رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠) وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٣)

فمن الغيرة الإلهية أن الناس ينادي مناد فيهم من قبل الله : أين ما أعطي لغير الله؟ فيؤتى بالأموال الجسام ، والعقار والأملاك ، ثم يقال : أين ما أعطي لوجهي؟ فيؤتى بالكسر اليابسة ، والفلوس وقطع الفضة المحقرة ، والخليع من الثياب ، فغار الحق لذلك أن يعطى لوجهه من نعمته مثل ذلك ، فأخذ الصدقة بيده ورباها حتى صارت مثل جبل أحد أكبر ما يكون ، فيظهرها له على رؤوس الأشهاد ، ويحقر ما أعطي لغير الله ، فيجعله هباء منثورا.

(أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (٢٤)

لا مفاضلة بين الخير والشر ، فما كان خير أصحاب الجنة أفضل وأحسن إلا من كونه واقعا وجوديا محسوسا ، فهو أفضل من الخير الذي كان الكافر يتوهمه في الدنيا ، ويظن أنه يصل إليه بكفره لجهله ، فلهذا قال فيه خير وأحسن ، فأتى ببنية المفاضلة.

(وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥)

(يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي بسبب الغمام ، أي لتكون غماما ، فتفتح أبوابا كلها فتصير غماما ، وقد كان الملائكة عمارها وهي سماء ، فيكونون فيها وهي غمام ، وفيها يأتون يوم القيامة إلى الحشر التقديري ، والملائكة في ظل من الغمام ، والظلل أبوابها يقول الله تعالى (وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً) وقال (يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً)

٢٤١

وهو إتيانهم في ذلك الغمام لإتيان الله للقضاء والفصل بين عباده يوم القيامة في تجلي القهر والرحمة.

(الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) (٢٧)

(وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) وهم الكفار المقلدة (يَقُولُ) القائل منهم (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) فإنه قد زالت العداوة العرضية ، فهم الذين بلغتهم دعوة الرسل عليهم‌السلام فردوها ولم يعملوا بها.

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩)

(وَكانَ الشَّيْطانُ) يعني شيطان الإنس لا شيطان الجن (لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) فإنه قال : ما أضلني عن الذكر إلا فلان ، وسمى إنسانا مثله ، حيث أصغى إليه وقلده في مقالته ، وحال بينه وبين اتباع ما أمره الله باتباعه ، وهو ما جاء به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى

٢٤٢

الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٤٣)

راجع الجاثية آية ٢٣.

عبد الهوى آبق عن ملك مولاه

وليس يخرج عنه فهو تياه

الحرّ من ملك الأكوان أجمعها

وليس يملكه مال ولا جاه

لما كان الهواء إذا تحرك أقوى المؤثرات الطبيعية في الأجسام والأرواح ، لم يكن ثمّ أقوى من الهواء إلا الإنسان ، حيث يقدر على قمع هواه بعقله الذي أوجده الله فيه ، فيظهر عقله في حكمه على هواه ، فإنه لقوة الصورة التي خلق عليها ، الرياسة له ذاتية ، ولكونه ممكنا الفقر والذلة له ذاتية ، فإذا غلّب فقره على رياسته ، فظهر بعبوديته ولم يظهر لربوبية الصورة فيه أثر ، لم يكن مخلوق أشد منه. ورد في الخبر عن أنس بن مالك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال [لما خلق الله الأرض جعلت تميد ، فخلق الجبال فقال بها عليها فاستقرت ، فعجبت الملائكة فقالوا : يا رب هل من خلقك شيء أشد من الجبال؟ قال : نعم الحديد ، فقالوا : يا رب

٢٤٣

فهل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال : نعم النار ، قالوا : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال : نعم الماء ، قالوا : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال : نعم الريح ، قالوا : يا رب فهل من خلقك شيء أشد من الريح؟ قال : ابن آدم تصدق بصدقة بيمينه يخفيها عن شماله] فأعطى الله من القوة النافذة للهوى ما يظهر بها على أكثر العقول إلا أن يعصم الله تعالى ، فإن الهوى يقول : أنا الإله المعبود عند كل موجود ، فإنه يعرض عن العقل وما جاء به النقل ، وتتبعه الشياطين والشهوة.

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) (٤٤)

(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) يعني في الضلال الذي هو الحيرة ، وما شبّه الله أهل الضلال بالأنعام نقصا بالأنعام ، فقد أثنى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على البهائم بقوله : [لو يعلم البهائم من الموت ما تعلمون ما أكلتم منها سمينا] وإنما وقع التشبيه في الحيرة ، لا في المحار فيه ، فإن الأنعام والبهائم عالمة بالله بالفطرة حائرة فيه ، لذلك قال تعالى «إن هم إلا كالأنعام فإن لهم قلوبا يعقلون بها ، وإن لهم أعينا يبصرون بها ، وإن لهم آذانا يسمعون بها ، فأنزلوا أنفسهم منزلة الأنعام «بل هم أضل سبيلا» لأن الأنعام ما جعل الله لهم هذه القوى التي توجب لصاحب البصر أن يعتبر ، ولصاحب الأذن أن يعي ما يسمع ، ولصاحب القلب أن يعقل ؛ والسبيل الطريق ، فزادوا ضلالا أي حيرة في الطريق التي يطلبونها للوصول إلى معرفة ربهم من طريق أفكارهم ، فهذه حيرة زائدة على الحيرة في الله ، وكذلك قال فيهم حيثما قال ، إنما جعل الزيادة في السبيل وليس إلا الفكر والتفكر فيما منع التفكر فيه ، وهو النظر ، فقال تعالى (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ـ راجع الأعراف ١٧٨ ـ.

(أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) (٤٦)

٢٤٤

قبض الظل ومدّه من اللطف ما إذا فكر فيه الإنسان رأى عظيم أمر ، ولهذا نصبه الله دليلا على معرفته. فقال (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) فلا يدرك البصر عين امتداده حالا بعد حال ، فإنه لا يشهد له حركة مع شهود انتقاله ، فهو عنده متحرك لا متحرك ، وكذلك في فيئه وهو قوله (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) فمنه خرج ، فإنه لا ينقبض إلا إلى ما منه خرج ، كذلك تشهده العين ، وقد قال تعالى وهو الصادق إنه قبضه إليه ، فعلمنا أن عين ما خرج منه هو الحق ، ظهر بصورة خلق ، فيه ظل يبرزه إذا شاء ، ويقبضه إذا شاء لكن جعل الشمس عليه دليلا ولم يتعرض لتمام الدلالة ، وهو كثافة الجسم الخارج الممتد عنه الظل ، فبالمجموع كان امتداد الظل ، فهذا شمس ، وهذا جدار ، وهذا ظل ، وهذا حكم امتداد وقبض بفيء ورجوع إلى ما منه بدأ فإليه عاد ، والعين واحدة ، فهل يكون شيء ألطف من هذا؟ فالأبصار وإن لم تدركه فما أدركت إلا هو ، فإنه ما أحالنا إلا على مشهود بقوله (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) وما مده إلا بشمس وذات كثيفة تحجب وصول نور الشمس إلى ما امتد عليه ظل هذه الذات ، وجهة خاصة ، ثم قبضه كذلك ، فهذه كيفية ما خاطبنا بها أن ننظر إليها وما قال : فيها فكنا نصرف النظر تألقا إلى الفكر ، ولكن بأداة «إلى» أراد شهود البصر ، وإن كانت الأدوات يدخل بعضها في مكان بعض ، ولكن لا يعرف ذلك إلا بقرائن الأحوال ، وهي إذا استحال أن يكون حكم هذه الأداة بالوضع في هذا الموضع ، علمنا أنها بدل وعوض من أداة ما يستحقه ذلك الموضع ، وهذا معلوم في اللسان ، وبهذا اللسان أنزل القرآن ، فلا بد أن يجري به على ما تواطؤوا عليه في لحنهم ، فقرن الرؤية ب «إلى» وجعل المرئي الكيف ، فلم يشهد هنا ذات الحق وهو يكيف مد الظل ، وإنما رأينا مد الظلال عن الأشخاص الكثيفة ، التي تحجب الأنوار أن تنبسط على الأماكن التي تمتد فيها ظلال هذه الأشخاص ، فعلمنا أن الرؤية في هذا الخطاب إنما متعلقها العلم بالكيف المشهود الذي ذكرناه ، وأن ذلك من الله سبحانه لا من غيره ، أي أنه لو أراد أن تكون الأشخاص الكثيفة منصوبة ، والأنوار في جهة منها بمنع تلك الأشخاص انبساط النور على تلك الأماكن فيسمى منعها ظلالا ، أو يقبض تلك الظلال عن الانبساط على تلك الأماكن ولا يخلق فيها نورا آخر ، ولا ينبسط ذلك النور المحجوب على تلك الأماكن لما قصرت إرادته عن ذلك ، كما قال تعالى : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) وهو رجوع الظل

٢٤٥

إلى الشخص الممتد منه ببروز النور حتى يشهد ذلك المكان ، فجعل المقبوض إنما كان قبضه إلى الله لا إلى الجدار ، وفي الشاهد وما تراه العين أن سبب انقباض الظل وتشميره إلى جهة الشخص الكثيف إنما هو بروز النور ، فهذه آية الدلالة على الله بضرب مثل الظل ، فأمرنا سبحانه بالنظر إليه ، والنظر إليه معرفته ، ولكن من حيث أنه مد الظل ، وهو إظهاره وجود عينك ، وما في المسائل الإلهية ما تقع فيها الحيرة أكثر ولا أعظم من مسئلة الأفعال ، فما نظرت إليه من حيث أحدية ذاته في هذا المقام وإنما نظرت إليه من حيث أحدية فعله في إيجادك في الدلالة ، وهذه الآية دليل من قال بمنع تجليه سبحانه في الأفعال ، أي في نسبة ظهور الكائنات والمظاهر عن الذات التي تتكون عنها الكائنات ، وهو قوله تعالى (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) والأمر بينك وبين الحق في الوجود بين الاقتدار الإلهي ، وبين القبول من الممكن ، فقبض الظل إليه ليعرفك بك وبنفسه ، لأنه ما خرج الظل إلا منك ، ولو لا أنت لم يكن ظل ، ولو لا الشمس أو النور لم يكن ظل ، وكلما كثف الشخص تحققت أعيان الظلال ، فمهما ارتفع واحد من الأمرين ، ارتفع الوجود الحادث ، كذلك إذا ارتفع العين المشرق أو الجسم الكثيف الحائل عن نفوذ هذا الإشراق فيه لما حدث الظل ، وقوله تعالى (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) الضمير في عليه يطلب الظل لأنه أقرب مذكور ، ويطلب الاسم الرب ، وإعادته على الرب أوجه ، فإنه بالشمس ضرب الله المثل في رؤيته يوم القيامة ، فقال على لسان نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ترون ربكم كما ترون الشمس بالظهيرة] أي وقت الظهر ، وأراد عند الاستواء بقبض الظل في الشخص في ذلك الوقت لعموم النور ذات الرائي ، وهو حال فنائه عن رؤية نفسه في مشاهدة ربه ، ثم قال (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) وهو عند الاستواء ، ثم عاد إلى مده بدلوك الشمس وهو بعد الزوال ، لأنه في هذا الوقت تثبت له المعرفة بربه من حيث مده الظل ، وهنا تكون إعادة الضمير من «عليه» على الرب أوجه ، فإنه عند الطلوع يعاين مد الظل ، فينظر ما السبب في مده؟ فيرى ذاته حائلة بين الظل والشمس ، فينظر إلى الشمس فيعرف في مده ظله ما للشمس في ذلك من الأثر ، فكان الظل على الشمس دليلا في النظر ، وكان الشمس على مد الظل دليلا في الأثر. واعلم أن الممكنات التي أوجدها الحق تعالى هي للأعيان التي تتضمنها حضرة الإمكان ـ وهي برزخ بين حضرة الوجود المطلق والعدم المطلق ـ بمنزلة الظلالات للأجسام ، بل هي الظلالات

