رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [العلماء ورثة الأنبياء] واعلم أن حد العلم وحقيقته المطلقة معرفة الشيء على ما هو عليه ، والمفيدة العمل به ، وهو الذي يعطيك السعادة الأبدية ، ولا تخالف فيه ، وكل من ادعى علما من غير عمل به ، فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب للعمل ، وإذا تحقق ما أردناه وما أشرنا إليه ، فليقل من شاء ما شاء ، وكل حجة تناقض ما أشرنا إليه فداحضة ، وعلى قائلها توبة من الله ومغفرة ، والله غفور رحيم. واعلم أن العلم نور من أنوار الله تعالى يقذفه في قلب من أراده من عباده ، قال تعالى (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ) وهو العلم ، وهو معنى قائم بنفس العبد ، يطلعه على حقائق الأشياء ، وهو للبصيرة كنور الشمس للبصر مثلا ، بل أتم وأشرف ، وأجناس العلوم كثيرة : منها علم النظر وعلم الخبر وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم الرصد إلى غير ذلك من العلوم ، ولكل جنس من هذه العلوم وأمثالها فصول تقومها وفصول تقسمها ، فلننظر ما نحتاج إليه في أنفسنا مما تقترن به سعادتنا ، فنأخذه ونشتغل به ، ونترك ما لا نحتاج إليه احتياجا ضروريا ، مخافة فوت الوقت ، حتى تكون الأوقات لنا إن شاء الله تعالى ، والذي نحتاج إليه من فصول هذه الأجناس فصلان : فصل يدخل تحت جنس النظر وهو علم الكلام ، ونوع آخر يدخل تحت جنس الخبر وهو الشرع ، والمعلومات الداخلة تحت هذين النوعين التي نحتاج إليها في تحصيل السعادة ثمانية : وهي الواجب والجائز والمستحيل والذات والصفات والأفعال وعلم السعادة وعلم الشقاوة ، فهذه الثمانية واجب طلبها على كل طالب نجاة نفسه ، وعلم السعادة والشقاوة موقوف على معرفة ثمانية أشياء أيضا ، منها خمسة أحكام : وهي الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح ، وأصول هذه الأحكام ثلاثة لا بد من معرفتها : الكتاب والسنة المتواترة والإجماع ، ومعرفة هذه الأشياء لا بد منها ، والناس في تحصيلها على مرتبتين : عالم ومقلد لعالم ، فإذا علمها الطالب وصح نظره فيها توجهت عليه وظائف التكليف ، فاختصت من الإنسان بثمانية أعضاء : العين والأذن واللسان واليد والبطن والفرج والرجل والقلب ، والعلم بتكليفات هذه الأعضاء هو العلم بالأعمال القائدة إلى السعادة إذا عمل بها ، ولما كان أصل السعادة موافقتنا للحق تعالى فيما أمر به ونهى ، وموافقته التوحيد في باطن العبد بنفي الأغيار ، فإن أول ما يجب عليك ـ إن رزقت الموافقة والتوفيق ـ العلم بالأمور التي مهدناها ، فإذا علمتها توجه عليك العمل بها ، وإن كان طالب العلم في عمل من حيث

٥٤١

طلبه ، ولكن يعطيك العلم العمل بأمور أخر توجه عليك بها خطاب الشارع ، كما أن العلم لم يصح طلبه إلا بالعلم ، فمن حصل له العلم بالأحكام التي يحتاج إليها في مقامه ، فلا يكثر مما لا يحتاج إليه ، فإن التكثير مما لا حاجة فيه سبب في تضييع الوقت عما هو أهم ، وذلك أنه من لم يعوّل أن يلقي نفسه في درجة الفتيا في الدين ـ لأن في البلد من ينوب عنه في ذلك ـ حتى لا يتعين عليه طلب الأحكام كلها في حق الغير ، طلب فضول العلم ؛ فيأخذ منها ما توجه عليه في الوقت من علم تكليف ذلك الوقت ، والعلم الذي يعم كل إنسان في الحال عند البلوغ على أحد أنواعه وشروطه من الإسلام وسلامة العقل ، علم العقائد بواضحات الأدلة وإن كانت فطرته تعطي النظر والنجح فيه ، ومن لم يكن ذلك في فطرته ـ وكان جامدا ـ يخاف عليه إن فتح له باب النظر لإيراد شبهات الملحدة ، فمثل هذا يعطى العقائد تقليدا مسلمة ، ويزجر عن النظر إن أراده في ذلك العلم بأشد الزجر ، فإذا صحت عقيدته بالعلم أو التقليد ، يعرّف بقواعد الإسلام ، فإذا عرّف ترتب عليه أن يعرف أوقات العبادات ، فإذا دخل وقت الصلاة مثلا تعين عليه أن يعرف الطهارة وما تيسر من القرآن ، ثم يعلم الصلاة ، لا يحتاج إلى غير هذا ، فإذا أدركه رمضان وجب عليه أن ينظر في علم الصيام ، فإن أخذه الحج وجب عليه حينئذ علمه ، فإن كان له مال وحال عليه الحول تعين عليه علم زكاة ذلك الصنف من المال لا غير ، فإن باع واشترى وجب عليه علم البيوع والمصارفة ، وهكذا سائر الأحكام لا تجب عليه إلا عند ما يتعلق به الخطاب ، فذلك وقت الحاجة إليها ، فإن قيل : يضيق الوقت عن نيل علم ما خوطب به في ذلك الوقت ، قلنا : لسنا نريد عند حلول الوقت المعيّن ، وإنما نريد بقربه بحيث أن يكون له من الزمان قدر ما يحصل ذلك العلم المخاطب به ، ويدخل عقيبه وقت العمل ، وهكذا ينبغي أن تقرأ العلوم وتنظر المعارف ، ويربط الإنسان نفسه بما فيه سعادته ونجاته ، وليعمر أوقاته بما هو أولى به ، وليحذر العبد أن تفتح له خزائن الغفلات تصرفه في المباحات ، وليملأها بالذكر وأشباه المندوبات ، وهذا لا يصح له ما لم يعرف الواجبات حتى يسرع إليها ويؤديها ، والمحظورات حتى يجتنبها ، والمندوبات حتى يرغب فيها والمكروهات حتى يحفظ نفسه منها ، والمباحات حتى يتعوذ بالله من الغفلة ، وتحقيق هذه المعاني التي هي أم الأحكام أصول الفقه ، ويعرف أيضا ما تحت كل واحد منها على التشخيص مما يلزمه كما تقدم ، ومعرفة هذا من كتاب الله

