رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢)

إذا صح التوحيد فهو المطلوب من كل موجود ، فكيف إذا انضاف إلى ذلك أداء العبادات المشروعة في الحركات الخارجة والداخلة؟

(وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) (٨٣)

لما قال الله عزوجل لموسى عليه‌السلام (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى) أضرب موسى عليه‌السلام عن الجواب ، وجوابه أن يقول : أعجلني كذا وكذا ويبين ، ف :

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) (٨٤)

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) يشير إلى حكم الأتباع ، ثم ذكر عجلته فقال (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) أي سارعت إلى إجابة دعائك حين دعوتني ، وقومي على أثري ، فعجل موسى عليه‌السلام للأمر ليكون من المسارعين إلى الخيرات ، وإلا لو عجل من غير أمر لكانت عجلته إلى هواه ، وهو عليه‌السلام كان من العارفين المحققين ، وإنما عجل للأمر الإلهي. فقال عزوجل :

(قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) (٨٥)

(فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ) أي اختبرناهم (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ) بالعجل الذي قال لهم في شأنه (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) وسبب ذلك أنه لما مشى مع موسى عليه‌السلام ، كشف الله عن بصره حتى أبصر الملك الذي هو على صورة الثور من حملة العرش ، فتخيل أنه إله موسى الذي يكلمه ، فأخرج لهم العجل ، وعلم أن قلوبهم تابعة لأموالهم ، فصاغ لهم العجل بمرآى منهم من حليهم ، فسارعوا إلى عبادته حين دعاهم إلى ذلك ـ إشارة ـ فتن قوم موسى من بعده ، ضيافة من السيد لعبده ، فإن ابتلاءه بذلك ضيافته ، ولا يبتلى مثل الأنبياء إلا في ربه ، ولا بد للقادم من كرامة ، فكانت كرامته ما أصابه من الغيرة في حق الله حين رجع إلى قومه ، فوجدهم قد عبدوا غيره ، فكانت منزلته على قدر غيرته ،

١٠١

فتلك ضيافته سبحانه لعبده.

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) (٨٦)

(فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ) على قومه (أَسِفاً) عليهم لما فعلوه من اتخاذهم العجل إلها ، فقال ما ذكر الله عنه.

(قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) (٨٨)

وإنما كان عجلا لأن السامري لما مشى مع موسى عليه‌السلام في السبعين الذين مشوا معه ، كشف الله عنه غطاء بصره ، فما وقعت عينه إلا على الملك الذي على صورة الثور ، وهو من حملة العرش ، لأنهم أربعة : واحد على صورة أسد ، وآخر على صورة نسر ، وآخر على صورة ثور ، ورابع على صورة إنسان ؛ فلما أبصر السامري العجل تخيل أنه إله موسى الذي يكلمه ، فصور لهم العجل وصاغه من حليهم ليتبع قلوبهم أموالهم ، لعلمه أن المال حبه منوط بالقلب ، وعلم أن حب المال يحجبهم أن ينظروا فيه ، هل يضر أو ينفع؟ أو يرد عليهم قولا إذا سألوه؟ وكان قد عرف جبريل حين جاءه ، وأنه لا يمر بشيء إلا حيي بمروره ، فقبض قبضته من أثر فرس جبريل ، ورمى بها في العجل فحيي العجل وخار لأنه عجل ، والخوار صوت البقر ـ إشارة ـ «فقبض قبضة من أثر الرسول» ظهر من قبضة الأثر في العجل خوار ، تنبيه على أن الحياة في سلوك الآثار ، أي أن حياة القلوب في اتباع الشرائع ، وذلك أنه إذا اتبعها رزقه الله علما يحيا به قلبه. (فَقالُوا) قال لهم (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ) أي ونسي السامري إذا سأله عابدوه أنه لا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ، فقال تعالى :

١٠٢

(أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (٨٩)

أي إذا سئل لا ينطق ، والله يكون متصفا بالقول (وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي لا ينتفعون به ، ومن لا يدفع الضر عن نفسه كيف يدفع الضر عن غيره؟

(وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٩٠)

(إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أي اختبرتم به لتقوم الحجة لله عليكم إذا سئلتم (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) ومن رحمته بكم أن أمهلكم ورزقكم مع كونكم اتخذتم إلها تعبدونه غيره سبحانه ، ثم قال لهم (فَاتَّبِعُونِي) لما علم أن في اتباعهم إياه الخير (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) لكون موسى عليه‌السلام أقامه فيهم نائبا عنه.

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٩١)

(قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ) يريدون عبادة العجل (عاكِفِينَ) أي ملازمين (حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) الذي بعث إلينا وأمرنا بالإيمان به ، فحجبهم هذا النظر أن ينظروا فيما أمرهم به هارون عليه‌السلام ، فلما رجع موسى إلى قومه وجدهم قد فعلوا ما فعلوا ، فألقى الألواح من يده ، و: ـ

(قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) (٩٣)

وأخذ برأس أخيه يجره إليه عقوبة له بتأنيه في قومه ، فناداه هارون عليه‌السلام بأمه فإنها محل الشفقة والحنان.

(قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤)

١٠٣

لما ظهر موسى عليه‌السلام على أخيه هارون عليه‌السلام بصفة القهر ، بأن أخذ برأسه يجره إليه ، ناداه بأشفق الأبوين فقال (يَا بْنَ أُمَّ) فناداه بالرحم وهي الأم ، إذ كانت الرحمة للأم دون الأب أوفر في الحكم ، ولو لم يلق موسى الألواح ما أخذ برأس أخيه ، فإن في نسختها الهدى والرحمة تذكرة لموسى ، فكان يرحم أخاه بالرحمة ، وتتبين مسألته مع قومه بالهدى (إِنِّي خَشِيتُ) لما وقع ما وقع من قومك أن تلومني على ذلك وتقول (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ) أي تلزم (قَوْلِي) الذي أوصيتك به ، فتجعلني سببا في تفريقهم ، فإن عبادة العجل فرقت بينهم ، فكان منهم من عبده اتباعا للسامري وتقليدا له ، ومنهم من توقف عن عبادته حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك ، فخشي هارون أن ينسب ذلك الفرقان بينهم إليه ، ولما سكت عن موسى الغضب قبل عذر أخيه وأخذ الألواح ، فما وقعت عيناه مما كتب فيها إلا على الهدى والرحمة ، فقال (رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين). وأما الذين عبدوا العجل فما أعطوا النظر الفكري حقه للاحتمال الداخل في القصة ، فما عذرهم الحق ولا وفّى عابدوه النظر في ذلك ، ثم ردّ موسى وجهه إلى السامري.

(قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ) (٩٥) أي ما حديثك يا سامري.

(قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) (٩٦)

(قالَ) له السامري (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) وهو ما رآه من صورة الثور الذي هو أحد حملة العرش ، فظن أنه إله موسى الذي يكلمه ، فلذلك صنعت لهم العجل ، وعلمت أن جبريل ما يمر بموضع إلا حيي به لأنه روح ، (فَقَبَضْتُ) لذلك (قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) جبريل ، لعلمه بتلك القبضة ، (فَنَبَذْتُها) في العجل فخار (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) فما فعله السامري إلا عن تأويل ، فضل وأضل. من ذلك تعلم أن حياة الأرواح ذاتية ، ولهذا يكون كل ذي روح حيا بروحه ، قال ابن عباس : ما وطىء جبريل عليه‌السلام قط موضعا من الأرض

١٠٤

إلا حيي ذلك الموضع ؛ وما يطؤه الروح يعطي الحياة في أي صورة مركبة ، فلما أبصر السامري جبريل عليه‌السلام حين جاء لموسى عليه‌السلام وعرفه ، وعلم أن روحه عين ذاته ، وأن حياته حياة ذاتية ، فلا يطؤ موضعا إلا حيي ذلك الموضع بمباشرة تلك الصورة الممثلة إياه ، وعلم أن وطأته يحيا بها ما وطئه من الأشياء ، فقبض قبضة من أثر الرسول ، بالصاد أو الضاد ، أي بملء أو بأطراف أصابعه ، فلما صاغ العجل وصوره ، نبذ فيه تلك القبضة فحيي ذلك العجل وخار ، إذ صوت البقر إنما هو خوار ، وكان ذلك من إلقاء الشيطان في نفس السامري ، لأن الشيطان يعلم منزلة الأرواح ، فوجد السامري في نفسه هذه القوة ، وما علم أنها من إلقاء إبليس ، فقال (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) وفعل ذلك إبليس من حرصه على إضلاله بما يعتقده من الشريك لله تعالى.

(قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٩٧)

وإذا حرقه ونسفه لم ينتفع به ، فإنه لو أبقاه دخلت عليهم الشبهة بما يوجد في الحيوان من الضرر والنفع ، فحرقه ثم نسف رماد تلك الصورة في اليم نسفا.

(إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨)

هذا التوحيد هو الثامن عشر في القرآن ، وهو توحيد السعة من توحيد الهوية ، وهو توحيد تنزيه ، لئلا يتخيل في سعته الظرفية للعالم ، فقال إن سعته علمه بكل شيء لا أنه ظرف لشيء ، وسبب هذا التوحيد لما جاء في قصة السامري قوله عن العجل لما نبذ فيه ما قبضه من أثر الرسول ، فكان العجل ظرفا لما نبذ فيه ، فلما خار العجل قال السامري (هذا إلهكم وإله موسى) فقال موسى (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا تركيب فيه ، وسع كل شيء علما «أي هو عالم بكل شيء» أكذب السامري في قوله ، ونصب لهم الدلالة على كذب السامري مع كون العجل خار.

١٠٥

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) (٩٩)

كون القرآن ذكر فلما فيه من آيات الاعتبارات وقصص الأمم في إهلاكهم بكفرهم.

(مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) (١٠١)

الضمير في خالدين فيه يعود على الوزر لا على العذاب ، وهذا في موطن من مواطن الآخرة ، إذا أقيموا في حمل الأثقال التي هي الأوزار يحملونها ، وهو زمان مخصوص ، فيقول تعالى (خالِدِينَ فِيهِ) أي في حمل الوزر في الموضع الذي يحملونه ، من خروجهم من قبورهم إلى أن يصلوا به إلى النار فيدخلونها ، فهم خالدون فيه في تلك المدة ، لا يفتر عنهم ولا يأخذه من على ظهورهم غيرهم ، فأعاد الحق الضمير على الوزر وجعله ليوم القيامة هذا الحمل ، ويوم القيامة مدته من خروج الناس من قبورهم إلى أن ينزلوا منازلهم من الجنة والنار ، وينقضي ذلك اليوم فينقضي بانقضائه جميع ما كان فيه ، ومما كان فيه الخلود في حمل الأوزار ، ولذلك فإن هذه الآية ما هي بنص في خلود العذاب ، فإنه ما ورد في العذاب شيء يدل على الخلود فيه كما ورد في الخلود في النار ، قال (خالِدِينَ فِيها) يعني في النار ، ولم يقل : فيه ؛ فيريد العذاب ، ولما أعاد الضمير في خالدين فيها على الدار لم يلزم العذاب.

