رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(٢١) سورة الأنبياء مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) (١)

اعلم أنه ما أتي على أحد إلا من الغفلة عما يجب عليه من الحقوق ، التي أوجب الشرع عليه أداءها ، فمن أحضرها نصب عينيه وسعى جهده في أدائها ، ثم حالت بينه وبين أدائها موانع تقيم له العذر عند الله ، فقد وفى الأمر حقه ووفى الله بذمته ، ولا حرج عليه ولا جناح ، ولا خاطبه الحق بوجوب حق عليه مع ذلك المانع ، وأما إذا تغافل حتى أوجب له ذلك التغافل الغفلة آخذه الله بها ، فإنه متعمل قاصد فيما يحول بينه وبين ما أوجب الله عليه فعله وتركه ، فما بقي لظهور الساعة؟ ووجود آدم من شروط اقترابها ، فهذا أوان الساعة قد اقترب ، ولو أزال الناس الغفلة لتنبهوا ، ولو تنبهوا لسمعوا خطاب البهائم.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) (٢)

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) ليس الذكر إلا القرآن ، وما هو إلا كلام الله المنعوت بالقدم فالذي جاءهم إنما هو المتكلم به ، (مِنْ رَبِّهِمْ) من سيدهم ومالكهم ومصلحهم ومغذيهم (مُحْدَثٍ) فوصف الحق الذكر بالحدوث وإن كان كلامه قديما ، فحدث عندنا الذكر لا في نفسه تعالى ، والذكر هنا هو المتكلم به لا عين الكلام ، فالكلام موصوف بالقدم لأنه راجع إلى ذات المتكلم إذا أردت كلام الله ، والمتكلم به ما هو عين الكلام ، وقد يكون المتكلم به معنى وقد يكون غير معنى ، ثم إن ذلك المعنى قد يكون قديما وقد يكون حادثا ، فالمتكلم به أيضا لا يلزم قدمه ولا حدوثه إلا من حيث إسماع المخاطب ، فإنه سمع أمرا لم يكن سمعه قبل ذلك فقد حدث عنده ، فعلى الحقيقة إتيان الذكر على من أتى عليه هو حادث بلا شك ، لأن ذلك الإتيان الخاص لم يكن موصوفا بالوجود ، وإن كان الآتي أقدم من إتيانه لا من

١٢١

حيث إتيانه بل من حيث عينه ، فكلام الله قديم من كونه صفة المتكلم به وهو الله ، ووصف بأنه محدث الإتيان والنزول أي حدث عندهم بإتيانه كما تقول حدث عندنا ضيف ، فإنه لا يدل ذلك أنه لم يكن له وجود قبل ذلك ، ولما كان القرآن في حقنا نزل نعت الله الذكر هنا بالحدوث ، لأنه نزل على محدث لأنه حدث عنده ما لم يكن يعلمه ، فهو محدث عنده بلا شك ولا ريب ، فكلام الله المنعوت بالقدم حدث عندهم حين سمعوه فهو محدث الإتيان قديم بالعين ، وجاء في مواد حادثة ما وقع السمع ولا تعلق إلا بها بما دلت عليه هذه الأخبار ، والذي دلت عليه منه ما هو موصوف بالقدم ومنه ما هو موصوف بالحدوث ، فله الحدوث من وجه وله القدم من وجه ، فإن قلت هذا الحادث هل هو محدث في نفسه أو ليس بمحدث ، قلنا اعلم أن كلام الحادث محدث وكلام الله له الحدوث والقدم ، فله عموم الصفة فإن له الإحاطة ولنا التقييد ، فلا يضاف الحدوث إلى كلام الله إلا إذا كتبه الحادث أو تلاه ، ولا يضاف القدم إلى كلام الحادث إلا إذا تكلم به الله عند من أسمعه كلامه ، كموسى عليه‌السلام ومن شاء الله من عباده في الدنيا والآخرة وأهل السعادة وأهل الشقاء ، وإن قلنا في هذا الحادث إنه صفة الحق التي يستحقها قلنا بقدمها بلا شك ، فإنه يتعالى أن تقوم الصفات الحادثات به فكلام الحق قديم في نفسه قديم بالنسبة إليه ، محدث أيضا ، كما قال عند من أنزل عليه من حيث تعلق علمهم به ، فإنه لا يعلم الكون المحدث إلا محدث مثله ، لأنه لا يعلم الشيء إلا بصفته النفسية ، فعلمنا بالله محال ، فما تعلق العلم إلا بمحدث ، ومن وجه آخر يحتمل أن يكون قوله تعالى : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) أي أحدثت بعض هذه الأمور السؤالات ، فهو الذكر المحدث لما حدث وقد كان له الوجود ، وعين المخاطب مفقود (إلا استمعوه وهم يلعبون) فذم من لم يتلقاه بالقبول ، ومن هذه الآية ثبت حدوث القرآن عندهم لا في عينه ، فنعلم أن القرآن مجدد الإنزال على قلوب التالين له دائما أبدا ، لا يتلوه من يتلوه إلا عن تجديد تنزل من الله الحكيم الحميد ، وقلوب التالين لنزوله عرش يستوي عليها في نزوله إذا أنزل ، وبحسب ما يكون عليه القلب المتخذ عرشا لاستواء القرآن عليه من الصفة يظهر القرآن بتلك الصفة في نزوله ، وذلك في حق بعض التالين ، وفي حق بعضهم تكون الصفة للقرآن فيظهر عرش القلب بها عند نزوله عليه ، فقرآن عظيم لعرش عظيم ، وقرآن كريم لعرش كريم ، وقرآن مجيد لعرش مجيد ، فكل قرآن مستو على عرشه

