رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

ينزلهم منزلتهم ، فإنهم ما انقادوا إليهم من حيث أعيانهم ، فإنهم أمثالهم ، وإنما انقادوا إلى الذي جاؤوا من عنده ، ونقلوا عنه ما أخبر به عن نفسه على ما يعلم نفسه ، لا على تأويل من وصل إليه ذلك ، فلا يعلم مراد الله فيه إلا بإعلام الله ، فيقف الناظر موقف التسليم لما ورد ، مع فهمه فيه أنه على موضوع ما ، هو في ذلك اللسان الذي جاء به هذا الرسول لا بد من ذلك ، لأنه ما جاء به بهذا اللسان إلا لنعرف أنه على حقيقة ما وضع له ذلك اللفظ في ذلك اللسان ، ولكن تجهل النسبة ، فنسلم إليه علم النسبة مع عقلنا الأدلة بالوضع الاصطلاحي في ذلك اللحن الخاص ، فننقاد إليه كما انقاد المرسلون ، ولهذا قال (عَلَى الْمُرْسَلِينَ) أي واجب عليهم الانقياد بقوله «وسلام» فنكون أمثالهم ، ثمّ قال :

(وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١٨٢)

والحمد لله أي عواقب الثناء إذ كل ما جاؤوا به إنما قصدوا به الثناء على الله ، فعواقب الثناء على الله بما نزه نفسه عنه وبما نزهه العباد به ، فإن الحمد العاقب ، فعواقب الثناء ترجع إلى الله ، وعاقب الأمر آخره (رَبِّ الْعالَمِينَ) من حيث ثبوته في ربوبيته بما يستحقه الرب من النعوت المقدسة ، وهو سيد العالم ومربيهم ومغذيهم ومصلحهم ، لا إله إلا هو العزيز الحكيم ، ومن سياق الآيات دل على أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حمد الله رب العالمين عقيب نصره وظفره بخيبر ، فهو حمد نعمة ـ إشارة ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) جاءت في أول سورة الفاتحة ، وفي وسط سورة يونس ، وفي آخر سورة الصافات ، فعمت الطرفين والواسطة.

(٣٨) سورة ص مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (١)

أقسم الحق تعالى عند ذكر حرف الصاد بمقام جوامع الكلم ، فإن الصاد حرف من حروف الصدق ، والصون ، والصورة ، فهو حرف شريف عظيم ، وتضمنت هذه السورة

٥٠١

من أوصاف الأنبياء عليهم‌السلام ومن أسرار العالم كله الخفية عجائب وآيات ، وكل من له نصيب من هذه السورة يحصل له من بركات الأنبياء عليهم‌السلام المذكورين في هذه السورة ، ويلحق الأعداء الكفار ما في هذه السورة من البؤس لا من المؤمنين.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) (٣)

فإن العطاء عام والنفع خاص ، عم التنادي وما عمت الإباية ، لما لم تقع هنا الإنابة. (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) (٤)

ـ إشارة ـ في حق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنة الله تعالى عليه : كأن الحق تعالى يقول له : عبدي خرقت لك الحجاب ، وأظهرت لك الأمر العجاب ، حتى أتيت قومك باللباب ، فقالوا : ساحر كذاب. عبدي وهبتك أسرار الأخلاق ، وملكتك مفتاح اسمي الخلّاق ، فقال الكافرون : إن هذا إلا اختلاق. عبدي ملكتك سر النون من قولي كن فيكون ، فقالوا : ساحر مجنون ، عبدي أتيتهم بأسرار الكوثر ، فقالوا : إن هذا إلا سحر يؤثر. عبدي أعطتك القوا في زمامها ، ورفعت لك المعاني معارفها وأعلامها ، فجريت سابقا ، في حلبة الناظم والناثر ، فقالوا : ما هذا رسول بل هو شاعر. عبدي كشفت لهم عن النور المبين ، وأطلعتهم على علم اليقين ، فقالوا : إن هذا إلا أساطير الأولين. أما شرح ما في هذه الإشارة ، فقوله : «خرقت لك الحجاب» أي أشهدتك أسرار الغيب ، حتى عرفت ما تعطيه خواص الأشياء في أزمنة مخصوصة ، وقوله : «وهبتك أسرار الأخلاق» هو ما أعطي من جوامع الكلم ، إذ كان القرآن معجزته ، وقوله : «ملكتك سر النون» هو ما يظهر من الرسول من الاقتدار الذي لا ينبغي أن يكون إلا لله تعالى ، من إحياء الموتى وأشباهه ، ويريد «بأسرار الكوثر» علما خاصا ، كما أن الكوثر خاصة مائه أنه من شرب منه لا يظمأ ، فكذلك هذا العلم الذي هو بهذه المثابة ، من شرب منه ما يروى ، قوله : «أعطتك القوافي زمامها والمعاني» إلى آخر الفصل ، يريد دلالة الألفاظ بحكم التطابق على المعاني على طريق الإعجاز

٥٠٢

بعدم المعارضة ، وقوله «النور المبين» و«علم اليقين» يريد قوله تعالى (ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ).

(أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٥)

قال المشركون لما دعوا إلى توحيد الإله في ألوهته بقوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ) أكثروا التعجب وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) فهي حكاية الله لنا عن المشرك أنه قال هكذا ، إما لفظا وإما معنى ، والمشرك هو من جعل مع الله إلها آخر من واحد فما زاد ، وكان ذلك من أجل اعتقادهم فيما عبدوه أنهم آلهة دون الله ، المشهود له عندهم بالعظمة على الجميع ، والذي قالوا فيه (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) فالناس يحملون هذا القول على أنه من قول الكفار ، حيث دعاهم إلى توحيد إله وهم يعتقدون كثرتها ، وما علموا أن جعل الألوهية من الكثيرين أعجب ، ففي الحقيقة ليس العجب ممن وحّد ، وإنما العجب ممن كثر الآلهة بلا دليل ولا برهان ، وهذا القول عندنا من قول الحق ، أو قول الرسول ، وأما قول الكفار فانته في قوله (إِلهاً واحِداً) والتعجب أنه بأول العقل يعلم الإنسان أن الإله لا يكون بجعل جاعل ، فإنه إله لنفسه ، ولهذا وقع التوبيخ بقوله تعالى : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) والإله في ضرورة العقل لا يتأثر ، وقد كان هذا خشبة يلعب بها أو حجرا يستجمر به ، ثم أخذه وجعله إلها يذل ويفتقر إليه ويدعوه خوفا وطمعا ، فمن مثل هذا يقع التعجب مع وجود العقل عندهم ، فوقع التعجب من ذلك ، ليعلم من حجب العقول عن إدراك ما هو لها بديهي وضروري ، ذلك لتعلموا أن الأمور بيد الله ، وأن الحكم فيها لله ، وأن العقول لا تعقل بنفسها ، وإنما تعقل ما تعقله بما يلقي إليها ربها وخالقها ، ولهذا تتفاوت درجاتها ، فمن عقل مجعول عليه قفل ، ومن عقل محبوس في كنّ ، ومن عقل طلع على مرآته صدأ ، فلو كانت العقول تعقل لنفسها ، لما أنكرت توحيد موجدها في قوم وعقلته في قوم ، والحد والحقيقة فيها على السواء ، فلهذا جعلنا قوله تعالى (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ليس من قول الكفار بل قال الله عند قولهم (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) «إن هذا لشيء عجاب» حيث جعلوا الإله الواحد آلهة ، وخصوص وصفه أنه إله ، وبه يتميز ، فلا يتكثر بما به يتميز ، ويشهد لهذا النظر قولهم فيما

٥٠٣

حكى الله عنهم (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فهم يعلمون أنهم نصبوهم آلهة ، ولهذا وقع الذم عليهم بقوله (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ)؟ والإله من له الخلق والأمر من قبل ومن بعد. واعلم أنّ الله تعالى عصم لفظ (اللهِ) أن يطلق على أحد ، وما عصم لفظ إله ، فكثرت الآلهة في العالم لقبولها التنكير ، والله واحد معروف لا يجهل ، أقرت بذلك عبدة الآلهة فقالت : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وما قالت : إلى إله كبير هو أكبر منها ؛ ولهذا أنكروا ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن والسنة من أنه إله واحد من إطلاق الإله عليه ، وما أنكروا الله ، ولو أنكروه ما كانوا مشركين ، فبمن يشركون إذا أنكروه؟ فما أشركوا إلا بإله لا بالله ، فقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً؟) وما قالوا : أجعل الآلهة الله؟ فإن الله ليس عند المشركين بالجعل. ومن ذلك قول السامري (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) في الجعل ، ولم يقل : هذا الله الذي يدعوكم إليه موسى ؛ وقول فرعون (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) ولم يقل : إلى الله الذي يدعو إليه موسى عليه‌السلام ؛ وقال : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي).

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ) (٧)

لما جاءهم التعريف على يدي واحد منهم ، ولم يعرفوا العناية الإلهية والاختصاص الرباني والاختلاق لم يكن فيما تعجبوا منه ، لأنه لو أحالوه بالكلية ما تعجبوا ، وإنما نسبوا الاختلاق لمن جاء به إذ كان من جنسهم ومما يجوز عليه ذلك ، حتى يتبين لهم برؤية الآيات فيعلمون أنه ما اختلق هذا الرسول ، وأنه جاءه من عند الله الذي عبد هؤلاء هذه المسماة آلهة عندهم على جهة القربة إلى الله الكبير المتعال ، والاختلاق الكذب لهذا قالوا :

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) (٩)

الاسم الوهاب أول اسم يطلب أن يظهر أثره في الأعيان لفقرها ، والوهب امتنان على

٥٠٤

الموهوب له ، ويبتدىء بإعطاء الوجود لكل عين ، ولما كان الوهب له تعالى ذاتيا فإنه لا يقدح في غناه عن كل شيء ، فكان العزيز الوهاب ، فإنه عز أن يكون غناه علة لشيء ، لأن العلة تطلب معلولها ، والوهب ليس كذلك ، فإنه امتنان على الموهوب له ، والوهاب هو الذي يعطي لينعم لا لطلب شكر ولا عوض.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ) (١٥) فوحد الصيحة.

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (١٦)

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي نصيبنا (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) قالوا ذلك سخرية.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (١٧)

(ذَا الْأَيْدِ) أي صاحب القوة ، ما هو جمع يد ، فكان فيما أعطاه الحق على طريق الإنعام عليه القوة ، ونعته بها.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) (١٨)

السبحة صلاة النافلة ، يقول عبد الله بن عمر وهو عربي في النافلة في السفر : لو كنت مسبحا أتممت ؛ والإشراق أول النهار ، وصلاة الإشراق أربع ركعات ، وهي غير صلاة الضحى ، فإنها ثمان ركعات بعد صلاة الإشراق.

