يتعداه ، وباقي العالم شغلهم التسبيح والصلاة والثناء على الله تعالى ، كل ذلك تقدير من العزيز العليم.

(لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٤٠)

الفلك لا يكون إلا مستديرا ، ففي كل سماء فلك وهو الذي تحدثه سباحة كوكب ذلك السماء ، فالكواكب تسبح في أفلاكها ، لكل فلك كوكب ، فعدد الأفلاك بعدد الكواكب ، لذلك قال تعالى : (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والأفلاك لو لا سباحة الكواكب ما ظهر لها عين في السموات ، فهي فيها كالطرق في الأرض ، يحدث كونها طريقا بالماشي فيها ، فهي أرض من حيث عينها ، وطريق من حيث المشي فيها ، ودل ذلك على أن الكواكب السابحة تقطع في الثابتة ، والثابتة والسابحة تقطع في الفلك المحيط ، فدل على أن الكواكب الثابتة تقطع في فلك البروج الأطلس ، والفلك الشيء المستدير ، فالكواكب تقطع في فلك واحد وهو فلك البروج ، ولكل واحد منها فلك يخصه يسبح فيه ، لا يشاركه فيه غيره ، وهكذا كل موجود له طريق يخصه لا يسلك عليها أحد غيره روحا وطبعا ، فلا يجتمع اثنان في مزاج واحد أبدا ، ولا يجتمع اثنان في منزلة واحدة أبدا ، فالأمر في جميع المخلوقات وإن جمعهم مقام فإنه يفرقهم مقام ـ إشارة لا تفسير ـ (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في علو المرتبة والشرف ، فالشمس تشير إلى عالم الشهادة والقمر إلى عالم الغيب ، فإن آية القمر ممحوة عن العالم الظاهر ، وآية الشمس ظاهرة ، فكان ذلك للعارفين تقوية لكتم آياتهم التي أعطاهم الله في بواطنهم وأجراها فيهم.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ

٤٦٨

رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) (٥١)

اعلم أن الصور أوجده الله على صورة القرن ، وسمي بالصور من باب تسمية الشيء باسم الشيء ، إذا كان مجاورا له أو كان منه بسبب ، فإن الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي كانت حياته به ، تجلى على صورة من الصور الذي هو البرزخ ، وهو بالصاد جمع صورة ، فحييت به تلك الصورة في البرزخ ، فلما كان هذا القرن محلا لجميع الصور البرزخية التي تنتقل إليها الأرواح بعد الموت وفي النوم ، سمي صورا جمع صورة ، وشكله شكل القرن أعلاه واسع وأسفله ضيق ، على شكل العالم ، أين سعة العرش من ضيق الأرض؟ وتنتقل القوى مع الروح إلى تلك الصورة البرزخية نوما وموتا ، ولهذا تكون درّاكة بجميع القوى سواء ، ومن هنا زل القائلون بالتناسخ لما رأوا أو سمعوا أن الأنبياء قد نبهت على انتقال الأرواح إلى هذه الصور البرزخية ، وتكون فيها على صورة الأخلاق ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسمة المؤمن :

إنه طير أخضر ، فرأى أهل التناسخ تلك الأخلاق في الحيوانات ، فتخيلوا في قول الأنبياء والرسل والعلماء أن ذلك راجع إلى هذه الحيوانات التي في الدار الدنيا ، وأنها ترجع إلى التخليص ، وذكروا ما قد علمت من مذهبهم ، فأخطؤوا في النظر وفي تأويل أقوال الرسل وما جاء في ذلك من الكتب المنزلة ، فما أتي عليهم إلا من سوء التأويل في القول الصحيح.

٤٦٩

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) (٥٢)

(هذا) لها وجه تعلق إلى (ما) ، ووجه إلى (مَرْقَدِنا).

(إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤) إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (٥٥) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (٥٦) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) (٥٧)

لو لا حشر الأجسام في الآخرة لقامت بنفوس الزهاد والعارفين في الآخرة حسرة الفوت ، ولتعذبوا لو كان الاقتصار على الجنات المعنوية لا الحسية ، فخلق الله في الآخرة جنة حسية وجنة معنوية ، وأباح لهم في الجنة الحسية ما تشتهي أنفسهم ، ورفع عنهم ألم الحاجات ، فشهواتهم كالإرادة من الحق إذا تعلقت بالمراد تكون ، فما أكل أهل السعادة لدفع ألم الجوع ، ولا شربوا لدفع ألم العطش ولما اشتغلوا هنا بالله من حيث ما كلفهم ـ فهم يجزون في الأمور بالميزان الذي حدّ لهم ، خائفين من أن يطففوا أو يخسروا الميزان ـ جعل لهم سبحانه الاشتغال في الآخرة بالجنة الحسية لأجسامهم الطبيعية ، والعارفون وغير العارفين في هذه الصورة الحسية على السواء ، ويفوز العارفون بما يزيدون عليه من جنات المعاني ، والاشتغال بالشهوات هنا منع العامة وعلماء الرسوم في الدنيا والآخرة ، وأهل الله معهم من حيث نفوسهم النباتية والحيوانية في هذا الشغل ، وهم مع الله من وجه آخر ، فكما أنه ما حجبهم في الدنيا ما هم عليه من الحاجة إلى الغذاء مع قوة سلطانه في الدنيا لدفع الآلام ، آلام الجوع والعطش والإحساس بأنواع الأشياء المؤلمة ، كذلك لا يحجبهم في الآخرة نعيم الجنان المحسوس عن الله في الاتصاف بأسمائه التي تليق بالدار الآخرة ، لأن لها أسماء لا يعلمها اليوم أحد أصلا.

٤٧٠

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٥٩)

المجرمون هم الذين يدخلون النار بالاستحقاق خاصة ، بأن يكونوا أهلا لسكنى هذه الدار التي هي جهنم ، من جن وإنس ، وهم أهلها الذي يعمرونها فلا يخرجون منها أبدا ، ولهذا يقال لهم يوم القيامة (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) أي أهل الاستحقاق الذين يستحقون سكنى هذه الدار ، يمتازون عن الذين يخرجون منها بشفاعة الشافعين وسابق العناية الإلهية في الموحدين إلى الدار الآخرة وهي الجنة ، فإنه ما عدا المجرمين وإن دخلوا النار فلا بد أن يخرجوا منها بشفاعة الشافعين ، أو بمنة الله عليهم ، وهم الذين ما عملوا خيرا قط ، وهؤلاء المجرمون أربع طوائف ، كلها في النار لا يخرجون منها ، وهم المتكبرون على الله كفرعون وأمثاله ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله ، وكذلك نمرود وغيره ، والطائفة الثانية المشركون ، وهم الذين يجعلون مع الله إلها آخر ، والطائفة الثالثة المعطلة وهم الذين نفوا الإله جملة واحدة فلم يثبتوا إلها للعالم ، والطائفة الرابعة المنافقون وهم الذين أظهروا الإسلام من إحدى هذه الطوائف للقهر الذي حكم عليهم ، فخافوا على دمائهم وأموالهم وذراريهم ، وهم في نفوسهم على ما هم عليه من اعتقاد ، فهؤلاء أربعة أصناف هم الذين هم أهل النار لا يخرجون منها من جن وإنس ، قالت عائشة : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : نعم إذا كثر الخبث بالمدينة ، فيعم الهلاك الصالح والطالح ، ويمتازون في القيامة.

