رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

خلاف ما خلق له (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ) أي قدّرتك (مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) المقصود هو شيئية الوجود لأنه جاء بلفظة تك ، وهي حرف وجودي فنفاه بلم ، أي ما كانت لك شيئية الوجود ، وهي على الحقيقة شيئية الظهور ، فإياك أن تتوهم أن هذا الخطاب لزكريا في حق نفسه لإبطال المعنى فيه ، فإن خلق ابنه أعجب من خلقه في حكم العادة ، لأن زكريا عليه‌السلام قد أظهر العلة ، فلو أحاله على خلق نفسه لما أتاه بأعجب مما تعجب منه ، وإنما أشار إليه بذلك أن ينظر في أول موجود ، وهي الحقيقة الإنسانية قبل كل شيء ، وهي أم الأشياء كلها وليست من شيء ، وهي سبب كل شيء ، وليست مسببة لشيء ، ولهذا قال له (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) فإن هذا الخلق الترابي الآدمي مسبب عن أشياء ، قال الله تعالى في خلق الجسد الآدمي (خلقكم من تراب) ثم قال (من طين) وهو خلط الماء والتراب ، وقال (من حمأ مسنون) وهو المتغير الريح وهو جزء الهواء ، وقال (من صلصال كالفخار) وهو جزء النار ، فهذه أمهات الجسد الآدمي ، وهي كثيرة ، فلا يصح على هذا قوله (وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) فإنه قد كان شيئا وانتقل في أطوار العالم من شكل إلى شكل حتى صار على هذه الصفة ، فقوله على ما تعطيه الحقائق ويعظم التعجب عند زكريا عليه‌السلام (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) إنما يشير إلى البروز الأول من غير شيء ، لأن زكريا عليه‌السلام إنما تعجب من بشراه له تعالى بيحيى على كبره وامرأته عاقر ، فذكر له ما هو أعجب من ذلك وهو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، فإن النقلة في مراتب الوجود من وجود إلى وجود باختلاف الأحوال أهون من إبراز المعدوم ، فلهذا كان أعجب مما تعجب منه زكريا ، ومن هذا تعجبت امرأة إبراهيم عليه‌السلام حين بشرت باسحاق عليه‌السلام ، فقالت (يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) فشرّك الله تعالى بين المرأة والرجل في هذا التعجب ، فشرّك بينهما في العلم ، لأن التعجب على قدر العلم ، ف (لَمْ تَكُ شَيْئاً) يعني ولم تك موجودا ، فظهر لعينه وإن كان في شيئية ثبوته ظاهرا متميزا عن غيره بحقيقته ، ولكن لربه لا لنفسه ، يقول لزكريا عليه‌السلام : فكن معي في حال وجودك من عدم الاعتراض في الحكم والتسليم لمجاري الأقدار كما كنت في حال عدمك. ويقول للإنسان : ينبغي لك أن تكون وأنت في وجودك من الحال معي كما كنت وأنت في حال عدمك من قبولك لأوامري وعدم اعتراضك. يأمره بالوقوف عند

٤١

حدوده ومراسمه ، فيتكلم حيث رسم له أن يتكلم ، ويتكلم بما أمره به أن يتكلم ـ راجع آية ٢١ ـ.

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (١١)

أمر الله تعالى زكريا عليه‌السلام بصمت ثلاثة أيام ، وأن يأمر قومه بالذكر بكرة وعشية ، ليسوي بذلك بين ظاهره مع وجود باطنه فيحيا ، ويستعين بذكر قومه لمناسبتهم إياه إذ كانوا لا يصلحون للصمت ، فالذكر أولى بهم.

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (١٢)

يعني حكم الإمامة وهو مقام الإمامة مع تسميته صبيا ، فإن الصبي من صبا أي مال ، وبذلك سمي الصبي صبيا لميله إلى حكم الطبيعة ونيل أغراضه ، فهو مائل إلى شهواته ، والحكم هو القضاء المحكوم به على المحكوم عليه ، ولما كان الناس إنما يستغربون الحكمة من الصبي الصغير دون الكبير ، لأنهم ما عهدوا إلا الحكمة الظاهرة عن التفكر والروية ، وليس الصبي في العادة بمحل لذلك ، فيقولون إنه ينطق بها فتظهر عناية الله بهذا المحل الظاهر ، فزاد يحيى بأنه على علم بما نطق به علم ذوق ، لأن مثل هذا في هذا الزمان والسن لا يصح أن يكون إلا ذوقا ، فآتاه الله الحكم صبيا وهو حكم النبوة التي لا تكون إلا ذوقا ، فيحيى آتاه الله الحكم صبيا ولم يجعل له من قبل سميا.

(وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) (١٥)

شهادة إلهية مقطوع بها عناية من غير تعمل ، وقد قال عيسى عليه‌السلام (والسلام علي يوم ولدت) فسلّم بالتعريف ، وهنا سلّم الحق على يحيى عليه‌السلام بالتنكير ، والتنكير

٤٢

أعم ، فاعلم أن التعريف الذي جاء به عيسى ما هو تعريف عين بل هو تعريف جنس ، فلا فرق بينه بالألف واللام وبين عدمهما ، فعيسى ويحيى في السلام على السواء كما هما في الصلاح كذلك ، فإن الله تعالى قال عن يحيى عليه‌السلام (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) فعيّنه في النكرة ، وقال في عيسى (ومن الصالحين) فعيّنه في النكرة.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧)