٥٠٥

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠)

الحكمة علم تفصيلي عملي ، والعلم بالمجمل علم تفصيلي ، فإنه فصله عن العلم التفصيلي ، ولو لا ذلك لم يتميز المجمل من المفصل ، فمن الحكمة العلم بالمجمل والتجميل والمفصل والتفصيل ، والحكمة صفة تحكم ويحكم بها ولا يحكم عليها ، فإن الحكيم من حكمته الحكمة فصرّفته ، لا من حكم الحكمة ، فإنه من حكم الحكمة له المشيئة فيها ، ومن حكمته الحكمة فهي المصرفة له ، وإذا قامت الصفة بالموصوف أعطته حكمها عطاء واجبا ، فامتن الله تعالى على داود بأن آتاه الحكمة فقال : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) عملا بإعطاء كل ذي حق حقه ، ولا يفعل ذلك حتى يعلم ما يستحقه كل ذي حق من الحق ، وليس إلا بتبيين الحق له ذلك ، ولذلك أضافه إليه تعالى فقال : (وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) وهي هبة من الله تعالى فأعطاه الحكمة (وَفَصْلَ الْخِطابِ) في المقال ، وهو من الحكمة ، والأمر كله مفصّل في علم الله ، ما عند الله إجمال ، وإنما وقع الإجمال عندنا وفي حقنا وفينا ظهر ، فمن كشف التفصيل في عين الإجمال علما أو عينا أو حقا فذلك الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وليس إلا الرسل والورثة خاصة ، فإنه من أوتي الفهم عن الله من كل وجه فقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب ، وهو تفصيل الوجوه والمرادات من الكلام ، وفصل الخطاب من المقال ، وسلطانه في قلت وقال ، والقول يطلب السمع ، ويؤذن بالجمع ، فالحكيم يجري مع كل حال وموطن بحسب ذلك الحال وذلك الموطن ، فإنه لفصل الخطاب موطن ، تعطي الحكمة لصاحبها أن لا يظهر منه في ذلك الموطن إلا فصل الخطاب ، وهو الإيجاز في البيان في موطنه ، لسامع خاص لذي حال خاص ؛ والإسهاب في البيان في موطنه ، لسامع خاص ذي حال خاص ، ومراعاة الأدنى أولى من مراعاة الأعلى ، فإن ذلك من الحكمة ، فإن الخطاب للإفهام ، فإذا كرر المتكلم الكلام ثلاث مرات حتى يفهم عنه ، كما كان كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يبلغه عن الله للناس يراعي الأدنى ، ما يراعي من فهم من أول مرة ، فيزيد صاحب الفهم في التكرار أمورا لم تكن عنده ، أفادها إياه التكرار ، والأدنى الذي لم يفهم فهم الأول فهم بالتكرار ما فهمه الأول بالقول الأول ، ألا ترى العالم الفهم المراقب

٥٠٦

أحواله يتلو المحفوظ عنده من القرآن ، فيجد في كل تلاوة معنى لم يجده في التلاوة الأولى ، والحروف المتلوة هي بعينها ما زاد فيها شيء ، ولا نقص ، وإنما الموطن والحال تجدد ، ولا بد من تجدده ، فإن زمان التلاوة الأولى ما هو زمان التلاوة الثانية ، فالحكماء على الحقيقة هم أهل الله الرسل والأنبياء والأولياء ، لا الحكماء باللقب ، إلا أن الحكماء باللقب أقرب إلى العلم من غيرهم.

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) (٢٤)

(وَقَلِيلٌ ما هُمْ) ـ الوجه الأول ـ يقول : ما هم قليل ، يعني كثير ، أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهو قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) ـ الوجه الثاني ـ [ما] من وجه قد تكون زائدة ، فيكون القليل هم من آمن بالله ، فإن الموحدين هم الذين وحدوا الله بالله ، وأما الموحدون الذين وحدوا الله لا بالله بل بأنفسهم فهم الذين أشركوا في توحيده ، قال تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ومن رحمة الله بخلقه أن خلق الظن فيهم وجعله من بعض وزعة الوهم ، والله ما يوجد إلا عند ظن العبد به فليظن به خيرا ، ولو لا الظن ما عصى الله مخلوق أبدا ، قال تعالى : (وَظَنَّ داوُدُ) والظن هنا على

٥٠٧

بابه (أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي اختبرناه ، فإن الفتنة في اللسان الاختبار ، تقول العرب : فتنت الفضة على النار أي اختبرتها ؛ والفتنة الابتلاء ، وليس الابتلاء مما يحط درجة العبد عند الله ، بل ما يبتلي الله إلا الأمثل فالأمثل من عباده ، فإن الحق أوصى داود بقوله : (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) فاستغفر داود ربّه أي طلب الستر من الله الحائل بينه وبين الهوى المضل ليتصل به ، فيؤثر في الحكم الذي أرسل به ، فطلب طلبا مؤكدا الستر من ربه ، فإن الاستفعال يؤذن بالتوكيد (وَخَرَّ راكِعاً) ووقع خاضعا (وَأَنابَ) ورجع إلى الله فيما طلب لا لحوله وقوته ، فكان سقوطه إلى الأرض اختيارا قبل أن تسقطه الأهواء ، فكان ركوعه رجوعا إلى أصله من نفسه ، فهو عين الستر الذي طلبه في الاستغفار ، فعصمه الله وستره ، فما خر داود عن زلة أتى بها ، بل رجوعا إلى أسّه.

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٢٥)

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) فقضينا حاجته فيما رجع إلينا فيه ، وسترناه عن الأغيار ، فجهل قدره ، مع تصريحنا بخلافته عنا في الحكم في عبادي والتحكم والتصريف (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) تقريب مما هو له منا ، لا يرجع من ذلك إلى الأكوان والأغيار شيء (وَحُسْنَ مَآبٍ) وخاتمة حسنة ، والسجدة هنا ليست من عزائم السجود ، وقد سجدها داود عليه‌السلام توبة وشكرا معا ، وهي لمن سجدها سجدة شكر ـ إشارة ـ لما كان آدم أول من ظهر فيه أحكام الأسماء الإلهية ، ولم يزل يرتقي في أطوار بنيه ، لأن خلافته لم تكن منبسطة تماما لقلة عدد هذا النوع معه ، ولذلك كان نوح عليه‌السلام أول الرسل حتى بلغ ذلك إلى داود عليه‌السلام ، ومن ثمّ وقع النص على خلافته في الأرض ، وتزوج تسعا وتسعين امرأة ضرب مثال من الأسماء ، فلما طمع في الظهور باسم الذات ، ضرب له المثل المعروف السابق ذكره.

