رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان منصفا لأنه علم أن مستند الروم لمن استند إليه أهل الحق ، لأنهم أهل كتاب يؤمنون به ، لكنهم طرأت عليهم شبهة من تحريف أئمتهم ما أنزل عليهم حالت بينهم وبين الإقرار والإيمان بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) (٣)

وفي قراءة غلبت بفتح الغين واللام (سَيَغْلِبُونَ) بضم الياء وفتح اللام ، وهذه القراءة تشير إلى زمان فتح بيت المقدس ، حيث كان ظهور المسلمين في أخذ حج الكفار عام ثلاث وثمانين وخمسمائة هجرية ، أما الإشارة إلى زمان فتح بيت المقدس فهو يعرف من عدد حروف (الم) وهو علم الجمّل ، وذلك بأن تأخذ عدد حروف (الم) بالجزم الصغير ، فتكون ثمانية فتجمعها إلى ثمانية (في بضع سنين) فتكون ستة عشر ، فتزيل الواحد الذي للألف للأس ، فيبقى خمسة عشر ، فتمسكها عندك ، ثم ترجع إلى العمل في ذلك بالجمل الكبير وهو الجزم ، فتضرب ثمانية البضع في أحد وسبعين ، واجعل ذلك كله سنين ، يخرج لك من الضرب خمسمائة وثمانية وستون ، فتضيف إليها الخمسة عشر التي رفعتها ، فتصير ثلاثة وثمانين وخمسمائة سنة ، وهو زمان فتح بيت المقدس ، وكان أبو الحكم عبد السلام ابن برجان قد ذكر ذلك في كتاب له ، فكان فتح بيت المقدس كما قال :

(فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (٤)

(لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) القبل والبعد من صيغ الزمان ، فلا بد أن يكون الزمان أمرا متوهما لا وجودا ، ولهذا أطلقه الحق على نفسه ، ولو كان الزمان أمرا وجوديا في نفسه ما صح تنزيه الحق عن التقييد ، إذ كان حكم الزمان يقيده ، فعرفنا أن هذه الصيغ ما تحتها أمر وجودي فالزمان هو ما يدخل الأزل من التقديرات الزمانية فيه ، بتعيين توجهات الحق لإيجاد الكائنات في الأزمان المختلفات التي يصحبها القبل والبعد والآن. (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)

(بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ

٣٤١

وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧)

(يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فعملوا بما علموا (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) فلم يعملوا لها ، فإنه أغفلهم عنها فنسوا آخرتهم وتركوا العمل لها ، ومنهم الفقهاء الذين يعلمون ولا يعملون ، ويقولون بالظاهر ولا يعرفون الباطن ، فإن الرجل الكامل هو الذي أحكم العلم والعمل ، فجمع بين الظاهر والباطن.

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨)

اعلم أن الموجودات هي كلمات الله التي لا تنفد ، قال تعالى في وجود عيسى عليه‌السلام إنه كلمته ألقاها إلى مريم وهو عيسى ، واعلم أن الله سبحانه ما استوى على عرشه إلا بالاسم الرحمن ، إعلاما بذلك أنه ما أراد بالإيجاد إلا الرحمة بالموجودين ، ولم يذكر غيره من الأسماء ، وذكر الاستواء على أعظم المخلوقات إحاطة من عالم الأجسام ، ولما ذكر الله عن نفسه أن له كلاما ذكر أن له نفسا من الاسم الرحمن الذي به استوى على العرش ، فلما علمنا أن له نفسا وأن له كلاما وأن الموجودات كلماته ، علمنا أن الله ما أعلمنا بذلك إلا لنقف على حقائق الأمور بأنا على الصورة (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) فنقبل جميع ما تنسبه الألوهة إليها على ألسنة رسلها وكتبها المنزلة ، فلما عرفنا الله أنه باطن وظاهر ، وله نفس وكلمة وكلمات ، نظرنا ما ظهر من ذلك ، ولم ينسب إلى ذاته النفس وما يحدث عنه؟ فقلنا : عين النفس هو العماء ، فهو نفس المتنفس المقصود بالعبارة عنه ما يتنزل منزلة الريح ، وإنما يتنزل منزلة البخار ، فالنفس هذا حقيقته حيث كان ، فكان عنه العماء ، فكان ربنا قبل خلق الخلق في عماء ، وهو النفس الإلهي ، وأبرز في هذا النفس الإلهي افتتاح الوجود بالكون ، إذ كان ولا شيء معه ، فأوجد العالم وفتح صورته في العماء ، وهو النفس الذي