٥٤٢

تعالى وسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإجماع العلماء ، فإذا عرفت هذا ولازمت العمل فأنت الموفق السعيد فلا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) هذا إعلام بأنهم علموا ثم طرأ النسيان على بعضهم ، فمنهم من استمر عليه حكم النسيان ، فنسوا الله فنسيهم ، ومنهم من ذكّر فتذكّر ، وهم أولوا الألباب وهم أرباب العقول التي لها ألباب ، وهو الفهم فيما يرد على العقول ، بما فيها من صفة القبول لما يرد من الله ، مما لا يقبله العقل الذي لا لب له من حيث فكره ، فمن رزق الفهم فقد رزق العلم ، وما كل من رزق العلم كان صاحب فهم.

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (١٠)

(بِغَيْرِ حِسابٍ) معيّن علمه عندنا ، وعند الله مقيد معلوم ، فالأجور المقيدة عندنا من عشر إلى سبعمائة ضعف ، والصبر يعم جميع الأعمال ، لأنه حبس النفس على الأعمال المشروعة ، فلهذا لم يأخذه المقدار ، والأعمال تأخذها المقادير ، فعلى قدر ما يقام فيه المكلّف من الأعمال إلى حين موته ، فهو يحبس نفسه عليها ، حتى يصح له حال الصبر واسم الصابر ، فيكون أجره غير معلوم ولا مقدّر عنده جملة واحدة ، وإن كان معلوما عند الله ، فإن الصابرين لما حبسوا أنفسهم مع الله على طاعته ، وعند وقوع البلايا والرزايا بهم من غير توقيت ، جعل الله جزاءهم على ذلك من غير توقيت ، فقال : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) فما وقّت لهم فإنهم لم يوقّتوا ، فعمّ صبرهم جميع المواطن التي يطلبها الصبر.

(قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي) (١٤)

وهو ما تعبّده به في هذا الموضع.

٥٤٣

(فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ) (١٧)

الإنسان ما دام حيا إذا كان كافرا يرجى له الإسلام ، وإذا كان مسلما يخاف عليه الكفر ، فإن الدنيا ما هي دار طمأنينة لمخلوق ما لم يبشّر ، ومع البشرى يرتفع الخوف لصدق المخبر ، ويبقى الحكم للحياء والخشوع ، والبشرى إظهار علامة حصولها في البشرة.

(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٨)

(الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ) فهي بشرى من الحق لمن تحقق بهذا السمع ، بأنه من أهل الهداية والعقل عن الله تعالى ، وهي الكرامة الكبرى ، والقول ما بين حسن وأحسن (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) والاتباع إنما هو فيما حدّه لك في قوله ورسمه ، فتمشي حيث مشى بك ، وتقف حيث وقف بك ، وتنظر فيما قال لك انظر ، وتسلم فيما قال لك سلّم ، وتعقل فيما قال لك اعقل ، وتؤمن فيما قال لك آمن ، فإن الآيات الإلهية الواردة في الذكر الحكيم متنوعة ، وتنوع لتنوعها وصف المخاطب ، فمنها آيات لقوم يتفكرون ، وآيات لقوم يعقلون ، وآيات لقوم يسمعون ، وآيات للمؤمنين ، وآيات للعالمين ، وآيات للمتقين ، وآيات لأولي النهى ، وآيات لأولي الألباب ، وآيات لأولي الأبصار ، ففصّل كما فصّل ولا تتعد إلى غير ما ذكر بل نزّل كل آية وغيرها بموضعها ، وانظر فيمن خاطب بها فكن أنت المخاطب بها ، فإنك مجموع ما ذكر ، فإنك المنعوت بالبصر والنهى واللب والعقل والفكر والعلم والإيمان والسمع والقلب ، فاظهر بنظرك بالصفة التي نعتك بها في تلك الآية

٥٤٤

الخاصة ، تكن ممن جمع له القرآن فاجتمع عليه ، وتكن من الذين هداهم الله (أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ) أي وفقهم بما أعطاهم من البيان إلى معرفة الحسن والأحسن ، وبيّن لهم الحسن من ذلك من القبيح ، فشهد لهم الوهاب (وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) بما حفظهم من الاستمداد لبقاء نوره ، فعقلوا ما أردنا ، وهو من لب الشيء المصون بالقشر ، فيعني بأولي الألباب المستخرجين لبّ الأمر المستور بالقشر صيانة له ، فإن العين لا تقع إلا على الحجاب ، والمحجوب لأولي الألباب ، فهم الغواصون على خفايا الأمور وحقائقها ، المستخرجون كنوزها ، والحالّون عقودها ورموزها ، والعالمون بما تقع به الإشارات في الموضع الذي لا تسمح فيه العبارات ، فحسن القول يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ، ويقف بك على المعاني الغامضة فيوضحها لك ، وعلامة من علم أحسن القول الاتباع لما دل عليه ذلك القول ، فيقابل الطول بالطول ، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) (١٩)

حقّ وجب وسقط ، يقال : وجب الحائط إذا سقط (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ) أي إذا سقط العذاب على المعذّب به ، وهو الذي آذى الله ورسوله (أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) خاطب الحق بذلك أكرم المكلفين عليه فإنه ما يبدل القول لديه ، ولا يكون عنه إلا ما سبق به علمه ، فمشيئته واحدة ، لأنه إذا أسلم فليس من أهل النار.

(لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٢١)

اعلم أن الماء ماءان : ماء ملطف مقطر في غاية الصفاء والتخليص وهو ماء الغيث ، فإنه

٥٤٥

ماء مستحيل من أبخرة كثيفة ، قد أزال التقطير ما كان تعلق به من الكثافة ، والماء الآخر ماء لم يبلغ من اللطافة هذا المبلغ ، وهو ماء العيون والأنهار ، فإنه ينبع من الأحجار ممتزجا بحسب البقعة التي ينبع بها ويجري عليها ، ويختلف طعمه فمنه عذب فرات ومنه ملح أجاج ومنه مر زعاف ، وماء الغيث على حالة واحدة ، ماء نمير خالص سلسال سائغ شرابه.

(أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢٢)

يسمى الإيمان ـ الذي هو نور ـ بحكم سرايته في الظاهر وتليينه إياه وانقياد الظاهر له ولأحكامه إسلاما ، قال تعالى : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) فالصدر حقيقة ما يصلح أن يصدر منه الأحكام وتتعين منه الآثار ، كما يقال لمن يصدر منه الأمر والنهي من الأناسي أنه صدر ؛ ولما يتعيّن منه حكم اليمنة واليسرى والأقصى والأدنى صدر الدار ، وكذلك يسمى نحر الإنسان صدرا لأنه يتعين به حكم يمنته ويسرته ، فيسمى ظاهر الجوهر الإنساني المتعلق بروحه الحيوانية صدرا ، باعتبار ما يصدر من الأحكام الروحانية كالعلوم والأخلاق الجميلة المعتدلة ، والأحكام والصفات الجسمانية كالغضب والشهوة والأخلاق المنحرفة الرذيلة بغلبتها عليه ، وشرحه فتحه وفتقه وإخراجه عن تمام أحكام الهوى الشيطانية وظلام الطبيعة الحيوانية ، بعد أن كان هو والروح الحيوانية وجميع أحكامهما وصفاتهما رتقا غير متميز ، بل أحكامه مستورة مغلوبة ممتزجة بأحكامها ، وبهذا الشرح والفتق المذكور تظهر آثاره ، فتظهر النفس لوامة ، أو تغلب على آثارها فتصير مطمئنة ، بعد أن كانت عند غلبة الحيوانية أمارة بالسوء ، فبهذا الشرح والفتق المذكور تقبل سراية نور الإيمان ، فيحس بأن له خالقا ، منه مبدؤه وإليه معاده ومنتهاه ، يلزمه الانقياد لأوامره وزواجره ، حتى يصير بذلك أهلا للرجوع ، فتنقاد النفس وتستسلم ظاهرا وباطنا ، إما رغبة فيه أو فيما عنده ، والإشارة إلى ما قلنا : إن الصدر شرحه معنوي ، ما ورد في حديث المعراج أن جبريل نزل ففرج عن صدري ثم غسله ، ثم جاء بطست ممتلىء حكمة فأفرغه في صدري ، ولما كان الإيمان والحكمة غير محسوسين يكون محلهما معنويا غير

٥٤٦

محسوس ، وتحقيق ذلك ما قررناه ، ويؤكد ذلك وضع الوزر ، الذي معناه إزالة أثر الانحراف الذي هو من خصائص الشيطان عنه على أثر ذلك ، وشرح الصدر في سورة ألم نشرح (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) من سلك على شرع الأنبياء والرسل ، ولم يتعد حدود ما قرروه ، واتقوا الله ولزموا الأدب مع الله ، فهم على نور من ربهم.

(اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨)

لما طهر الله سبحانه كتابنا هذا وقدسه عن التحريف سماه قرآنا مهموزا ، ولما جمع فيه ما تفرق في سائر الصحف والكتب وجميع ما يحتاج إليه من المعارف والعلوم سماه قرانا بغير همز ، ولما أبان به عن الحق المطلوب وحسن نظمه وبلاغته وجعله مغايرا لسائر الكتب بما حفظه به من التحريف جعله عربيا.