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٦٠) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٦٤) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٦٥)

٤٧١

كن في كل زمان صاحب علم وعمل ، وهو الذي حرضك الشرع عليه وأمرك به ، وندبك إليه ، فاسع في نجاة نفسك ونجاة رعيتك بتمشيتهم على الطريقة الواضحة الشرعية ، فإن الله تعالى يقيمهم يوم القيامة شهداء لك بالعدل وحسن النقيبة والسيرة والمعاشرة ، وإن عدلت بهم إلى طريق المخالفات والمحظورات انعكس عليك ، وأوقفهم الحق يوم القيامة شهداء عليك بقبح السيرة وسوء المعاشرة ، فالجوارح شاهد مصدّق يوم القيامة لمن تشهد عليه أو له ، فإن الجسم الذي تولدت عنه النفس الناطقة له من الحق أنها ما دامت مدبرة له لا تحرك جوارحه إلا في طاعة الله تعالى ، في الأماكن والأحوال التي عيّنها الله على لسان الشارع لها ، فهذا ما يستحقه الجسم على النفس الناطقة لما له عليها من حق الولادة ، فمن النفوس من هو ابن بار فيسمع لأبويه ويطيع ، وفي رضاهما رضى الله ، ومن النفوس ما هو ابن عاق فلا يسمع ولا يطيع ، فالجسم لا يأمر النفس إلا بخير ، ولهذا يشهد على ابنه يوم القيامة جلود الجسم وجميع جوارحه ، فإن هذا الابن قهرها وصرفها حيث يهوى ، فلو لا شهادة المرء على نفسه بما شهدت به جلوده وجوارحه ما ثبت كتاب ولا كان حكم ، وما عذب من اعترف ، فإن الكرم الإلهي لا يقتضيه ، والجوارح رعية ما هي الوالي فشكت الوالي.

(وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (٦٦) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (٦٧) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ) (٦٩)

(وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) لأنه أرسل مبيّنا مفصّلا ، والشعر من الشعور ، فمحله الإجمال لا التفصيل وهو خلاف البيان ، وقال تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ) لقولهم هو شاعر ، فإن الشعر محل الإجمال والرموز والألغاز والتورية ، أي ما رمزنا له شيئا ولا لغزناه ، ولا خاطبناه بشيء ونحن نريد شيئا آخر ، ولا أجملنا له الخطاب ، لأنه تعالى بعثه بالبيان الشافي ، ووضع الشعر ليس على هذا البناء ، وإن كان يقع فيه البيان (وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ) يعني هذا الذي

٤٧٢

بعثناه به (إِلَّا ذِكْرٌ) لأنه أخذه عن مجالسة من الحق لما شاهده ، حين جذبناه وغيبناه عنه وأحضرناه بنا عندنا ، فكنا سمعه وبصره ، ثم رددناه إليكم لتهتدوا به في ظلمات الجهل والكون ، فكنا لسانه الذي يخاطبكم به ، ثم أنزلنا عليه مذكّرا يذكره بما شاهده ، فهو ذكر له لذلك (وَقُرْآنٌ) أي جمع أشياء كان شاهدها عندنا (مُبِينٌ) أي ظاهر له ، ما فيه لغز ولا رمز كما هو في الشعر ، فهو مفصّل ، في عين الجمع ، لعلمه بأصل ما شاهده وعاينه في ذلك التقريب الأنزه الأقدس الذي نال منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فما أخذه عن شعور ، فإنه كل ما عيّنه صاحب الشعور في المشعور به فإنه حدس ـ ولو وافق الأمر ويكون علما ـ فما هو على بصيرة ، وهذا هو الفرق بين العلم والشعور ، فحظ الشعور من العلم أن تعلم أن خلف الباب أمرا ما على الجملة ، لا يعلم ما هو ، وأما العلم فلا يكون حصوله إلا عن كشف بعد فتح الباب ، يعطيه الجود الإلهي ويبديه ويوضحه.

(لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (٧٠)

المستغرقون بهذه الدار الدنيا أموات غير أحياء وما يشعرون ، والمؤمنون قد تهيؤوا للحياة فلا بستهم ، فانسحب عليهم اسم الحياة وإن لم يتحققوا بها ، ولذلك وعدوا مهلة بسوف والسين ، قال سبحانه وتعالى : (فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) فبملابسة الحياة يسمعون من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قد صار حياة محضة لا موت فيها ، وحكمة الله جارية بالمناسبة ، فلا يسمع من الحي إلا حي ، ولذلك قيل له صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لتنذر من كان حيا» وقيل له (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) وقيل له (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) وقد نادى قتلى مشركي بدر وأخبر أنهم يسمعون قوله ، فمن لا بسته الحياة سمع من الحي وأسمع الميت ، لأنه بجزئه الحي ناسب الحي فاستمد منه ، وبجزئه الميت ناسب الميت فأمده.