٣٤٢

هو الحق المخلوق به مراتب العالم وأعيانه ، وأبان منازله ، فجعل منه عالم الأجسام وعالم الأرواح ، وجعل في النفس الإلهي علة الإيجاد من جانب الرحمة بالخلق ، ليخرجهم من شر العدم إلى خير الوجود ، فلو تفكر الإنسان في نفسه وفي الصورة التي خلق عليها ، وكونه ذا نفس وحروف وكلمات ، ذا ظاهر وباطن ، وتفكّر في كل ما يتعلق بعلم الحروف وما يتكون عنها من الكلمات ، لعلم أنه الحق وأن الإنسان الكامل أقامه الحق برزخا بين الحق والعالم ، فيظهر بالأسماء الإلهية فيكون حقا ، ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خلقا ، وكما أن الحضرة الإلهية على ثلاث مراتب : باطن وظاهر ، ووسط وهو ما يتميز به الظاهر عن الباطن وينفصل عنه ، وهو البرزخ فله وجه إلى الباطن ووجه إلى الظاهر ، كذلك جعل الإنسان على ثلاث مراتب ، عقل وحس وهما طرفان ، وخيال وهو البرزخ الوسط بين المعنى والحس (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) فيروا الإنسان الكامل المختصر الظاهر بحقائق الكون كله حديثه وقديمه (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) الثلاث مراتب (إِلَّا بِالْحَقِّ) ـ الوجه الأول ـ وهو نفس الرحمن ؛ ـ الوجه الثاني ـ باعتبار الإنسان هو المخلوق على الصورة الإلهية ، فيكون الإنسان الكامل هو الحق المخلوق به ، أي المخلوق بسببه العالم ، فإن الإنسان أكمل الموجودات وهو الغاية ، ولما كانت الغاية هي المطلوبة بالخلق المتقدم عليها ، فما خلق ما تقدم عليها إلا لأجلها وظهور عينها ، ولو لاها ما ظهر ما تقدمها ، فالغاية هو الأمر المخلوق بسببه ما تقدم من أسباب ظهوره ، وهو الإنسان الكامل ؛ وإنما قلنا : الكامل لأن اسم الإنسان قد يطلق على المشبه به في الصورة ، وهو على الحقيقة حيوان في شكل إنسان ، ففي الإنسان الكامل قوة كل موجود في العالم وله جميع المراتب ، ولهذا اختص ، ومده بالصورة فجمع بين الحقائق الإلهية وهي الأسماء وبين حقائق العالم ، فإنه آخر موجود ، وما انته لوجوده النفس الرحماني حتى جاء معه بقوة مراتب العالم كله ، فيظهر بالإنسان ما لا يظهر بجزء جزء من العالم ولا بكل اسم اسم من الحقائق الإلهية ، فكان الإنسان أكمل الموجودات ، فكل ما سوى الإنسان خلق إلا الإنسان فإنه خلق وحق (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) كل أمر حادث في الدنيا قيل أجله كذا في الدنيا ، لأن كل ما في الدنيا يجري إلى أجل مسمى فتنتهي فيه المدة بالأجل ، فخاتمة ذلك الشيء ما ينتهي إليه حكمه ، فانتهاء الأنفاس في الحيوان آخر نفس يكون منه عند انتقاله إلى البرزخ ، ثم تنتهي المدة في البرزخ إلى الفصل بينه وبين البعث ،

٣٤٣

ثم تنتهي المدة في القيامة إلى الفصل بينها وبين دخول الدارين ، ثم تنتهي المدة في النار في حق من هو فيها من أهل الجنة إلى الفصل الذي بين الإقامة فيها والخروج منها بالشفاعة والمنة ، ثم تنتهي المدة في عذاب أهل النار الذين لا يخرجون منها إلى الفصل بين حال العذاب وبين حصول حكم الرحمة التي وسعت كل شيء ، فهم يتنعمون في النار باختلاف أمزجتهم ، ثم لا يبقى بعد ذلك أجل ظاهر بالمدة ، ولكن آجال خفية دقيقة ، وذلك أن المحدث الدائم العين ، من شأنه تقلب الأحوال عليه ليلزمه الافتقار إلى دوام الوجود له دائما ، فلا تفارق أحواله الآجال ، فلا يزال في أحواله بين سابقة وخاتمة (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ).

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٩)

السير في الأرض هو السياحة في نواحيها ليرى آثار ربه فيما يراه منها (أَوَلَمْ يَسِيرُوا) بأقدامهم وأفكارهم.

(ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (١١)

(اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) إن الله هو الحكيم الخبير ، وهو على كل شيء قدير ، وأنه قبل كل شيء ، أوجد الأشياء لا من شيء ، ولكن مع اتصافه بهذه القدرة المحققة ، النافذة المطلقة ، لم يوجد المعادن ابتداء حتى خلق سبحانه وتعالى الأفلاك العلوية ، والروحانيات السماوية ، واللمحات الأفقية ، وأودع كل فلك روحانية كوكبية ، تحتوي على خاصية ، وعند وجودها خلق الأرض والماء والهواء والأثير ، ثم أوجد فيها منها دائرة الزمهرير ، ثم أجرى الشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ، وخص كل متكون عن هذه الأجزاء بسر

٣٤٤

من مكنون سره ، فلما أكمل هذه الأركان ، لإنشاء ما يريد من المعادن والنبات والحيوان ، أقام النجوم الثابتة ، والبروج الحاكمة ، والكواكب السيارة وحركات أفلاكها ، وفتح مسالك أملاكها ، فأقامها فكانت الآباء العلويات والأمهات السفليات ، فتناكحا بالحقائق الروحانيات ، والرقائق السماويات ، فتولد بينهما بنات الحكم المعدنيات والنباتيات والحيوانيات ، ثم أنشأ الحق بستانا ذا أفنان ، فيه من كل وليد وقهرمان ، ومن الجواري الحسان ، والنخيل والأعناب والرمان ، ضروب ألوان ، تنساب فيها الجداول انسياب الثعابين ، بين تلك الأزهار والبساتين ، وابتنى قصورا من الذهب والفضة البيضاء ، وأسكنها من كل جارية غضاء ، وفرشها بالحرير من السندس والاستبرق ، والعبقري المرقق ، وجعل حصاها الياقوت والمرجان والزمرد والجوهر ، وترابها فتيت المسك وأكمامها العنبر ، ثم أنشأ دارا أخرى ذات لهب وسعير ، وبرد وزمهرير ، وقيود وأغلال ، وسرابيل من قطران ، وأفاعي كأنها البخت ، وأساود عظيمة الشخت ، وعقارب مكونة من السحت ، وبيوت مظلمة ، ومسالك ضيقة ، وكروب وغموم ، ومصائب وهموم.