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٣٠)

٥٤٧

انظر إلى أدب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الحق سبحانه تعالى مع قطعه بأنه يموت ، فإن الله يقول له : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) كيف استثنى لما أتى البقيع ووقف على القبور وسلّم عليهم قال : [وإنا إن شاء لله بكم لاحقون] فاستثنى في أمر مقطوع به ، فبقي على الأصل أدبا مع الله ، لما أتى في قوله [لاحقون] باسم الفاعل استثنى امتثالا لأمر الله تعالى لقوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) والموت أشرف من القتل ، فإنه صفة الأشرف صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأن الأكابر لا يتميزون بخرق العوائد ، فهم مع الناس عموما في جميع أحوالهم بظواهرهم ، وصحبة الرفيق الأعلى أولى ، والرفيق بعبده أرفق ، وهو عليه أشفق ، اختار الرفيق ، من أبان الطريق ، وهو بالفضل حقيق ، خيّر فاختار ، ورحل عنا وسار ، ليلحق بالمتقدم السابق ، ويلتحق به المتأخر اللاحق ، فلعلمه بأنه لا بد من الاجتماع ، اختار الخروج من الضيق إلى الاتساع ـ تحقيق ـ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كنت نبيا وآدم بين الماء والطين] يريد أن العلم بنبوته حصل له وآدم بين الماء والطين ، واستصحبه ذلك إلى أن أوجد جسمه ، فلم يشرك كما أشرك أهله حتى بعث للناس كافة ، فكان يذكر الله على كل أحيانه ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه وهو الصادق [إنه تنام عينه ولا ينام قلبه] فأخبر عن قلبه أنه لا ينام عند نوم عينه عن حسه ، فكذلك موته إنما مات حسا كما نام حسا ، فإن الله يقول له : (إِنَّكَ مَيِّتٌ) وكما أنه لم ينم قلبه لم يمت قلبه ، فاستصحبته الحياة من حين خلقه الله ، وحياته إنما هي مشاهدة خالقه دائما لا تنقطع ، فهذه حياته من غير موت معنوي وإن مات حسا.

(ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٣٣)

كنّى سبحانه وتعالى عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الآية بالذي جاء بالصدق ، فهو الأول الصادق (وَصَدَّقَ بِهِ) وهو الآخر الصديق ، فالخبر لا يكون أبدا إلا من الأول ، والتصديق لا يكون أبدا إلا من الآخر ، فالصدق متعلقه الخبر ومحله الصادق ، وليس بصفة لأصحاب الأدلة ، ولا للعلماء الذين آمنوا بما أعطتهم الآيات والمعجزات من الأدلة على صدق دعواه ،

٥٤٨

فذلك علم ، والصدق نور يظهر على قلب العبد ، يصدق به هذا المخبر ، ويكشف بذلك النور أنه صدق ، ويرجع عنه برجوع المخبر ، لأن النور يتبع المخبر حيث مشى ، والصدق بالدليل ليس هذا حكمه ، إن رجع المخبر لم يرجع لرجوعه ، فإن الأحكام المشروعة أخبار إلهية يدخلها النسخ ، والتصديق يتبع الحكم ، فيثبت ما دام المخبر يثبته ، ويرفعه ما دام المخبر يرفعه ، والمخبر صادق في الحالتين ، ولذلك تمم فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) المفلحون الباقون بهذا الحكم.

(لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا

٥٤٩

الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٤٢)

(اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها) وهو من توفاه الله في حياته في دار الدنيا ، أي آتاه من الكشف ما يأتي الميت عند الاحتضار ، إذ كانت الوفاة عبارة عن إتيان الموت (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ) فالله يمسك نفس الذي قضى عليه الموت في النوم إذا هو نام (وهي النفس الإنسانية الناطقة) (وَيُرْسِلُ الْأُخْرى) وهي النفس الحيوانية (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وهو وقت قبض الروح (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) المتفكر ناظر إلى قوة مخلوقة فيصيب ويخطىء ، وإذا أصاب يقبل دخول الشبهة عليه بالقوة التي أفادته الإصابة ، فهو بين البصر والبصيرة ، لم يبق مع البصر ولا يخلص للبصيرة.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (٤٥)

(وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وما قال بالله ، أي انقبضت لما وجدت من ألم نسبة الوحدة لله في الألوهية ، ومما يدل على جهلهم بالتوحيد قولهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ـ تحقيق ـ هذه الآية من الله إيثار لجناب المؤمنين الذين لم يروا فاعلا إلا الله ، وأن القدرة الحادثة والأمور الموقوفة على الأسباب لا أثر لها في الفعل ، فإن الذين أشركوا جعلوا الشريك كالوزير لله ، معينا على ظهور بعض الأفعال الحاصلة في الوجود ، فلما ذكر الله وحده رأوا أن هذا الذاكر لم يوف الأمر حقه ، فأداهم ذلك إلى الاشمئزاز ، لأنهم لم يقبلوا توحيد الأفعال فذمهم الله تعالى.

٥٥٠

(قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٤٧)

البدا هو أن يظهر ما لم يكن ظهر ، فقال تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فعمّ ، فبدا لكل طائفة تعتقد أمرا ما مما الأمر ليس عليه نفي ذلك المعتقد ، وما تعرض في الآية بما انتفى ذلك ، هل بالعجز أو بمعرفة النقيض؟ وكلا الأمرين كائن في الدار الآخرة ففي الهوية فإن بعض العباد يجزم في اعتقاده أن الله كذا وكذا ، فإذا انكشف الغطاء ، رأى صورة معتقده وهي حق فاعتقدها ، وانحلت العقدة فزال الاعتقاد وعاد علما بالمشاهدة ، وبعد احتداد البصر لا يرجع كليل النظر ، فيبدو لبعض العبيد باختلاف التجلي في الصور عند الرؤية خلاف معتقده ، لأنه لا يتكرر ، فيصدق عليه في الهوية (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ) في هويته (ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) فيها قبل كشف الغطاء ، أما في الجزاء فقوله تعالى : (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) شائعة في الشقي والسعيد ، ففي السعيد ، فيمن مات على غير توبة وهو يقول بإنفاذ الوعيد ، فيغفر له فكان الحكم للمشيئة ، فسبقت بسعادتهم ، فتبين لهم عند ذلك أنهم اعتقدوا في ذلك خلاف ما هو ذلك الأمر عليه ، فإن الله تعالى عند ما يلقاه المؤمنون يستحيون منه لما عاملوه به من المخالفة لأوامره تعالى ، فبدا لهم من الله من الخير ما لم يكونوا يحتسبون من مكارم الأخلاق ، فإن الأدلة الشرعية أتت بأمور تقرر عندنا منها : أنه يعامل عباده بالإحسان ، وعلى قدر ظنهم به ، فإن الحق هو الخير المحض الذي لا شر فيه ، وما يبدو من الخير إلا الخير ، فحسّنوا ظنكم برب هذه صفته ، وحققوا رجاءكم بمعروف هذه معرفته ، وأما المجرمون فعند ما يلقونه يخافون منه ، فلقوه على كره فكره الله لقاءهم ، ومع هذه الكراهة فلا بد من اللقاء للجزاء ، كان الجزاء ما كان ، فإنهم لما استيقظوا من نوم غفلتهم ، ووصلوا إلى منزل وحطوا عن رحالهم ، طلبوا ما