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ

٥٠٨

شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (٢٦)

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) لمن تقدمك أو نيابة عنا ؛ وصرح الحق بالخلافتين على التعيين في حق آدم وداود عليهما‌السلام ، فقال تعالى في خلافة آدم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) يريد آدم وبنيه ، وقال تعالى في داود عليه‌السلام (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) وسبب ذلك لما لم يجعل في حروف اسم داود حرفا من حروف الاتصال جملة واحدة ، فما في اسمه حرف يتصل بحرف آخر من حروف اسمه ، فكان داود عليه‌السلام في دلالة اسمه عليه ، أشبه بني آدم بآدم في دلالة اسمه عليه ، فصرح الله بخلافته في القرآن في الأرض كما صرح بخلافة آدم في الأرض ، فإن حروف آدم غير متصلة بعضها ببعض ، وحروف داود كذلك ، إلا أن آدم فرق بينه وبين داود بحرف الميم الذي يقبل الاتصال القبلي والبعدي ، فأتى الله به آخرا حتى لا يتصل به حرف سواه ، وجعل قبله واحدا من الحروف الستة التي لا تقبل الاتصال البعدي ، فأخذ داود من آدم ثلثي مرتبة الأسماء (الألف والدال) ، وأخذ محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلثيه أيضا ، وهو الميم والدال. وشرف الله داود في هذه الآية بتعيينه باسمه في الخلافة في الأرض ، وجمع له بين أداة المخاطب وبين ما شرفه به ، وهذا شرف لم يجمع لأبيه آدم لا في تعيينه بالاسم ، ولا جمع له بين أداة المخاطب وبين ما شرفه به كما حصل لداود عليه‌السلام في هذه الآية ، وذلك جبرا لقلب داود عليه‌السلام بعد أن جحد آدم الستين سنة التي أعطاها له ، ورغم ذلك فإن الله أراد تأديب داود عليه‌السلام لما يعطيه الذكر الذي سماه الله به من النفاسة على أبيه ، ولا سيما وقد تقدم من أبيه في حقه ما تقدم من الجحد لما امتن الله به عليه ، فلما جبره الله بذكر اسمه في الخلافة ، قال له من أجل ما ذكرناه من تطرق النفاسة التي في طبع هذه النشأة (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) الذي أوحيت به إليك وأنزلته عليك ، أي احكم بما يقتضيه أمر الحق المشروع ، وهو تمشية أو امر الله وإنفاذ كلماته لا غير (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) وهو ما خالف شرعك ، وهو إرادة النفوس التي يخالفها حكم الحق ، فيحتمل قوله تعالى (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) يعني هوى نفسه ، أي لا تحكم بكل ما يخطر لك ، ويحتمل لا تتبع هوى أحد يشير عليك بخلاف ما أوحى الله به إليك ، فإنه تعالى قال (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) ولم يقل تعالى : هواك ، أي لا تحكم بما يهوى

٥٠٩

كل أحد منك ، فإنه لو كان هوى غيره نهي أن يتبعه ، فاتبعه ، فما يتبعه إلا بهوى نفسه ، فطاوع نفسه في ذلك ، فلذلك تعين أنه أراد بالهوى نفسه لا غيره ، وهو أن يأمره بمخالفة ما أمره الله به أن يفعله أو ينهاه عنه ، فقوله تعالى : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) يعني محابك ، بل اتبع محابي وهو الحكم بما رسمته لك ، فشغله ذلك الحذر عن الفرح بما حصل له من تعيين الله له باسمه ، ولكن حصل له الفرح وأخذ حظه منه قبل أن يصل إليه زمان (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) لا عن الله ، فأمره بمراقبة سبيل الله ، وهو ما شرعه لدار القرار التي هي محل سعادتك ، فكان قوله تعالى لخليفته داود عليه‌السلام : (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهو ما شرعه الله لك على الخصوص ، فإن الله تعالى يقول : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) والهوى يحيرك ويتلفك ، ويعمّي عليك السبيل الذي شرعته لك وطلبت منك المشي عليه ، وهو الحكم به ، فالهوى هنا محاب الإنسان ، فأمره الحق بترك محابه إذا وافق غير الطريق المشروعة له ، لأن الهوى يهوي بمتبعه عن درجة الخلافة التي أهّلت لها وأهّلت لك ، فالرجل هو الذي رأى الحق حقا فاتبعه ، وحكم الهوى وقمعه ، (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهو ما شرعه لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله ، والضلال عن سبيل الله اتباع الهوى (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) يحتمل والله أعلم يوم الدنيا ، حيث لم يحاسبوا نفوسهم فيه ، فإن النسيان الترك ، يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا] فإن يوم الدنيا أيضا هو يوم الدين ، أي يوم الجزاء لما فيه من إقامة الحدود ، ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون ، ولم يقل تعالى لداود عليه‌السلام : فإنك إن ضللت عن سبيل الله لك عذاب شديد ؛ فتلطف به في الخطاب ثانيا.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) (٢٧)

(وَما خَلَقْنَا) أي قدّرنا (السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) فما هي عبث فإن الخالق حكيم ، فإذا قدرها فما تكون عبثا ولا باطلا ، فإن ذلك لحكمة فيها يعلمها من علّمه الله ، لذلك قال : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ).