جبريل عليه‌السلام هو الذي تمثل لمريم بشرا سويا عند إيجاد عيسى عليه‌السلام في حضرة الخيال المحسوس يقظة ، فانتقل حكم البشر إلى الروح لما ظهر بصورة البشر ، فأعطى الولد الذي هو عيسى ، وليس ذلك من شأن الأرواح ، ولكن انتقل حكم الصورة إليها بقبوله للصورة. واعلم أن الأرواح لها اللطافة ، فإذا تجسدت وظهرت بصورة الأجسام كثفت في عين الناظر إليها ، والأجسام لها الكثافة شفافها وغير شفافها ، فإذا تحولت في الصور في عين الرائي أو احتجبت مع الحضور فقد تروحنت ، أي صار لهم حكم الأرواح في الاستتار ، وأما سبب كثافة الأرواح وهي من عالم اللطف فلكونهم خلقوا من الطبيعة ، وإن كانت أجسامهم نورية فمن نور الطبيعة كنور السراج ، فلهذا قبلوا الكثافة ، فظهروا بصور الأجسام الكثيفة ، كما أثر فيهم الخصام حكم الطبيعة لما فيها من التقابل والتضاد ، فمن هذه الحقيقة التي أورثتهم الخصومة تجسدوا في صور الأجسام الكثيفة ، وأما الكثيف يرجع لطيفا فسببه التحليل ، فإن الكثائف من عالم الاستحالة ، وكل ما يقبل الاستحالة يقبل الصور المختلفة والمتضادة ، والأرواح لا تتشكل إلا فيما تعلمه من الصور ، ولا تعلم شيئا منها إلا بالشهود ، فكانت الأرواح تتصور في كل صورة في العالم إلا في صورة الإنسان قبل خلق الإنسان ، فإن الأرواح وإن كان لها التصور فما لها القوة المصورة كما للإنسان ، فإن القوة المصورة تابعة للفكرة التي هي صفة للقوة المفكرة ، فالتصور للأرواح من صفات ذات الأرواح النفسية لا المعنوية ، لا لقوة مصورة تكون لها ، إلا أنها وإن كان لها التصور ذاتيا فلا تتصور إلا فيما أدركته من صور العالم الطبيعي ، وقوله تعالى (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) تنبيها على المباشرة ، فإنه لا يوجد أحد من بني آدم إلا عن مباشرة ، فكان الروح واسطة

٤٣

بينه تعالى وبين مريم في إيجاد عيسى ـ دقيقة ـ لما كان وجود عيسى عليه‌السلام عن تمثل روح في صورة بشر ولم يكن عن ذكر بشري ، لهذا غلب على أمة عيسى ابن مريم دون سائر الأمم القول بالصورة ، فيصورون في كنائسهم مثلا ويتعبدون في أنفسهم بالتوجه إليها ، فإن أصل نبيهم عليه‌السلام كان عن تمثل ، فسرت تلك الحقيقة في أمته إلى الآن.

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) (١٨)

لما تمثل جبريل لمريم عليها‌السلام بشرا سويا ، تخيلت أنه يريد مواقعتها ، فاستعاذت منه ، استعاذت بجمعية منها ليخلصها الله منه لما تعلم أن ذلك مما لا يجوز.

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) (١٩)

(قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) جئت (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) تمثل الملك لمريم بشرا سويا وجعله الحق تعالى روحا ، إذ كان جبريل روحا ، فوهبها عيسى عليه‌السلام ، فكان انفعال عيسى عن الملك الممثل في صورة الرجل ، ولذلك خرج على صورة أبيه ، إذ كل مؤثّر أب وكل مؤثّر فيه أم ، والمتولد من ذلك يسمى ابنا ومولدا ، فخرج عيسى ذكرا بشرا روحا ، فجمع بين الصورتين اللتين كان عليهما أبوه الذي هو الملك ، فإنه روح في عينه بشر من حيث تمثله في صورة البشر ، فما تكون عيسى إلا عن اثنين ، فجبريل وهب لمريم عيسى في النفخ كما ينفخ الروح في الصورة عند تسويتها ، فصورة عيسى مثل تجسد الأرواح لأنه عن تمثل ، فلو تفطنت لخلق عيسى لرأيت علما عظيما تقصر عنه أفهام العقلاء ، وهو التحاق البشر بالروحاني والتحاق الروحاني بصورة البشر ، فخرج عيسى على صورة جبريل في المعنى والاسم والصورة ، ففي الصورة كان بشرا لتمثل جبريل في صورة البشر ، وفي الاسم فإن عيسى سمي روحا وجبريل من أسمائه الروح ، وفي المعنى فكان يحيي الموتى كما يحيي جبريل.

(قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) (٢٠)

٤٤

فإن الخصم يقول لا ولد إلا من والد ، ولا بيضة إلا من دجاجة ، فأراهم الله تعالى عيسى حجة عليهم ، ولذلك كان آية.

(قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) (٢١)

لما كانت أحدية الله ذاتية لا نسبة بينها وبين طلب الممكنات ، ومن المحال أن يعقل العقل وجود العالم من هذه الأحدية التي لها الغنى عن العالمين ، وجب عليه أن يرجع إلى النظر فيما يطلبه الممكن من وجود من له هذه الأحدية ، فنظر فيه من كونه إلها يطلب المألوه ، وهو تركيب الأدلة وترتيبها ، ولما كان يجب على الرجل الجمع بين العلم بتلك الأحدية وبين العلم بكونه إلها ، فقال تعالى لزكريا عليه‌السلام (كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) فتعدد الأحكام على المحكوم عليه مع أحدية العين إنما ذلك راجع إلى نسب واعتبارات ، فعين الممكن لم تزل ولا تزال على حالها من الإمكان ، فلم يخرجها كونها مظهرا حتى انطلق عليها الاتصاف بالوجود عن حكم الإمكان فيها ، فإنه وصف ذاتي لها ، والأمور لا تتغير عن حقائقها لاختلاف الحكم عليها لاختلاف النسب ، لذلك قال (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) فنفى الشيئية عنه وأثبتها له ، والعين هي العين لا غيرها ، فأحاله إلى النظر والاستدلال ، ولم يقل ذلك للمرأة وهي مريم ، بل قال لها (كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) فإن المرأة تنقص عن الرجل في العلم بالأحدية الذاتية ، فلم يكلفها النظر في الجمع بينها وبين العلم بالله من كونه إلها ، بل قال لها (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) مع أنه متعين على مريم العلم بالأحدية الذاتية وعلم الأحدية الإلهية التي هي أحدية الكثرة ، فإنها ممن تحصّل له درجة الكمال.

(فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) (٢٢)

جسم عيسى متكون من ماء أمه مريم ، وينكر ذلك الطبيعيون ويقولون إنه لا يتكون من ماء المرأة شيء ، وذلك ليس بصحيح.