٢٤٦

الحقيقية ، وهي التي وصفها الحق سبحانه بالسجود له مع سجود أعيانها ، فما زالت تلك الأعيان ساجدة له قبل وجودها ، فلما وجدت ظلالاتها ، وجدت ساجدة لله تعالى ، لسجود أعيانها التي وجدت عنها ، من سماء وأرض وشمس وقمر ونجم وجبال وشجر ودواب وكل موجود ، ثم لهذه الظلالات ـ التي ظهرت عن تلك الأعيان الثابتة من حيث ما تكونت أجساما ـ ظلالات ، أوجدها الحق لها دلالات على معرفة نفسها من أين صدرت ، ثم أنها تمتد مع ميل النور أكثر من حد الجسم الذي تظهر عنه إلى ما لا يدركه طولا ، ومع هذا ينسب إليه ، وهو تنبيه أن العين التي في البرزخ التي وجدت عنها لا نهاية لها مما تتصف به من الأحوال والأعراض والصفات والأكوان ، فهو عالم لا يتناهى وماله طرف ينتهي إليه ، فإنه الحضرة الفاصلة بين الوجود المطلق والعدم المطلق ، وأنت بين هذين الظلالين ذو مقدار ، فأنت موجود عن حضرة لا مقدار لها ، ويظهر عنك ظل لا مقدار له ، فامتداده يطلب تلك الحضرة البرزخية ، وتلك الحضرة البرزخية هي ظل الوجود المطلق من الاسم النور ، الذي ينطلق على وجوده ، فلهذا نسميها ظلا ، ووجود الأعيان ظل ذلك الظل ، والظلالات المحسوسة ظلالات هذه الموجودات في الحس ، ولما كان الظل في حكم الزوال لا في حكم الثبات ، وكانت الممكنات وإن وجدت في حكم العدم ، سميت ظلالات ليفصل بينها وبين من له الثبات المطلق في الوجود ، وهو واجب الوجود ، وبين من له الثبات المطلق في العدم وهو المحال ، لتتميز المراتب ، فالأعيان الموجودات إذا ظهرت ففي هذا البرزخ هي فإنه ما تمّ حضرة تخرج إليه ، ففيها تكتسب حالة الوجود ، والوجود فيها متناه ما حصل منه ، والإيجاد فيها لا ينتهي ، فهذا مثل ضربه الله على دوام الخلق والتكوين ، وعلى العين الثابتة ثم ظهورها للوجود :

انظر إلى نقص ظل الشخص فيه إذا

ما الشمس تعلو فتفني ظله فيه

ذاك الدليل على تحريكه أبدا

بدأ وفيئا وهذا القدر يكفيه

لو كان يسكن وقتا ما بدا أثر

في الكون من كن وذاك الحكم من فيه

فالكون من نفس الرحمن ليس له

أصل سواه فحكم القول يبديه

 ـ اعتبار ـ ظلك على صورتك ، وأنت على الصورة ، فأنت ظل قام الدليل على أن التحريك للحق لا لك ، كذلك التحريك لك لا للظل ، غير أنك تعترض

٢٤٧

فلم تعرف قدرك ، وظلك لا يعترض ، فيا من هو ظله أعلم بقدره منه متى تفلح؟ ما مدّت الظلال للاستظلال ، وإنما مدّت لتكون سلّما إلى معرفة الله معك ، فأنت الظل وسيقبضك إليه ، فمن نظر إلى ظله عرف أن حكمه في الحركة والسكون من أصله ، فأراد الحق منك بهذه الآية أن تكون معه كظلك معك من عدم الاعتراض عليه فيما يجريه عليك ، والتسليم والتفويض إليه فيما تصرف فيك به ، وينبهك بذلك أن حركتك عين تحريكه ، وأن سكونك كذلك ، ما الظل يحرك الشخص ، كذلك فلتكن مع الله ، فإن الأمر كما شاهدته فهو المؤثر فيك ـ من باب الإشارة ـ الإنسان الكامل هو ظل الله في كل ما سوى الله ، وصورته في الغيب صورة الظل في الشخص الذي امتد عنه الظل ، ألا ترى الشخص إذا امتد له ظل في الأرض ، أليس له ظل في ذات الشخص الذي يقابله ذلك الظل الممتد؟ فذلك الظل القائم بذات الشخص المقابل للظل الممتد ذلك هو الأمر الذي بقي من الإنسان ، الذي هو ظل الله الممدود في الغيب ، لا يمكن خروجه أبدا وهو باطن الظل الممدود ، والظل الممدود هو الظاهر ، فظاهر الإنسان ما امتد من الإنسان فظهر ، وباطنه ما لم يفارق الغيب فلا يعلم باطن الإنسان أبدا ، وقبضه قبضا يسيرا عودته إلى غيبه ، فاعتبر في الإشارة أن الإنسان الذي لم يزل يحفظ صورة الحق في نفسه ظل له ، واعلم أن الإنسان لما كان مثال الصورة الإلهية ، كالظل للشخص الذي لا يفارقه على كل حال ، غير أنه يظهر للحس تارة ، ويخفى تارة ، فإذا خفي فهو معقول فيه ، وإذا ظهر فهو مشهود بالبصر لمن يراه ، فالإنسان الكامل في الحق معقول فيه ، كالظل إذا خفي في الشمس فلا يظهر ، فلم يزل الإنسان أزلا وأبدا ، ولهذا كان مشهودا للحق من كونه موصوفا بأنّ له بصرا ، فلما مد الظل منه ظهر بصورته (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي ثابتا فيمن هو ظله فلا يمده ، فلا يظهر له عين في الوجود الحسي إلا لله وحده ، فلم يزل مع الله ، ولا يزال مع الله ، فهو باق ببقاء الله ، وما عدا الإنسان الكامل فهو باق بإبقاء الله ، فالإنسان الكامل الذي لا أكمل منه هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا الكمال هو الغاية من العالم ، فحاز محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم درجة الكمال بتمام الصورة الإلهية ، والكمل من الأناسي النازلين عن درجة هذا الكمال هم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ، ومنزلة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العالم كله منزلة النفس الناطقة من الإنسان ، التي من دونها لا يكون إنسانا ، فحال العالم قبل ظهوره صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بمنزلة الجسد