١٢٢

بالصفة الجامعة بينهما ، فلكل قلب قرآن من حيث صفته مجدد الإنزال لا مجدد العين ـ راجع سورة البقرة آية ١٢٢ ـ ولما كان الاسم الرب لا يرد إلا مقيدا فإذا كان حدوث القرآن في الإنزال على القلب من الرب ينزل مقيدا ولا بد ، فيكون عند ذلك قرآنا كريما ، أو قرآنا مجيدا ، أو قرآنا عظيما ، ويكون القلب النازل عليه بمثل ما نزل عليه من الصفة عرشا عظيما ، أو عرشا كريما ، وإذا حدث نزوله من الرحمن على القلب (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) لم يتقيد بإضافة أمر خاص ، فكان القلب له عرشا غير مقيد بصفة خاصة ، بل له مجموع الصفات والأسماء ، فإن الاسم الرحمن له الإطلاق فكما أن الرحمن له الأسماء الحسنى ، لهذا العرش النعوت العلى بمجموعها فإن القرآن إذا نزل على قلب عبد وظهر فيه حكمه واستوى عليه بجميع ما هو عليه مطلقا كان خلقا لهذا القلب ، فما من آية في القرآن إلا ولها حكم في قلب هذا العبد ، لأن القرآن لهذا نزل ، ليحكم لا ليحكم عليه.

(لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧)

أهل الذكر هم أهل القرآن أهل الله وخاصته ، وأهل القرآن هم الذين يعملون به ـ راجع سورة النحل آية ٤٣ ـ.

(وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) (٨)

الصور المحسوسة التي تظهر فيها الروحانيات تسمى أجسادا ، ولا يكون غذاؤها

١٢٣

الطعام ، فالطعام غذاء الأشباح ، أما الجان ولو تشكل فغذاؤه ما يحمله الهواء مما في الأجسام الطبيعية من المطاعم ، والملائكة غذاؤهم ليس كذلك ، فالصور ثلاثة عنصرية ونورية وجسدية ، فالصور الجسدية أحدثها الله بتجل بين اللطائف والصور ، وتتجلى في تلك الصور الجسدية الصور النورية والنارية ظاهرة للعين ، وتتجلى الصور الحسية حاملة للصور المعنوية في هذه الصور الجسدية في النوم وبعد الموت وقبل البعث وهو البرزخ الصوري.

(ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (١٥) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) (١٦)

هو قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً).

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (١٧)

(لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) يعني الولد (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) وما له ظهور إلا من الصاحبة التي هي الأم ، وهي من لدنه فما خرج عن نفسه ، وجاء بحرف لو فدل على الامتناع (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) أي ما كنا فاعلين أن نتخذه من غيرنا ، ومن جعل إن شرطا لا نفيا يكون معنى إن كنا فاعلين أن نتخذ لهوا نتخذه من عندنا لا من عندكم.

(بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا

١٢٤

تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) (١٩)

(وَمَنْ عِنْدَهُ) هم الملائكة المهيمة الكروبيون جلساء الحق تعالى بالذكر ، فإن الله تعالى لما تسمى بالملك رتب العالم ترتيب المملكة ، فجعل له خواص من عباده وهم الملائكة المهيمة.

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠)

تسبيح الملائكة مثلنا في أنفاسنا دوام متوال من غير مشقة نجده في تنفسنا ، بل الآنفاس عين الراحة لنا ، بل لو لاها لمتنا ، فالملائكة لا يلحقهم في تسبيحهم عي ولا نصب ، فإن نسبة التسبيح إليهم نسبة الأنفاس إلينا ، تقتضيها نشأتهم كما تقتضي نشأتنا الأنفاس ، لأن عالم الأرواح ما يتعبهم القيام ولا يدركهم الملل ، لأن النشأة النورية خارجة عن حكم الأركان ، فيسبحون الليل والنهار لا يفترون في غير ليل ولا نهار ، وهذا التسبيح لا يكون إلا عن شهود دائم لا عن تقديس عرضي ، وما عندنا خبر من جانب الحق تعالى في ذلك مروي ولا غير مروي أن هذا المقام ناله أحد من البشر ، وبهذا القدر يتبين فضل الملك على الإنسان في العبادة لكونه لا يفتر ، لأن حقيقة نشأته تعطيه أنه لا يفتر ، فتقديسه ذاتي لأن تسبيحه لا يكون إلا عن حضور مع المسبح ، وليس تسبيحه إلا لمن أوجده ، فهو مقدس الذات عن الغفلات ، فلم تشغله نشأته الطبيعية النورية عن تسبيح خالقه على الدوام ، مع كونهم من حيث نشأتهم يختصمون ، كما أن البشر من حيث نشأته تنام عينه ولا ينام قلبه ، ولم يعط البشر قوة الملك في ذلك لأن الطبيعة يختلف مزاجها في الأشخاص ، وهذا مشهود بالضرورة في عالم العناصر.

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٢٢)