٥١٠

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩)

يقول الله في حق ما أنزل من القرآن إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخاطب به ثلاث طبقات من الناس ، فهو في حق طائفة (بلاغ) يسمعون حروفه إيمانا بها أنها من عند الله لا يعرفون غير ذلك ـ سورة إبراهيم آية ٥٢ ـ وطائفة تلاه عليها (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي يتفكروا فيها وفي معاني القرآن ، حتى يعلموا أن الآتي بها لم يأت بها من نفسه ، بل هي من عند مرسله سبحانه ، وتدبر القرآن من كونه قرآنا وفرقانا ، فللقرآن موطن ، وللفرقان موطن ، فقم في كل موطن باستحقاقه تحمدك المواطن ، والمواطن شهداء عدل عند الله ، فإنها لا تشهد إلا بصدق ، وطائفة ثالثة قال فيها (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أرباب العقول ما كانوا قد علموه قبل ، فإن التذكر لا يكون إلا عن علم غفل عنه أو نسيان من عاقل ، أي ما جاؤوا بما تحيله الأدلة الغامض إدراكها ، فإنها لب الدلالات ، فينتبهون من نوم غفلتهم ويتذكرون بعقولهم ما كانوا قد نسوه ، وهذا يدلك على أنهم كانوا على علم متقدم في شيئية الثبوت وأخذ العهد ، فمن باب الإشارة سمي هذا الجنس بالناس ، اسم فاعل من النسيان معرفا بالألف واللام ، لأنه نسي أن الحق سمعه وبصره وجميع قواه في حال كونه كله نورا ، وهو المقام الذي سأله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ربه أن يقيم فيه أبدا ، فقال : [واجعلني نورا] فإن الله من أسمائه النور ، بل هو النور ، للحديث الثابت [نور أنّى أراه] فلما لم يتذكر الناسي هذه الحال ، وهو في نفسه عليها غافل عنها ، خاطبه الحق مذكرا له بها في القرآن الذي تعبده بتلاوته (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) ما كانوا قد نسوه.

(وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٣٠)

سليمان هبة الله تعالى لداود ، والهبة عطاء الواهب بطريق الإنعام ، لا بطريق الوفاق أو الاستحقاق ، فهو النعمة السابغة ، والحجة البالغة ، والضربة الدامغة.

٥١١

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) (٣٢)

يقول سليمان عليه‌السلام (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) لأنه سماه خيرا ، والخير منسوب إلى الله فقال : (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) إياه بالخيرية أحببته ، فأحب عليه‌السلام حب الخير ، وحب الخير إما أن يريد حب الله إياه ، أو حب الخير من حيث وصف الخير بالحب ، والخير لا يحب إلا الأخيار ، فإنهم محل وجود عينه ، فكذلك سليمان عليه‌السلام قال : (أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ) أي أنا في حبي كالخير في حبه ، ولهذا لما توارت بالحجاب ، أعني الصافنات الجياد ، اشتاق إليها ، لأنه فقد المحل الذي أوجب له هذه الصفة الملذوذة ، فإنها كانت مجلى له فقال.

(رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) (٣٣)

فطفق يمسح بيده على أعرافها وسوقها فرحا وإعجابا بخير ربه :

إن الفتى من رأى الأفراس توصله

به فيمسح بالأعناق والسوق

حبا لها عند ما كانت أدلته

عليه لم يرها جاءت لتشقيق

وكيف جاءت لتشقيق وإن لها

تسبيح خالقها حقا بتصديق

الله كرمها جودا وأهلها

لكل صالحة تأهيل معشوق

وأما المفسرون الذي جعلوا التواري للشمس ، فليس للشمس هنا ذكر ، ولا للصلاة التي يزعمون ، ومساق الآية لا يدل على ما قالوه بوجه ظاهر البتة.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ) (٣٤)

ـ الوجه الأول ـ وأما استرواح المفسرين فيما فسروه بقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ) ليس تلك الفتنة وهو الاختبار إذا كان متعلقه الخيل ولا بد ، فيكون اختبار سليمان عليه‌السلام

٥١٢

إذا رآها هل يحبها عن ذكر ربه لها؟ أو هل يحبها لعينها؟ فأخبر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه أحبها عن ذكر ربه إياها ، لانفسها ، مع حسنها وجمالها وحاجته إليها ، وهي جزء من الملك الذي طلب أن لا ينبغي لأحد من بعده ، فأجابه الحق إلى ما سأل في المجموع ، ورفع الحرج عنه فقال له : (هذا عَطاؤُنا) ـ الوجه الثاني ـ (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً) فأقام إبليس لعنه الله صورة الجنة في الخيال المنفصل لسليمان عليه‌السلام ، ليفتنه بها ولا علم لسليمان عليه‌السلام بذلك ، لأن الصورة المحسوسة التي تظهر فيها الروحانيات تسمى أجسادا ، فصنعت سحرة الجان لسليمان عليه‌السلام أرضا من الذهب الأصفر ورصعتها بالدر والياقوت والجوهر ، تريد فتنته ولم يعلم ، فحسن ظنه بربه واعتقدها من عوائد أفضاله وبشائر إقباله ، فسجد شكرا لله حيث أتحفه بها ، وزاد في معاملته صبرا وهو قوله تعالى : «ثم أناب فأبقاها الله له جنة محسوسة يتنعم بها ، وأثبتها له جنة قدس معجلة يراها مكاشفة عين ، وخصّه بها مدة ما أمهله ، ورجع إبليس خاسرا لأنه أراد بذلك فتنته ـ بحث الفرق بين الأجسام والأجساد ـ الأجسام هي هذه المعروفة في العموم لطيفها وشفافها وكثيفها ، ما يرى منها وما لا يرى ، والأجساد هي ما يظهر فيها الأرواح في اليقظة الممثلة في صور الأجسام ، وما يدركه النائم في نومه من الصور المشبهة بالأجسام فيما يعطيه الحس ، وهي في نفسها ليست بالأجسام.

(قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (٣٥)

قوله «لا ينبغي» أنه يريد لا ينبغي ظهوره في الشاهد للناس لأحد ، وإن حصل بالقوة لبعض الناس ، كمسئلة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع العفريت الذي فتك عليه ، فأراد أن يقبضه ويربطه بسارية من سواري المسجد حتى ينظر الناس إليه ، فتذكر دعوة أخيه سليمان فرده الله خاسئا ؛ فعلمنا من هذه القصة أنه أراد الظهور في ذلك لأعين الناس ، ويحتمل أن الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، الظهور بالمجموع على طريق التصرف فيه ، ثم إن الله أجاب سليمان عليه‌السلام إلى ما طلب منه بأن ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدعوة أخيه سليمان حتى لا يمضي ما قام بخاطره من إظهار ذلك ، ومن هذه الآية نعلم أن حب العارف للمال والدنيا لا يقدح في حبه لله والآخرة ، فإنه ما يحبه منه لأمر ما إلا ما يناسب ذلك الأمر في الإلهيات ،

٥١٣

أترى سليمان عليه‌السلام سأل ما يحجبه عن الله؟ أو سأل ما يبعده عن الله؟ هيهات ، بل هي صفة كمالية سليمانية (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) فما أليق هذا الاسم بهذا السؤال ـ إشارة ـ ارغب في ملك لا ينبغي لسواك ، أي لا يكون ملكك سواك ، بل يكون ملكك عبوديتك ، فتكون أنت عين ملكك ، وتكون نفسك في ملكك تردها وتحكم عليها ، فهذا هو الملك الذي لا يشارك فيه ، فلمثل هذا فليعمل العاملون ، وفي مثله فليتنافس المتنافسون ـ لطيفة ـ لا يعرف لذة الاتصاف بالعبودية إلا من ذاق الآلام عند اتصافه بالربوبية واحتياج الخلق إليه ، مثل سليمان عليه‌السلام حين طلب أن يجعل الله أرزاق العباد على يديه حسا ، فجمع ما حضره من الأقوات في ذلك الوقت ، فخرجت دابة من دواب البحر فطلبت قوتها ، فقال لها : خذي من هذا قدر قوتك في كل يوم ، فأكلته حتى أتت على آخره ، فقالت : زدني فما وفيت برزقي ، فإن الله يعطيني كل يوم مثل هذا عشر مرات ، وغيري من الدواب أعظم مني وأكثر رزقا ، فتاب سليمان عليه‌السلام إلى ربه ، وعلم أنه ليس في وسع المخلوق ما ينبغي للخالق تعالى ، فإنه طلب من الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فاستقال من سؤاله حين رأى ذلك ، واجتمعت الدواب عليه تطلب أرزاقها من جميع الجهات ، فضاق لذلك ذرعا ، فلما قبل الله سؤاله وأقاله ، وجد من اللذة لذلك ما لا يقدر قدره ، ثم إن الله تمم هذه النعمة لسليمان عليه‌السلام بدار التكليف فقال.

(فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) (٣٦)

فجعل الله الريح مأمورة ، يعلمنا أنها تعقل ، ولا يسمى الهواء ريحا إلا إذا تحرك وتموج ، فإذا اشتدت حركته كان زعزعا ، وإن لم يشتد كان رخاء أي ريحا لينا. والريح ذو روح يعقل كسائر أجسام العالم ، وهبوبه تسبيحه ، والتسخير الذي اختص به سليمان وفضل به على غيره ، وجعله الله له من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، هو كونه عن أمره ، فإن الله يقول في حقنا كلنا من غير تخصيص (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) وقد ذكر تسخير الرياح والنجوم وغير ذلك ، ولكن لا عن أمرنا ، بل عن أمر الله ، فما اختص سليمان إن عقلت إلا بالأمر من غير جمعية ولا همة ، بل بمجرد الأمر ، فكان من سليمان مجرد التلفظ بالأمر لمن أراد تسخيره من غير همة ولا جمعية.

٥١٤

(وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) (٣٨)

ثم قال تعالى لسليمان عليه‌السلام إتماما لنعمته عليه.

(هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٩)

(هذا عَطاؤُنا) ولم يقل لك ولا لغيرك (فَامْنُنْ) أي أعط (أَوْ أَمْسِكْ) فرفع عنه الحجر في التصريف بالاسم المانع والمعطي ، وما حجب هذا الملك سليمان عليه‌السلام عن ربه عزوجل ، أما قوله تعالى (بِغَيْرِ حِسابٍ) يعني لست محاسبا عليه ، ولله عباد سليمانيون يقول الله لهم : (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) وهم سبعون ألفا في هذه الأمة ، قد نعتهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الخبر الصحيح ، وعكاشة منهم بالنص عليه.

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) (٤٠)

(وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا) يعني في الآخرة (لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي ما ينقصه هذا الملك من ملك الآخرة شيء ، كما يفعله مع غيره حيث أنقصه من نعيم الآخرة على قدر ما تنعم به في الدنيا ، قال تعالى في حق قوم (أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها).

(وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ) (٤٢)

(ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ) يعني ماء (بارِدٌ) لما كان عليه من فرط حرارة الألم ، فسكّنه الله ببرد الماء (وَشَرابٌ) لإزالة العطش الذي هو من النصب والعذاب الذي مسه به الشيطان ركض أيوب برجله عن أمر ربه ، فأزال بتلك الركضة آلامه ، ونبع الماء الذي هو سر الحياة السارية في كل حي طبيعي ، فمن ماء خلق ، وبه بريء ، فجعله رحمة له ، وهو قوله تعالى.

٥١٥

(وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤٣)

لما لم يناقض الصبر الشكوى إلى الله ، ولا قاوم الاقتدار الإلهي بصبره ، وعلم الله هذا من أيوب عليه‌السلام ، أعطاه الله أهله ومثلهم معهم ، وجعل الحق تعالى ذكرى لنا وله عليه‌السلام ، ورفق الله تعالى بأيوب عليه‌السلام فيما نذره تعليما لنا ، ليتميز في الموفين بالنذر فقال.