٢٤٨

المسوى ، وحال العالم بعد موته بمنزلة النائم ، وحالة العالم ببعثه يوم القيامة بمنزلة الانتباه واليقظة بعد النوم ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم روح العالم ، وهذه الآية ضرب مثال على خفاء ظهور رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في العالم قبل ظهور نشأته الظاهرة ، وبعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى ، وأنه هو أكمل صورة إلهية في الظهور والخفاء لمن فهم المعنى ، وأنه بقبضه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يختف من العالم اختفاء عدميا ، بل هو كالظل المندرج في أصله ، فروح العالم صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الآن من العالم في صورة المحل الذي هو فيه روح الإنسان عند النوم ، إلى يوم البعث ، الذي هو مثل يقظة النائم هنا ، فالعالم اليوم بفقد جمعية محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ظهوره روحا وجسما وصورة ومعنى ، نائم لا ميت ، فإنه تعالى ذكر الكيف ، والظل لا يخرج إلا على صورة من مد منه ، فخلقه رحمة ، فمدّ الظل رحمة وافية ، فلا أعظم رحمة من الإنسان الكامل ، والنور من الصفات ، والظل على صورة الذات ـ إشارة ـ ما مد الظلال للراحة ، وإنما مدها لتكون سلما إلى معرفته فأنت ذلك الظل وسيقبضك إليه.

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) (٤٧)

(جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) لأهله يلبسونه فيسترهم (وَالنَّوْمَ سُباتاً) أي راحة طبيعية للناس ـ من باب الإشارة ـ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) هذا لأهل الليل أي يسترهم عن أعين الأغيار فلا يشهد أحد فعل أهل الليل مع الله في عبادتهم ، لحجاب ظلمة الليل التي أرسلها الله دونهم ، فيتمتعون في خلواتهم الليلية بحبيبهم فيناجونه من غير رقيب ، لأنه جعل النوم في أعين الرقباء سباتا ، أي راحة لأهل الليل إلهية ، كما هو راحة للناس طبيعية ، فإذا نام الناس استراح هؤلاء مع ربهم ، وخلوا به حسا ومعنى فيما يسألونه من قبول توبة ، وإجابة دعوة ، ومغفرة حوبة ، وغير ذلك. فنوم الناس راحة لهم ، فإن الله تعالى ينزل إليهم بالليل إلى السماء الدنيا فلا يبقى بينه وبينهم حجاب فلكي ، ونزوله إليهم رحمة بهم ، ورد في الخبر : كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني ، أليس كل محب يطلب الخلوة بحبيبه ، ها أنا ذا قد تجليت لعبادي هل من داع فأستجيب له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى ينصدع الفجر.

٢٤٩

(وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (٤٨)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن الله خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء] فإذا حصلت النجاسة فيه بلا شك. لكنها متميزة عن الماء ـ بقي الماء طاهرا على أصله ، إلا أنه يعسر إزالة النجاسة منه ، فما أباح الشارع من استعمال الماء الذي فيه النجاسة استعملناه ، وما منع من ذلك امتنعنا منه لأمر الشرع ، مع عقلنا أن النجاسة في الماء ، وعقلنا أن الماء طهور في ذاته لا ينجسه شيء ، فما منعنا الشارع من استعمال الماء الذي فيه النجاسة لكونه نجسا أو تنجس ، وإنما منعنا من استعمال الشيء النجس لكوننا لا نقدر على فصل أجزائه من أجزاء الماء الطاهر ، فبين النجاسة والماء برزخ مانع لا يلتقيان لأجله ، ولو التقيا لتنجّس الماء.

(لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً) (٥٣)

«وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات» لمصالح العباد فيما يستعملونه من الشرب وغير ذلك ، (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) لمصالح العباد فيما يذهب به من عفونات الهواء ، فبما فيه من الملوحة يصفي الجو من الوخم والعفونات التي تطرأ فيه من أبخرة الأرض وأنفاس العالم ، فيطرأ التعفين في الجو ، فيذهب ذلك التعفين ما في البحر من الملوحة ، فيصفو الجو ، وذلك من رحمة الله بخلقه.