١٢٥

(لَوْ كانَ فِيهِما) يعني في السماء والأرض (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فإنه قد أجمعنا مع المشركين على ثبوته سبحانه ، وخالفونا في الأحدية ، فكان الدليل المنصوب لهم من عند الله على أحديته ، أنه لو كان له شريك في فعله يسمى إلها لكان لا يخلو إما أن يختلفا في كون الشيء أو يتفقا ، فإن اختلفا فالذي ينفذ اقتداره هو الإله ، والذي يعجز ليس بإله ، وإن اتفقا فيقدّر الاختلاف ، فيلزم منه ذلك بعينه ، وتقدير الإمكان في المحال بالفرض ، كوقوع الكائن في أحد الإمكانين على السواء ، وهذا القدر كاف فيما يعطيه عقول الأعراب ، فإنه لا أجهل ممن اتخذ شريكا مع الله. اعلم أن العلم بتوحيد الألوهة لمسمى الله لا توحيد الذات ، فإن الذات لا يصح أن تعلم أصلا فالعلم بتوحيد الله علم دليل فكري لا علم شهود كشفي ، فالعلم بالتوحيد لا يكون ذوقا أبدا ولا تعلق له إلا بالمراتب ، قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) وهذا بطريق فرض المحال ، فوحد الإله ، وما تعرض لذات الله سبحانه ، لأن الفكر فيها ممنوع شرعا (لفسدتا) أي لم يوجدا يعني العالم العلوي وهو السماء ، والسفلي وهو الأرض ، أي لو كان مع الله إله آخر لفسد النظام والأمر ، وقد وجد الصلاح وهو بقاء العالم ، فدل على أن الموجد له لو لم يكن واحدا ما صح وجود العالم ، هذا دليل الحق على أحديته ، وطابق الدليل العقلي في ذلك ، ولو كان غير هذا من الأدلة أدل منه عليه لعدل إليه وجاء به ، وما عرفنا بهذا ولا بالطريق إليه في الدلالة عليه ، فقوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) هذه المقدمة ، والمقدمة الأخرى السماء والأرض وأعني بهما كل ما سوى الله ما فسدتا ، وهذه هي المقدمة الأخرى ، والجامع بين المقدمتين وهو الرابط الفساد ، فانتجتا أحدية المخصص وهو المطلوب ، وإنما قلنا ذلك لأنه لو كان ثم إله زائد على الواحد لم يخل هذا الزائد إما أن يتفقا في الإرادة أو يختلفا ، ولو اتفقا فليس بمحال أن يفرض الخلاف لننظر من تنفذ إرادته منهما ، فإن اختلفا حقيقة أو فرضا في الإرادة فلا يخلو إما أن ينفذ في الممكن حكم إرادتيهما معا وهو محال ، لأن الممكن لا يقبل الضدين وإما أن لا ينفذا ، وإما أن ينفذ حكم إرادة أحدهما دون الآخر ، فإن لم ينفذ حكم إرادتيهما فليس واحد منهما بإله ، وقد وقع الترجيح فلا بد أن يكون أحدهما نافذ الإرادة وقصر الآخر عن تنفيذ إرادته فحصل العجز ، والإله ليس بعاجز ، فالإله من نفذت إرادته وهو الله الواحد لا شريك له ، ولهذا الأصل ما بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا قط ولو كان اثنين إلا قدم أحدهما وجعل الآخر

١٢٦

تبعا ، وإن لم يكن كذلك فسد الأمر والنظام ، فلا يصح إقامة ملك بين مدبرين ، وإن اتحدت إرادتهما ، ولما كان لا يصح عقلا ولا شرعا تدبير ملك بين أميرين متناقضين في أحكامهما وإن فرض اتحاد الإرادة في حق المخلوقين فإن حكم العادة يأبى ذلك والشرع في حق هذين الأميرين ، لم يرد الله تعالى أن يدبر هذا الملك إلا واحد ، وصرح بذلك على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما) شعر :

جمع الأنام على إمام واحد

عين الدليل على الإله الواحد

فجعل الله للناس إماما في الظاهر واحدا يرجع إليه أمر الجميع لإقامة الدين ، وأمر عباده أن لا ينازعوه ، ومن ظهر عليه ونازعه أمرنا الله بقتاله ، لما علم أن منازعته تؤدي إلى فساد في الدين الذي أمرنا الله بإقامته ، وأصله قوله تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) فمن هناك ظهر اتخاذ الإمام وأن يكون واحدا في الزمان ظاهرا بالسيف.

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (٢٣)

لله الحجة البالغة في قوله : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فإنه ما فعل من نفسه ابتداءا وإنما فعل بك في وجودك ما كنت عليه في ثبوتك. ولهذا قال : (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) وقد أطلعهم الله عند ذلك على ما كانوا عليه وأن علمه ما تعلق بهم إلا بحسب ما هم عليه فيعرفون إذا سئلوا أنه تعالى ما حكم فيهم إلا بما كانوا عليه ، وإذا سئلوا وهم يشهدون اعترفوا فيصدق قوله : (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) ولكن أكثر الناس لا يعلمون» فإن سر القدر هو كون العبد مجبورا في اختياره ، ومع أن الله فاعل مختار فإن ذلك من أجل قوله : (وَيَخْتارُ) وقوله : (وَلَوْ شِئْنا) ولا يفعل إلا ما سبق به علمه ، وتبدل العلم محال ، فمن تفطن للقول الإلهي فإن معناه في غاية البيان ولشدة وضوحه خفي ، ومن وقف على هذه المسألة لم يعترض على الله في كل ما يقضيه ويجريه على عباده ، وفيهم ومنهم ، ولهذا قال : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) فلو كنت عاقلا تفهم من الله كفتك هذه الآية في المقصود ، فإن هذه الآية متعلقة بالقهر والجبروت وإثبات الملك ، فإذا ثبتت هذه الأوصاف في قلب العبد استحال عليه طلب العلة ، وكل ما يكون فيه اعتراض ، فإن أفعال الحق لا ينبغي أن تعلل ، فإنه

١٢٧

ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود ، فالأزل لا يقبل السؤال عن العلل ، ولا يصدر ذلك إلا من جاهل بالله ـ الوجه الثاني ـ (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) في عباده مثل المصادرة إذا لم تقع عن حساب أو تجاوز في الأخذ حد الاستحقاق ، وكذا القهر والإرعاد والإبراق والأخذ والرحمة والعفو والتجاوز والانتقام والحساب (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) للأخذ والتجاوز بعد التقرير والحساب والسئوال ، فلله الحجة البالغة ـ تحقيق ـ من احتج عليك بما سبق فقد حاجك بحق ، ومع هذا فهي حجة لا تنفع قائلها ، ولا تعصم حاملها ، ومع كونها ما نفعت سمعت وقيل بها ، وإن عدل في الشرع عن مذهبها ، فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولكن أكثر الناس لا يشعرون.