٥٥١

قصدوه ، فقيل لهم : من أول قدم فارقتموه ، فما ازددتم منه إلا بعدا ، فيقولون : يا ليتنا نرد ، ولا سبيل إلى ذلك ، فلهذا وصفوا بالحجاب عن ربهم الذي قصدوه بالتوجه على غير الطريق الذي شرع لهم ، فقال تعالى :

(وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢)

يختلف البسط لاختلاف المحال والأحوال ، فأما في محل الدنيا فلو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ، فأنزل بقدر ما يشاء ، وأطلق في الجنة البسط لكونها ليست بمحل تعن ولا تعد.

(قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٥٣)

ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما رواه عن ربه أنه عزوجل يقول [أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيرا] فاجعل ظنك بالله علما بأنه يعفو ويغفر ويتجاوز ، وليكن داعيك الإلهي إلى هذا الظن قوله تعالى : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) فهذه الآية إشارة إلى عموم الرحمة الإلهية ، وأن المآل إليها ، فإنه تعالى قالها للمسرفين على أنفسهم ، ولم يخص مسرفا من مسرف ، فقال تعالى لنبيه (قُلْ يا عِبادِيَ) فأضافهم إلى نفسه كما أضاف إلى نفسه نفوسهم في خلقها ، فهم عبيد العموم ،

٥٥٢

لأنه أضافهم إليه مع كونهم مسرفين ، على الإطلاق في الإسراف ، ونهاهم أن يقنطوا من رحمة الله ، فهؤلاء العبيد المذكورون ذكرهم الله بالإضافة إليه ، والإضافة إليه تشريف (الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) وما ذكر سرفا من سرف ، فعمّ جميع حالات المسرفين في السرف ، والإسراف خروج عن الحد والمقدار ، فأسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا حدود سيدهم ، وجاء بالاسم الناقص الذي يعم كل مسرف مع إضافة العباد إليه ، لأنهم عباده ، وكفى شرفا شرف الإضافة إلى الله تعالى (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) فإن الذي أزاغكم أصبع الرحمن ، فإن قلب العبد بين أصبعي الرحمن يقلبه كيف يشاء ، فإن الله للرحمة خلقكم ولهذا تسمى بالرحمن ، واستوى به على العرش ، وأرسل أكمل الرسل وأجلهم قدرا وأعمهم رسالة رحمة للعالمين ، ورحمة الله وسعت كل شيء ، وأنتم من الأشياء ، فنهاك عن القنوط ، وما نهاك عنه يجب عليك الانتهاء عنه ، ثم أخبر وخبره صدق لا يدخله نسخ ، فإنه لو دخله نسخ لكان كذبا ، والكذب على الله محال ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وصف الله الذنوب بالمغفرة وهي الستر ، وما وصفها بذهاب العين ليظهر فضل الله وكرمه على عبيده ، فهو يسترها بثوب الحسن الذي يكسوها به ، لأنه تعالى لا يرد ما أوجده إلى عدم ، بل يوجد على الدوام ولا يعدم ، فالقدرة فعالة دائما ، فهو لا يمحو الذنوب بل يبدلها بالحسنى ، فيكسو الذنب حلة الحسن ، وهو هو بعينه ، واعلم أن الذنوب من حكم الاسم الآخر ، لأن ذلك الأمر بمنزلة الذنب من الرأس ، متأخرة عنه ، لأن أصله طاعة ، فإنه ممتثل للتكوين إذ قيل له كن ، فما وجد إلا مطيعا ، ثم عرض له بعد ذلك مخالفة الأمر المسمى ذنبا ، فأشبه الذنب في التأخر ، والعرض لا بقاء له ، وإن كان له حكم في حال وجوده ولكن يزول ، فهذا يدلك على أن المآل إلى السعادة إن شاء الله ، ولو بعد حين ، ثم إن للذنب من معنى الذنب صفتين شريفتين ، إذا علمها الإنسان عرف منزلة الذنب عند الله ، وذلك أن ذنب الدابة له صفتان شريفتان : ستر عورتها ، وبه تطرد الذباب عنها بتحريكها إياه ، وكذلك الذنب فيه عفو الله ومغفرته ، وشبه ذلك مما لا يشعر به ، ممّا يتضمنه من الأسماء الإلهية يطرد عن صاحبه أذى الانتقام والمؤاخذة ، وهما بمنزلة الذباب الذي يؤذي الدابة ، قال تعالى في الحديث القدسي [لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم] ولم يقل فيعاقبهم ، فغلّب المغفرة وجعل لها الحكم ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) وما خص