٢٥٠

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) (٥٩)

هذه الآية دليل على أن الأيام كانت موجودة بوجود حركة فلك البروج ، وهي الأيام المعروفة عندنا لا غير ، فإذا دار فلك البروج دورة واحدة فذلك هو اليوم الذي خلق الله فيه السموات والأرض ، ثم أحدث الليل والنهار عند وجود الشمس ، لا الأيام ، واليوم أربع وعشرون ساعة ، وقد يسمى النهار وحده يوما بحكم الاصطلاح واعلم أن الله خلق العالم في ستة أيام ، بدأ به يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) فلما كان اليوم السابع من الأسبوع وفرغ من العالم كان يشبه المستريح الذي مسه اللغوب ، فاستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى ، وقال : أنا الملك ؛ كذا ورد في الأخبار النبوية ، فالفراغ الإلهي إنما كان من الأجناس في الستة الأيام ، وأما أشخاص الأنواع فلا (الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ) الضمير في به يعود على الاستواء (خَبِيراً) وهو العارف من عباد الله من نبي وغيره ، ممن شاء الله من عباده ، لأنه قال (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) والخبير المسؤول يعني كل من حصل له ذلك ذوقا ، وصفته نزول القرآن على قلبه ، فكان قلبه عرشا لاستواء القرآن ذوقا ، يعلم لذوقه وخبرته اتصاف الرحمن بالاستواء على العرش ما معناه ، فإذا أردت أن تسأل عن حقيقة أمر ما ، فاسأل عنه من له فيه ذوق ، ومن لا ذوق له في الأشياء فلا تسأله فإنه لا يخبرك إلا باسم ما سألت عنه لا بحقيقته.

٢٥١

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) (٦٠)

لما كان المشركون لا يعلمون للحق إلا مسمى الله ، ولم يعلموا أنه عين الرحمن قيل : إن الاسم الرحمن لم يكن عندهم ، ولا سمعوا به قبل هذا ، فلما قال لهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) وهو سجود إنعام لا سجود قهر ، قالوا : وما الرحمن؟ على طريق الاستفهام ، وقد قيل : إنهم كانوا يعرفونه مركبا الرحمن الرحيم اسم واحد ، كبعلبك ورام هرمز ، فلما أفرده بغير نسب أنكروه ، ولم تنكر العرب كلمة الله ، فإنهم القائلون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فعلموه ، ولما كان الرحمن يعطي الاشتقاق من الرحمة ، وهي صفة موجودة فيهم ، خافوا أن يكون المعبود الذي يدلهم عليه من جنسهم ، فأنكروا وقالوا : وما الرحمن؟ لما لم يكن من شرط كل كلام أن يفهم معناه ، ولهذا قال تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ) لما كان اللفظان راجعين إلى ذات واحدة ، فما أنكره من أنكره ـ أعني الاسم الرحمن ـ إلا للقرب المفرط ، فإنه لا أقرب من الرحمة إلى الخلق ، وما ثمّ أقرب إليهم من وجودهم ، ووجودهم رحمة بلا شك ، ولم يقروا بالله إلا لما يتضمنه هذا الاسم من الرحمة والقهر ، فعلم ، وجهل الرحمن ، فتخيلوا في الرحمن أنه شريك لله الذي يقرون به ويتزلفون إليه ، فأنكروا ذلك ولم ينكروا ذلك فيمن نصبوه إلها ، لأنهم عالمون بأسماء من نصبوهم آلهة من دون الله ، فعلموا بأسمائهم أنهم ليسوا في الحقيقة في الألوهة مثله ، وقد دلهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسجود للرحمن على عبادة غيب ، فقالوا (وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) فزادهم هذا الاسم نفورا لجهلهم به ، فإنهم لا يعرفون إلا الله الذي بيده الاقتدار الإلهي والأخذ الشديد ، وهو الكبير عندهم المتعالي ، فهم لذلك يعبدون الشركاء ليقربوهم إلى الله زلفى ويشفعوا عنده ، وأخطأ الكفار حيث رأوا أن الرحمن يناقض التكليف ، ورأوا أن الأمر بالسجود تكليف ، فلا ينبغي أن يكون السجود لمن هو هذا الاسم الرحمن ، لما فيه من المبالغة في الرحمة ، فلو ذكره بالاسم الذي يقتضي القهر ، ربما سارع الكافر إلى السجود خوفا ، كما صدر من الجبار عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من رؤساء الجاهلية حيث قال له : يا محمد اتل عليّ ممّا جئت به حتى أسمع ؛ فتلا عليه (حم السجدة) فلما وصل إلى قوله تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) وهما من العرب ،

٢٥٢

وحديثهما مشهور عندهم بالحجاز ، فلما سمع هذه الآية ارتعدت فرائصه ، واصفر لونه ، وضرط من شدة ما سمع ومعرفته بذلك ، وقال : هذا كلام جبار ؛ فما زادهم نفورا إلا اقتران التكليف بالاسم الرحمن لجهلهم به ، ولو علم هذا الجاهل أن أمره تعالى بالسجود للرحمن لا يناقض التكليف ، وإنما يناقض المؤاخذة ويزيد في الجزاء بالحسنى لبادر إلى ذلك ، كما بادر المؤمن ، كما أن الكفار ما علموا في الغيب إلا إلها واحدا ، قال الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فتعجبوا من ذلك غاية العجب ، لأنهم تخيلوا أن مسمى الرحمن ليس هو الله ، وأن لكل واحد الأسماء الحسنى ، وذلك لمّا أعمى الله بصائرهم ، وكثّف أغطيتهم ، فلم يعقلوا عن الله ما أراد بما أنزله ـ وهذه السجدة للمؤمن تسمى سجدة الامتياز فإنه يسجدها عند ما يتلو ليمتاز عن الكافر المنكر لاسمه الرحمن ، ويقع الامتياز بين الاسم الرحمن وبين العارفين به يوم القيامة بالسجود الذي كان منهم عند التلاوة.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (٦٣)