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً) (١٠٢)

الصور جمع صورة ، وهو الحضرة البرزخية التي ننتقل إليها بعد الموت ونشهد نفوسنا فيها ، ولما سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصور : ما هو؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم [هو قرن من نور ألقمه إسرافيل] فأخبر أن شكله شكل القرن ، فوصف بالسعة والضيق ، فهو في غاية السعة ، لا شيء من الأكوان أوسع منه ، وضيقه من أنه لا يجرد المعاني عن المواد أصلا ، فلا يقبلها إلا في صورة. واعلم أن الله سبحانه إذا قبض الأرواح من هذه الأجسام الطبيعية حيث كانت والعنصرية ، أودعها صورا جسدية في مجموع هذا القرن النوري ، فجميع ما يدركه الإنسان

١٠٦

بعد الموت في البرزخ من الأمور إنما يدركه بعين الصورة التي هو فيها في القرن وبنورها ، وهو إدراك حقيقي ، ومن الصور هنالك ما هي مقيدة عن التصرف ، ومنها ما هي مطلقة كأرواح الأنبياء كلهم وأرواح الشهداء ، ومنها ما يكون لها نظر إلى عالم الدنيا في هذه الدار ، وكل إنسان في البرزخ مرهون بكسبه ، محبوس في صور أعماله إلى أن يبعث يوم القيامة من تلك الصورة في النشأة الآخرة.

(يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (١٠٧)

وهذه صفة أرض الآخرة ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [إن الله يمد الأرض مدّ الأديم] وهو بسط قبضه وفرش نتوئه ، فتبسط الأرض فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، فيأخذ البصر جميع من في الموقف بلا حجاب من ارتفاع وانخفاض ، ليرى الخلق بعضهم بعضا ، فيشهدوا حكم الله بالفصل والقضاء في عباده.

(يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً) (١٠٨)

(وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ) هذا مع الاسم الرحمن ، فكيف يكون الحال مع الجبار؟

خشوع حياء لا خشوع مهانة

وهيبة إجلال وقبض تأدب

حكم اقتضاه الموطن ، بإشارة عين وخفي صوت ، من علو الهيبة الإلهية يوم العرض ، فقد ألجم الناس العرق وعظم الخطب وجل الأمر وكان البهت (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) أي صوتا خفيا ، خشوعا لله تعالى وخضوعا ، فإن الهمس إسماع من قصدته بالإسماع خاصة.

١٠٧

(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (١١٠)

فهو سبحانه لا يحيط به علم ، تقدّس وتعالى عن أن يحيط به علم الممكن أو تكون ذاته تعطي الإحاطة فهو المحيط ولا يحيط به شيء ، إذ لو أحاط به شيء لحصره ذلك الشيء ، فإن القوى الحسية والخيالية تطلبه بذواتها لترى موجدها ، والعقول تطلبه بذواتها وأدلتها من نفي وإثبات ووجوب وجواز وإحالة لتعلم موجدها ، فخاطب الحواس والخيال بتجريده الذي دلت عليه أدلة العقول (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) والحواس تسمع ، فحارت الحواس والخيال وقالت : ما بأيدينا منه شيء ، وخاطب العقول بتشبيهه الذي دلت عليه الحواس والخيال (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) والعقول تسمع ، فحارت العقول وقالت : ما بأيدينا منه شيء ، فعلا عن إدراك العقول والحواس والخيال ، وانفرد سبحانه بالحيرة في الكمال ، فلم يعلمه سواه ولا شاهده غيره ، فلم يحيطوا به علما ولا رأوا له عينا ، فآثار تشهد ، وجناب يقصد ، ورتبة تحمد ، وإله منزه ومشبه يعبد ، لأنه المجهول الذي لا يعرف ، ولا يقال هو النكرة التي لا تتعرّف ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [اعبد الله كأنك تراه] فأمر المكلف بالاستحضار ، فإنه يعلم أن لا يستحضر إلا من يقبل الحضور ، فاستحضار العبد ربه في العبادة عين حضور المعبود له ، فإن لم يعلمه إلا في الحد والمقدار حدّه وقدّره ، وإن علمه منزها عن ذلك لم يحده ولم يقدره مع استحضاره كأنه يراه ، وإنما لم يحدّه ولم يقدّره العارف به لأنه يراه جميع الصور ، فمهما حده بصورة عارضته صورة أخرى ، فانخرم عليه الحد ، فلم ينحصر له الأمر لعدم إحاطته بالصور الكائنة وغير الكائنة له ، فلم يحط به علما كما قال (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فإذا عرفوا أنهم لا يحيطون به علما خضعوا فقال تعالى : ـ

(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً) (١١١)

الوجوه منا المراد بها حقائقنا ، إذ وجه كل شيء ذاته ، وكل ما خلق الله من العالم فإنما خلقه الله على كماله في نفسه ، فذلك الكمال وجهه ، فالوجوه هنا أعيان الذوات وحقائق

١٠٨

الموجودات ، إذ وجه كل شيء حقيقته وذاته ، فعنت الوجوه أي خضعوا وذلوا ، وطلبوا الزيادة من العلم فيما لا علم لهم به منه ، وهو العلم بالله عن طريق التجلي والذوق ، ولذلك قال : عنت أي ذلت ، فلما تجلى اسمه «الحي» حييت الموجودات «والقيوم» فقامت به الأرض والسموات ومن فيهن من عوالم البقاء والاستحالات ، فعنت لحياته الوجوه وسجدت لقيوميته الجباه ، وأقنعت لعظمته الرؤوس وتحركت بذكره الشفاه (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً).