٥٥٣

ذنبا من ذنب ، كما لم يخص إسرافا من إسراف ، كما لم يخص في إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عالما من عالم ، فكما جاء بالمغفرة والرحمة في حق التائب وصاحب العمل الصالح ، جاء بهما في حق المسرفين الذين لم يتوبوا ، ونهاهم عن القنوط ، وما قرن الله تعالى مغفرته هنا حين أطلقها بتوبة ولا عمل صالح ، وأكد ذلك بقوله (جَمِيعاً) مع ارتفاع القنوط أو مع وجوده ، فما أبقى شيئا من الذنوب ، فلا يتسرمد العذاب ، وهذا عموم رحمة وعفو ومغفرة ، وهو خبر لا يدخله النسخ ، فيجمع بين قوله هذا وبين قوله (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) فيؤاخذ على الشرك ما شاء الله ، ثم يحكم عليه أصبع الرحمن فيؤل إلى الرحمن ، وأمور أخر من الزيغ مما دون الشرك يغفر منها ما يغفر بعد العقوبة ، وهم أهل الكبائر الذين يخرجون من النار بالشفاعة بعد ما رجعوا حمما ، مع كونهم ليسوا بمشركين ، والإيمان بذلك واجب ، ومنها ما يغفر ابتداء من غير عقوبة ، فلا بد من المآل إلى الرحمة ، ولو قال تعالى هنا : إن الرحمن لم يعذب أحدا من المسرفين. فلما جاء بالاسم الله قد تكون المغفرة قبل الأخذ وقد تكون بعد الأخذ ، ولذلك ختم الله بقوله (إِنَّهُ هُوَ) فجاء بالضمير الذي يعود عليه (الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ـ الوجه الأول ـ من كونه سبقت رحمته غضبه ، فبالغ وما خص إسرافا من إسراف ولا دارا من دار ، فلا بد من شمول الرحمة والمغفرة على من أسرف على نفسه ، فالذي غفر هو الغفور الرحيم لذاته ، فإنه جاء بالألف واللام للشمول في عمارة الدارين ، فلا بد من شمول الرحمة ، وجاء بالرحيم آخرا أي مآلهم وإن أخذوا إلى الرحمة ، فجمع الحق لهؤلاء العبيد الذين أسرفوا على أنفسهم ، الذين نهاهم سبحانه أن يقنطوا من رحمة الله ، بين شرف الإضافة إليه وبشرهم أنه يغفر الذنوب جميعا ، ولم يعين وقتا ، فقد تكون المغفرة سابقة لبعض العبيد ، لاحقة لبعض العبيد ، هذا إذا قصد العبد فعل الذنب معتقدا أنه ذنب ، فكيف حال من لم يتعمد إتيان الذنب؟ ومن حكم الرحمة اجترأ من اجترأ على مخالفة أوامر الله من المؤمنين ، فإنهم لا يقنطون من رحمة الله ـ الوجه الثاني ـ (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) لما كان عذر العالم مقبولا في نفس الأمر ، لكونهم مجبورين في اختيارهم ، لذلك جعل الله مآل الجميع إلى الرحمة ، فهو الغفور لما ستر من ذلك عن قلوب من لم يعلمه بصورة الأمر ، رحمة به لأنه الرحيم في غفرانه ، لعلمه بأن مزاجه لا يقبل ـ تحقيق ـ هذا وأمثاله أطمع إبليس في رحمة الله من عين المنة ، ولو قنط من رحمة الله لزاد عصيانه عصيانا ، وإن كانت

٥٥٤

دار النار مسكنه لأنه من أهلها ، وإن حارت عليه أوزار من اتبعه ممن هو من أهل النار ، فما حمل إلا ما هو منقطع بالغ إلى أجل ، وفضل الله لا انقطاع له ، لأنه خارج عن الجزاء الوفاق ، ورحمة الله لا تخص محلا من محل ولا دارا من دار ، بل وسعت كل شيء ، وأكثر من هذا الإفصاح الإلهي في مآل عباده إلى الرحمة ما يكون ، مع عمارة الدارين الجنة وجهنم ، وأن لكل واحد منهما ملأها ، لا يخرجون منها ، فعطاء الله لا مانع له ، وإنما الاسم المانع إنما متعلقه أن نعيم زيد ممنوع عن عمرو ، كما أن نعيم عمرو ممنوع عن زيد ، فهذا حكم المانع لا أنه يمنع شمول الرحمة ، والإيمان يقطع بصدق هذا القول الذي جاء في هذه الآية ، ولكن لا يظهر حكمه مشاهدة عين إلا في المسرفين وهم المذنبون ، فكأنه تعالى قال لهم : اعصوا حتى تعرفوا ذوقا صدق قولي في مغفرتي ؛ وإذا كان أمير المؤمنين المأمون يقول : لو علم الناس حبي في العفو لتقربوا إلي بالجرائم ، وهو مخلوق ، فما ظنك بالكريم المطلق الكرم؟ فثمّ قوم يغفر الله لهم من غير توبة ، وثمّ قوم يعطيهم الله التوبة ، وإياك والدعوى ، فحيث كانت الدعوى كان الاختبار ، ومن وصف نفسه بأمر توجه عليه الاختبار ، وإذا ادعيت فليكن دعواك بحق ، وانتظر البلاء أي الاختبار ، وإن لم تدع فهو أولى بك.

عم بالغفران أصحاب الذنوب

بعد أخذ وابتداء للعموم

غير أن الأمر قد قسمه

بين سكنى في جنان وجحيم

وكلا الصنفين في رحمته

في التذاذ دائم فيه مقيم

زمهرير عند محرور جدى (١)

وحرور عند مقرور نعيم

ليكون الكل في رحمته

إنه قال هو البر الرحيم

فقد يكون غفرانه ابتداء ، وبعد أخذ ، وهذا يجب الإيمان به.

(وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً

__________________

(١) جدى : عطاء.

٥٥٥

وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) (٥٦)

النفس عند العرب تذكر وتؤنث ، كما قال تعالى : (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى) الآية ، فأنث ، فقال (بَلى قَدْ جاءَتْكَ) بكاف مكسورة خطاب المؤنث (آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها) بتاء مفتوحة خطاب المذكر والعين واحدة (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) فتعلم ما فاتها من الإيمان بالرسول واتباع سنّته ، فإنه إذا كانت الصورة التي يتجلى فيها الحق هي ظلة غمام الشريعة ، فرأسها كتاب الله ، وجنبها سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومما يدل على ذلك قوله تعالى (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) مع قوله في أثناء السورة (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ) فعلم أنه كتاب الله وكذا سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ، فلما مهد الأمر بالمتابعة لكتابه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حذر من إتيان عذابه قبل ذلك ومن قول النفس (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) وذلك كالصريح في أن الجنب هو سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والجنب جنبان : جنب حسي وجنب معنوي حقيقي ، وقد روى أبو عبد الله الحكيم الترمذي بسنده إلى عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجلسه الله معه على العرش ، وذلك يتخرج على أن الصورة التي يتجلى الله تعالى فيها ظلة غمامة ، وهي أنوار آياته ، وفي تلك الصورة يتجلى على العرش ، ونبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتجلى لأمته في ظل سنته ، وكتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفترقان ، كما لا تفارق لا إله إلا الله ، محمد رسول الله ، فمن ها هنا صحت المجالسة له مع ربه على عرشه ، ووضح بهذا حسرة النفوس التي شقيت بمخالفته على تفريطها في جنب الله تعالى ، لأنها تشهد هنالك حقيقة معية ربه له تعالى ومجالسته. ولأنهم كانوا يسخرون من الذين آمنوا في اتباعهم لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أردفت حسرتها بقولها (وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ) وبقولها :

(أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٨)

فرد الله عليها بقوله :

٥٥٦

(بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) (٦٠)

هذا مآل المتكبرين وصفتهم ، ذكر الله تعالى ذلك دواء للأرواح ، لتقف مع ضعف مزاجها الأقرب في ظهور عينها وهو البدن ، ولا تظهر في قوتها الأصلية التي لها من النفخ الإلهي ، فإنها إن فعلت ذلك لم يكن شيء أشد تكبرا منها ، فخوّفها الله بما ذكر من وصف المتكبرين ومآلهم واسوداد وجوههم.

(وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (٦٢)

وقد بين تعالى ما خلق بالآلة وبغير الآلة ، وبكن وبيده وبيديه وبأيد ، وفصّل وأعلم وقدر وأوجد وجمع ووحد ، فقال : إني ونحن وأنا وإنا.

(لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٦٣)

النكاح المقلاد ، والإقليد الذي يكون به الفتح ، فيظهر ما في خزائن الجود ، ولما كان وجود العالم عن نكاح زماني ليلي ونهاري (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) و (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) قال تعالى : (لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ) وهو الناكح (وَالْأَرْضِ) وهو المنكوح ، فمن علا من هذين الزوجين فله الذكورية وهو السماء ، ومن سفل من هذين الزوجين فله الأنوثة وهو الأرض ، ونكاحهما المقلاد ، ويظهر عن ذلك الأرواح الفاعلة والجثث الطبيعية القابلة للانفعال المنفعلة (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى

٥٥٧

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٦٥)

(لَئِنْ أَشْرَكْتَ) وقد علم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يشرك ، فالمقصود من أشرك من أمته فهذه صفته ، فإنه المخاطب والمقصود أمته ، وهذا مثل قولهم : إياك أعني فاسمعي يا جارة ، فإنه معلوم أنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهو على بينة من ربه في مآله ، فعلمنا بقرائن الأحوال أنه المخاطب ، والمراد غيره لا هو ، والوحي كان قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يجيء خبر إلهي أن بعده وحيا ، كما ذكر في هذه الآية ولم يذكر وحيا بعده ، وإن لم يلزم هذا فسبيل الوحي انقطع بموت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) كسائر العبادات من الصوم والصلاة ، لم يكن ذلك مشروعا لعدم الشرط المصحح وهو الإيمان.

(بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٧)

(ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) لما كان الأمر العظيم يجهل قدره ولا يعلم ويعز الوصول إليه ، تنزلت الشرائع بآداب التوصل فقبلها أولوا الألباب ، قالت اليهود في الخبر النبوي المشهور ، من كون الحق يضع الأرض يوم القيامة على إصبع ، والسموات على إصبع ـ الحديث ـ فقرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اعلم أن كل جسم أرض لروحه ، وما ثمّ إلا جسم وروح ، غير أن الأجسام على قسمين : عنصرية ونورية ، وهي أيضا طبيعية ، فربط الله وجود الأرواح بوجود الأجسام ، وبقاء الأجسام ببقاء الأرواح ، فالأرواح تابعة للأجسام ليست الأجسام تابعة للأرواح ، فإذا قبض على الأجسام فقد قبض على الأرواح فإنها هياكلها ، فأخبر أن الكل قبضته ليستخرج ما فيها ، ليعود بذلك عليها ، وهو قوله تعالى : (والله بكل شيء محيط) ومن أحاط بك فقد قبض عليك ، لأنه ليس لك منفذ مع وجود الإحاطة ـ القبضة واليمين ـ نظر العقل بما يقتضيه الوضع ، أنه منع أولا أن يقدر قدره ، لما يسبق إلى العقول