فإذا كان الله تعالى مع قدرته ونفوذ إرادته وقوة علمه ، لم يوجد شيئا من المعادن إلا بعد خلق هذه الأدوات ، وأجرام هذه المسخرات ، فاعلم أن الله ما أسكنك هذه الدار ، إلا لتجعلها دار اعتبار ، فتتفكر وتعتبر ، وتذكر وتزدجر ، وتعظّم من سواك فعدلك ، وصورك فجمّلك ، وولاك وملّكك ، وعلمك وحنّكك ، فإن كنت مطيعا لربك ، عادلا في رعيتك ، فستصير إلى النعيم عند الله ، وإن كنت عاصيا جائرا في حكمك ظالما ، فستصير إلى ضيق وعذاب وجحيم ، فخف ربك وذنبك ، وأصلح مع الله قلبك ، وأنذر قومك ، وطهر ثوبك ، ولا يحجبنك سلطان عادتك ، عن تحصيل أسباب سعادتك ، فإن الدنيا لمحة بارق ، وخيال طارق ، وكم من ملك مثلك قد ملكها ، ثم رحل عنها وتركها ، ولا بد لك من الرحلة عنها إلى الآخرة ، فإما أن تعمر درجها ، وإما أن تعمر دركها. واعلم أن الله تعالى ما جعلك ملكا على خلقه ، (كلكم راع وكل راع مسؤل عن رعيته) وأقامك بين الباطل والحق في مقام حقه ، لقصور قدرته عن إصلاح الخلق وتدبيره ، وتصريفه في إظهار الملك وتسخيره ، وإنما ضرب لك بك مثلا في عالم الفناء ، لتستدلّ به على ترتيب الملك الإلهي في دار البقاء ، ولهذا جعل هذه الدنيا ظلّا زائلا ، وعرضا مائلا ، وجعلك

٣٤٥

عنها راحلا ، فهي جسر منصوب على بحر الهلاك ، وميدان موضوع لمصارع الهلّاك ، كم أبادت من القرون الماضية ، والأمم الخالية ، والجبابرة المتألهين الطاغية ، والفضلاء والحكماء ، والأدباء والعقلاء ، والأولياء والأنبياء ، فهل ترى لهم من باقية؟ وأنت على قارعة مذهبهم ، وعن قريب تلحق بهم ، فإما إلى نعيم في دار الخلود بجوار الصمد ، وإما إلى عذاب الأبد (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فاجهد في تحصيل أدوات البقاء والنجاة ، فإن الدنيا متاع قليل والآخرة خير لمن اتقى ، والعارية مردودة ، وأعمالك بين يديك موجودة غير مفقودة ، في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ، ولا علانية ولا سريرة (والله يعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) فالسعادة كل السعادة في المحافظة على الأمور الشرعية ، والقيام بالحدود الوضعية.

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦) فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (١٧)

فجمع الصلوات الخمس في هذه الآية قال تعالى : (وسبحوه) آي صلوا له (بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

(وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (١٨)

(وَلَهُ الْحَمْدُ) أي الثناء المطلق في السموات والأرض.

(يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها

٣٤٦

وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) (٢٠)

اعلم أن الحق سبحانه لا يعين لفظا ولا يقيد أمرا إلا وقد أراد من عباده أن ينظروا فيه من حيث ما خصصه وأفرده لتلك الحالة ، أو عيّنه بتلك العبارة ، ومتى لم ينظر الناظر في هذه الأمور بهذه العين فقد غاب عن الصواب المطلوب ، فإن النفوس ما تنبعث وتهتز إلا للآيات الخارقة للعادة. والآيات الإلهية منها معتاد وغير معتاد ، والقرآن قد ورد في الآيات المعتادة كثير ، ومن آياته ، ومن آياته ويذكر أمورا معتادة ، ثم يقول إن في ذلك لآيات ، ولكن لا ترفع العامة بها رأسا لجري العادة لاستيلاء الغفلة وعدم الحضور ..

إذا كانت الآيات تعتاد لم يكن

لها أثر في نفس كل جهول

وما لم تكن تعتاد فهي لديهمو

إذا نظروا فيها أدل دليل

وأما فحول القوم لا فرق عندهم

لقد خصصوا منها بأقوم قيل

إذا جاءت الآيات تترى تراهمو

سكارى لها خوفا بكل سبيل

فسبحان من أحياهمو واصطفاهمو

وإنهمو فينا أقل قليل

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١)

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) أعلم أن الزوجة مخلوقة من عين الزوج ونفسه (لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) المودة المجعولة بين الزوجين هو الثبات على النكاح الموجب للتوالد ، والرحمة المجعولة هو ما يجده كل واحد من الزوجين من الحنان إلى صاحبه فيحن إليه ويسكن ، فمن حيث المرأة حنين الجزء إلى كله ، والفرع إلى أصله ، والغريب إلى وطنه ، وحنين الرجل إلى زوجته حنين الكل إلى جزئه ـ لأنه به يصح عليه اسم الكل ، وبزواله لا يثبت له هذا الاسم ـ وحنين الأصل إلى الفرع لأنه يمده ، فبالمودة والرحمة طلب الكل جزأه ، والجزء كله ، فالتحما فظهر عن ذلك الالتحام أعيان الأبناء ، وجعل الله ذلك آية ، أي علامة ودليلا لقوم يتفكرون ، فقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ

٣٤٧

يَتَفَكَّرُونَ) فإن من الآيات ما تغمض بحيث لا يدركها إلا من له التفكر السليم ، فيعلمون أنه الحق ، وفائدة هذا التفكر أن الإنسان إذا تزوج المرأة ووجد السكون إليها وأن الله جعل بينهما المودة والرحمة علم أن الله يريد التحامهما ، فإذا ارتفع السكون من أحدهما إلى صاحبه أو منهما وزالت المودة ـ وهي ثبوت هذا السكون وبهذا سمي الود حبا لثبوته ـ وزالت الرحمة من بينهما أو من أحدهما بصاحبه فأعرض عنه ، فيعلم أن الله قد أراد طلاقهما ، وما يعرف ما قلناه إلا أهل التفكر من عباد الله ، فإن الله ما جعله آية إلا لهم ، هذا المقصود بالتفكر هنا ، لأن التفكر في ذات الله محال ، فلا يبقى إلا التفكر في الكون ، ومتعلق الفكرة الأسماء الحسنى وسمات المحدثات ـ لطيفة ـ اعلم أن الجمال العرضي حجاب على الجمال المطلق ، والحسن البديع الفائق المحقق ، القائم بذات الحق ، الذي لا يتقيد بالوقت ، ولا يدرك بالنعت فقال : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها) فتعشقت نفسها بنفسها ، حتى لا تتعلق بغير جنسها ، فكان يذهب عنها ما كان لها من العز بالأمس ، من حسن التقويم والنظام ، ويظهر التيه عليها ممن نقص عن مقامها ، وتقاصر عن تمامها ، فبقيت بذلك عزتها عليها موقوفة ، وهمم غير جنسها إليها بالخدمة مصروفة. لذلك قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فمن انحجب عن هذه الأرواح المجسدة بهذا الحجاب عن هذا الجمال ، لم يزل في سفال العوال ، ومن لم ينحجب به صح له المقام العال :.