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤)

الوحي وحيان : وحي قرآن ووحي فرقان ؛ ووحي القرآن هو الأول فإن القرآن حصل عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مجملا غير مفصل الآيات والسور ، فلما أوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يعجل بالقرآن حين كان ينزل عليه جبريل عليه‌السلام بالفرقان ، قبل أن يقضى إليه وحيه ، ليعلم بالحال أن الله تولى تعليمه من الوجه الخاص الذي لا يشعر به الملك ، وجعل الله الملك النازل بالوحي صورة حجابية ، فقيل له (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) الذي عندك فتلقيه مجملا فلا يفهم عنك (مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) فرقانا مفصلا ، فأمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتأني عند الوحي أدبا مع المعلم الذي أتاه به من قبل ربه ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم مصغ تابع للملك هنا ، وقد قال تعالى له فيما أوحى إليه (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) كذلك أدبا مع أستاذه جبريل (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) بتفصيل ما أجملته فيّ من المعاني ، فما أشرف العلم ، فهو الصفة الشريفة التي أخبر الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسلم بالزيادة منها ، ولم يقل ذلك في غيره من الصفات ، فإن فيه الشرف التام ، وليس في الصفات أعم منه تعلقا ، لتعلقه بالواجبات والجائزات والمستحيلات ، وغيره من الصفات ليس كذلك ، وحدّ العلم

١٠٩

وحقيقته المطلقة معرفة الشيء على ما هو عليه ، والمفيدة العمل به ، وهو الذي يعطيك السعادة الأبدية ، ولا تخالف فيه ، فهو نور من أنوار الله تعالى يقذفه في قلب من أراد من عباده ، وهو معنى قائم بنفس العبد يطلعه على حقائق الأشياء ، وهو للبصيرة كنور الشمس للبصر ، بل أتم وأشرف ، وكل من ادعى علما من غير عمل فدعواه كاذبة إن تعلق به خطاب عمل ، ولهذا لم يأمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلب من الله تعالى الزيادة من شيء إلا من العلم ، فإنه أشرف الصفات وأنزه السمات ، فالعلم سبب النجاة وإن شقي في الطريق ، فالمآل إلى النجاة ، فلو علم المشرك ما يستحقه الحق من نعوت الجلال لعلم أنه لا يستحق أن يشرك به ، ولو علم المشرك أن الذي جعله شريكا لا يستحق أن يوصف بالشركة لله في ألوهته لما أشرك ، فما أخذ إلا بالجهل من الطرفين. ولما كانت العلوم الشريفة العالية التي إذا اتصف بها الإنسان زكت نفسه وعظمت مرتبته أعلاها العلم بالله ، لهذا أمر الحق تعالى نبيه أن يقول (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فهذا العلم الذي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب المزيد منه ، هو العلم بالله عن طريق التجلي والذوق ، فإنه أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم ، لا علم التكليف ، فإن النقص منه هو مطلوب الأنبياء عليهم‌السلام ، فقوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) يريد من العلم به ، من حيث ما له تعالى من الوجوه في كل مخلوق ومبدع ، وهو علم الحقيقة ، فإنه لما كان الخلق على الدوام دنيا وآخرة فالمعرفة تحدث على الدوام دنيا وآخرة ، ولذا أمر بطلب الزيادة من العلم ، أتراه أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب الزيادة من العلم بالأكوان؟ لا والله ، ما أمر إلا بالزيادة من العلم بالله ، بالنظر فيما يحدثه من الكون ، فيعطيه ذلك الكون عن أيّة نسبة إلهية ظهر ، ولهذا نبّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم القلوب في دعائه [اللهم إني أسألك بكل اسم سميت به نفسك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم غيبك] والأسماء نسب إلهية والغيب لا نهاية له ، فلابد من الخلق على الدوام ، فكأنما يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ارفع عني اللّبس الذي يحول بيني وبين العلم بالخلق الجديد ، فيفوتني خير كثير حصل في الوجود لا أعلمه ، لذا أمر الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدعوه بأن يزيده بطلبه علما به في كل ما يعطيه ، وهو وجه الحق في كل شيء ، فما طلب الزيادة من علم الشريعة ، بل كان يقول [اتركوني ما تركتكم] فالشرف كله إنما هو في العلم ، والعالم به بحسب ذلك العلم ، فإن أعطى عملا في جانب الحق عمل به ، وإن أعطاه عملا في جانب الخلق عمل به ، فهو يمشي في بيضاء نقية سمحاء ،

١١٠

لا يرى فيه عوجا ولا أمتا ، وما طلب الزيادة من العلم إلا من الرب ، ولهذا جاء مضافا لاحتياج العالم إليه أكثر من غيره من الأسماء ، لأنه اسم لجميع المصالح ، وهو من الأسماء الثلاث الأمهات ، وهي : الله والرحمن والرب ، فقال (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) أي زدني من كلامك ما أزيد به علما بك ، يرقى به عنده منزلة لم تكن له ، فالمراد بهذه الزيادة من العلم المتعلق بالإله ليزيد معرفة بتوحيد الكثرة ، فتزيد رغبته في تحميده ، فيزاد فضلا على تحميده دون انتهاء ولا انقطاع ، فطلب منه الزيادة وقد حصل من العلوم والأسرار ما لم يبلغه أحد ، ومما يؤيد ما ذكرناه من أنه أمر بالزيادة من علم التوحيد لا من غيره ، أنه كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أكل طعاما قال [اللهم بارك لنا فيه وأطعمنا خيرا منه] وإذا شرب لبنا قال [اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه] لأنه أمر بطلب الزيادة ، فكان يتذكر عند ما يرى اللبن اللبن الذي شربه ليلة الإسراء ، فقال له جبريل : أصبت الفطرة أصاب الله بك أمتك ، والفطرة علم التوحيد الذي فطر الله الخلق عليها حين أشهدهم حين قبضهم من ظهورهم وقال لهم : ألست بربكم؟ قالوا : بلى ، فشاهدوا الربوبية قبل كل شيء ، ولهذا تأول صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللبن لما شربه في النوم وناول فضله عمر ، قيل : ما أولته يا رسول الله؟ قال : العلم ، فلو لا حقيقة مناسبة بين العلم واللبن جامعة ما ظهر بصورته في عالم الخيال ، عرف ذلك من عرفه وجهله من جهله ، واعلم أن الله تعالى أمر نبيه أن يقول (رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) وما أمره إلى وقت معين ولا حد محدود ، بل أطلق ، فطلب الزيادة والعطاء دنيا وآخرة ، فقد أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم بطلب الزيادة مع كونه قد حصل علم الأولين والآخرين وأوتي جوامع الكلم ، فإنه لا يعظم على الله شيء طلب منه ، فإن المطلوب منه لا يتناهى فليس له طرف نقف عنده ، فوسع في طلب المزيد ، يقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن يوم القيامة [فأحمده] يعني إذا طلب الشفاعة [بمحامد يعلمنيها الله لا أعلمها الآن] فالله لا يزال خلاقا إلى غير نهاية فينا ، فالعلوم إلى غير نهاية ، ولا شيء أشرف من العلم ، ولم يأمر بطلب زيادة في غيره من الصفات ، لأنه الصفة العامة التي لها الإحاطة بكل صفة وموصوف فطلب المزيد من العلم عبادة مأمور بها.