٥٥٨

الضعيفة من التشبيه والتجسيم ، عند ورود الآيات والأخبار التي تعطي من وجه ما من وجوهها ذلك ، ثم قال بعد هذا التنزيه الذي لا يعقله إلا العالمون (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ) عرفنا من وضع اللسان العربي أن يقال : فلان في قبضتي ، يريد أنه تحت حكمي. وإن كان ليس في يدي منه شيء البتة ، ولكن أمري فيه ماض وحكمي عليه قاض ، مثل حكمي على ما ملكته يدي حسا وقبضت عليه ، وكذلك أقول : مالي في قبضتي ، أي في ملكي وأني متمكن في التصرف فيه ، أي لا يمنع نفسه مني ، فإذا صرفته ففي وقت تصرفي فيه ، كان أمكن لي أن أقول : هو في قبضتي ، لتصرفي فيه ، وإن كان عبيدي هم المتصرفون فيه عن إذني ، فلما استحالت الجارحة على الله تعالى ، عدل العقل إلى روح القبضة ومعناها وفائدتها ، وهو ملك ما قبضت عليه في الحال وإن لم يكن لها ، أعني للقابض فيما قبض عليه شيء ، ولكن هو في ملك القبضة قطعا ، فهكذا العالم في قبضة الحق تعالى (وَالْأَرْضُ) في الدار الآخرة تعيين بعض الأملاك ، كما تقول : خادمي في قبضتي ، وإن كان خادمي من جملة من في قبضتي ، فإنما ذكرته اختصاصا لوقوع نازلة «واليمين» عندنا محل التصريف المطلق القوي ، فإن اليسار لا يقوى قوة اليمين ، فكنى باليمين عن التمكن في الطي ، فهي إشارة إلى تمكن القدرة من الفعل ، فوصل إلى إفهام العرب بألفاظ تعرفها وتسرع بالتلقي لها ، قال الشاعر :

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وليس للمجد راية محسوسة ، فلا تتلقاها جارحة يمين ، فكأنه يقول : لو ظهر للمجد راية محسوسة ، لما كان محلها أو حاملها إلا يمين عرابة الأوسي ، أي صفة المجد به قائمة وفيه كاملة ، فلم تزل العرب تطلق ألفاظ الجوارح على ما لا يقبل الجارحة لاشتراك بينهما من طريق المعنى.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨)

لا يزال كلام الله من حين نزوله يتلى حروفا وأصواتا إلى أن يرفع من الصدور ويمحى

٥٥٩

من المصاحف ، فلا يبقى مترجم يقبل نزول القرآن عليه من قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فإذا بقيت صورة جسم الإنسان مثل أجسام الحيوان ، وزالت الصورة الإلهية بالتجريد ، وهي صورة الإنسان الكامل الذي قال فيه الحق [إن الله خلق آدم على صورته] نفخ في الصور ، فصعق من في السموات والأرض إلى يوم النشور ، وهو يوم الظهور ، الذي لا ضد له ، وأما قوله تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ) يحتمل أن تكون الملائكة ، ويحتمل أن تكون الأرواح (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فالصعق يقع على من في السموات والأرض ، بما في ذلك أرواح البشر التي سبق أن فارقت الأجساد ، فيصعق العالم أصحاب السماع (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) من خلقه ومن هذه الأرواح ، لذلك لم يكن الأجل المسمى في قوله تعالى : (وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ) هو الموت ، لأنه استثنى لا يصعقون فلا يموتون ، فإما أن يكونوا على حقائق لا تقبل الموت ، فيكون استثناء منقطعا ، وإما أن يكونوا على مزاج يقبل الموت ولكن لم يسمعوا النفخ ، فلم يدركهم فلم يصعقوا ، فيكون استثناء متصلا (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) فثنّى النفخ ، وتسمى نفخة البعث ونفخة الفزع ، فيفيقون ويفزعون إلى ربهم ، والملائكة ليست لهم آخرة ، فإنهم لا يموتون فيبعثون ، ولكن صعق وإفاقة (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ـ بحث في الصور ـ سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصور : ما هو؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [هو قرن من نور ألقمه إسرافيل] فأخبر أن شكله شكل القرن ، فوصف بالسعة والضيق ، فإن القرن واسع ضيق ، ولتعلم أن الله سبحانه إذا قبض الأرواح من هذه الأجسام الطبيعية ـ حيث كانت ـ والعنصرية ، أودعها صورا جسدية في مجموع هذا القرن النوري ، فجميع ما يدركه الإنسان بعد الموت في البرزخ من الأمور ، إنما يدركه بعين الصورة التي هو فيها في القرن وبنورها ، وهو إدراك حقيقي ، ومن الصور هنالك ما هي مقيدة عن التصرف ، ومنها ما هي مطلقة كأرواح الأنبياء كلهم وأرواح الشهداء ، ومنها ما يكون لها نظر إلى عالم الدنيا في هذه الدار ، ومنها ما يتجلى للنائم في حضرة الخيال التي هي فيه ، وهو الذي تصدق رؤياه أبدا ، وكذلك قوم فرعون يعرضون على النار في تلك الصور غدوة وعشية ، ولا يدخلونها ، فإنهم محبوسون في ذلك القرن وفي تلك الصورة ، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب ، وهو العذاب المحسوس لا المتخيل ، الذي كان لهم في حال موتهم بالعرض ، وكل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه محبوس في صور

٥٦٠