(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) (٢٢)

(وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) التي جعل الله فيها من الآيات في خلقه ، فكان منها التشاجر الموجود في العالم لاختلاف الألسنة والألوان ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ).

(وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) (٢٣)

٣٤٨

من نظر إلى حسن نظم القرآن وجمعه ، ولماذا قدم ما كان ينبغي في النظر العقلي في ظاهر الأمر أن يكون على غير هذا النظم ، فإن النهار لابتغاء الفضل والليل للمنام ، تبين له من خلف ستار هذه الآية وحسن العبارة عنها الرافعة سترها ، وهو قوله : (مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أمر زائد على ما يفهم منه في العموم بقرائن الأحوال في ابتغاء الفضل للنهار والمنام لليل ، وهو أن الله نبه بهذه الآية على أن نشأة الآخرة الحسية لا تشبه هذه النشأة الدنياوية ، وأنها ليست بعينها ، بل تركيب آخر ومزاج آخر ، كما وردت به الشرائع والتعريفات النبوية في مزاج تلك الدار ، وإن كانت هذه الجواهر عينها بلا شك ، فإنها التي تبعثر في القبور وتنشر ، ولكن يختلف التركيب والمزاج بأعراض وصفات تليق بتلك الدار لا تليق بهذه الدار ، وإن كانت الصورة واحدة في العين والسمع والأذن والفم واليدين والرجلين بكمال النشأة ، ولكن الاختلاف بيّن ، فمنه ما يشعر به ويحس ومنه ما لا يشعر به ، ولما كانت صورة الإنشاء في الدار الآخرة على صورة هذه النشأة ، لم يشعر بما أشرنا إليه ، ولما كان الحكم يختلف عرفنا أن المزاج اختلف ، فهذا الفرق بين حظ الحس والعقل ، فقال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ولم يذكر اليقظة وهي من جملة الآيات ، فذكر المنام دون اليقظة في حال الدنيا ، فدل على أن اليقظة لا تكون إلا عند الموت ، وأن الإنسان نائم أبدا ما لم يمت ، فذكر أنه في منام بالليل والنهار في يقظته ونومه ، وفي الخبر [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] ألا ترى أنه لم يأت بالباء في قوله تعالى : (وَالنَّهارِ) واكتفى بباء الليل ، ليحقق بهذه المشاركة أنه يريد المنام في حال اليقظة المعتادة ، فحذفها مما يقوي الوجه الذي أبرزناه في هذه الآية ، فالمنام هو ما يكون فيه النائم في حال نومه ، فإذا استيقظ يقول : رأيت كذا وكذا ، فدل أن الإنسان في منام ما دام في هذه النشأة في الدنيا إلى أن يموت ، فلم يعتبر الحق اليقظة المعتادة عندنا في العموم ، بل جعل الإنسان في منام في نومه ويقظته كما أوردناه في الخبر النبوي من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] فوصفهم بالنوم في الحياة الدنيا ، والعامة لا تعرف النوم في المعتاد إلا ما جرت به العادة أن يسمى نوما ، فنبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل صرح أن الإنسان في منام ما دام في الحياة الدنيا حتى ينتبه في الآخرة ، والموت أول أحوال الآخرة ، فصدّقه الله بما جاء به في قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ) وهو النوم العادى (وَالنَّهارِ) وهو هذا المنام الذي صرح به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا

٣٤٩

جعل الدنيا عبرة جسرا يعبر ، أي تعبر كما تعبّر الرؤيا التي يراها الإنسان في نومه ، فكما أن الذي يراه الرائي في حال نومه ما هو مراد لنفسه إنما هو مراد لغيره ، فيعبر من تلك الصورة المرئية في حال النوم إلى معناها المراد بها في عالم اليقظة إذا استيقظ من نومه ، كذلك حال الإنسان في الدنيا ما هو مطلوب للدنيا ، فكل ما يراه من حال وقول وعمل في الدنيا إنما هو مطلوب للآخرة ، فهناك يعبر ويظهر له ما رآه في الدنيا ، كما يظهر له في الدنيا إذا استيقظ ما رآه في المنام ، فالدنيا جسر يعبر ولا يعمر ، كالإنسان في حال ما يراه من نومه يعبّر ولا يعمّر ، فإنه إذا استيقظ لا يجد شيئا مما رآه ، من خير يراه أو شر ، وديار وبناء وسفر ، وأحوال حسنة أو سيئة ، فلا بد أن يعبّر له العارف بالعبارة ما رآه فيقول له : تدل رؤياك لكذا ، على كذا ، فكذلك الحياة الدنيا منام ، إذا انتقل إلى الآخرة بالموت لم ينتقل معه شيء مما كان في يده وفي حسه ، من دار وأهل ومال ، كما كان حين استيقظ من نومه لم ير شيئا في يده مما كان له حاصلا في رؤياه في حال نومه ، فلهذا قال تعالى : إننا في منام بالليل والنهار ، وفي الآخرة تكون اليقظة ، وهناك تعبر الرؤيا ، فمن نور الله عين بصيرته وعبر رؤياه هنا قبل الموت أفلح ، ويكون فيها مثل من رأى رؤيا ثم رأى في رؤياه أنه استيقظ ، فيقص ما رآه وهو في النوم على حاله على بعض الناس الذين يراهم في نومه فيقول : رأيت كذا وكذا ، فيفسره ويعبره له ذلك الشخص بما يراه في علمه بذلك ، فإذا استيقظ حينئذ يظهر له أنه لم يزل في منام ، في حال الرؤيا وفي حال التعبير لها ، وهو أصح التعبير ، وكذلك الفطن اللبيب في هذه الدار مع كونه في منامه يرى أنه استيقظ ، فيعبر رؤياه في منامه لينتبه ويزدجر ويسلك الطريق الأسدّ ، فإذا استيقظ بالموت حمد رؤياه ، وفرح بمنامه وأثمرت له رؤياه خيرا ، فلهذه الحقيقة ما ذكر الله في هذه الآية اليقظة وذكر المنام ، وأضافه إلينا بالليل والنهار ، وكان ابتغاء الفضل فيه في حق من رأى في نومه أنه استيقظ في نومه فيعبر رؤياه ، وهي حال الدنيا ، فهذا تفصيل آيات المنام بالليل والنهار والابتغاء من الفضل ، وجعله (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي يفهمون عن الله ، فهم أهل الفهم عن الله ، فإن الله تعالى قال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يفهمون.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ

٣٥٠

الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٤)

للعقل نور يدرك به أمورا مخصوصة ، وللإيمان نور به يدرك كل شيء ما لم يقم مانع ، فبنور العقل تصل إلى معرفة الألوهية وما يجب لها وما يستحيل ، وما يجوز منها فلا يستحيل ولا يجب ، وبنور الإيمان يدرك العقل معرفة الذات وما نسب الحق إلى نفسه من النعوت ، فإن للعقول حدا تقف عنده من حيث ما هي مفكرة لا من حيث ما هي قابلة ، فنقول في الأمر الذي يستحيل عقلا : قد لا يستحيل نسبة إلهية كما نقول فيما يجوز عقلا : يستحيل نسبة إلهية.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٧)

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إن الله هو المبدىء ، فهو يبدىء كل شيء خلقا ، ثم يعيده أي يرجع الحكم إليه بأن يخلق ، فقوله : (يُعِيدُهُ) أي يعيد الخلق أي يفعل في العين التي يريد إيجادها ما فعل فيمن أوجدها ، وليس إلا الإيجاد ، فإن الخلق يراد به المخلوق في موضع مثل قوله : (هذا خَلْقُ اللهِ) ويراد به الفعل مثل قوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ) فقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) إنما يراد به هنا الفعل لا المخلوق ، فإن عين المخلوقات ما زالت من الوجود من قوله : (هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) وأعني به الذات القائمة بنفسها ، وإنما انتقلت من الدنيا إلى البرزخ ، كما تنتقل من البرزخ إلى الحشر إلى الجنة أو إلى النار ، وهي هي من حيث جوهرها ، لا أنها عدمت ثم وجدت ، فتكون الإعادة في حقها ، فهو انتقال من وجود إلى وجود ، من مقام إلى مقام ، من دار إلى دار ، لأن النشأة التي تخلق عليها في الآخرة ما تشبه نشأة الدنيا إلا في اسم النشء ، فنشأة الآخرة

٣٥١

ابتداء ، فلو عادت هذه النشأة لعاد حكمها معها ، لأن حكم كل نشأة لعينها ، وحكمها لا يعود فلا تعود ، والجوهر عينه لا غيره ، موجود من حين خلقه الله لم ينعدم ، فإن الله يحفظ عليه وجوده بما يخلق فيه مما به بقاؤه ، فالإعادة إنما هي في كون الحق يعود إلى الإيجاد بالنظر إلى حكم ما فرغ من إيجاده من هذا المخلوق ، فكلما فرغ ابتداء عاد إلى حكم الابتداء ، هذا حكم إلهي لا يزول ، فحكم الإعادة ما خرج حكمها عن الحق ، فحكمها فيه لا في الخلق الذي هو المخلوق ، فالعالم بعد وجوده ينتقل في أحوال جديدة يخلقها الله له ، فلا يزال الحق يخلق ويعود إلى الخلق فيخلق (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) وليس هذا الهين عن صعوبة في الابتداء ، ولهذا القول بالمفهوم ضعيف في الدلالة ، لأنه لا يكون حقا في كل موضع (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ الوجه الأول ـ هو قوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ابتداء ، وإعادتهم أهون من ابتدائهم ، وابتداؤهم أهون من خلق السموات والأرض ـ الوجه الثاني ـ (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) في التجلي الصوري (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وما ثمّ إلا سماء وأرض ، وله المثل الأعلى ، فله صورة في كل سماء وأرض (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الذي لا يرى من حيث هويته (الْحَكِيمُ) في تجليه حتى يقال إنه رئي.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢٨)

(تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي كخيفتكم أمثالكم ، لا عين نفس الخائف.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٢٩)

فحرمان الجهل أوقع بهم.

٣٥٢

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٣٠)