فالعلم أشرف نعت ناله بشر

وصاحب العلم محفوظ عليه مصون

إن قام قام به أو راح راح به

والحال والمال في حكم الزوال يكون

ولما كانت أعلى الطرق إلى العلم بالله علم التجليات ، أردف سبحانه هذه الآية بقوله (وَعَنَتِ

١١١

لْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي ذلت فأراد علوم التجلي ، والتجلي أشرف الطرق إلى تحصيل العلوم ، وهي علوم الأذواق ، وكل تجل إلهي لا بد أن يصحبه زيادة في العلم ، فزاد هنا من العلم العلم بشرف التأني عند الوحي ، فقوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) بما يكون من الله إليه برفع الوسائط ، وما أسمعنا الله ذلك إلا تنبيها لنقول ذلك ونطلبه من الله ، ولو كان خصوصا بالنبي لم يسمعنا ، أو كان يذكر أنه خاص به كما قال في نكاح الهبة ، فإذا سأل الإنسان مزيد العلم فليسأل كما أمر الله تعالى نبيه أن يسأل إذ قال له (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) فنكر ولم يعين ، فعمّ ، فأي علم نزل عليه دخل تحت هذا السؤال ، فإن النزول عن سؤال أعظم لذة من النزول عن غير سؤال ، فإن في ذلك إدراك البغية وذلة الافتقار ، وإعطاء الربوبية حقها والعبودة حقها ، وفي العلم المنزل عن السؤال من علو المنزلة ما لا يقدّر قدر ذلك إلا الله ـ تحقيق ـ إذا قلت : ما لا بد منه هو يأتيك من غير طلب ، لأنه من المحال الإقامة على أمر واحد زمانين ، فلا يحتاج إلى طلب الزائد ، قلنا : قال تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ينبهه وإيانا على أن ثمّ أمرا آخر زائدا على ما هو الحاصل في الوقت ، لنتهمم لقدومه ، وليظهر من العبد الافتقار إلى الله بالدعاء في طلب الزيادة ، والزائد غير معيّن عندك ، فإذا عينه الدعاء والحق يجيب ، فقد تعيّن عندك ما تدعو فيه ، وهو الذي أمر الله به نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزيده بطلبه علما به في كل ما يعطيه.

والعلم أشرف ما يؤتيه من منح

والكشف أعظم منهاج وأوضحه

فإن سألت إله الحق في طلب

فسله كشفا فإن الله يمنحه

وأدمن القرع إن الباب أغلقه

دعوى الكيان وجود الله يفتحه

(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (١١٥)

خلق الله تعالى آدم بيديه وما حفظه من المعصية ولا من النسيان ، وما توجهت اليدان إلا على طينته وطبيعته ، وما جاءته الوسوسة إلا من جهة طبيعته ، لأن الشيطان وسوس إليه وهو مخلوق من جزء ما خلق منه آدم ، فما نسي ولا قبل الوسوسة إلا من طبيعته ، فإن هذه النشأة من حكم الطبيعة فيها الجحد والنسيان ، فكانت حركة آدم في جحده حركة طبيعية ، وفي نسيانه أثر طبيعي ، فلو تناسى لكان الأمر من حركة الطبيعة ، كالجحد من

١١٢

حيث أنه جحد هو أثر طبيعي ، ومن حيث ما هو جحد بكذا هو حكم طبيعي لا أثر ، فهذا الفرق بين حكم الطبيعة وبين أثرها ، والنسيان من أثرها والتناسي من حكمها ، والغفلة من أثرها والتغافل من حكمها ، وقليل من العلماء بالله من يفرق بين حكم الطبيعة وأثرها ، فاجتمع في آدم حكم الطبيعة بالجحد ، لأنه الأول الجامع في ظهره للجاحدين من أبنائه ، لأن آدم إنسان كامل ، وكذا النسيان الواقع منه هو من أثر الطبيعة وحكم الأبناء ، فإنه حامل في ظهره للناسين من أبنائه ، فحكموا عليه بالنسيان ، وسرى الجحد والنسيان في بني آدم من جحد آدم ونسيانه جبرا لقلب آدم ، قال تعالى (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ) والذي نسي آدم إنما هو قوله تعالى (هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ) فنسي ما أخبره الله به من عداوته ، فقبل نصيحته ، فنسيان آدم عليه‌السلام إنما كان أخبره الله تعالى به من عداوة إبليس ، وما تخيل آدم عليه‌السلام أن أحدا يقسم بالله كاذبا ، فلما أقسم بالله إنه ناصح لهما فيما ذكره لهما ، تناولا من الشجرة المنهي عنها ، وفي هذا تنبيه في أن الاجتهاد لا يسوغ مع وجود النص في المسئلة ، وربما وقعت المعصية بتأويل منه ، ولو نسي النهي ما عوقب أصلا ، وإنما نسي ما ذكرناه ، وفي عداوة إبليس لحواء بشرى لها بالسعادة لأنها لو كانت من حزب الشيطان ما كان عدوا لها (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) وهو عمل الباطن ، فبرأ الحق باطن آدم من المعصية ، وكان عند الله وجيها مجتبى ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [نسي آدم فنسيت ذريته ، وجحد آدم فجحدت ذريته] وهذا حديث بشرى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن آدم رحمه‌الله فرحمت ذريته ، حيثما كانوا جعل لهم رحمة تخصهم ، بأي دار أنزلهم الله تعالى.

