رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

كانت الملائكة من عالم الطبيعة ، وإن كانت أجسامهم نورية فمن نور الطبيعة ، كنور السراج ، فأثر فيهم حكم الطبيعة الخصام لما فيها من التقابل والتضاد ، والضد والمقابل منازع لمقابله ، فهذه هي الحقيقة التي أورثتهم الخصومة ، ونعتوا بأنهم يختصمون لأن الخصام لا يكون إلا فيمن ركب من الطبائع لما فيها من التضاد ، فلا بد فيمن يتكون عنها أن يكون على حكم الأصل ، فالنور الذي خلقت منه الملائكة نور طبيعي ، فكانت فيها الموافقة من وجه والمخالفة من وجه ، فهذا سبب اختلاف الملأ الأعلى فيما يختصمون فيه. ومما دعا الملأ الأعلى إلى الخصام التخيير في الكفارات ، والتخيير حيرة فإنه يطلب الأرجح أو الأيسر ، ولا يعرف ذلك إلا بالدليل ، فلو أن الله يعلمهم بما هو الأفضل عنده من هذه الأعمال والأحب إليه ما تنازعوا ، ولو أنهم يكشفون ارتباط درجات الجنان بهذه الأعمال لحكموا بالفضيلة للأعلى منها ، وإنما الله سبحانه غيّب عنهم ذلك ، فهم في هذه المسئلة بمنزلة علماء البشر إذا قعدوا في مجلس مناظرة فيما بينهم في مسئلة من الحيض الذي لا نصيب لهم فيه ، بخلاف المسائل التي لهم فيها نصيب ، وإنما قلنا ذلك لأن الكفارات إنما هي لإحباط ما خالف فيه المكلف ربه من أوامره ونواهيه ، والملائكة قد شهد الله لهم بالعصمة أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به ، وما بلغنا أن عندهم نهي ، وإذا لم يعصوا وكانوا مطيعين فليس لهم في أعمال الكفارات قدم ، فهم يختصمون فيما لا قدم لهم فيه ، وكذلك ما بقي من الأعمال التي لا قدم لهم فيها ، فهم مطهرون فلا يتطهرون فلا يتصفون في طهارتهم بالإسباغ والإبلاغ في ذلك وغير الإسباغ ، وكذلك المشي إلى مساجد الجماعات لشهود الصلوات ليس لهم هذا العمل ، فإن قلت : فإنهم يسعون إلى مجالس الذكر ، ويقول بعضهم لبعض : هلموا إلى بغيتكم. فاعلم أن الذكر ما هو عين الصلاة ، ونحن إنما نتكلم في عمل خاص في الجماعة ليس لهم فيه دخول مثل ما لبني آدم ، فإنهم ليسوا على صور بني آدم بالذات ، وإنما لهم التشكل فيهم ، وقد علم جبريل عليه‌السلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلوات بالفعل ، وتلك من جبريل حكاية يحكيها للتعليم والتعريف بالأوقات ؛ وأما التعقيب إثر الصلوات فإنما ذلك للمصلين على هذه الهيئة المخصوصة التي ليست للملائكة ، فما اختصموا في أمر هو صفتهم ، فلهذا ضربنا مسئلة الحيض مثلا ، وسبب ذلك أن الملائكة تدعو بني آدم في لماتها إلى العمل الصالح وترغبهم في الأفضل ، فلهذا اختصمت في الأفضل حتى تأمرهم به. وأما

٥٢١

قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفارات جمع كفّارة ببنية المبالغة ، إنباء بذلك على أنه لصورة العمل الواحد أنواع كثيرة من البلاء ، وأن الكفارات إنما شرعت لتكون حجابا بين العبد وبين ما عرّض إليه نفسه من حلول البلايا بالمخالفات التي عملها ، مأمورا كان بذلك العمل أو منهيا عنه ، فكانت الكفارات عواصم من القواصم ، كما أن للشيء الواحد وإن لم يكن معصية كفارات مختلفة ، مثل الحاج يحلق رأسه لأذى يجده ، أو المتمتع أو المظاهر أو من حلف على يمين فرأى خيرا منها ، فإن مثل هذا له كفارات مختلفة ، أيّ عمل مكفر فعل سقط عنه الآخر ، فقام هذا العمل الواحد مقام ما بقي مما سقط عنه ، فيتصور خطاب الملائكة أي كفارات التخيير أولى بأن يفعل ، أو لماذا تكون كفارة وما عمل شيئا تجب أن تتوجه فيه العقوبة حتى تكون هذه الكفارة تدفعه ، فالملأ الأعلى يختصمون في مثل هذا أيضا ، ولكي تخرج من الحيرة فإذا خيرك الحق في أمور فانظر إلى ما قدم منها بالذكر فاعمل به ، فإنه ما قدمه حتى تهمم به وبك ، فكأنه نبّهك على الأخذ به ، فما تزول الحيرة عن التخيير إلا بالأخذ بالمتقدم ، تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد السعي في حجة الوداع (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ثم قال : [أبدأ بما بدأ الله به] فبدأ بالصفا ، وهذا عين ما أمرتك به لإزالة حيرة التخيير ، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، والظاهر من هذه الآية في هذا الأمر أن الملائكة لهم نظر فكري يناسب خلقهم ، فإنه لما نبهت الشريعة باختصام الملأ الأعلى علمنا أنه من عالم الطبيعة ، وأن للطبيعة في الملائكة أثرا كما أن للأركان في أجسام المولدات أثرا ، فإن أردت أن ترفعه عنها ، وتنزله منزلتها منها ، فقل : لاختلاف الأسماء ، وهذا أوضح ما يكون من الإيماء.