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي مائلا في جميع أحوالك من الله إلى الله عن مشاهدة وعيان ، ومن نفسك إلى الله عن أمر الله وإيثار لجناب الله ، ومن كل ما ينبغي أن يحال عنه عن أمر الله (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) إن الإيمان الأصلي هو الفطرة التي فطر الناس عليها ، وهو شهادتهم له سبحانه بالوحدانية في الأخذ الميثاقي ، فكل مولود يولد على ذلك الميثاق ، ولكن لما حصل في حصر الطبيعة بهذا الجسم محل النسيان جهل الحالة التي كان عليها مع ربّه ونسيها ، فافتقر إلى النظر في الأدلة على وحدانية خالقه ، إذا بلغ إلى الحالة التي يعطيها النظر ، وإن لم يبلغ هذا الحد فحكمه حكم والديه ، فإن كانا مؤمنين أخذ بتوحيد الله تعالى منهما تقليدا ، وإن كانا على أي دين كان ألحق بهما ، فالفطرة التي فطر الناس عليها هي (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) فكل مولود يولد على هذه الفطرة ؛ وفطرة كل شيء هو ما يقع به الفصل بين الصور فيقال : هذا ليس هذا ، إذ قد يقال : هذا عين هذا من حيث ما يقع به الاشتراك ، ففطرة الله التي فطر الناس عليها كونهم عبيده ، فمن أحوال الفطرة التي فطر الله الخلق عليها أن لا يعبدوا إلا الله ، فبقوا على تلك الفطرة في توحيد الله ، فما جعلوا مع الله مسمى آخر هو الله ، بل جعلوا آلهة على طريق القربة إلى الله ، ولهذا قال : سموهم ؛ فإنهم إذا سموهم بان أنهم ما عبدوا إلا الله ، فما عبد كل عابد إلا الله في المحل الذي نسب الألوهية له ، فصح بقاء التوحيد لله الذي أقروا به في الميثاق وأن الفطرة مستصحبة (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ـ الوجه الأول ـ وهو الفطرة وهو ما شهد به لله في أول مرة ـ الوجه الثاني ـ (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) أي التبديل لله ليس للخلق تبديل ، وقد يكون معناه لا تبديل لخلق الله من كونه أعطى كل شيء خلقه ، وخلق الله كلماته فلا تبديل لخلق ، لا تبديل لكلمات الله ، وإنما التبديل لله ، فيسوغ في هذه الآية أن خلق الله هي كلمات الله ، فهي عبارة عن الموجودات ، كما قال في عيسى عليه‌السلام إنه كلمته ألقاها إلى مريم ، فنفى أن يكون للموجودات تبديل ، بل التبديل لله ، ولا سيما وظاهر الآية يدل على هذا التأويل ،

٣٥٣

أي ليس لهم في الفطرة تبديل ، وهذه بشرى من الله بأن الله ما فطرنا إلا على الإقرار بربوبيته ، فما يتبدل ذلك الإقرار بما ظهر من الشرك بعد ذلك في بعض الناس ، لأن الله نفى عنهم أن يكون لهم تبديل في ذلك بل هم على فطرتهم ، وإليها يعود المشرك يوم القيامة عند تبري الشركاء منهم ، وإذا لم يضف التبديل إليهم فهي بشرى في حقهم بمآلهم إلى الرحمة ، وإن سكنوا النار فبحكم كونها دارا لا كونها دار عذاب وآلام ، بل يجعلهم الله على مزاج يتنعمون به في النار ، بحيث لو دخلوا الجنة بذلك المزاج تألموا لعدم موافقة مزاجهم لما هي عليه الجنة من الاعتدال.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ

٣٥٤

وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٤١)

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ) من خسف وغير ذلك وقحط ووباء وقتل وأسر (وَالْبَحْرِ) وكذلك في البحر مثل هذا مع غرق وتجرع غصص لزعزع ريح متلفة (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) أي بما عملوا «لنذيقهم بعض الذي عملوا» وهو عين الجزاء وهو في الدنيا ، فيوم الدنيا أيضا هو يوم الدين أي الجزاء ، لما فيه من إقامة الحدود لذلك قال تعالى : «لنذيقهم بعض الذي عملوا» وهو عين الجزاء ، وهو أحسن في حق العبد المذنب من جزاء الآخرة ، لأن جزاء الدنيا مذكّر وهو يوم عمل ، والآخرة ليست كذلك ، ولهذا قال في الدنيا (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) يعني إلى الله بالتوبة ، فيوم الجزاء أيضا يوم الدنيا كما هو يوم الآخرة ، وهو في الدنيا أنفع ، فما ابتليت البرية وهي برية ، إنما هو جزاء ، ما هو ابتداء.

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (٤٧)

٣٥٥

(وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) لم يقيد الحق مؤمنا من مؤمن ، بل أوجب على نفسه نصر المؤمنين ، ولم يقل بمن ، بل أرسلها مطلقة وجلاها محققة ، فالمؤمنون في كلام الله نوعان وهم الكافرون ، فنوع آمن بالله وكفر بالطاغوت وهو الباطل فهم أهل الجنة المعبر عنهم بالسعداء ، والنوع الآخر آمن بالباطل وكفر بالله وهو الحق فهم أهل النار المعبر عنهم بالأشقياء ، فقال عزوجل في حق السعداء (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) وهؤلاء هم الذين حق على الله نصرهم ، والألف واللام للعهد والتعريف ، وقال تعالى في حق الأشقياء (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ، ولكن قد أطلق الحق نصرته هنا للمؤمنين ولم يخصص ، وهنا سر من أسرار الله تعالى في ظهور المشركين على المؤمنين في أوقات ، فتدبره تعثر عليه إن شاء الله ، فما ورد حتى نؤمن به ، إلا أن الإيمان إذا قوي في صاحبه بما كان ، فله النصر على الأضعف ، والميزان يخرج ذلك ، وقولي هذا ما كان لقوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) فسماهم مؤمنين ، ولكن تحقق في إيمانهم بالباطل أنهم ما آمنوا به من كونه باطلا ، وإنما من كونهم اعتقدوا فيه ما اعتقد أهل الحق في الحق ، فمن هنا نسب الإيمان إليهم ، وبما هو في نفس الأمر على غير ما اعتقدوه سماه الحق لنا باطلا ، لا من حيث ما توهموه ، فالنصر أجر الإيمان لذاته ، ولكن يقتضيه المؤمن وهو الذي صفته الإيمان ، وهو سبحانه وفيّ ، فلا بد من نصر الإيمان ، ولا يظهر ذلك إلا في المؤمن ، والمؤمن لا يتبعض فيه الإيمان ، فاعلم ذلك ، وكل من تبعض فيه الإيمان لأجل تعداد الأمور التي يؤمن بها ، فآمن المؤمن ببعضها وكفر ببعضها فليس بمؤمن ، فما خذل إلا من ليس بمؤمن ، فإن الإيمان حكمه أن يعم ولا يخص ، فلما لم يكن له وجود عين في الشخص لم يجب نصره على الله ، فإذا ظهر الكافر على المؤمن في صورة الحكم الظاهر ، فليس ذلك بنصر الكافر عليه ، وإنما الذي يقابله لما ولّى ، وأخلى له موضعه ، ظهر فيه الكافر ، وهذا ليس بنصر ، وإذا جعلت الألف واللام في نصر المؤمنين للجنس ، فمن اتصف بالإيمان فهو منصور ، ومن هنا يظهر المؤمنون بالباطل في أوقات على الكافرين بالطاغوت ، فيجعلون ذلك الظهور نصرا ، لأن النصر عبارة عمّن ظهر على خصمه ، فمن جعل الألف واللام للجنس جعل إيمان أهل الباطل بالباطل أقوى من إيمان أهل الحق بالحق ، فالمؤمن من لا يولي الدبر ويتقدم ويثبت حتى يظفر أو يقتل ، ولهذا ما