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى) (١١٩)

الترتيب في الظاهر على خلاف ذلك ، ولكن الحكمة في ذلك أن الحرارة سبب الظمأ ، فقرنه بالضحى ، والجوع تعرية باطن الحيوان ، فذلك قرنه بتعرية ظاهر الأبدان.

١١٣

(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى) (١٢٠)

فصدقه وهو الكذوب ، فتلطّف إبليس في الإغواء تلطف المستدرج في الاستدراج ، والماكر في المكر ، والخادع في الخداع ، فكان لآدم بعد المؤاخذة ما أعطته خاصية تلك الشجرة لمن أكل من ثمرها من الخلد والملك الذي لا يبلى.

(فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) (١٢١)

اعلم أن الأمر الإلهي لا يخالف الإرادة ، فإنها داخلة في حدّه وحقيقته ، وإنما وقع الالتباس من تسميتهم صيغة الأمر أمرا وليست بأمر ، والصيغة مرادة بلا شك ، فأوامر الحق إذا وردت على ألسنة المبلغين فهي صيغ الأوامر لا الأوامر فتعصى ، وقد يأمر الآمر بما لا يريد وقوع المأمور به ، فما عصى أحد قط أمر الله ، وهو قوله إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ؛ وبهذا علمنا أن النهي الذي خوطب به آدم عن قرب الشجرة إنما كان بصيغة لغة الملك الذي أوحى إليه به ، ولما علم إبليس أن آدم محفوظ من الله ، ورأى الله قد نهاه عن قرب الشجرة لا قرب الثمرة ، جاء بصورة الأكل لا بصورة القرب ، فإنه علم أنه لا يفعل لنهي ربه إياه عن قرب الشجرة ، فأتاه بثمرها فأكل آدم وزوجته حواء ، وصدّقا إبليس وهو الكذوب في قوله (هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) ولما كان آدم قد نهي ولم يؤمر أمر إيجاب ، وكان حاملا للمخالف من ولده في ظهره والطائع ، فأوقع المخالفة عن حركة المخالف ، فلما رماه من صلبه ، ما بلغنا أن آدم عليه‌السلام عصى ربه بعد ذلك أبدا ، وأفرد بالمعصية دون أهله في قوله (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ) ـ الوجه الأول ـ والنهي وقع عليهما والفعل وقع عنهما ، لأنها بعض من كلّه ، فهي جزء منه ، فكأنها ما ثمّ إلا هو ، فأهدرت في اللفظ ولم تذكر ، وذكر آدم (فَغَوى) ومن غوى هوى ، ألا تراه هبط ، وفي يديه سقط ، فاستدرك الغلط حين هبط ، فتلقى من ربه ما تلقاه من الكلمات فتاب ، ففاز بحسن المآب ، لأنه ما قصد انتهاك الحرمة ، ولا الخروج من النور إلى الظلمة ـ الوجه الثاني ـ (وَعَصى

١١٤

آدَمُ رَبَّهُ) لما نهاه عن قرب الشجرة فأكل من ثمرتها ، فأضاف المعصية إلى ظاهر آدم ، لأن المعصية بالظاهر وقعت وهو القرب من الشجرة والأكل ، بعد أن برأ باطنه منها ، وما حفظ الله تعالى آدم من المعصية مما حمله في طينته من عصاة بنيه ، فآدم عليه‌السلام مع خلقه باليدين عصى بنفسه ولم يحفظ (فَغَوى) أي فخاف ، وهو قد أكل بالتأويل وظن أنه مصيب غير منتهك للحرمة في نفس الأمر ، وكان متعلق النهي القرب لا الأكل. فيقوى التأويل وغوى هنا بمعنى خاف ، قال الشاعر (١) : ومن يغو لا يعدم على الغي لائما ؛ ولما كان آدم هو الأب الأعظم في الجسمية ، والمقرب عند الله وأول هذه النشأة الترابية ، ظهرت فيه المقامات كلها حتى المخالفة ، إذ كان جامعا للقبضتين : قبضة الوفاق وقبضة الخلاف ، فما تحرك من آدم لمخالفة النهي إلا النسمة المجبولة على المخالفة ، فكانت مخالفته نهي الله من تحرك تلك النسمة التي كان يحملها في ظهره لما عصى ، ثم خاف ، قال الله تعالى في حقه.

(ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (١٢٢)

(ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) فهو مجتبى ، فآدم عليه‌السلام لو لا خطيئته ما ظهرت سيادته في الدنيا ، فهي التي أورثته الاجتباء ، فما خرج من الجنة بخطيئته إلا لتظهر سيادته ، فكان هبوطه هبوط خلافة لا هبوط بعد (فَتابَ عَلَيْهِ) فكان الله هو التائب لا آدم ، والذي صدر من آدم ما اقتضته خاصية الكلمات التي تلقاها ، وما فيها ذكر توبته ، وإنما هو مجرد اعتراف وهو قوله (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ) فأنتج لهما هذا الاعتراف قوله تعالى (فَتابَ عَلَيْهِ) أي رجع عليه بالرحمة ، فرجع عليه بستره ، فحال بينه ذلك الستر الإلهي وبين العقوبة التي تقتضيها المخالفة ، وجعل ذلك من عناية الاجتباء ، أي لما اجتباه أعطاه الكلمات ، ورجع عليه بالصفة التي كان يعامله بها ابتداء من التقريب ، والاعتناء الذي جعله خليفة عنه في خلقه ، وكمل به وفيه وجود العالم (وَهَدى) ـ الوجه

__________________

(١) أنشد الأصمعي للمرقّش :

فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره

ومن يغو لا يعدم على الغيّ لائما

وغوى عند الجوهري بمعنى خاب (تاج العروس ، ولسان العرب) ولا يوجد في المعاجم غوى بمعنى خاف إلا أن تكون لغة لم تصل إلينا أو تصحيفا لخاب ، وخاف أليق بمكانة آدم عليه‌السلام.

١١٥

الأول ـ أي بيّن له قدر ما فعل وقدر ما يستحقه من الجزاء ، وقدر ما أنعم عليه من الاجتباء ، وبيّن له أنه رجع عليه بالرحمة فعمّته ـ الوجه الثاني ـ (وَهَدى) به من هدى ، ومع التوبة قال له : اهبط ، هبوط ولاية واستخلاف لا هبوط طرد ، فهو هبوط مكان لا هبوط رتبة ، ولهذا يضعف القول بتسرمد العذاب ، فإن النار مع كونها دار ألم فإن حكم العذاب زائد على كونها دارا ، فإنا نعلم أن خزنتها في نعيم دائم ، ما هم فيها بمعذبين مع كونهم ما هم منها بمخرجين ، لأنهم لها خلقوا ، وهي دائمة والساكن فيها دائم لكونه مخلوقا لها ، فلما شملت الرحمة آدم بجملته ، وكان حاملا لكل بنيه بالقوة ، عمت الرحمة الجميع ، إذ لا تحجير ، ولا كان يستحق أن يسمى آدم مرحوما وفيه من لا يقبل الرحمة ، والحق يقول (فَتابَ عَلَيْهِ) أي رجع عليه بالرحمة (وَهَدى) أي بيّن له أنه رجع عليه بها فعمته ، ولهذا يرجى لأهل الشقاء أن لا يتسرمد عليهم العذاب ، قال تعالى (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) وما تركه سدى ، فأغاظ الله به الأعداء ، وأفرح به الملائكة الأوداء ، فتلقى من ربه الكلمات ، وكانت له من أعظم الهبات ، فتحقق بحقائق المحبة ، ورجع إلى ما كان عليه من المنزلة والقربة ، وهذا حكم سار في الذرية ، أعطته هذه البنية ، فما ثمّ إلا من همّ ولمّ ، وإن كان الموجود الأتم ، فاعلم إن كنت تعلم ، فاجتبي آدم عليه‌السلام قبل أن يتاب عليه ، لأن سابقة قدمه سبقت إليه.

(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا) (١٢٥)

قلنا إن السمع والبصر قسمان : عادي وحقيقي ، فالعادي سمع القلب بالأذن وإبصاره بالعين ، وهو عام في المؤمن والكافر ، والحقيقي بصر العين بالقلب وسمع الأذن به ، وقد نفاه الله تعالى عن الكافر في غير ما آية ، وبهذا يفهم قوله تعالى (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) مع العلم بأن الله تعالى يعيدهم بأبصارهم

١١٦

العادية كحالهم في الدنيا ، تحقيقا لقوله تعالى (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ولكن الحكم في تلك الدار للأبصار الحقيقية المستفادة من نور صفاته ، بواسطة استجابة القلب لآياته ، وتوجهه لنورها إلى عالم الغيب ، وقلب الكافر في الدنيا كان خاليا من نور التوحيد ، فكان بصره لا يرجع إلى قلبه ، لأنه لا مدد له إلا من حسه ، وهو أعمى عن نور آيات التوحيد ، لا جرم أنه يحشر يوم القيامة أعمى كما كان في الدنيا ، لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ، فكذلك إذا قال (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً).

(قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى) (١٢٦)

أي لا بصر في هذه الدار إلا من نور صفاتي المستفادة من الاستجابة لآياتي ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ولذلك قال تعالى :

(وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (١٣٠)

الصباح والمساء أطراف النهار ، فالمساء ابتداء الليل ، والصباح انتهاء الليل ، والنهار ما بين الانتهاء والابتداء ، والليل ما بين الابتداء والانتهاء ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [من سبّح الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حج مائة حجة] يعني مقبولة [ومن حمد الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن حمل على مائة فرس في سبيل الله ، أو قال غزا مائة غزوة ، ومن هلل الله مائة بالغداة ومائة بالعشي كان كمن أعتق مائة رقبة من ولد إسماعيل ، ومن كبر الله مائة بالغداة ومائة بالعشي لم يأت في ذلك اليوم أحد أكثر مما أتى إلّا من قال مثل

١١٧

ما قال أو زاد على ما قال] أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب ، وهو قوله عزوجل (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها) فأمرنا بالتسبيح آناء الليل وأطراف النهار ، وما تعرض لذكر النهار في هذا الحكم لأنه قال (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) أي فراغا ، فالنهار لك والليل وأطراف النهار له ، فإذا كنت له في الليل وأطراف النهار كان لك هو في النهار ، فعطايا الليل وأطراف النهار جزاء التسبيح ، وعطايا النهار جزاء الاشتغال والفراغ إلى الحق في آناء الليل وأطراف النهار.