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (٧١)

سمي الإنسان بشرا من المباشرة ، لمباشرة الحق خلقه بيديه بحسب ما يليق بجلاله ، فإن الله خلقه برفع الوسائط مع المباشرة فقال (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) واختص الإنسان بهذا الاسم مع مباشرة الحق لخلق الموجودات ، لأن الإنسان أكمل الموجودات خلقا ، وكل نوع من الموجودات ليس له ذلك الكمال في الوجود ، فالإنسان أتم المظاهر ،

٥٢٢

فاستحق اسم البشر دون غيره من الأعيان ، وسرت هذه الحقيقة في البنين فلم يوجد أحد منهم إلا عن مباشرة ، حتى في وجود عيسى عليه‌السلام لما تمثّل لها الروح بشرا سويا ، فجعله واسطة بينه تعالى وبين مريم في إيجاد عيسى ، تنبيها على المباشرة بقوله : (بَشَراً سَوِيًّا).

(فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (٧٢)

اعلم أنه لما أقام الحق تعالى الإنسان بهذا المقام الأكمل ، ورداه برداء المعلم الأجمل ، فنظرت إليه الروحانيات العلى بعين التعظيم ، وذلك قبل وجود مركبه البهيم ، فإنه تعالى قال لهم : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فلم يزل عالي الكلمة بعلم الأسماء ، مميزا لتفاصيل الأشياء ، إلى أن أخذت مقاماتها الأملاك ، ودارت بأشواقها الأفلاك ، وانفعلت الأكوان لذلك الدور ، وانعطف المكور عليها بعد الكور ، وظهرت المولدات الجسمانيات والجسميات ، ذوات الكميات والكيفيات ، كالمعدن والنبات والحيوان ، وليس للإنسان وجود في الأعيان ، حتى إذا بلغت الدورة المخصوصة ، وتوجهت الكلمة المنصوصة ، من الحضرة العلية المأنوسة ، بإيجاد هذه الكلمة الهوية المحروسة ، قبض الحق سبحانه ـ كما روي ـ من الأرض قبضة من حيث لا يعلمون ، وخمر طينته بيديه من غير تشبيه ولا تكييف وهم لا يشعرون ، وسواه متجاور الأضداد ، وميّزه بالحركة المستقيمة من بين سائر الأولاد ، وأعطته قوى هذه البنية التصرف بالحركة المنكوسة والأفقية ، ثم أنطق الفهوانية في الروحانيات بخلافته ، فطعنت من فورها في نيابته ، ولو عاينت تشريف اليدين ، ما حجبتهم مجاورة الضدين ، ولأنه سبحانه ما ذكر لملائكته إلا خلافته في الأرض ، وما تعرض للملائكة ، فلما ظهر من الملائكة في حق آدم ما ظهر ، قام ذلك الترجيح منهم لأنفسهم ، وكونهم أولى من آدم بذلك ، ورجحوا نظرهم على علم الله في ذلك ، فقام لهم ذلك مقام خطايا بني آدم ، فكان سببا لسيادة آدم على الملائكة ، فأمروا بالسجود له لتثبيت سيادته عليهم ، فقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) فأمر الله سبحانه الملائكة بالسجود لمعلمهم سجود أمر ـ كسجود الناس إلى الكعبة ـ وتشريف ، لا سجود عبادة ، فهذا السجود كالتواضع والخضوع ، والإقرار بالسبق والفخر والشرف

٥٢٣

والتقدم له ، كتواضع التلميذ لمعلمه ، وذلك تشريف من الله سبحانه ، ودليل قاطع على ثبوت إرادته ، يختص برحمته من عباده من يشاء ، فلما نفخ فيه الروح الأنزه ، والسر الحاكم المتأله ، عرفت الملائكة حينئذ قدر هذا البيت الأعلى ، والمحل الأشرف الأسنى ، فأوقفهم الحق بين يديه طالبين ، وأمرهم فوقعوا له ساجدين.