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) (٤٤)

(وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) لا تعود لسانك الحنث ، وبر يمينك ولو بالضغث ، وهو قبضة الحشيش ، وجعلت الكفارة في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لسترهم عما يعرض لهم من العقوبة في الحنث ، والكفارة عبادة والأمر بها أمر بالحنث إذا رأى خيرا مما حلف عليه ، فراعى الإيمان (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) لا يرفع اسم الصبر عن العبد إذا حل به بلاء فسأل الله تعالى في رفع ذلك البلاء ، كما فعل أيوب عليه‌السلام فقال : (مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) وأثنى الله عليه فقال : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ) فما قص الحق عليك أمر أيوب عليه‌السلام إلا لتهتدي بهداه ، إذا كان الرسول سيد البشر يقال له (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) فما ظنك بالتابع؟ ولذلك إذا ابتلاك الحق بضر فاسأله رفعه عنك ، ولا تقاومه بالصبر عليه ، وما سماك صابرا إلا لكونك حبست نفسك عن سؤال غير الحق في كشف الضر الذي أنزله بك (إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي رجّاع إلينا فيما ابتليناه به ، وأثنى عليه بالعبودية ، وهذا يدل على أن الشكوى إلى الله لا تقدح في الصبر ، بل من آداب العبودية الشكوى إلى الله في رفع الضر والبلاء ، فليس الصبر حبس النفس عن الشكوى إلى الله في رفع البلاء أو دفعه ، وإنما الصبر حبس النفس عن الشكوى إلى غير الله ، والركون إلى ذلك الغير ـ إشارة ـ أعظم الفتن التي فتن الله بها الإنسان تعريفه إياه بأن خلقه على صورته ، ليرى هل يقف مع عبوديته وإمكانه؟ أو يزهو من أجل مكانة صورته؟ إذ ليس له من الصورة إلا حكم الأسماء ، فيتحكم في العالم تحكم المستخلف القائم بصورة الحق على الكمال وكذلك

٥١٦

من تأييد هذه الفتنة ، قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحكيه عن ربه : إن العبد إذا تقرب إلى الله بالنوافل أحبه ، فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، وذكر اليد والرجل ـ الحديث ـ وإذا علم العبد أنه بهذه المثابة يسمع بالحق ويبصر بالحق ويبطش بالحق ويسعى بالحق لا بنفسه ، وبقي مع هذا النعت الإلهي عبدا محضا فقيرا ، ويكون شهوده من الحق وهو بهذه المثابة ، كون الحق ينزل إلى عباده بالفرح بتوبتهم ، والتبشيش لمن يأتي إلى بيته ، والتعجب من الشاب الذي قمع هواه ، واتصافه بالجوع نيابة عن جوع عبده ، وبالظمأ نيابة عن ظمأ عبده ، وبالمرض نيابة عن مرض عبده ، مع علمه بما تقتضيه عزة ربوبيته وكبريائه في ألوهيته ، فما أثر هذا النزول في جبروته الأعظم ولا في كبريائه الأنزه الأقدم ، كذلك العبد إذا أقامه الحق نائبا فيما ينبغي للرب تعالى يقول العبد : ومن كمال الصورة التي قال إنه خلقني عليها أن لا يغيب عني مقام إمكاني ، ومنزلة عبوديتي ، وصفة فقري وحاجتي ، كما كان الحق في حال نزوله إلى صفتنا حاضرا في كبريائه وعظمته ، فيكون الحق مع العبد إذا وفّى بهذه الصفة ، يثني عليه بأنه نعم العبد إنه أواب ، حيث لم يؤثر فيه هذه الولاية الإلهية ولا أخرجته عن فقره واضطراره ؛ ومن تجاوز حدّه في التقريب انعكس إلى الضد ، وهو البعد من الله والمقت ، فاحذر نفسك فإن الفتنة بالاتساع أعظم من الفتنة بالحرج والضيق ، فإن كنت صاحب غرض ، وتحس بمرض وألم فاحبس نفسك عن الشكوى لغير من آلمك بحكمه عليك ، كما فعل أيوب عليه‌السلام ، وهو الأدب الإلهي الذي علمه أنبياءه ورسله ، فإنه ما آلمك وحكم عليك بخلاف غرضك إلا لتسأله في رفع ذلك عنك ، فإن من لم يشك إلى الله مع الإحساس بالبلاء وعدم موافقة الغرض فقد قاوم القهر الإلهي ، فالأدب كل الأدب في الشكوى إلى الله في رفعه لا إلى غيره ، ويبقى عليه اسم الصبر كما قال تعالى في رسوله أيوب عليه‌السلام (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) في وقت الاضطراب والركون إلى الأسباب ، فلم يضطرب ولا ركن إلى شيء غير الله ، إلا إلينا ، لا إلى سبب من الأسباب. فإنه لا بد طبعا عند الإحساس من الاضطراب وتغير المزاج ، بخلاف الآلام النفسية إذا وردت الأمور التي من شأنها أن تتألم النفوس عند ورودها ، فقد يتلقاها بعض العباد ولا أثر لها فيه على ظاهره ، والأمور المؤلمة إذا أحسّ بها تحرك لها طبعا ، إلا إن شغله عنها أمر يزيل إحساسه ، وكلامنا في ذلك مع الإحساس كأيوب وذي النون سلام الله عليهما.