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ) (٧١)

زاد الله في تشريف خلق آدم عليه‌السلام باليدين قوله معرفا الأناسي الحيوانيين بكمال الأناسي المكملين (أَوَلَمْ يَرَوْا) الضمير في يروا يعود على الأناسي الحيوانيين ، (أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ) أي من أجلهم ، الضمير في (لَهُمْ) يعود على الأناسي الكمل المقصودين من العالم بالخطاب

٤٧٣

الإلهي (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) والأيدي ليست سوى أيدي الأسباب ، فهي إضافة تشريف ، لا بل تحقيق ، يقال : ضرب الأمير اللص ، وقطع الأمير يد السارق ، وإنما وقع القطع من يد بعض الوزعة ، والأمر بالقطع من الأمير ، فنسب القطع إلى الأمير ، فأضاف هنا عمل الخلق إلى الأيدي الإلهية وعمّ الأسماء الإلهية بالنون من أيدينا ، وذلك لتمام التشريف الذي شرف به آدم عليه‌السلام في إضافة خلقه إلى يديه (أَنْعاماً) وهي من إنعامه عليهم (فَهُمْ لَها مالِكُونَ) فملكوها بتمليك الله ، بخلاف الإنسان الحيواني ، فإنه يملكها عند نفسه بنفسه ، غافلا عن إنعام الله عليه بذلك ، فيتصرف في المخلوقات الإنسان الحيوان بحكم التبعية ، ويتصرف الإنسان الكامل فيها بحكم التمليك الإلهي ، فتصرفه فيها بيد الله ، فكل مخلوق في العالم فمضاف خلقه إلى يد إلهية ، لأنه قال : (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا) فجمع كل يد خالقة في العالم ، فهي يده ، يد ملك وتصريف.

(وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ) (٧٣)

اختص الحيوان في هذه الآية ، بالإذلال لظهور حكم القصد فيه ، ولأنه مستعد للإباية لما هو عليه من الإرادة ، فلما توجه عليه الاسم المذل صار حكمه تحت حكم من لا إرادة له ولا قدرة ، لما تعطي هاتان الصفتان من العز لمن قامتا به ، فالحيوان مسخّر بطريق الإذلال لحمل الأثقال ، أثقال الإنسان وركوبه واستخدامه إياها في مصالحه. واعلم أن البهائم وإن كانت مسخرة مذللة من الله للإنسان ، فلا تغفل عن كونك مسخرا لها بما تقوم به من النظر في مصالحها ، في سقيها وعلفها ، وما يصلح لها من تنظيف أماكنها ، ومباشرة القاذورات والأزبال من أجلها ، ووقايتها من الحر والبرد المؤذيات لها ، فهذا وأمثاله من كون الحق سخرك لها ، وجعل في نفسك الحاجة إليها ، فلا فضل لك عليها بالتسخير ، فإن الله أحوجك إليها أكثر مما أحوجها إليك ، وجعل فيك الحاجة إليها ، وجميع البهائم تفر منك ممن لها آلة الفرار ، وما هذا إلا لاستغنائها عنك ، وما جبلت عليه من العلم بأنك ضار لها ، ثم طلبك لها وبذل مجهودك في تحصيل شيء منها دليل على افتقارك إليها ، فبالله من تكون البهائم أغنى منه كيف

٤٧٤

يحصل في نفسه أنه أفضل منها؟! فو الله ما يعرف الأمور إلا من شهدها ذوقا وعاينها ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [لو تعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا] فانظر في تنبيهه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حسن استعدادهم وسوء استعدادنا ، حتى أنه من كان بهذه المثابة من الفكرة من الموت فغايته أن يحصل له استعداد البهائم ، وهو ثناء على من حصل في هذا المقام وارتفاع في حقه ، وكيف ينظر البهائم دون الإنسان في الاحتقار ، وغاية الثناء عليك من الله أن تشاركها في صفتها.

(وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (٧٤) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (٧٥) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) (٧٧)

«فهو خصيم مبين» أي بيّن الخصومة ظاهر بها ، وذلك لدعواه في الربوبية ، وما خلقه الله إلا عبدا ، فلا يتجاوز قدره ، فنازع ربه في ربوبيته ، وما نازعه مخلوق إلا هو ، ووصف خصومته بالإبانة ، فإنه ما من خصام يكون من مخلوق في أمر ما ـ خلاف دعوى الربوبية ـ إلا وهو ممكن أن الحق بيده في ذلك ، ويخفى على السامع والحاكم ، فلا يدري هل الحق معه أو مع خصمه؟ وهل هو صادق في دعواه أو هو كاذب؟ للاحتمال المتطرق في ذلك ، إلا دعواه في الربوبية فإنه يعلم من نفسه ويعلم كل سامع من خلق الله أنه كاذب في دعواه ، وأنه عبد ، ولذلك خلقه الله ، فلهذا قيل فيه (خَصِيمٌ مُبِينٌ) أي ظاهر الظلم في خصومته ، فمن نازع ربه في ربوبيته كيف يكون حاله؟ ثم إن هذا الإنسان ليته يسعى في ذلك في حق نفسه ، فإنه يعلم من نفسه أنه ليس له حظ في الربوبية ، ثم يعترف بالربوبية لخلق من خلق الله ، من حجر أو نبات أو حيوان أو إنسان مثله أو جان أو ملك أو كوكب ، فإنه ما بقي صنف من المخلوقات إلا وقد عبد منه ، وما عبده إلا الإنسان الحيوان ، فأشقى الناس من باع آخرته بدنيا غيره ، ومن هلك فيما لا يحصل بيده منه شيء ، فيشهد على نفسه أنه أجهل الناس بغيره ، وأعلم الناس بنفسه ، لأنه ما ادعاها لنفسه ، ومن ادعاها لنفسه فإنما استخف قومه ، فجميع المخلوقات عبدوا الله إلا بعض الناس ، فالإنسان ألد الخصام ،

٤٧٥

حيث خاصم فيما هو ظاهر الظلم فيه ، وليس إلا الربوبية ، وهل رأيتم عبدا يخاصم ربه إلا إذا خرج عن عبوديته وزاحم سيده في ربوبيته؟.

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (٧٨) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (٧٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (٨٠) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨١) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢)

(إِنَّما أَمْرُهُ) الأمر أمران : أمر بواسطة ، وأمر برفع الوسائط ، فأمره سبحانه برفع الوسائط لا يتصوّر أن يعصى ، لأنه بكن ، إذ كن لا تقال إلا لمن هو موصوف بلم يكن ، وما هو موصوف بلم يكن ما يتصور منه الإباية ، وإذا كان الأمر الإلهي بالواسطة فلا يكون بكن ، فإنها من خصائص الأمر العدمي الذي لا يكون بواسطة ، وإنما يكون الأمر بما يدل على الفعل ، فيؤمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فيقال له : أقم الصلاة ، وآت الزكاة ، فاشتق له من اسم الفعل اسم الأمر ، فيطيعه من شاء منهم ويعصيه من شاء منهم ، والإنسان لا يقدر على رفع ما تكون في نفسه ، فإن كن إنما تعلقت بما تكون في نفس الإنسان ، فكان الحكم لما تكون فيمن تكون ، فآمن ولا بد ، أو صلى ولا بد ، أو صام ولا بد ، على حسب ما تعطيه حقيقة الأمر الذي تعلق به كن ، وقد يرد أمر الواسطة ولا يرد الأمر الإلهي ، فلا يجد المخاطب آلة يفعل بها ، فيظهر كأنه عاص ، وإنما هو عاجز فاقد في الحقيقة ، لأنه ما تكون فيه ما أمر به أن يتكون عنه ، فلا أطوع من الخلق لأوامر الحق ، أي لقبول ما أمر الحق بتكوينه فيه ، ولكن لا يشعرون ، وليست الأوامر التي أوجبنا طاعتها ، إلا الأوامر الإلهية ، لا الأوامر الواردة على ألسنة الرسل ، فإن الآمر من الخلق طائع فيما أمر ، لأنه لو لم يؤمر بأن يأمر ما أمر ، فلو أن الذي أمره يسمع المأمور بذلك الأمر أمره لامتثل ،