اعلم أن لله عبادا من حيث اسمه الرحمن ، وهو قوله تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وذلك من أثر الوقار ، الذي هو من الوقر ، وهو الثقل ، وإذا حصل الثقل ضعف الإسراع والحركة ، فسمى ذلك السكون وقارا أي سكون عن ثقل عارض لا عن مزاج طبيعي ، فإن السكون الكائن عن الأمر الذي يورث الهيبة والعظمة في نفس الشخص يسمى وقارا وسكينة ، والسكون الطبيعي الذي يكون في الإنسان من مزاجه لغلبة البرد والرطوبة على الحرارة واليبس لا يسمى وقارا ، إنما الوقار نتيجة التعظيم والعظمة ، وهذا لا يكون إلا إذا تجلى لهم الحق في جلال الجمال (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) الجاهل من أشرك بالله ، خفيا كان الشرك أو جليا (قالُوا سَلاماً) فلو أجابوهم لا نتظموا معهم في سلك الجهالة ، فإن كل إنسان ما يكلم إنسانا بأمر ما من الأمور ابتداء أو مجيبا ، حتى ينصبغ

٢٥٣

بصفة ذلك الأمر الذي يكلمه به ، كان ذلك ما كان ، فلم يتمكن لهؤلاء أن يزيدوا على قولهم سلاما شيئا.

(وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) (٦٤)

شغلهم هول المعاد عن الرقاد ، فعاملوا الحق بالتعظيم والإجلال.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) (٦٥)

أي مهلكا ، فإن الغريم هو الذي لزمه الدين ، وبه سمي غريما ، ومقلوبه أيضا الرغام ، وهو اللصوق بالتراب ، فإن الرغام التراب ، يقال : رغم أنفه ؛ إذ كان الأنف محل العزة قوبل بالرغام في الدعاء ، فألصقوه بالتراب ، فيكون الغرام حكمه في المغرم من المقلوب ، فهو موصوف بالذلة ، لأن التراب أذل الأذلاء.

(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧)

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا) أي لم يوسعوا ما يخرج عن الحاجة (وَلَمْ يَقْتُرُوا) لم ينقصوا مما تمس إليه الحاجة (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) وهو العدل في الإنفاق ، فضمروا بطونهم بالصيام للسباق في حلبة النجاة.

(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٧٠)

٢٥٤

اعلم أنه لما لم يتمكن للتائب أن يرد عليه وارد التوبة إلا حتى ينتبه من سنة الغفلة ، فيعرف ما هو فيه من الأعمال التي مآلها إلى هلاكه وعطبه ، خاف ورأى أنه في أسر هواه ، وأنه مقتول بسيف أعماله القبيحة ، فقال له حاجب الباب الإلهي : قد رسم الملك أنك إذا أقلعت عن هذه المخالفات ، ورجعت إليه ووقفت عند حدوده ومراسمه ، أنه يعطيك الأمان من عقابه ، ويحسن إليك ويكون من جملة إحسانه أن كل قبيح أتيته يرد صورته حسنة ، ثم أعطاه التوقيع الإلهي ، فإذا مكتوب فيه (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) الآيات ، إلى قوله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) وذلك نتيجة العمل الصالح فيقع التبديل ، فيبدل الله سيئاته حسنات ، حتى يود لو أنه أتى جميع الكبائر الواقعة في العالم من العالم ، وهذا من الكرم الإلهي ، فلا بد لطائفة من التبديل كبير بكبير ، ومن الناس من يبدله له بالتوبة والعمل الصالح ، ومن الناس من يبدله له بعد أخذ العقوبة حقها منه ، وسبب إنفاذ الوعيد في حق طائفة حكم المشيئة الإلهية ، فإذا انتهت المدة طلبت المشيئة في أولئك تبديل العذاب الذي كانوا فيه بالنعيم المماثل له ، فإن حكم المشيئة أقوى من حكم الأمر ، وقد وقع التبديل بالأمر فهو بالإرادة أحق بالوقوع ، ولو لا ما بين السيء والحسن مناسبة تقتضي جمعهما في عين واحدة يكون بها حسنا سيئا ما قبل التبديل ، ومثال ذلك : شخص في غاية الجمال طرأ عليه وسخ من غبار ، فنظف من ذلك الوسخ العارض ، فبان جماله ، ثم كسي بزة حسنة فاخرة ، تضاعف بها جماله وحسنه ، ولهذا وصف الذنوب بالمغفرة وهي الستر ، وما وصفها بذهاب العين ، وإنما يسترها بثوب الحسن الذي يكسوها به ، لأنه تعالى لا يرد ما أوجده إلى عدم ، بل يوجد على الدوام ولا يعدم. وستر الله هذا العلم عن بعض عباده ، وأطلع عليه من شاء من عباده ، وهو من علم الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا ، ولذلك قال الحق (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) ـ الوجه الأول ـ أي يستر عمن يشاء الوقوف على مثل هذا كشفا ـ الوجه الثاني ـ غفورا لذنوبهم السابقة ، أي سترها عنهم ، فإن الله تعالى إذا قبل توبة عبده أنساه ذنبه فلم يذكّره إياه ، فإنه إن ذكره أحضره بينه وبين الحق ، وهو قبيح الصورة ، فجعل بينه وبين الحق صورة قبيحة تؤذن بالبعد فهذا فائدة النسيان ، والستر من الحق على نوعين : إما أن يستر الذنوب جملة واحدة ، وإما أن تبدل بحسنة فتحسن صورة تلك السيئة بالتوبة ، فتظهر له حسنة ، وذلك ليسرع العبد