٥١٧

(وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ) (٤٧)

المصطفون من بين الخلائق باجتبائه (الْأَخْيارِ) وهم الذين تولاهم الله بالخيرة قال تعالى : (أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ) جمع خيرة وهي الفاضلة من كل شيء ، والفضل يقتضي الزيادة على ما يقع فيه الاشتراك مما لا يشترك فيه من ليس من ذلك الجنس. فالأخيار كل من زاد على جميع الأجناس بأمر لا يوجد في غير جنسه ، من العلم بالله على طريق خاص لا يحصل إلا لأهل ذلك الجنس ، ثم في هذا الجنس العالم بهذا العلم الخاص الذي به سموا أخيارا منهم من أعطي الإفصاح عما علمه ، ومنهم من لم يعط الإفصاح عما علمه في نفسه ، فالذي أعطي الإفصاح أخير ممن هو دونه ، وهو المستحق بهذا الاسم ، فإن الخير بالكسر الكلام ، يقال : في فلان كرم وخير ، أي كرم وفصاحة ، فإذا أعطي الفصاحة عما عنده اهتدى به من سمع منه فكانت المنفعة به أتم ، فكان أفضل من غيره ، ولهذا ورد في أوصاف المرسلين ، لأن الرسول لا بد أن يكون مؤيدا بالنطق ، ليبين لمن أرسل إليه ما أرسل به إليه ، فهم الأخيار أصحاب هذه الفضيلة.

(وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ

٥١٨

مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ) (٦٢)

يقول أهل النار هذا القول عند ما لا يرون من كانوا يعدونهم من الأشرار ، وهو من دخل النار من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي بعث إليها في مشارق الأرض ومغاربها ، فلا تخلد أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النار ، فلا يبقى في النار موحد ممن بعث إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (٦٤)

فوصفهم بالمخاصمة وهي المشاجرة ، ومنها (قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) و (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) وغير ذلك مما ورد في القرآن ، وذلك الخصام هو نفس عذابهم في تلك الحال.

(قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٦٥)

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ الْواحِدُ) في ألوهيته (الْقَهَّارُ) للمنازعين له في ألوهيته من عباده ، والمزاحمين له في أفعاله ، والقهار لمن نازعه من عباده بجهالة ولم يتب.

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٦٩)

الخلاف فيما علا عن رتبة المولد من الأركان أقل وإن كان لا يخلو ، ألا ترى إلى الملأ الأعلى كيف يختصمون؟ وما كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون حتى أعلمه الله بذلك ، فقال تعالى مخبرا عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن اختصام الملأ الأعلى في الكفارات ، ونقل الأقدام إلى

٥١٩

الصلاة في الجماعات ، وإسباغ الوضوء في المكاره ، والتعقيب (١) في المساجد إثر الصلوات] فمعنى ذلك أي هذه الأعمال أفضل؟ ومعنى أفضل على وجهين : الواحد أي الأعمال أحب إلى الله من هذه الأعمال ، والوجه الآخر أي الأعمال أعظم درجة في الجنة للعامل بها ، فنزاع الملائكة هنا في الأولى ؛ وقد ورد اختصام ملائكة الرحمة وملائكة العذاب في الشخص الذي مات بين القريتين ؛ ومن اختصام الملأ الأعلى أن ملائكة التوحيد والوحدات ـ وهم من ملائكة العرش الذين لا يرون إلا الكلمة الواحدة وهي الرحمة العامة ـ إذا جمعهم مع المقسمات ـ وهم من ملائكة الكرسي أي المقسمات أمرا الذين لا يشهدون إلا انقسام الكلمة إلى رحمة وغضب ـ إذا جمعهم مجلس واحد وجرت بينهما مفاوضات في الأمر اختصما ، لأنهما على النقيض ، وهذا من جملة ما يختصم فيه الملأ الأعلى ، فيقول الصنف الواحد بالوحدة ، ويقول الآخر بالانقسام والثنوية. فالخصام من حكم الملائكة لأنها تحت حكم الطبيعة ، ولو لا أن الملأ الأعلى له جزء من الطبيعة ، ومدخل من حيث هيكله النوري ، ما وصفهم الحق بالخصام ، ولا يختصم الملأ الأعلى إلا من حيث المظهر الطبيعي الذي يظهر فيه ، كظهور جبريل في صورة دحية ، وكذلك ظهورهم في الهياكل النورية المادية ، وهي هذه الأنوار التي تدركها الحواس ، فإنها لا تدركها إلا في مواد طبيعية عنصرية ، وأما إذا تجردت عن هذه الهياكل فلا خصام ولا نزاع ، إذ لا تركيب. ولنبين أولا سبب الاختصام فنقول : هذه الآية مما يدل على أن الملائكة من عالم الطبيعة مخلوقون ، مثل الأناسي غير أنهم ألطف ، كما أن الجن ألطف من الإنسان مع كونهم من نار من مارجها ، والنار من عالم الطبيعة ، فكذلك الملائكة عليهم‌السلام من عالم الطبيعة ، وهم عمّار الأفلاك والسموات ، فإنهم يختصمون ، والخصام من الطبيعة لأنها مجموع أضداد ، والمنازعة والمخالفة هي عين الخصام ، ولا يكون إلا بين ضدين ، فلو لا أن الملائكة في نشأتها على صورة نشأتنا ، أي أن نشأتها عنصرية ، ما ذكر الله عنهم أنهم يختصمون ، والخصام لا يكون إلا مع الأضداد ، فالملائكة عليهم‌السلام لو لم تكن الأنوار التي خلقت منها موجودة من الطبيعة ، مثل السموات التي عمرتها هؤلاء الملائكة ، فإنها كانت دخانا ، فكانت السموات أجساما شفافة ، لأن كمية الحرارة واليبس فيه أكثر من الرطوبة ، وخلق الله عمّار كل فلك من طبيعة فلكه ، فلذلك

__________________

(١) التعقيب هو الجلوس في المسجد بعد الفراغ من الصلاة لذكر الله.

٥٢٠