٤٧٦

فإن أمر الله لا يعصى إذا ورد بغير الوسائط ، فالأمر الإلهي لا يخالف الإرادة الإلهية ، فإنها داخلة في حدّه وحقيقته ، وإنما وقع الالتباس من تسميتهم صيغة الأمر ـ وليست بأمر ـ أمرا ، والصيغة مرادة بلا شك ، فأوامر الحق إذا وردت على ألسنة المبلغين فهي صيغ الأوامر لا الأوامر ، فتعصى ، وقد يأمر الآمر بما لا يريد وقوع المأمور به ، فما عصى أحد قط أمر الله (إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) لم يكن للأعيان في حال عدمها شيء من النسب إلا السمع ، فكانت الأعيان مستعدة في ذواتها في حال عدمها لقبول الأمر الإلهي إذا ورد عليها بالوجود ، فلما أراد بها الوجود قال لها (كُنْ) فكانت وظهرت في أعيانها ، فكان الكلام الإلهي أول شيء أدركته من الله تعالى ، بالكلام الذي يليق به سبحانه ، والأصل ثبوت العين لا وجودها ، ولم تزل بهذا النعت موصوفة ، وبقبولها سماع الخطاب إذا خوطبت منعوتة ، فهي مستعدة لقبول نعت الوجود ، مسارعة لمشاهدة المعبود ، فلما قال لها في حال عدمها (كُنْ) كانت ، فبانت بنفسها وما بانت ـ بحث ـ السماع الإلهي هو أول مراتب الكون ، وبه يقع الختام ، فأول وجود الكون بالسماع ، وآخر انتهائه من الحق السماع ، ويستمر النعيم في أهل النعيم والعذاب في أهل العذاب ، فأما في ابتداء كون كل مكوّن فإنما ظهر عن قول كن ، فأسمعه الله فامتثل ، فظهر عينه في الوجود وكان عدما ، فسبحان العالم بحال من قال له : كن فكان ، فأول شيء ناله الممكن مرتبة السماع الإلهي ، فإن كن صفة قول ، قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا) والسماع متعلقه القول. وأما في الانتهاء في حق الكفار (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فخاطبهم وهم يسمعون ، وأما في حق أهل الجنة فبعد الرؤية والتجلي الذي هو أعظم النعم عندهم في علمهم ، فيقول : [هل بقي لكم شيء؟ فيقولون : يا ربنا وأي شيء بقي لنا؟ نجيتنا من النار ، وأدخلتنا الجنة ، وملكتنا هذا الملك ، ورفعت الحجاب بيننا وبينك فرأيناك ، وأي شيء بقي يكون عندنا أعظم مما نلناه؟ فيقول سبحانه : رضاي عنكم فلا أسخط عليكم أبدا] فأخبرهم بالرضا ودوامه وهم يسمعون ، فذلك أعظم نعيم وجدوه ، فختم بالسماع كما بدأ ، ثم استصحبهم السماع دائما ما بين بدايتهم وغاية مراتب نعيمهم ، فطوبى لمن كانت له أذن واعية لما يورده الحق في خطابه.

(فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٣)

٤٧٧

(٣٧) سورة الصّافّات مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) (١)

أقسم الله تعالى بالملائكة التي تصف عند الله تعالى ، فقال : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا) وهم الملائكة عمّار السماء الرابعة ، أو هم أصناف الملائكة التي أسكنها الله الأفلاك المستديرات ، فهي الصافات التاليات ، فمنها القائمات والقاعدات ، ومنها الراكعات الساجدات ، كما قال تعالى إخبارا عنهم (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) فهم عمار السموات.

(فَالزَّاجِراتِ زَجْراً) (٢)

وهم من الملائكة المسخرات الموكلين بالأرجاء وهم الملائكة عمّار الهواء.

(فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣)

والتاليات يتلو بعضها بعضا ، فالرسالة يتلو بعضها بعضا ، وهم الملائكة عمّار فلك الثوابت ، وكلّ هؤلاء أنبياء ملكيون عبدو الله بما وصفهم به فهم في مقامهم لا يبرحون.

(إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (٥) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٦)

فلك الكواكب الثابتة هو أكبر فلك يقطع في الفلك الأطلس ، وإنما سميت الكواكب ثابتة لأن الأعمار لا تدرك حركتها لقصر الأعمار ، لأن كل كوكب منها يقطع الدرجة من الفلك الأقصى في مائة سنة ، فيحسب ثلثمائة وستين درجة ، كل درجة مائة سنة ، ولما فتق

٤٧٨

الله السموات من رتقها ودارت ، كانت شفافة في ذاتها وجرمها حتى لا تكون سترا لما وراءها ، فأدركنا بالأبصار ما في الفلك الثامن وهو فلك الكواكب الثابتة ، فيتخيل أنها في السماء الدنيا لأن البصر لا يدركها إلّا فيها ، فوقع الخطاب بحسب ما تعطيه الرؤية.

(وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) (٧) وهو أعظم الشياطين.

(لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ) (٨)

كل ما تولد من نور فهو الملأ الأعلى ، وكل ما تولد من الطبيعة فهو الملأ الأسفل ، وأكمل العالم من جمع بينهما ، وهو البرزخ الذي بجهاته ميزهما أو بجمعيته ميزهما بالعلو والسفل.

(دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (٩) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) (١٠)

(فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) فيعطي الضوء العظيم الذي تراه في أثره ، ويبقي ذلك الضوء في أثره طريقا ، والشهب هي ذوات الأذناب تبدو لسرعة اندفاعها من الأثير الذي هو هواء محترق لا مشتعل ، وهو متصل بالهواء ، فإذا اتصل الأثير بالهواء بسرعة تحرك ذوات الأذناب ، أثرت في أجزاء الهواء الرطبة اشتعالا ، فبدت الكواكب ذوات الأذناب ، وذلك لسرعة اندفاعها تظهر في رأي العين تلك الأذناب.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (١١) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (١٢) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (١٣) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (١٤) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (١٥) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (١٦) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (١٧) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (١٨) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (١٩) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (٢٠) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ

٤٧٩

الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢١) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (٢٢) مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (٢٣) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (٢٤) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (٢٥) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (٢٦) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٧) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (٢٨) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٢٩) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (٣٠) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (٣١) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (٣٢) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٣) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (٣٤) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ يَسْتَكْبِرُونَ) (٣٥)

هذا هو التوحيد السادس والعشرون في القرآن ، وهو توحيد التعّجب ، وهو توحيد الله لا الهوية ، فقوله (يَسْتَكْبِرُونَ) أي يستعظمون ذلك ويتعجبون منه ، فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) أي الكثرة في عين الواحد ، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، فما أنكروه ولا ردوه بل استعظموه واستكبروه ، وتعجبوا كيف تكون الأشياء شيئا واحدا؟ واستكبروا مثل هذا الكلام من مثل هذا الشخص ، حيث علموا أنه منهم وما شاهد إلا ما شاهدوه ، فمن أين له هذا الذي ادعاه؟ فحجبهم الحس عن معرفة الاختصاص الإلهي.

(وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (٣٦) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (٣٧) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (٣٨) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

٤٨٠