٣٥٦

انهزم نبي قط لقوة إيمانه بالحق ، وقد توعد الله المؤمن إذا ولّى دبره في القتال لغير قتال أو انحياز إلى فئة تعضده ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) فخاطب أهل الإيمان ، وبقرائن الأحوال علمنا أنه تعالى أراد المؤمنين بالحق ، وأرسل الآية في اللفظ دون تقييد بمن وقع الإيمان به ، لكن قرائن الأحوال تخصص وتعطي العلم المقصود من ذلك ، غير أن الحق ما أرسلها مطلقة إلا ليقيم الحجة على الذين آمنوا بالباطل إذا هزمهم الكافرون بالطاغوت لما دخلهم من خلل في إيمانهم بالباطل ، وهو عندنا ليس بنصر ذلك الظهور الذي للمؤمنين بالباطل على الكافرين بالطاغوت ، وإنما المؤمنون بالحق لما تراءى الجمعان ، كان في إيمانهم خلل ، فأثر فيه الجبن الطبيعي ، فزلزل أقدامهم فانهزموا في حال حجاب عن إيمانهم بالحق ، ولا شك أن الخصم إذا رأى خصمه انهزم أمامه وفر وأخلى له مكانه ، لا بد أن يظهر عليه ويتبعه ، فإن شئت سميت ذلك نصرا من الله لهم ، فما انتصروا على المؤمنين بالحق وإنما انتصروا على وجه الخلل الذي دخل في إيمانهم واستتر عنهم بالخوف الطبيعي ، فكانوا كفارا من ذلك الوجه ، فكان نصرهم نصر الكفار بعضهم على بعض وهم المؤمنون بالباطل ، لأن هؤلاء المؤمنين بالحق آمنوا بما خوفهم به الطبع من القتل وهو باطل ، فآمنوا بالباطل لخوفهم من الموت ؛ والشهيد ليس بميت فإنه حيّ يرزق ، فلمّا آمنوا به أنه موت آمنوا بالباطل ، فهزم أهل الباطل أهل الباطل ، وهذا يسمى ظهورا لا نصرا ، إلا إذا جعلت الألف واللام للجنس فتشمل كل مؤمن بأمر ما من غير تعيين ، وليس المؤمن إلا من لم يدخل إيمانه بأمر ما خلل يقدح في إيمانه ، ومن ذلك يعلم أن الصدق سيف الله في الأرض ، ما قام بأحد ولا اتصف به إلا نصره الله ، لأن الصدق نعته والصادق اسمه ، فينصر الله المؤمن الذي لم يدخله خلل في إيمانه على من دخله خلل في إيمانه ، فإن الله يخذله على قدر ما دخله من الخلل ، أي مؤمن كان من المؤمنين ، فالمؤمن الكامل منصور أبدا ، ولهذا ما انهزم نبي قط ولا ولي ، ألا ترى يوم حنين لما ادعت الصحابة رضي الله عنهم توحيد الله ، ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم فنسوا الله عند ذلك فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ، مع كون الصحابة مؤمنين بلا شك ، ولكن دخلهم الخلل باعتمادهم على الكثرة ، ونسوا قول الله (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) فما أذن الله هنا إلا للغلبة ، فأوجدها

٣٥٧

فغلبتهم الفئة القليلة بها عن إذن الله ، ومن هنا نكون في راحة مع الله إذا كانت الغلبة للكافرين على المسلمين ، فتعلم أن إيمانهم تزلزل ودخله الخلل ، وأن الكافرين فيما آمنوا به من الباطل والمشركين لم يتخلخل إيمانهم ولا تزلزلوا فيه ، فالنصر أخو الصدق حيث كان تبعه ، ولو كان خلاف هذا ما انهزم المسلمون قط ، كما أنه لم ينهزم نبي قط ، وأنت تشاهد غلبة الكفار ونصرتهم في وقت ، وغلبة المسلمين ونصرتهم في وقت ، والصادق من الفريقين لا ينهزم جملة واحدة ، بل لا يزال ثابتا حتى يقتل أو ينصرف من غير هزيمة ، ومن تفسير هذه الآية بوجه عام أن الموحد إذا أخلص في إيمانه وثبت نصر على قرنه بلا شك ، فإذا طرأ عليه خلل ولم يكن مصمت الإيمان وتزلزل خذله الحق ، وما وجد في نفسه قوة يقف بها لعدوه من أجل ذلك الخلل فانهزم ، فلما رآه عدوه منهزما تبعه وظهرت الغلبة للعدو على المؤمن ، فما نصر الله العدو وإنما خذل المؤمن لذلك الخلل الذي داخله ، فلما خذله لم يجد مؤيدا فانهزم بالضرورة يتبعه عدوه ، فما هو نصر للعدو وإنما هو خذلان للمؤمن لما ذكرناه. وأما من جهة التحقيق في هذه الآية فإنه لما تقرر في نفس المشرك أن الحجر أو الكوكب أو ما كان من المخلوقات أنه إله ، وهو مقام محترم لذاته ، تعيّن على المشرك احترام ذلك المنسوب إليه ، لكون المشرك يعتقد أن تلك النسبة إليه صحيحة ولها وجه ، ولما علم سبحانه أن المشرك ما احترم ذلك المخلوق إلا لكونه إلها في زعمه ، نظر الحق إليه لأنه مطلوبه ، فإذا وفّى بما يجب لتلك النسبة من الحق والحرمة ، وكان أشد احتراما لها من الموحد ، وتراءى الجمعان كانت الغلبة للمشرك على الموحد ، إذ كان معه النصر الإلهي لقيامه بما يجب عليه من الاحترام لله وإن أخطأ النسبة ، وقامت الغفلة والتفريط في حق الموحد فخذل ، ولم تتعلق به الولاية لأنه غير مشاهد لإيمانه ، إذ يقول تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) وإنما قاتل ليقال ، فما قاتل لله ، فأي شخص صدق في احترام الألوهية واستحضرها وإن أخطأ في نسبتها ولكن هي مشهوده كان النصر الإلهي معه ، فما جعل الله نصره واجبا عليه للموحد ، وإنما جعله للمؤمنين بما ينبغي للألوهية من الحرمة ووفّى بها ، فالمؤمن منصور بلا شك غير مخذول ، فمن خذل فلينظر من أين خذل ، فسيعدم من ذلك الأين الإيمان فإن قوله تعالى : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) قول صدق.