(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (١٣١)

(وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) ليس هذا قوله تعالى (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) فإن الغض له حكم آخر ، لأنه نقص مما تمتد العين إليه ، والنقص هنا أن لا يمد إلى أمر خاص ، أي إلى مرئي خاص ، فعلم ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فزاد علما إلى علمه ، (إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) وقد جعل الله النساء زهرة حيث كن ، فإذا كن في الدنيا كن زهرة الحياة الدنيا ، فوقع النعيم بهن حيث كن ، وأحكام الأماكن تختلف ، فهن وإن خلقن للنعيم في الدنيا فهن فتنة (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) يستخرج الحق بهن ما خفي عنا فينا مما هو به عالم ولا نعلمه من نفوسنا ، فيقوم به الحجة لنا وعلينا ، وما فتنهم الحق إلا بما سماه زهرة لهم ، لما كانت الزهرة دليلة على الثمرة ومتنزها للبصر ومعطية الرائحة الطيبة ، فإذا لم يدرك صاحب هذه الزهرة رائحتها ولا شهدها زهرة وإنما شهدها امرأة ولا علم دلالتها التي سيقت له على الخصوص وزوجت به ، وتنعم بها ونال منها ما نال بحيوانيته لا بروحه وعقله ، فلا فرق بينه وبين سائر الحيوان ، بل الحيوان خير منه ، لأن كل حيوان مشاهد لفصله المقوم له ، وهذا الشخص ما وقف مع فصله المقوّم له :

كل شخص زوجه من نفسه

ولهذا زوجه من جنسه

فهو كل وهي جزء فلذا

كثرت أزواجه من نفسه

(وَرِزْقُ رَبِّكَ) ما أعطاك مما أنت عليه في وقتك ، وما لم يعطك وهو لا بد لك فلا بد من

١١٨

وصوله إليك ، وما أبطأ به إلا الوقت الزماني الذي هو له ، وما ليس لك فلا يصل إليك ، فتتعب نفسك حيث طمعت في غير مطمع ، وما أعني بقولنا إنه لك إلا ما تناله على الحد الإلهي الذي أباحه لك ، وإن نلته على غير ذلك الحد فما نلت ما هو لك من جانب الحق ، إنما نلت ما هو لك من جانب الطبع ، وليس المراد في الدنيا إلا ما تناله من جانب الحق ، فالحق للدنيا والطبع للآخرة ، والطبع له الإباحة والحق له التحجير ، فانظر إلى عطايا ربك فإنها أكثر ما تكون ابتلاء ، ولا تعرف ذلك إلا بالميزان ، وذلك أن كل عطاء يصل إليك فهو رزق ربك ، ولكن على الميزان المشروع فهو (خَيْرٌ وَأَبْقى) والذي هو خير وأبقى هو الحال الذي هو عليه في ذلك الوقت الذي رزقه ، فإنه تعالى لا يتّهم في إعطائه الأصلح لعبده ، فما أعطاه إلا ما هو خير في حقه وأسعد عند الله وإن قل ، فإنه ربما لو أعطاه ما يتمناه العبد طغى وحال بينه وبين سعادته ، فإن الدنيا دار فتنة.

(وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (١٣٢)

(وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) يريد الصلاة ، قال تعالى (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) يعني بالصبر على الصلاة.

(وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) (١٣٤)

أذل الأذلاء من كان له عزوجل ، لأن ذل الذليل على قدر من ذلّ تحت عزّه ، ولا عز أعظم من عز الحق ، فلا ذل أذل ممن هو لله ، ومن ذل لله لا يذل لغير الله أصلا ، وأما الخزي فلا يخزى إذا كان لله ، فإن الخزي لا يكون من الله لمن هو له ، وإنما يكون لمن هو لغير الله في شهوده ، ولذلك قالت خديجة وورقة بن نوفل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [كلا والله لا

١١٩

يخزيك الله أبدا] لما ذكر له ابتداء نزول الناموس عليه ، فالذل صفة شريفة إذا كانت الذلة لله ، والخزي صفة ذميمة بكل وجه ، فالخزي الذي يقوم بالعبد إنما هو ما جناه على نفسه بجهله وتعديه رسوم سيده وحدوده ، فجميع مذام الأخلاق وسفسافها صفات مخزية عند الله وفي العرف ، فمن كان لله لم يذل ولا يخزى أبدا.

(قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥)

يقول الحقّ : وعزّتي وجلالي ، وما أخفيته من سنّي علمي لأعذّبنّ عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين ، من كذّب رسلي وكذّب اختصاصي لهم من سائر العباد ، وكذّب بصفاتي وادّعى أنه ليس لي صفة ، وأوجب عليّ وأدخلني تحت الحصر ، وكذّب كلامي وتأوّله من غير علم به ، وكذّب بلقائي ، وقال : إنّي لم أخلقه ، وإني غير قادر على بعثه كما بدأته ، وكذّب بحشري ونشري ، وحوض نبيّ وميزاني ، وصراطي ورؤيتي ، وناري وجنّتي ، وزعم أنّها أمثلة وعبارات ، المراد بها أمور فوق ما ظهر ، وعزّتي وجلالي لتردون وتعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى ، ولأنتقمنّ في دار الخزي والعذاب منهم ، على ما أخبرت في كتبي ، كذّبوني وصدّقوا أهواءهم ، ونفوسهم سوّلت لهم الأباطيل ، وشياطينهم لعبت بهم (إنّكم وما تعبدون حصب جهنم أنتم لها ورادون) قف عند حدّي ، وانظر في كتابي ، فهو النور الجلي ، وفيه السرّ الخفي ، صراطي ممدود على ناري ، فالويل كل الويل لمن كذّبني ، كلّ حزب بما لديهم فرحون ، وكلّ له شرب معلوم ، وسيردون فيعلمون ، كأنّهم ما سمعوا (يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود).

١٢٠