٤٥

(فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) (٢٣)

عيسى عليه‌السلام لم يلبث في البطن اللبث المعتاد ، فإنه لم ينتقل في أطوار النشأة الطبيعية بمرور الأزمان المعتادة ، بل كان انتقاله يشبه البعث ، أعني إحياء الموتى يوم القيامة في الزمان القليل على صورة ما جاؤوا عليها في الزمان الكثير. واعلم أنه لا عداب على النفوس أعظم من الحياء ، حتى يود صاحب الحياء ان لم يكن شيئا كما قالت الكاملة (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) قالت ذلك وهي بريئة في نفس الأمر عند الله ، حياء من الناس ، لما علمت من طهارة بيتها وآبائها ، فخافت من إلحاق العار بهم من أجلها ، فهذا حياء من المخلوق كيف نسبوا إليها ما لا يليق ببيتها ولا بأصلها ، فبرأها الله مما نسبوا إليها لما نالها من عذاب الحياء من قومها ، فإن عيسى عليه‌السلام هو عين الكلمة التي ألقاها الله إلى مريم ، لا غير ذلك ، ولا علمت غير ذلك ، فلو كانت الكلمة الإلهية قولا من الله وكلاما لها مثل كلامه لموسى عليه‌السلام لسرت ولم تقل (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) فلم تكن الكلمة الإلهية التي ألقيت إليها إلا عين عيسى روح الله وكلمته ، وهو عبده ، فنطق عيسى ببراءة أمه في غير الحالة المعتادة ليكون آية ، فنفّس الله عن أمه بنطقه ما كان أصابها من كلام أهلها بما نسبوها إليه مما طهرها الله عنه.

(فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) (٢٥)

فكان ذلك شهادة مبرئة لمريم عليها‌السلام بما سقط من الثمر في هزها جذع النخلة اليابس ونطق ابنها في المهد بأنه عبد الله ، وهما شاهدان عدلان عند الله ، إذ أكثر الشرع في الحكومة بشاهدين عدلين : ولا أعدل من هذين وقام الشاهد الأول بهز الجذع للمناسبة الموجودة ، فإن النخل لا ينتج إلا بتذكير ، فلما هزت الجذع اليابس أنتج من غير تذكير للحين ، كما فعل بعيسى عليه‌السلام ، وأما الشاهد الثاني فهو نطق عيسى في المهد ، شاهد ثان على أهل الجحد.

٤٦

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) (٢٨)

(يا أُخْتَ هارُونَ) المقصود هنا هارون عليه‌السلام ، وقولهم (يا أُخْتَ هارُونَ) فإن مريم أخت له دينا ونسبا ، فإذا قيل إنه ما هو أخوها لأن بينهما زمانا طويلا ، قلنا : ألا ترى إلى قوله تعالى (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) ما هذه الأخوة؟ أترى هو أخو ثمود لأبيه وأمه فهو أخوهم؟ فسمى القبيلة باسم ثمود ، وكان صالح من نسل ثمود ، فهو أخوهم بلا شك ، ثم جاء بعد ذلك بالدين ، ألا ترى أصحاب الأيكة لما لم يكونوا من مدين ، وكان شعيب من مدين ، فقال في شعيب أخو مدين (وإلى مدين أخاهم شعيبا) ولما جاء ذكر أصحاب الأيكة قال (إذ قال لهم شعيب) ولم يقل أخاهم ، لأنهم ليسوا من مدين وشعيب من مدين.

(فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) (٢٩)

عدلت مريم عليها‌السلام إلى الإشارة من أجل أهل الإفك والإلحاد ، فإن الإشارة لا تكون إلا بقصد المشير بذلك أنه يشير ، لا من جهة المشار إليه ، والإشارة إيماء ، جاءت به الأنباء فهي إشارة على رأس البعد ، وهي على قسمين : إشارة تقتضي البعد ، وتبلغ ما لا يبلغ الصوت ، وإشارة تقتضي القرب ولكن بحضور ثالث أو أكثر ، فالبعد الذي فيه ، كون الأغيار حاضرين ، فأشارت إليه متكلة عليه ، فبرأتها شهادته مما قيل ، وتلي ذلك في كل جيل ، في قرآن وزبور وتوراة وإنجيل (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) لما عندهم من حكم المواطن ، وآتى الله تعالى عيسى عليه‌السلام الحكم صبيا ، وهو حكم النّبوة التي لا تكون إلا ذوقا ، فمن حكمه أن حكم في مهده على مرأى من قومه الذين افتروا في حقه على أمه مريم ، فبرأها الله بنطقه وبحنين جذع النخلة إليه ، ومن حكمه عليه‌السلام.

٤٧

(قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٣٠)

لما كان عيسى عليه‌السلام قد آتاه الله الحكم صبيا وهو رضيع في المهد ، فقد أيده ببيان ذلك ، فنطق عليه‌السلام في المهد بالإقرار والجحد ، وبدأ عليه‌السلام في نطقه بالعبودية ، فقال لقومه في براءة أمه لما علم من نور النبوة التي في استعداده أنه لا بد أن يقال فيه إنه ابن الله ، فقال عن نفسه إخبارا بحاله مع الله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) فبدأ في أول تعريفه وشهادته في الحال الذي لا ينطق مثله في العادة ، فما أنا ابن لأحد ، فأمي طاهرة بتول ، ولست بابن لله ، كما أنه لا يقبل الصاحبة لا يقبل الولد ، ولكني عبد الله مثلكم ، فحكم على نفسه بالعبودية لله ، وما قال ابن فلان لأنه لم يكن ثمّ (آتانِيَ الْكِتابَ) فحصل له إنجيله قبل بعثه ، فكان على بينة من ربه ، فحكم بأنه مالك كتابه الإلهي (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) فنطق بنبوته في وقتها عنده وفي غير وقتها عند الحاضرين ، لأنه لا بد له في وقت رسالته أن يعلم بنبوته كما جرت عادة الله في الأنبياء قبله ، وحكم بأن النبوة بالجعل لئلا يتخيل أن ذلك بالذات ، بل هو اختصاص إلهي.

(وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١)

فلما أبان عن أنه أوتى مقام الإمامة مع تسميته صبيا ، قال (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) أي محلا وعلامة على زيادات الخير عندكم ، وخصني بزيادة لم تحصل لغيري ، وتلك الزيادة ختمه للولاية ، ونزوله في آخر الزمان وحكمه بشرع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يكون يوم القيامة ممن يرى ربه الرؤية المحمدية في الصورة الإلهية (أَيْنَ ما كُنْتُ) في المهد وغيره ، ويعني في كل حال من الأحوال ، ما تختص البركة بسببي فيكم في حال دون حال من دنيا وآخرة ، فإنه ذو حشرين يحشر في صف الرسل ويحشر معنا في أتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ) المفروضة في أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن أقيمها ، لأنه جاء بالألف واللام فيها (وَالزَّكاةِ) أيضا كذلك ، وأراد بالوصية بالصلاة والزكاة العبادة ، كما تدل على العمل هي على العبادة أدل ، لأنها تفتقر في كونها عبادة إلى بيان ، وإذا أريد بها العمل احتيج إلى تعيين ذلك العمل وبيان صورته ، حتى يقيم نشأته هذا المكلّف به (ما دُمْتُ حَيًّا) زمان التكليف وهو الحياة الدنيا ،

٤٨

فأراد ما دام في عالم التكليف والتشريع ، يعني حياة التكليف في ظاهر الأمر عند السامعين ، وعندنا أنه لما أوصاه بالصلاة والزكاة وهي العبادة ، دل على أنه لا يزال حيا أينما كان ، وإن فارق هذا الهيكل بالموت فالحياة تصحبه ، لأنها صفة نفسية له ، ولا سيما وقد جعله روح الله.

(وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) (٣٢)

ثم ذكر عليه‌السلام أنه بر بوالدته أي محسن إليها ، فأول إحسانه أنه برأها مما نسب إليها في حالة لا يشكون في أنه صادق في ذلك التعريف ، فمن بره بها كونه برأها مما نسب إليها بشهادته ، وأخبر أنه شق في خلقه ، فإن لأمه عليه ولادة لما كانت محل تكوينه ، وذلك بقوله (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) ولم يقل : برا بوالديّ ، فأخبر أنه شق أي من أنثى فقط ، فقلت نسبته العنصرية ، وأتى عليه‌السلام في كل ما ادعاه ببنية الماضي ليعرف السامع بحصول ذلك كله عنده وهو صبي في المهد ، وقد ذكر أنه آتاه الكتاب والحكمة ، ولكن غاب عن أبصار الناس إدراك الكتاب الذي آتاه حتى ظهر في زمان آخر ، وأما الحكمة فظهر عينها في نفس نطقه بمثل هذه الكلمات وهو في المهد ، وهو يريد بلفظ الماضي الحال والاستقبال ، فما كان منه في الحال فنطقه شهادة ببراءة أمه ، وتنبيها وتعليما لمن يريد أن يقول فيه إنه ابن الله ، فنزه الله ، وهو نظير براءة أمه مما نسبوا إليها ، فهو في جناب الحق تنزيه وفي جناب الأم تبرئة ، ويدل لفظ الماضي فيه «وأينما كنت» أن يكون له التعريف بذلك من الله ، ثم تمم فقال (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) إذ لا يكون ذلك ممن يكون إلا بالجهل ، والجهل فيه إنما هو من قوة سلطان ظلمة العنصر ، ويريد بقوله (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) فإن الجبروت وهو العظمة يناقض العبودة وهو قوله (إني عبد الله) ويريد أيضا بقوله (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) أي لا أجبر الأمة التي أرسل إليها بالكتاب والصلاة والزكاة ، إنما أنا مبلغ عن الله لا غير ، ثم قال معرّفا عن أمر إلهي.

(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) (٣٣)

قول عيسى عليه‌السلام أكمل في الوصلة ممن قيل فيه (وسلام عليه يوم ولد) وهو

٤٩

يحيى ، فهذا مقام أول لهذا المقام الثاني ، فإن يحيى من الحياة ، وهي مسخرة لعيسى عليه‌السلام فإنه كان يحيي الموتى ، لهذا قلنا فيه أعلى في قوله (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) فعرّف عليه‌السلام بما له قبل فطامه ، وحكم على نفسه بالاستقامة قبل استحكامه ، وشهد لنفسه بقبول الوصية الإلهية ، بالصلاة النورية والزكاة البرهانية ، وسلم على نفسه في الثلاثة الأحوال ، فإنه لما كان عليه‌السلام في المهد دلالة على براءة أمه مما نسب إليها لم يترجم عن الله إلا هو بنفسه ، فقال (وَالسَّلامُ عَلَيَّ) يعني من الله ، لعلمه بمرتبته من ربه وحظه (يَوْمَ وُلِدْتُ) بما نطقت فيكم به من أني عبد الله ، فسلمت من انتساب وجودي إلى سفاح أو نكاح ، ويعني له السلامة في ولادته من تأثير العبد المطرود الموكل بالأطفال عند الولادة ، حين يصرخ الولد إذا وقع من طعنته ، فلم يكن لعيسى عليه‌السلام صراخ ، بل وقع ساجدا لله تعالى (وَيَوْمَ أَمُوتُ) يكذّب من يفتري عليه أنه قتل ، فلم يقل ويوم أقتل ، فكأنه يقول : فأسلم من وقوع القتل الذي ينسب إلي من يزعم أنه قتلني ، وهو قول بني إسرائيل (إنا قتلنا المسيح ابن مريم) فأكذبهم الله فقال (وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم) فقال لهم إن السلام عليه يوم يموت سالما من القتل ، إذ لو قتل قتل شهادة ، والشهيد حيّ غير ميت ، ولا يقال فيه إنه ميت كما ورد عندنا النهي في ذلك ، وكذلك لم يزل الأمر ، فأخبر أنه يموت ولا يقتل ، فذكر السلام عليه يوم يموت (وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) ثم ذكر أن السلام عليه يوم يبعث حيا في القيامة الكبرى ، أكّد موته ، والقيامة موطن سلامة الأبرياء من كل سوء ، مثل الأنبياء وغيرهم من أهل العناية ، فهو صاحب سلامة في هذه المواطن كلها ، وما ثم موطن ثالث ، ما هي إلا حياة دنيا وحياة أخرى بينهما موت ، ثم نزه نفسه تعالى عما قاله أهل الضلالة من الضلال ، فقال.

(ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ

٥٠

كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٩)

إن الله يظهر الموت وإن كان نسبة يوم القيامة في صورة كبش أملح ، وينادي يا أهل الجنة فيشرئبون ، وينادي يا أهل النار فيشرئبون ، وليس في النار في ذلك الوقت إلا أهلها الذين هم أهلها ، فيقال للفريقين أتعرفون هذا؟ ـ وهو بين الجنة والنار ـ فيقولون : هو الموت ، ويأتي يحيى عليه‌السلام وبيده الشفرة فيضجعه ويذبحه ، وينادي مناد : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، وذلك هو يوم الحسرة ، فأما أهل الجنة إذا رأوا الموت سروا برؤيته سرورا عظيما ، ويقولون له بارك الله لنا فيك ، لقد خلصتنا من نكد الدنيا وكنت خير وارد علينا ، وخير تحفة أهداها الحق إلينا ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : [الموت تحفة المؤمن] وأما أهل النار إذا أبصروه يفرقون منه ويقولون له : لقد كنت شر وارد علينا ، حلت بيننا وبين ما كنا فيه من الخير والدعة ، ثم يقولون له : عسى تميتنا فنستريح مما نحن فيه ، فذبح الموت أعظم حسرة ، وذبحه لتنقطع الكرّة ، وإنما سمي يوم الحسرة ، لأنه حسر للجميع أي ظهر عن صفة الخلود الدائم للطائفتين ، ثم تغلق أبواب النار غلقا لا فتح بعده ، وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضها في بعض ليعظم انضغاط أهلها فيها ، ويرجع أسفلها أعلاها وأعلاها أسفلها ، وترى الشياطين والناس فيها كقطع اللحم في القدر إذا كان تحتها النار العظيمة ، تغلي كغلي الحميم ، فتدور بمن فيها علوا وسفلا ، كلما خبت زدناهم سعيرا بتبديل الجلود ، وقد يكون يوم الحسرة يوم القيامة يوم يقول الشقي : يا حسرتا على ما فرطت ، فهو يوم الحسرة أي يوم الكشف لإظهاره ما كان يخفى ويبطن ، لأنه من حسرت الثوب عني فظهر ما تحته أي أزلته ، أو من حسرت عن الشيء إذا كشفت عنه ، فكأنه يقول : يا ليتني حسرت عن هذا الأمر في الدنيا فأكون على بصيرة من أمري ، فإن أحدا لا يؤاخذه على ما جناه سوى ما جناه ، فهو الذي آخذ نفسه فلا يلو من إلا نفسه ، ومن أحوال ذلك اليوم أن المؤمن الذي لا علم له وهو من أهل الجنة ، يرى منازل العلماء

٥١

بالله فيتحسر ويندم ، فيعمد الله إلى من هو من أهل النار من العلماء فيخلع عنه ثوب علمه ويكسوه هذا المؤمن ليرقى به في منزلة ذلك العلم من الجنة ، لأنه لكل علم منزلة في الجنان لا ينزل فيها إلا من قام به ذلك العلم ، لأن العلم يطلب منزلته من الجنان ، والعالم الذي كان له هذا العلم هو من أهل النار الذين هم أهلها ، والعلم لا يقوم بنفسه فينزل بنفسه في تلك المنزلة ، فلا بد له من محل يقوم به ، فيخلعه الله على هذا المؤمن السعيد الذي لا علم له فيرقى به العلم إلى منزلته ، فما أعظمها من حسرة ، فإن الله لا يبقي في الدنيا عند الموت عند أهل النار الذين هم أهلها سوى العلم الذي يليق أن يكون عليه أهل النار ، وما عدا ذلك من العلوم التي لا تصلح أن تكون إلا لأهل الجنة ، يدخل الله بها على العالم به في الدنيا أو عند الاحتضار شبهة يخطرها له تزيله عن العلم أو تحيره ، ثم يموت على ذلك ، وكان ذلك في نفس الأمر علما ، فهذا الصنف من العلم هو الذي يخلع على أهل الجنان إذا لم يتقدم لهم علم به في الدنيا ، ويطمع فيه من قد كان علمه من أهل النار فيقام عليه الحجة بأنه مات على شبهة.

(إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) (٤٠)

فهو تعالى الوارث إذا مات من عليها ، فإنه إذا وقعت الفرقة بين المالك والمملوك فهو الوارث لهما ، فقال تعالى (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) عينا وحكما ، فأما في العين فقوله (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) وعلى الحقيقة ما ورث إلا الوجود الذي يتجلى فيه لمن ظهر من خلقه ، وهو صور الممكنات وأعراضها ، لأن الوارث لا يكون مع وجود الموروث عنه وبقائه ، وإنما يكون بعد انتقاله وعدمه من هذا الموطن ، وهو اتصافه بالعدم ، وليس ذلك إلا للصور والأعراض ، فهو وارث على الدوام.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٤١)

من صفة الصدّيق : سلامة العقل والفكر الصحيح والخيال الصحيح والإيمان بصدق المخبر وإن أحاله العقل الذي ليس بسليم ، والنبي صديق لما يخبر به الروح.

٥٢

(إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٤٢)

فهي شهادة بقصور نظره وعقله.

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (٤٤)

فلو علم أن في الرحمة ما يوجب النقمة لما عصاه ، فما عصي إلا الرحمن ، لأن كل اسم يعمل على شاكلته ، فما أعلم الأنبياء بربهم.

(يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) (٤٥)

فإن قلت : كيف قرن إبراهيم الخليل العذاب بالرحمن هنا والاسم الرحمن لا يقتضيه في الظاهر؟ فاعلم أنه أشار له إلى الاسم الذي هو أبوه معه في الحال ، فإنه الرحمن بلا شك ، لحصول العافية والخير والرزق والصحة الذي هو فيه وعليه ، والمعنى الآخر في مساق هذ الاسم مع العذاب ، مثل رحمة الطبيب بصاحب الأكلة فهو يعذبه في الوقت بقطع العضو الذي فيه الأكلة رحمة به حتى يحيا ، ومن رحمته نصب الحدود في الدنيا لتكون طهارة إلى الأخرى ، وهكذا في كل دار إن نظرت بعين التحقيق والرحمة الإلهية الموضوعة يصحبها في العبد العزة والسلطان ، فهي لا عن شفقة ، والرحمة الطبيعية عنها تكون الشفقة ، ولو لم تصحب الرحمة الإلهية العزة وتتنزه عن الشفقة ما عذب الله أحدا ، فالرحمن لا يعطي ألما موجعا إلا أن يكون في طيه رحمة يستعذبها من قام به ذلك الألم ، كشرب الدواء الذي يتضمن العافية استعماله ، فانظر ما ألطف توصيل الحق بشارته لعباده في حال الشدة والرخاء ، فإنه سبحانه ما اختار كلمة العذاب ليعبر بها عن الآلام إلا لما يؤول إليه أمر أصحابه فيستعذبه في آخر الحال ، ولذلك سماه عذابا ، وإنما يستعذبه في آخر الأمر لكونه ذكّره بربه ، فإن الإنسان إذا أصابه الضر وانقطعت به الأسباب ـ وهو أشد العذاب ـ ذكر ربه فرجع إليه مضطرا لا مختارا ، فيستعذب عند ذلك الأمر الذي رده إلى الله وذكّره به وأخرجه عن حكم

٥٣

غفلته ، ونسيانه ، فسماه عذابا ، فهو اسم مبشر لمن حلّ به بالرحمة أنها تدركه ، فما أعلم الأنساء بربهم.

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) (٥٢)

كلم الله تعالى موسى من وراء حجاب من الشجرة من جانب الطور الأيمن له ، لأنه لو كلمه من الأيسر الذي هو جهة قلبه ربما التبس عليه بكلام نفسه ، فجاءه الكلام من الجانب الذي لم تجر العادة أن تكلمه نفسه منه ، ثم إن الله تعالى يقول في حق موسى عليه‌السلام معرفا إيانا (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) فجعل النداء من الطور لانحنائه ، لأنه خرج في طلب النار لأهله لما كان فيه من الحنو عليهم ، الذي أورثه الانحناء على من خلق من الانحناء وهي أهله ، لأنها خلقت بالأصالة من الضلع ، والضلع له الانحناء (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) ـ نصيحة ـ إذا ناجيت ربك فلا تناجه إلا بكلامه ، واحذر أن تخترع كلاما من عندك تناجيه به ، فإنه لا يسمعه منك ولا تسمع له إجابة ، فتحفظ فإن ذلك مزلة قدم.

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٥٣)

(وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) يعني لموسى (أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) فالوهب هو العطاء لمجرد الإنعام ، وهو الذي لا يقترن به طلب معاوضة ، وهو العطاء من الواهب على جهة الإنعام

٥٤

لا يخطر له خاطر الجزاء عليه من شكر ولا غيره ، فإن اقترن به طلب شكر جزاء فليس بوهب ، فالحق تعالى هو الوهاب على الحقيقة في جميع أنواع عطائه.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) (٥٦)

إدريس عليه‌السلام كان نبيا ولم يجىء له نص في القرآن برسالته ، بل قيل فيه صديقا نبيا ، فكان عليه‌السلام من الأنبياء الذين بعثوا قبل نوح عليه‌السلام الذي هو أول رسول أرسل ، ويقال إن إدريس عليه‌السلام أول من كتب بالقلم من بني آدم ، فأول إمداد القلم الأعلى له عليه‌السلام ، كان قد أسري به إلى أن بلغ السماء السابعة فصارت السموات كلها في حوزته ، ولما علم إدريس عليه‌السلام بالعلم الذي أوحاه الله إليه أن الله تعالى قد ربط العالم بعضه ببعضه ، وسخر بعضه لبعضه ، ورأى أن عالم الأركان مخصوص بالمولدات ، رأى اجتماعات الكواكب وافتراقها في المنازل واختلاف الكائنات واختلاف الحركات الفلكية ، ورأى السريعة والبطيئة ، وعرف أنه مهما جعل سيره وسفره مع البطيء أن السريع يدخل تحت حكمه ، فإن الحركة دورية لا خطية ، فلابد أن يرجع عليه دور الصغير السريع ، فيعلم من مجاورة الهبط فائدة المسرع ، فلم ير ذلك إلا في السماء السابعة ، فأقام عندها ثلاثين سنة يدور معها في نطع فلك البروج في مركز تدوير وكيلها ، وفي الفلك الحامل لفلك التدوير ، والفلك الحامل لأفلاك التداوير وهو الذي يدور به فلك البروج ، فلما عاين ما أوحى الله في السماء ، وعاين أن الكواكب قريبة الاجتماع في برج السرطان ، فعلم أنه لابد أن يكون الله ينزل ماء عظيما وطوفانا عاما لما تحققه من العلم ، ومشى مع دقائق الفلك فعلم الجمل والتفصيل ، ثم نزل فاختص من أبناء دينه وشرعه. ممن عرف أن فيه ذكاء وفطنة ، فعلّمهم ما شاهد وما أودع الله من الأسرار في هذا العلم ، وأنه من جملة ما أوحى الله في هذه السموات أنه يكون طوفان عظيم ويهلك الناس وينسى العلم ، وأراد بقاء هذا العلم على ما يأتي بعدهم ، فأمر بنقشها في الصخور والأحجار ، وكان عليه‌السلام

٥٥

يقول : بالخرق ، ولو لا الخرق ما رفع مكانا عليا ، وكان عليه‌السلام نبيا يدعو إلى كلمة التوحيد لا إلى التوحيد ، فإن التوحيد ما أنكره أحد ، فإن مقالات الأنبياء في الحق لم تختلف ، لأنهم ما قالوا عن نظر وإنما قالوه عن الواحد ، ولهذا ما دعوا الناس إلا إلى كلمة التوحيد لا إلى التوحيد ، ومن تكلم في الحق من نظره ما تكلم في محظور فإن الذي شرع لعباده توحيد المرتبة ، وما ثمّ إلا من قال بها ، وما أخذ المشركون إلا بالوضع من حيث كذبوا في أوضاعهم واتخذوها قربة ولم ينزلوها منزلة صاحب تلك الرتبة الأحدية ، ثم رفعه الله المكان العلي فنزل بفلك الشمس ، وهو الفلك الرابع وسط الأفلاك السماوية وهو القلب ، لأن فوقه خمس كور وتحته مثل ذلك ، فقال تعالى :

(وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) (٥٧)

(وَرَفَعْناهُ) أي إدريس (مَكاناً عَلِيًّا) وهي السماء الرابعة ، وسميت بذلك لكونها قلبا ، أي قلب الأفلاك ، فهي قلب السموات وقطبها ، فهو مكان عال بالمكانة ، وما فوقه وإن كان دونه فهو أعلى بالمسافة وبالنسبة إلى رؤوسنا ، فأراد الحق علو مكانة المكان ، فلهذا المكان من المكانة رتبة العلو ، فإدريس عليه‌السلام ما مات إلى الآن ، بل رفعه الله مكانا عليا ، فهو في السماء الرابعة حيث الشمس ، ونسبة إدريس عليه‌السلام مع الشمس كون الشمس في الوسط ومدار الأسفل والأعلى عليها ، وهي بمنزلة القطب فناسبها بذلك ، وهو أول من خط بالقلم ، فله الرفعة في الكتابة والتعبير فكان منزلته في العلو منزلة القلم الذي لا أعلى منه.

(أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٥٨)

هذه السجدة سجدة إنعام رحماني ، وهي سجدة النبيين المنعم عليهم ، فهذا بكاء فرح

٥٦

وسرور وآيات قبول ورضى ، فإن الله قرن هذا السجود بآيات الرحمن ، والرحمة لا تقتضي القهر والعظمة ، وإنما تقتضي اللطف والعطف الإلهي ، فدمعت عيونهم فرحا بما بشرهم الله من هذه الآيات ، فالصورة صورة بكاء لجريان الدموع ، والدموع دموع فرح لا دموع ترح وكمد وحزن ، لأن مقام الاسم الرحمن لا يقتضيه.

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) (٦١)

(جَنَّاتِ عَدْنٍ) وهي جنة الإقامة (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ) والموعد ما وقع عليه الوعد ، وهو مقام اللطف (عِبادَهُ) مقام العبودية بإضافة الاختصاص ، (بِالْغَيْبِ) يريد مقام الإيمان ، وقد يريد بالغيب حالة أوان أخذ الميثاق على النفوس ، فكان غيبا أي في عالم الأمر والملكوت (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) حقا وصدقا.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٦٢)

فجعل الجنة محلا للزمان المعروف عند العرب مثل الدنيا ، فإن لأهل الجنة مقادير يعرفون بها انتهاء مدة طلوع الشمس إلى غروبها في الدنيا ، وإن لم يكن في الجنة شمس ، فالحركة ـ التي كانت تسير بالشمس فيظهر من أجلها طلوعها وغروبها ـ موجودة في الفلك الأطلس الذي على الجنة ، وهو سقفها ، والحركة بعينها فيه موجودة ، ولأهل الجنة كشف ورؤية إلى المقادير التي فيه المعبر عنها بالبروج ، فإن ذلك الفلك هو السماء الذي أقسم الله به في قوله (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) فيعلمون بها حدّ ما كان عليهم في الدنيا مما يسمى بكرة وعشيا ، وكان لهم في هذا الزمان في الدنيا حالة تسمى الغداء والعشاء ، فيتذكرونها هنالك ، فيأتيهم الله عند ذلك برزق يرزقهم فيها كما قال (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) وهو رزق خاص في وقت خاص معلوم عندهم ، وما عدا ذلك فأكلهم دائم لا ينقطع ، والدوام في

٥٧

الأكل إنما هو عين النعيم مما يكون به الغذاء للجسم ، فأهل الجنة يأكلون ويشربون عن شهوة لالتذاذ لا عن جوع ، والصبوح شرب الغداة ، والغبوق شرب العشى ، وأما أهل النار فقد وصفهم الله بالأكل والشرب في النار عن جوع وعطش.

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) (٦٣)

لأهل السعادة ثلاث جنات : جنة أعمال ، وجنة اختصاص ، وجنة ميراث ، فينزل أهل الجنة في الجنة على قدر أعمالهم ، ولهم جنات الميراث وهي التي كانت لأهل النار لو دخلوا الجنة ، ولهم جنات الاختصاص. يقول الله تعالى (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) فهذه الجنة التي حصلت لهم بطريق الورث من أهل النار الذين هم أهلها ، إذ لم يكن في علم الله أن يدخلوها ، ولم يقل في أهل النار إنهم يرثون من النار أماكن أهل الجنة لو دخلوا النار ، وهذا من سبق الرحمة بعموم فضله سبحانه ، فما نزل من نزل في النار من أهلها إلا بأعمالهم ، ولهذا يبقى فيها أماكن خالية ، وهي الأماكن التي لو دخلها أهل الجنة عمروها ، فيخلق الله خلقا يعمرونها ، على مزاج لو دخلوا به الجنة تعذبوا ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [فيضع الجبار فيها قدمه فتقول : قط قط] أي حسبي حسبي ، فإنه تعالى يقول لها : هل امتلأت ، فتقول : هل من مزيد ، فإنه قال للجنة والنار : لكل واحدة منكما ملؤها ، فما اشترط لهما إلا أن يملأهما خلقا ، وما اشترط عذاب من يملأها بهم ولا نعيمهم ، كما ورد في الخبر أنه يبقى أيضا في الجنة أماكن ما فيها أحد ، فيخلق الله خلقا للنعيم يعمرها بهم ، وهو أن يضع الرحمن فيها قدمه ، وليس ذلك إلا في جنات الاختصاص ، فمن كرمه أنه تعالى ما أنزل أهل النار إلى على قدر أعمالهم خاصة ـ نصيحة ـ لا تحزن على ما يفوتك من جنة الميراث فإنه ما فيها تقصير ، وإنما ينبغي لك أن تحزن على ما يفوتك من جنة الأعمال ، ولا تعتمد إلا على جنة الاختصاص فإنها مثل التوفيق للأعمال الصالحة في هذه الدار ، لا تنال إلا بالعناية لا بالاكتساب.