٣٥٨

(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) (٥٤)

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) فالله تعالى خلقنا من ضعف وما خلقنا إلا عليه ، فما أنشأ العالم إلا منه وعليه ، فخلق الإنسان فقيرا إلى ربه ، مسكينا ظاهر الضعف والحاجة بلسان الحال والمقال ، وهكذا الطفل عند ولادته لا يقدر على القيام ، فهو طريح قريب إلى أصله وهو الأرض ، وكذا المريض الذي لا يقدر على القيام والقعود ، ويبقى طريحا لضعفه وهو رجوعه إلى أصله ، فالضعف أصل الإنسان لكونه ممكنا ، والممكن لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الترجيح على كل حال ، ثم جعل الله له قوة عارضة وهو قوله : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) لما نقلنا من حال الطفولة إلى حال الشباب والتكليف ، فهي قوة الشباب ، وذلك حال الفتوة وفيها يسمى فتى ، وما قرن معها شيئا من الضعف ، فإن الفتوة ليس فيها شيء من الضعف ، إذ هي حالة بين الطفولة والكهولة ، وهو عمر الإنسان من زمان بلوغه إلى تمام الأربعين من ولادته ، إلا أنه مع هذه القوة لا يستقل ، فأمر بطلب المعونة ،

٣٥٩

ثم ردّ الله تعالى الإنسان إلى أصله من الضعف ، فإن القوة لله جميعا ، والعبد موطنه الضعف والعبودية ، والضعف مرتبته ، فإنه خلق من ضعف ابتداء ، وردّ إلى الضعف انتهاء ، فقال عزوجل : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ) قوة الشباب (ضَعْفاً) يعني ضعف الكهولة إلى آخر العمر (وَشَيْبَةً) يعني وقارا أي سكونا لضعفه عن الحركة ، فإن الوقار من الوقر وهو الثقل ، فقرن مع هذا الضعف الثاني الشيبة التي هي الوقار ، فإن الطفل وإن كان ضعيفا فإنه متحرك جدا ، روي أن إبراهيم عليه‌السلام لما رأى الشيب قال : يا رب ما هذا؟ قال : الوقار ، قال : اللهم زدني وقارا ؛ فالضعف هو أول العالم وآخره ، فإنا ما وجدنا للقوة ذكرا في الأول ولا في الآخر ، بل جاءت في الوسط وهي محل الدعوى الواقعة في الإنسان ، وإذا نظرنا في معنى هذا الضعف الذي خلقنا منه لوجدناه عدم الاستقلال بالإيجاد ، فشرع لنا الاستعانة به في الاقتدار ، ثم جعل لنا قوة غير مستقلة ، فإنه لو لا أن للمكلف نسبة وأثرا في العمل ما صح التكليف ولا صح طلب المعونة من ذي القوة المتين ، فهو وإن خلقنا من ضعف فإنه جعل فينا قوة لو لاها ما كلفنا بالعمل والترك ، لأن الترك منع النفس من التصرف في هواها ، وبهذا عمت القوة العمل والترك ، وقرن الشيب بالضعف الذي رجعنا إليه ، ليرينا بذلك الشيب وهو نور أن ذلك الضعف ما هو ضعف ثان من أجل ما نكّره ، فهو رجع إلى الضعف الأول ، فكان الضعف الثاني رجوعا إلى الأصل ، فسمي هرما ، والشيب للشيخوخة ، وهذا الضعف الأخير إنما أعده الله لإقامة النشأة الآخرة عليه كما قامت النشأة الدنيا على الضعف ، وإنما كان هذا ليلازم الإنسان ذاته الذلة والافتقار وطلب المعونة والحاجة إلى خالقه ، ومع هذا كله يذهل عن أصله ويتيه بما يعرض له من القوة ، فإذا استوى قائما وبعد عن أصله (وهو الأرض) تفر عن وتجبّر وادعى القوة ، وقال : أنا ؛ فالرجل من كان مع الله في حال قيامه وصحته ، كحاله في اضطجاعه من المرض والضعف وهو عزيز ـ نصيحة ـ الاعتناء بالصغير رحمة به لضعفه ، فإذا كبر وكل إلى نفسه ، فإن بقي في كبره على أصله من الضعف صحبته الرحمة ، وإن تكبر عن أصله وادعى القوة المجعولة فيه بعد ضعفه أضاعه الله في كبره برد الضعف إليه ، فاستقذره وليه وتمنى مفارقته ، وفي ضعف صغره كان يشتهي حياته ويرغب في تقبيله ولا يستقذره ـ إشارة ـ (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) هذا حال وقت نظرك إن نظرت (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) فنكصت على عقبك ، فانظر كيف تكون؟.

٣٦٠