(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) (٢٥)

هذا هو التوحيد التاسع عشر في القرآن وهو توحيد الاقتدا والتعريف ، وهو توحيد الأناية ، وما ثم من الأعمال السارية في كل نبوة إلا إقامة الدين والاجتماع عليه ، وكلمة التوحيد ، فقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) وبوب البخاري على هذا ما جاء أن الأنبياء دينهم واحد وليس إلا التوحيد وإقامة الدين والعبادة ، ففي هذا اجتمعت الأنبياء عليهم‌السلام ، واختصاص هذا الوحي بالأناية (أنا) دل على أنه كلام إلهي بحذف الوسائط ، فما أوحى إليهم منهم ، فإنه لا يقول (أنا) إلا من هو متكلم ، فإن قيل فقد قال إنه ينزل بمثل هذا الملائكة ، فهذا لا يبعد أن تأخذه الرسل من وجهين إذا نزلت به الملائكة يكون على الحكاية ، وإذا ورد مثل هذا معرى عن القرائن أو النص عليه حمل على ما هو الأصل عليه ، فما يقول أنا إلا المتكلم وهنا يقول الحق لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليه وسلم معرضا كذا فكن أنت مثل من سبقك من الرسل ، وجاء بالعبادة ولم يذكر الأعمال المعينة ، فإنه قال : (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وهي الأعمال التي ينتهي فيها مدة الحكم المعبر عنه بالنسخ.

١٢٨

(وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢٨)

قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) في الشفاعة يوم القيامة ، فأذن تعالى في السؤال وهو لا يأذن وفي نفسه أن لا يقبل سؤال السائل.

(وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢٩)

اعلم أنه ما في علمي أن أحدا يقع منه هذا القول وهو يجوع ويمرض ويغوط وأمثال هذا إلا فرعون لما استخف قومه ، وأما قوله : (مِنْ دُونِهِ) أي نزولا عن المرتبة التي لله ، وهذا مثل قولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فهو وإن كان أنزل منه في الرتبة فهو عنده أنه إله ، وقد أثبت جهله بقوله من دونه فإنه أثبت الغير بقوله من دونه ، فأخبر الله أن جزاء هذا القائل يكون غاية البعد لأن من قال : (إِنِّي إِلهٌ) قد جعل نفسه في غاية القرب فكان جزاؤه غاية البعد عن سعادته في جهنم ، فينزل إلى قعرها ، وجهنم من جهنام يقال بئر جهنام إذا كانت بعيدة القعر ، وهنا تنبيه حيث قرن هذا الحال بالقول لا بالعلم والحسبان ، فإن قال قائل ما نظن أنه قد علم أن الأمر كذا فتخيل أن قوله مطابق لعلمه وهذا يستحيل وقوعه من أحد علما لعلمه بذاته وافتقاره وقصوره في نفسه ـ تحقيق ـ كما أن لكل أجل كتاب فلكل عمل جزاء ، والقول عمل فله جزاء ، إن الله عند لسان كل قائل ، وليس بعد الخواطر أسرع عملا منه ، أعني من اللسان ، فالقول أسرع الأعمال ، ولا يتولى حساب صاحبه إلا أسرع الحاسبين ، لأن متولي الحساب على الأعمال من الأسماء الإلهية ما يناسب ذلك.

(أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا

١٢٩

مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) (٣٠)

(كانَتا رَتْقاً) ـ الوجه الأول ـ أي غير متميزة (فَفَتَقْناهُما) أي ميزنا بعضها عن بعض ليميز أعيانها ففتق الأرض بما أخرج فيها من معدن ونبات وحيوان ، فكان إيجادا عند دوران الأفلاك بعد تقدير ـ الوجه الثاني ـ اعلم أن الله تعالى قد جعل هذه الأرض بعد ما كانت رتقا كالجسم الواحد كما كانت السماء ، ففتق رتقها وجعلها سبعة أطباق كما فعل بالسموات ، فقوله تعالى : (كانَتا رَتْقاً) أي كل واحدة منهما مرتوقة ، (فَفَتَقْناهُما) يعني فصل بعضها من بعض حتى تميزت كل واحدة عن صاحبتها ، كما قال : (خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) أي فصل كل سماء على حدة بعد ما كانت رتقا ، إذ كانت دخانا فإن الحق استوى إلى السماء وكانت واحدة ، ففتقها وسواها سبع سموات طباقا ، فدارت بأفلاكها وفتق الأرض إلى سبع أرضين ، سماء أولى لأرض أولى ، وثانية لثانية إلى سبع ، ولما كان الأصل في وجودها الماء لهذا قال : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) تنسب عندنا الحياة لكل حي بحسب حقيقة المنعوت بها ، وما في العالم إلا حي ، لا كمن لا يرى الحياة إلا في غير الجماد والنامي ، فالجماد في نظرك هو حي في نفس الأمر ، وأما الموت فهو مفارقة حي مدبّر لحي مدبّر ، فالمدبر والمدبر حي ، والمفارقة نسبة عدمية لا وجودية ، إنما هو عزل عن ولاية ، فكل شيء حي ، فإن كل شيء مسبح لله بحمده ، وهذا الماء هو الماء الذي هو أصل في وجود كل شيء وبه حياته ، ولحياته وصف بالتسبيح ، وهو غير هذا الماء المركب البسيط المعه د ، فالماء أصل الحياة في الأشياء ، فهو سر الحياة ، حتى العرش لما خلقه الله ما كان إلا على الماء ، فسرت الحياة فيه منه ، ومن هذا الماء كانت حياة الجان وهم لا يشعرون ، وحياة العرش وما حوى عليه من المخلوقات ، فإن الله يقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) فجاء بالنكرة ، ولا يسبح إلا حي ، وأما الماء العنصري فأصله من نهر الحياة الطبيعية الذي فوق الأركان ، وهو الذي ينغمس فيه جبريل كل يوم غمسة ، وينغمس فيه أهل النار إذا خرجوا منها بالشفاعة ، فهو الماء الذي قال تعالى فيه : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) ثم سرت منه الحياة في الماء العنصري ، وأما في عالم الاستحالة فاعلم أن العرش الملك ، وما تم الملك وكمل إلا في عالم الاستحالة ، وهو عالم الأركان الذي أصله