٢٥٥

في الرجعة إلى الله (رَحِيماً) بذلك الستر ، رحمة به لمعنى علمه سبحانه لم يعيّنه لنا ، والتبديل على وجوه : ـ الوجه الأول ـ اعلم أنه ما من كلمة يتكلم بها العبد إلا ويخلق الله من تلك الكلمة ملكا ، فإن كانت خيرا كان ملك رحمة ، وإن كانت شرا كان ملك نقمة ، فإن تاب إلى الله وتلفظ بتوبته خلق الله من تلك اللفظة ملك رحمة ، وخلع من المعنى الذي دل عليه ذلك اللفظ بالتوبة الذي قام بقلب ذلك التائب على ذلك الملك الذي كان خلقه من كلمة الشر خلعة رحمة ، وواخى بينه وبين الملك الذي خلقه من كلمة التوبة ، وهو قوله : تبت إلى الله ؛ فإن كانت التوبة عامة ، خلع على كل ملك نقمة كان مخلوقا لذلك العبد من كلمات شره خلع رحمة ، وجعل مصاحبا للملك المخلوق من لفظة توبته ، فإنه إذا قال العبد : تبت إليك من كل شيء لا يرضيك ؛ كان في هذه اللفظة من الخير جميعة كل شيء من الشر ، فخلق من هذا اللفظ ملائكة كثيرة بعدد كلمات الشر التي كانت منه ، فإن الإنسان أعطي لفظا يدل على الأفراد ، وأعطي لفظا يدل على الاثنين ، وأعطي لفظا يدل على الكثرة ، فلفظة كل تدل على الكثرة ، فعلم أن قوله «تبت إلى الله من كل شيء» ، أنه تبت إلى الله من كذا ، تبت إلى الله من كذا ، تبت إلى الله من كذا ، فلهذا خلق الله من كلمة الجمع ملائكة بعدد ما تعمه تلك الكلمة ، وإنما قلنا بأن الملائكة المخلوقة من كلمة الشر يخلع عليها خلع الخير ، وترجع ملائكة رحمة في حق هذا التائب ، ويصاحب بينها وبين الملائكة المخلوقة من لفظة التوبة عن ذلك الشر ، لقوله تعالى (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) فجعل التبديل في عين السيئة ـ الوجه الثاني ـ من أنسأ الله في أجله بعد توبته فعمل عملا صالحا بدل الله سيئاته حسنات ، أي ما كان يتصرف به من السوء عاد يتصرف فيه حسنا ، فبدّل الله فعله بما وفقه إليه من طاعته ورحمته ، وغفر له جميع ما كان وقع منه قبل ذلك ، ولم يؤاخذه بشيء منه. ـ الوجه الثالث ـ في حق أهل الشهود الذي يرون ويشهدون الأفعال كلها لله ، فما كان من حسن أضافوه إليه تعالى خلقا فيهم ، وأضافوه إليهم من كونهم محلا لظهوره ، وإن كان سيئا أضافوه إليهم بإضافة الله ، فيكونون حاكين قول الله ، فيريهم الله حسن ما في ذلك المسمى سوءا بأن يريه عين ما كان يراه سيئة حسنة ، وقد كان حسنها غائبا عنه بحكم الشرع ، فلما وصل إلى موضع ارتفاع الأحكام ، وهو الدار الآخرة ، رأى عند كشف الغطاء حسن ما في الأعمال كلها ، لأنه ينكشف له أن العامل هو الله لا غيره ،

٢٥٦

فهي أعماله تعالى ، وأعماله كلها كاملة الحسن ، لا نقض فيها ولا قبح ، فإن السوء والقبح الذي كان ينسب إليها إنما كان ذلك بمخالفة حكم الله لا أعيانها ، فبدل الله سيئاتهم حسنات ، وما هو إلا تبديل الحكم لا تبديل العين ، فمن حكم في نفسه لنفسه ، وندم في يومه على ما فرط فيه من أمسه ، ليجبر بذلك ما فاته ، ويحيي منه بالندم ما أماته ، فإذا أقامه من قبره ، فذلك أوان نشره ، وأوان حشره ، فيبدل الله سيئاته حسنات ، وينقل من أسفل درجاته إلى أعلى الدرجات ، حتى يود لو أنه أتى بقراب الأرض خطايا ، أو لو حمل ذنوب البرايا ، لما يعاينه من حسن التحويل ، وجميل صور التبديل ، فيفوز بالحسنيين ، وهنالك يعلم ما أخفى له فيه من قرة عين ، ففاز في الدنيا باتباع الهوى ، وفي الآخرة بجنة المأوى ، فمن الناس من إذا حرم رحم ، وجوزي جزاء من عصم ، فجزاء بعض المذنبين أعظم من جزاء المحسنين ، ولا سيما أهل الكبائر ، والمنتظرين حلول الدوائر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. لما نزلت هذه الآية قال وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه : ومن لي بأن أوفق إلى العمل الصالح الذي اشترطه علينا في التبديل؟ فجاءه الجواب : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فقال وحشي : وما أدري هل أنا ممن شاء أن يغفر له أم لا؟ فجاءه الجواب : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فلما قرأ وحشي هذا قال : الآن فأسلم ، ولهذا قال حاجب الباب الإلهي وهو الشارع [إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له] فيبدل سيئاته حسنات بالتوبة والعمل الصالح.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢)

(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) شهادة الزور الميل إلى الباطل عن الحق ، فإن الزور هو الميل (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي لم ينظروا لما أسقط الله النظر إليه ، فلم يتدنسوا بشيء منه ، فمروا به غير ملتفتين إليه (كِراماً) فما أثر فيهم ، فإنه مقام تستحليه النفوس ، وتقبل عليه للمخالفة التي جبلها الله عليه ، وهذه هي النفوس الأبية أي التي تأبى الرذائل ،

٢٥٧

فهي نفوس الكرام من عباد الله ، والتحقوا بهذه الصفة بالملأ الأعلى ، الذين قال الله فيهم : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ) فنعتهم بأنهم كرام ، فكل وصف يلحقك بالملأ الأعلى فهو شرف في حقك.

(وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً) (٧٧)

(٢٦) سورة الشّعراء مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (٥)

لما كان القرآن ـ وهو كلام الله القديم الأزلي ـ في حقنا نزل ، قال تعالى (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) فنعته بالحدوث لأنه نزل على محدث ، ولأنه حدث عنده ما لم يكن يعلمه ، فالذي جاءهم إنما هو المتكلم به. واعلم أن الحديث قد يكون حديثا في

٢٥٨

نفس الأمر ، وقد يكون حديثا بالنسبة إلى وجوده عندك في الحال ، وهو أقدم من ذلك الحدوث ، وذلك إن أردت بالقدم نفي الأولية فليس إلا كلام الله ، وإن أردت به غير نفي الأولية فقد يكون حادثا في نفسه ذلك الشيء عندك ، وقد يكون حادثا بحدوثه عندك ، أي ذلك زمان حدوثه. والذكر كلام الله ، والكلام صفته فله القدم وإن حدث الإتيان ، فوصف الحق الذكر بأنه محدث لأنه حدث عندهم ، وإن كان قديما في نفس الأمر من حيث أنه كلام الله ، فقد كان له الوجود وعين المخاطب مفقود ، فكان محدثا عندهم لا في عينه ، فذكر القرآن أمان ، ويجب به الإيمان أنه كلام الرحمن ، مع تقطيع حروفه في اللسان ، ونظم حروفه فيما رقمه باليراع البنان ، فحدثت الألواح والأقلام ، وما حدث الكلام ، وحكمت على العقول الأوهام ، بما عجزت عن إدراكه الأفهام ، ذكر المخلوق ما يصح قدمه ، ولو ثبت لاستحال عدمه ، فالحادث لا يخلو من الحوادث ، لو حل بالحادث الذكر القديم ، لصح قول أهل التجسيم ، القديم لا يحل ولا يكون محلا ، ولو كان محلا لكان محلا ، فلا يوصف بغير وصفه ، فالذكر القديم ذكر الحق ، وإن حكى ما نطق به الخلق ، كما أن ذكر الحادث ما نطق به لسان الخلق ، وإن تكلم بالقرآن الحقّ (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) والإعراض هو ما يقوم بك ، أو بمن يخاطبك ، أو يجالسك ، فذكر الله إعراضهم عن ذكر الرحمن ، مع العلم منهم بأنه القرآن ، والقرآن كلامه وهو الذي حدث عندهم ، فذم تعالى من لم يتلقاه بالقبول. وكلامه علمه ، وعلمه ذاته ، فهو الذي حدث عندهم فعنه أعرضوا ـ إشارة ـ قال تعالى (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) وقال تعالى (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) فلم يجر لاسم من أسماء الشقاء ذكر في الإتيان ، إنما هو رب أو رحمن ، ليعلمنا بما في نفسه لنا ، فالرحمة والنعمة والإحسان في البدء والعاقبة والمآل.

(فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩) وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٠) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (١١) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (١٢)

٢٥٩

وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (١٣) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (١٤) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (١٥) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (١٧) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (١٨) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (١٩) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (٢٠) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٢١)

قال هذا الكلام موسى عليه‌السلام لفرعون وآله ، فإنه لما وقع من موسى عليه‌السلام ما وقع من قتل القبطي ففرّ إلى النجاة ، التي يمكن أن تحصل له بالفرار ، فإنه علم أن الله وضع الأسباب ، وجعل لها أثرا في العالم بما يوافق الأغراض وبما لا يوافقها ، وبما يلائم الطبع وبما لا يلائمه ، فرأى أن الفرار من الأسباب الإلهية الموضوعة في بعض المواطن لوجود النجاة ، فهو فرار طبيعي ، لأنه ذكر أن الخوف من السبب جعله يفر ، لكنه معرّى عن التعريف بما ذكرناه من الوضع الإلهي ، فإن هذا كان قبل نبوته ومعرفته بما يريده الحق به. ويحتمل أن يكون فرار موسى عليه‌السلام الذي علله بالخوف من فرعون وقومه ، ما كان خوفه إلا من الله أن يسلطهم عليه ، إذ له ذلك ، فإنه فعال لما يريد ، ولا يدري ما في علم الله ، فكان فراره إلى ربه ليعتز به (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) فلما فر خوفا من فرعون ، تلقاه الحق بالنجاة ، وجمع بينه وبين رسول من رسله ، وهو شعيب عليهما‌السلام ، ثم أعطاه النبوة والحكم ، الذي خاطب الله به القبط وبني اسرائيل أن يكونوا عليه ، فوهبه ربه حكما وعلما ، وجعله من المرسلين إلى من خاف منهم ، بالاعتزاز بالله ، وأيده الله بالآيات البينات ، ليشد منه ما ضعف مما يطلبه حكم الطبيعة في هذه النشأة ، فجعله من المرسلين إلى من خاف أن يسلّط عليه ، وهو فرعون ، فكان موسى عليه‌السلام خليفة رسولا ، لأن الرسول لا يكون حاكما حتى يكون خليفة ، وكان ذلك نتيجة الفرار من

٢٦٠