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) (٦٤)

٥٨

(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) أي بإذن الله ، وهو قول جبريل ، فإن الخاصية لا تؤثر في الملائكة ، ولا تنزل بها ، وذلك لمانع إلهي قوي يقتضيه مقام الأملاك ، أما أرواح الكواكب فتستنزل بالأسماء والبخورات وأشباه ذلك ، وكذلك الأرواح النارية ، أما من كان تنزله بأمر ربه لا تؤثر فيه الخاصية ، فإن العالم النوراني خارجون عن أن يكون للعالم البشري عليهم تولية ، فكل منهم على مقام معلوم عيّنه له ربه ، فما يتنزل إلا بأمر ربه ، فمن أراد تنزيل واحد منهم فيتوجه في ذلك إلى ربه ، وربه يأمره ويأذن له في ذلك إسعافا لهذا السائل ، أو ينزله عليه ابتداء ، وقول جبريل لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو ما قال له الحق أن يقول لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ربه ، ولهذا جعله من القرآن ، وهو حكاية الله عن جبريل ، وجبريل هو الذي نزل به ، وما أخرجه نزوله به والحكاية عنه عن أن يكون قرآنا ، فكان جبريل يحكي عن الله تعالى ما حكى الله تعالى عن جبريل أن لو قال لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لقاله له على هذا الحد في عالم الشهادة (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ ، لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) فيما شاهده من قول جبريل لمحمد عليهما‌السلام وهم أعيان ثابتة في حال عدمهم وخطاباتهم ، أعيان ثابتة في حال عدمهم له ، فهو الإشارة إليه بقوله (نَسِيًّا) فكانت الحكاية أمرا محققا عن وجود لله محقق لا يتصف بالحدوث ، ثم حدث الوجود لتلك الأعيان ، فأخبرت بما كان منها قبل كونها مما شاهده الحق ولم تشهده لعدم وجودها في عينها ، ومن ذلك نعلم أن المعلم على الحقيقة هو الله تعالى ، ورجوع التعليم بالواسطة وغير الواسطة إلى الرب ، ولذلك قال الملك (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) أي لا ينسى ، كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول [اتركوني ما تركتكم] وقال [لو قلت نعم ـ للسائل عن الحج كلّ عام ـ لوجبت] وكانت الأحكام تحدث بحدوث السؤال عن النوازل ، فكان غرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين علم ذلك أن يمتنع الناس عن السؤال ويجرون مع طبعهم ، حتى يكون الحق هو الذي يتولى من تنزيل الأحكام ما شاء ، فكانت الواجبات والمحظورات تقل ، وتبقى الكثرة من قبيل المباحات التي لا يتعلق بها أجر ولا وزر ، فأبت النفوس ذلك وأن تقف عند الأحكام المنصوص عليها ، فأثبتت لها عللا وجعلتها مقصودة للشارع ، وطردتها وألحقت المسكوت عنه في الحكم بالمنطوق به بعلة جامعة بينهما اقتضاها نظر الجاعل المجتهد ، ولو لم يفعل لبقي المسكوت عنه على أصله من الإباحة والعافية ، فكثرت الأحكام بالتعليل وطرد العلة والقياس

٥٩

والرأي والاستحسان ، (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥) وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) (٦٧)

(أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) الإنسان عالم بالذات إلا أنه ينسى ، فكل علم يحصل له إنما هو تذكّر ، ولا يشعر به أنه تذكر إلا أهل الله ، فإن الله أودع في الإنسان علم كل شيء ، ثم حال بينه وبين أن يدرك ما عنده مما أودع الله فيه ، ولقد خاطب الحق الإنسان وحده في هذه الآية لأنه المعتبر الذي وجد العالم من أجله ، وإلا فكل ممكن بهذه المثابة ، فما هو الإنسان مخصوص بهذا وحده بل العالم كله على هذا ، وهو من الأسرار الإلهية التي ينكرها العقل ويحيلها جملة واحدة ، وقربها من الذوات الجاهلة في حال علمها قرب الحق من العبد ، وهو قرب لا يدرك ولا يعرف إلا تقليدا ، ولو لا إخباره ما دل عليه عقل ، فكل ما يعلمه الإنسان دائما ـ وكل موجود ـ فإنما هو تذكر على الحقيقة وتجديد ما نسيه ، وليس المحال تعلق العلم بما لا يتناهى ، وإنما المحال دخول ما لا يتناهى في الوجود لا تعلق العلم به ، فإن الخلق أنساهم الله ذلك كما أنساهم شهادتهم بالربوبية في أخذ الميثاق مع كونه قد وقع ، وعرفنا ذلك بالإخبار الإلهي ، فعلم الإنسان دائما إنما هو تذكّر ، فمنّا من إذا ذكرته تذكّر أنه قد كان علم ذلك المعلوم ونسيه ، ومنا من لا يتذكر ذلك مع إيمانه به أنه قد كان يشهد بذلك ، ويكون في حقه ابتداء علم ، ولو لا أنه عنده ما قبله من الذي أعلمه ، ولكن لا شعور له بذلك ، ولا يعلمه إلا من نور الله بصيرته (أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) وكل ممكن بهذه المثابة ، ولكن الإنسان هو المعتبر الذي وجد العالم من أجله. ومن وجه آخر أنه ما ادعى أحد الألوهية سواه من جميع المخلوقات ، وأعصى الخلائق إبليس ، وغاية جهله أنه رأى نفسه خيرا من آدم لكونه من نار ، لاعتقاده أنه أفضل العناصر ، وغاية معصيته أنه أمر بالسجود لآدم فتكبر في نفسه عن السجود لآدم لما ذكرناه وأبى ، فعصى الله في أمره فسماه الله كافرا ، فإنه جمع بين المعصية والجهل ، والإنسان ادعى أنه الرب الأعلى ، فلهذا

٦٠