١٣٠

الماء ، والماء هو الركن الأعظم من العناصر الأربعة وهي الماء والهواء والنار والتراب ، ولو لا عالم الاستحالة ما كان الله يصف نفسه بأنه كل يوم في شأن ، فالعالم يستحيل والحق في شأن حفظ وجود أعيانه يمده بما به بقاء عينه من الإيجاد ، فهو الشأن الذي هو الحق عليه ، فلما كان الماء أصلا لكل حي قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) فالماء أصل العناصر والاسطقسات (١) ، وهو أصل لكل حياة عرضية لا ذاتية ، فبالماء حياة الأحياء لما فيه من سر الإحياء ، فإن الله جعل الماء رزقا لكل حي لأنه بارد رطب ، والعالم في عينه غلبت عليه الحرارة واليبوسة ، وسبب ذلك أن العالم مقبوض عليه قبضا لا يتمكن له الانفكاك عنه ، لأنه قبض إلهي واجب على كل ممكن ، فلا يكون إلا هكذا ، والانقباض في المقبوض يبس بلا شك ، فغلب عليه اليبس ، فهو يطلب بذاته لغلبة اليبس ما يلين به ويرطب ، فتراه محتاجا من حيث يبسه إلى الرطوبة ، وأما احتياجه إلى البرودة لأن العالم ممكن لا يصح له أن يكون مطلق الوجود يفعل ما يريد ، وهو يريد هذه المرتبة ولا ينال مطلوبه ، فيدركه الغبن فيحمى ، فتغلب الحرارة عليه فيتأذى ، فيخاف الانعدام فيجنح إلى طلب البرودة ليسكن بها ما يجده من ألم الحرارة ويحيي بها نفسه ، ويبس القبض الذي هو عليه يطلب الرطوبة ، فنظر الاسم الرزاق في غذاء يحيا به يكون باردا ، ليقابل الحرارة وسلطانها ويكون رطبا فيقابل به سلطان اليبس ، فوجد الماء باردا رطبا فجعل منه كل شيء حي في كل صنف صنف بما يليق به ، فكل شيء من الماء عينه ومن الهواء حياته ، حتى حيوان البحر الذي يموت إذا فارق الماء ما حياته إلا بالهواء الذي في الماء ، لأنه مركب ، فيقبل الهواء بنسبة خاصة ، وهو أن يمتزج بالماء امتزاجا لا يسمى به هواء ، كما أن الهواء المركب فيه الماء وبه يكون مركبا ، لكن امتزاج الماء به امتزاجا خاصا لا يسمى به ماء ، فإذا كانت حياة الحيوان بهواء الماء مات عند فقده ذلك الهواء الخاص ، وكذلك حيوان البر إذا غرق في الماء مات لأن حياته بالهواء الذي مازجه الماء ، لا بالماء الذي مازجه الهواء ، وثم حيوان بري بحري ، وهو حيوان شامل برزخي ، له نسبة إلى قبول الهوائين ، فيحيى بالهواء كما يحيى البري

__________________

(١) الأسطقس هو الأصل بلغة اليونان وكذان العنصر بلغة العرب إلا أن إطلاق الاسطقسات عليها باعتبار أن المركبات تتألف منها وإطلاق العناصر باعتبار أنها تنحل إليها فلوحظ في إطلاق لفظ الأسطقس معنى الكون وفي إطلاق لفظ العنصر معنى الفساد (كتاب التعريفات للجرجاني) ويقال إن الاسطقسات الطبائع الأربعة.

١٣١

ويحيى في الماء كما يحيى البحري ، وبالهواء تكون حياته في الموضعين ، والماء أصله من كونه حيا ، ثم قال تعالى : (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) أي يصدقون بذلك وبما يرونه من حياة الأرض بالمطر ، وحياة الأشجار بالسقي ، حتى الهواء إن لم يكن فيه مائية وإلا أحرق ، وإنما قرن به الإيمان لجواز خلافه عقلا ، الذي هو ضد الواقع (أَفَلا يُؤْمِنُونَ) وينظرون في قولنا : (مِنَ الْماءِ) فيعلمون طبع الماء وأثره ، وفيمن يؤثر وما يدفع به ، فيعلم أن العالم موصوف بنقيض ما يقتضيه الماء فيحكم عليه به ، فإن الواقع في العالم غلبة الحرارة واليبوسة عليه لما ذكرناه ، فثار عليه سلطان الحرارة واليبس ، فلم تكن حياة إلا ببارد رطب فكان الماء.

(وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) (٣١)

لما رأت الملائكة ميد الأرض ، وقد حصل لهم التعريف من الله بأنها محل خلق يخلقون منها على نشأة مخصوصة ، لا يمكن معها التصرف إلا على ساكن فقالت يا ربنا كيف استقرار عبادك على هذه الأرض ، فأبدى لهم تجليا أصعقهم به ، وخلق من الأبخرة الغليظة المتراكمة الكثيفة الصاعدة من الأرض الجبال ، فقال بها عليها فسكن ميد الأرض ، وذهبت تلك الحركة التي لا يكون معها الاستقرار ، ثم أفاق الملأ الأعلى من صعقتهم ، فرأوا من قدرة الله ما هالهم ، فقالوا ربنا هل خلقت شيئا أشد من هذه الجبال ، فقال نعم الحديد ، فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا أشد من الحديد ، فقال نعم النار ، فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا أشد من النار ، قال نعم الماء ، فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا أشد من الماء ، قال نعم الريح ، فقالوا ربنا فهل خلقت شيئا أشد من الريح ، قال نعم الإنسان يتصدق بصدقة فلا تعرف شماله ما تنفق يمينه ، فهذا هو الذي ملك الهواء ، فمن ملك هواه فهو أشد من الهواء ، وهو الذي ينبغي أن يقال له إنسان ، ومن لم يحكم هذا المقام فهو حيوان صورته صورة إنسان لا غير ، فقالت سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إذ تكلمنا بما لا ينبغي لنا أن نتكلم به فإنك أنت العليم القدير.

(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي

١٣٢

خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (٣٣)

الليل والنهار فصلا اليوم ، فمن طلوع الشمس إلى غروبها يسمى نهارا ، ومن غروب الشمس إلى طلوعها يسمى ليلا ، وهذه العين المفصلة تسمى يوما ، وأظهر هذا اليوم وجود الحركة الكبرى ، وما في الوجود العيني إلا وجود المتحرك لا غير ، وما هو عين الزمان الذي تطلقه العرب وتريد به الليل والنهار ، فإن الزمان أمر متوهم لا حقيقة له ، فباختلاف الحركات الفلكية حدث زمان الليل والنهار ، وتعينت السنون والشهور والفصول ، وهذه المعبر عنها بالأزمان ، فالزمان واليوم والليل وفصول السنة كلها أمور عدمية نسبية لا وجود لها في الأعيان ، وكان التوجه من الحق على إيجاد الشمس يخالف توجهه تعالى على إيجاد القمر ، فلو كان التوجه واحدا عليهما لما اختلفت الحركات ، وهي مختلفة ، فدل أن التوجه الذي حرك القمر في فلكه ما هو التوجه الذي حرك الشمس ولا غيرها من الكواكب والأفلاك ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت السرعة أو الإبطاء في الكل على السواء ، لذلك قال تعالى : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) وبذلك تتميز آثارها ، فالآثار بلا شك مختلفة ، والفلك لا يكون إلا مستديرا. واعلم أن أصغر الأيام هي التي نعدها حركة الفلك المحيط ، الذي يظهر في يومه الليل والنهار ، فأقصر يوم عند العرب وهو هذا لأكبر فلك ، وذلك لحكمه على ما في جوفه من الأفلاك ، إذ كانت حركة ما دونه في الليل والنهار حركة قسرية له ، قهر بها سائر الأفلاك التي يحيط بها ، ولكل فلك حركة طبيعية تكون له مع الحركة القسرية ، فكل فلك دونه ذو حركتين في وقت واحد ، حركة طبيعية وحركة قسرية ، ولكل حركة طبيعية في كل فلك يوم مخصوص ، يعد مقداره بالأيام الحادثة عن الفلك المحيط المعبر عنها بقوله : (مِمَّا تَعُدُّونَ) وكلها تقطع في الفلك المحيط ، فكلما قطعته على الكمال كان يوما لها ، ويدور الدور ، فأصغر الأيام منها هو ثمانية وعشرون يوما مما تعدون ، وهو مقدار قطع حركة القمر في الفلك المحيط.

(وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥)

١٣٣

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) وهو لقاء لله خاص عينه الحق ، إذ هو المشهود في كل حال ، ولكن لما عين ما شاء من المواطن وجعله محلا للقاء مخصوص رغبنا فيه ، ولا نناله إلا بالخروج من الدار التي تنافي هذا اللقاء وهي الدار الدنيا ، خيّر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين البقاء في الدنيا والانتقال إلى الأخرى فقال الرفيق الأعلى ، وورد في الخبر أنه من أحب لقاء الله يعني بالموت أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، فلقيه في الموت بما يكرهه ، وهو أن حجبه عنه وتجلى لمن أحب لقاءه من عباده. ولقاء الحق بالموت له طعم لا يكون في لقائه بالحياة الدنيا ، فالموت فراغ لأرواحنا من تدبير أجسامنا ، فلها ذوق لا يكون لها إلا بالخروج من دار الدنيا بالموت لا بالحال ، وهو أن يفارق هذا الهيكل الذي وقعت له به هذه الألفة من حين ولد وظهر به ، بل كان السبب في ظهوره ، ففرق الحق بينه وبين هذا الجسم لما ثبت من العلاقة بينهما ، وهو من حال الغيرة الإلهية على عبيده لحبه لهم ، فلا يريد أن يكون بينهم وبين غيره علاقة ، فخلق الموت وابتلاهم به تمحيصا لدعواهم في محبته فقال : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) وما فتن الله من فتن من عباده إلا بحكم ما ظهر عليهم من الدعاوى فيما يتصرفون فيه أن ذلك الفعل لهم حقيقة أو كسبا ، فلو أطلعهم الله على اليد الإلهية الخالقة ورأوا نفوسهم آلات صناعية لا يمكن وقوع غير ذلك لما اختبرهم الله ، فما اختبرهم إلا ليعثروا على مثل هذا العلم فيعصموا من الدعوى فيسعدوا ، لذا قال : (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

(وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) (٣٧)

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) هو قوله تعالى : (فخلق الإنسان عجولا) ولو رام غير العجلة ما استطاع ، فإن في طبعه الحركة والانتقال لأنها أصله ، فإن خروجه من العدم إلى الوجود نقلة ، فهو في أصل نشأته ووجوده متحرك.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ

١٣٤

لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُون (٤١) قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِم مُّعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُم مِّن دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلَا هُم مِّنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاء إِذَا مَا يُنذَرُونَ (٤٥) وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (٤٧)

يأتي الله بأعمال بني آدم مع كونها أعراضا صورا قائمة ، وهو تجسد المعاني ، توضع في الموازين لإقامة القسط ، وجعل الله الموازين يوم القيامة كثيرة ليزن بكل ميزان ما وضع له ، فإن الشرع مثلا قد تعبد كل مجتهد بما أداه إليه اجتهاده ، وحرم عليه العدول عن دليله ، فكل مجتهد متعبد بما أعطاه اجتهاده ، فتوضع الموازين لوزن الأعمال ، فيجعل فيها الكتب بما عملوا ، وآخر ما يوضع في الميزان قول الإنسان الحمد لله ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الحمد لله تملأ الميزان] فإنه يلقى في الميزان جميع أعمال العباد إلا كلمة لا إله إلا الله فيبقى من ملئه تحميدة فتجعل فيه فيمتلىء بها ، وسبب ذلك أن كل عمل خير له عمل مقابل من ضده ، فيجعل هذا الخير في موازنته ولا يقابل لا إله إلا الله إلا الشرك ، ولا يجتمع توحيد وشرك

١٣٥

في ميزان أحد ، لأنه إن قال لا إله إلا الله معتقدا لها فما أشرك ، وإن أشرك فما اعتقد لا إله إلا الله ، فلما لم يصح الجمع بينهما لم يكن لكلمة لا إله إلا الله ما يعاد لها في الكفة الأخرى ولا يرجحها شيء ، فلهذا لا تدخل الميزان ، وأما المشركون فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ، أي لا قدر لهم ولا يوزن لهم عمل ولا من هو من أمثالهم ممن كذب بلقاء الله وكفر بآياته ، فإن أعمال خير المشرك محبوطة ، فلا يكون لشرهم ما يوازنه ، وأما صاحب السجلات فإنه شخص لم يعمل خيرا قط ، إلا أنه تلفظ يوما بكلمة لا إله إلا الله مخلصا فتوضع له في مقابلة التسعة والتسعين سجلا من أعمال الشر ، كل سجل منها كما بين المغرب والمشرق ، وذلك لأنه ما له عمل خير غيرها ، فترجح كفتها بالجميع وتطيش السجلات فيتعجب من ذلك ، ولا يدخل الموازين إلا أعمال الجوارح شرها وخيرها ، السمع والبصر واللسان واليد والبطن والفرج والرجل ، وأما الأعمال الباطنة فلا تدخل الميزان المحسوس ، لكن يقام فيها العدل وهو الميزان الحكمي المعنوي ، فلهذا توزن الأعمال من حيث ما هي مكتوبة (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) يعني من العمل (أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) (٤٨)

الضياء ما يدرك به وما يدرك منه.

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) (٤٩)

(الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) اعلم أيدك الله أن عبادة الله بالغيب عين عبادته بالشهادة ، فإن الإنسان وكل عابد لا يصح أن يعبد معبوده إلا عن شهود ، إما بعقل أو ببصر أو بصيرة يشهده العابد بها فيعبده ، وإلا فلا تصح له عبادة ، فما عبد إلا مشهودا لا غائبا ، فإن أعلمه بتجليه في الصور للبصر حتى يميزه عبده أيضا على الشهود البصري ، ولا يكون ذلك إلا بعد أن يراه بعين بصيرته ، فمن جمع بين البصيرة والبصر فقد كملت عبادته ظاهرا وباطنا ، ومن قال بحلوله في الصور فذلك جاهل بالأمرين جميعا ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعبد الله كأنك تراه ، فأمره بالاستحضار ، فإنه يعلم أنه لا يستحضر إلا من يقبل الحضور ،

١٣٦

فاستحضار العبد ربه في العبادة عين حضور المعبود له (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) حتى إن كل دابة تصغي يوم الجمعة شفقا من الساعة.

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (٥٠)

لما ذكر الحق تعالى في القرآن قصص الأولين والآخرين ، وشرائع المتقدمين ومنازلهم ومراتبهم وسابقتهم ومآلهم جعله ذكرا وسماه به.

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) (٥٨)

ـ إشارة ـ اجعل الأصنام جذاذا ، واعتصم بالله عياذا ، فلا تستند إلى غير الله تعالى ، بل إلى الله وحده رب الأرباب ، (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) ما ترك إبراهيم عليه‌السلام الكبير إلا ليقيم الحجة على خصومه.

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) (٦٠)

أطلق الله على ألسنة المشركين فتوة إبراهيم لأنه قام في الله حق القيام ، ومن فتوته عليه

١٣٧

السلام أنه جاد بنفسه على النار إيثارا لتوحيد ربه ، (راجع الفتوة في سورة الكهف آية ١٣) ومن صفات الفتيان والفتوة : الفتى ابن الوقت ، مخافة المقت ، لا يتقيد بالزمان ، كما لا يحصره المكان ، لا تصحب من إذا قلت له : باسم الله قال لك أين تذهب؟ ليس للفتى من الزمان ، إلا الآن ، لا يتقيد بما هو عدم ، بل له الوجود الأدوم ، زمان الحال ، لا ينقال ، لا فتى إلا عليّ ، لأنه الوصي والولي ، الفتيان رؤساء المكانة والمكان ، لهم الحجة والسلطان ، والدليل والبرهان ، عليهم قام عماد الأمر ، وهم على قدم حذيفة في علم السر ، لهم التمييز والنقد ، وهم أهل الحل والعقد ، لا ناقض لما أبرموه ، ولا مبرم لما نقضوه ، ولا مطنب لما قوضوه ، ولا مقوض لما طنبوه ، إن أوجزوا أعجزوا ، وإن أسهبوا أتعبوا ، إليهم الاستناد وعليهم الاعتماد ، الفتى هو صاحب الفتوح ، ما عنده جموح ، سهل الهوى والانقياد ، ومع هذا فهو مع من زاد بزاد وبغير زاد ، الفتى من لا يزال للعلم طالبا ، ومن الجهل هاربا.

(قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٦٣)

ـ الوجه الأول ـ (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) أحالهم على الكبير من الأصنام على نية طلب السلامة منهم ، فإنه قال لهم : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) يريد توبيخهم ، ولهذا رجعوا إلى أنفسهم وهو قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) في كل حال ، وإنما سمى ذلك كذبا لإضافة الفعل في عالم الألفاظ إلى كبيرهم ، والكبير هو الله على الحقيقة ، والله هو الفاعل المكسر للأصنام بيد إبراهيم ، فإنه يده التي يبطش بها كذا أخبر عن نفسه ، فكسر هذه الأصنام التي زعموا أنها آلهة ـ الوجه الثاني ـ لما كان الله تعالى هو الكبير بما نصبه المشركون من الآلهة لهذا قال الخليل في معرض الحجة على قومه مع اعتقاده الصحيح أن الله هو الذي كسر الأصنام المتخذة آلهة ، حتى جعلها جذاذا مع دعوى عابديها بقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، فاعترفوا أن ثم إلها كبيرا أكبر من هؤلاء ، ونسبوا الكبر له تعالى على آلهتهم ، فقال إبراهيم عليه‌السلام : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) فجاء بلفظ الكبير

١٣٨

لأنهم قائلون بكبرياء الحق على آلهتهم التي اتخذوها ، فهذا الذي قاله إبراهيم عليه‌السلام صحيح في عقد إبراهيم عليه‌السلام ، وإنما أخطأ المشركون حيث لم يفهموا عن إبراهيم ما أراد بقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، فكان قصد إبراهيم عليه‌السلام بكبيرهم الله تعالى وإقامة الحجة عليهم ، وهو موجود في الاعتقادين ، وكونهم آلهة ذلك على زعمهم ، والوقف عليه حسن تام ، وابتدأ إبراهيم بقوله : (هذا) إشارة ابتداء وخبره محذوف يدل عليه قوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ) ، أو «هذا قولي» فالخبر محذوف يدل عليه مساق القصة ، (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) إقامة الحجة عليهم منهم ، فهم يخبرونكم ، ولو نطقت الأصنام في ذلك الوقت لاعترفوا بأنهم عبيد ، وأن الله هو الكبير العلي العظيم ، ولنسبت الفعل إلى الله لا إلى إبراهيم ، فإنه مقرر أن الجماد والنبات والحيوان قد فطرهم الله على معرفته وتسبيحه بحمده ، فلا يرون فاعلا إلا الله ، ومن كان هذا فطرته كيف ينسب الفعل لغير الله ، فكان إبراهيم على بينة من ربه في الأصنام أنهم لو نطقوا لأضافوا الفعل إلى الله ، لأنه ما قال لهم سلوهم إلا في معرض الدلالة ، سواء نطقوا أو سكتوا ، فإن لم ينطقوا يقول لهم : «لم تعبدون ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنكم من الله شيئا» ولا عن نفسه ، ولو نطقوا لقالوا إن الله قطعنا قطعا ، لا يتمكن في الدلالة أن تقول الأصنام غير هذا ، فإنها لو قالت الصنم الكبير فعل ذلك بنا لكذبت ، ويكون تقريرا من الله بكفرهم وردا على إبراهيم عليه‌السلام ، فإن الكبير ما قطعهم جذاذا ، ولو قالوا في إبراهيم إنه قطعنا لصدقوا في الإضافة إلى إبراهيم ولا تلزم الدلالة بنطقهم على وحدانية الله ببقاء الكبير ، فيبطل كون إبراهيم قصد الدلالة ، فلم تقع ولم يصدق (وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) فكانت له الدلالة في نطقهم لو نطقوا كما قررنا ، وفي عدم نطقهم لو لم ينطقوا ، ومثل هذا ينبغي أن يكون قصد الأنبياء عليهم‌السلام ، فهم العلماء صلوات الله عليهم ، ولهذا قال تعالى :

(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) (٦٥)

فقال الله لمثل هؤلاء (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) فالذين عبدوا من ينطق ويدعي الألوهة

١٣٩

أقرب حالا من عبادة من لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا ، وهذا قول إبراهيم لأبيه ، وهو الذي قال فيه تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) وأبوه من قومه فقول الخليل عليه‌السلام (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) من الحجة التي أعطاه الله ، ومنها.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٦٧)

هذه الآية تدل على أن إبراهيم عليه‌السلام نبه قومه على أن العلم بالله من كونه إلها من مدركات العقول ، فما أحالهم إلا على أمر يصح منه أن ينظر فيعلم بنظره ما هو الأمر عليه.

(قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) (٦٨)

ومن فتوة إبراهيم عليه‌السلام أن باع نفسه في حق أحدية خالقه لا في حق خالقه ، لأن الشريك ما ينفي وجود الخالق ، وإنما يتوجه على نفي الأحدية.

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩)

الأعيان لا تنقلب ، والحقائق لا تتبدل ، فالنار تحرق بحقيقتها لا بصورتها ، فالخطاب للصورة وهي الجمرات ، وأجرام الجمرات محرقة بالنار ، فلما قامت بها النار سميت نارا ، فتقبل البرد كما قبلت الحرارة ، فخاطبها الحق بقوله : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) وهو أجره الذي آتاه الله في الدنيا ، فنجاه الله من النار وجعلها عليه بردا وسلاما ، وهي في الظاهر نار ولكن ما أثرت إحراقا في جسم إبراهيم ولا وجد ألما لها ، فليس العجب من ورد في بستان ، وإنما العجب من ورد في قعر النيران ، إبراهيم الخليل عليه‌السلام في وسط النار يتنعم ويلتذ ، ولو لم يكن عليه‌السلام إلا في حمايتها إياه من الوصول إليه ، فالأعداء يرونها في أعينهم نارا تأجج ، وهو يجدها بأمر الله إياها بردا وسلاما عليه ، فأعداؤه ينظرون إليه ولا يقدرون على الهجوم عليه.

١٤٠