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (٧٣)

ـ تحقيق ـ اعلم أن الأمر حق وخلق ، وأنه وجود محض لم يزل ولا يزال ، وإمكان محض لم يزل ولا يزال ، وعدم محض لم يزل ولا يزال ، فالوجود المحض لا يقبل العدم أزلا وأبدا ، والعدم المحض لا يقبل الوجود أزلا وأبدا ، والإمكان المحض يقبل الوجود لسبب ، ويقبل العدم لسبب أزلا وأبدا ، فالوجود المحض هو الله ليس غيره ، والعدم المحض هو المحال وجوده ليس غيره ، والإمكان المحض هو العالم ليس غيره ، ومرتبته بين الوجود المحض والعدم المحض ، فبما ينظر منه إلى العدم يقبل العدم ، وبما ينظر منه إلى الوجود يقبل الوجود ، فمنه ظلمة وهو الطبيعة ، ومنه نور وهو النفس الرحماني الذي يعطي الوجود لهذا الممكن ؛ فالعالم حامل محمول ، فبما هو حامل هو صورة وجسم وفاعل ، وبما هو محمول هو روح ومعنى ومنفعل ، فما من صورة محسوسة أو خيالية أو معنوية إلا ولها تسوية من جانب الحق وتعديل ، كما يليق بها وبمقامها وحالها ، وذلك قبل التركيب ، أعني اجتماعها مع المحمول الذي تحمله ، فإذا سواها الرب بما شاء ـ من قول أو يد أو يدان أو أيد ، وما ثمّ سوى هذه الأربعة ، لأن الوجود على التربيع قام ـ وعدله ، وهو التهيؤ والاستعداد للتركيب والحمل ، تسلمه الرحمن فوجه عليه نفسه وهو روح الحق في قوله (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) وهو عين هذا النفس قبلته تلك الصورة ، واختلف قبول الصور بحسب الاستعداد ، فإذا كانت الصورة عنصرية واشتعلت فتيلتها بذلك النفس ، سميت حيوانا عند ذلك الاشتعال ، وإن لم يظهر لها اشتعال وظهر لها في العين حركة وهي عنصرية سميت نباتا ، وإن لم يظهر لها اشتعال ولا حركة أعني في الحس وهي عنصرية سميت معدنا وجمادا. وقد عرفنا الحق أن سبب الحياة في صور المولدات إنما هو النفخ الإلهي ، وهو النفس الذي أحيى الله به الإيمان فأظهره ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن نفس الرحمن يأتيني من قبل اليمن] فحييت بذلك

٥٢٤

النفس الرحماني صورة الإيمان في قلوب المؤمنين والأحكام المشروعة ، وهذا الروح المنفوخ هو السر الذي عند المخلوق من الله ، فلا يراه إلا به ، ولا يسمع كلامه إلا به ، فإنه يتعالى ويتقدس أن يدرك إلا به ، فكل العناصر تجتمع على هذا السر الإلهي وتشتمل عليه ، وبه سبّحت الصورة بحمده ، وحمدت ربها إذ لا يحمده سواه ، ولو حمدته الصورة من حيث هي لا من حيث هذا السر لم يظهر الفضل الإلهي ولا الامتنان على هذه الصورة ، وقد ثبت الامتنان له على جميع الخلائق ، فثبت أن الذي كان من المخلوق لله من التعظيم والثناء إنما كان من ذلك السر الإلهي ، ففي كل شيء من روحه ، وليس شيء فيه ، فالحق هو الذي حمد نفسه ، وسبح نفسه ، وما كان من خير إلهي لهذه الصورة عند ذلك التحميد والتسبيح فمن باب المنة لا من باب الاستحقاق الكوني ، فإن جعل الحق له استحقاقا فمن حيث أنه أوجب ذلك على نفسه. ـ إشارة ـ الأرواح المنفوخة في الأجسام من أصل مقدس نقي ، فإن كان المحل طيب المزاج زاد الروح طيبا ، وإن كان غير طيب خبّثه وصيّره بحكم مزاجه ، فرسل الله الذين هم خلفاؤه أطهر الناس محلا ، فهم المعصومون ، فما زادوا الطيب إلا طيبا ، وما عداهم من الخلفاء منهم من يلحق بهم ، وهم الورثة في الحال والفعل والقول ، ومنهم من يختل بعض اختلال وهم العصاة ، ومنهم من يكثر منه ذلك الاختلال وهم المنافقون ، ومنهم المنازع والمحارب وهم الكفار والمشركون ، فيبعث الله إليهم الرسل ليعذروا من نفوسهم إذا عاقبهم بخروجهم عليه واستنادهم إلى غيره الذي أقاموه إلها فيهم من أنفسهم ، والأرسال من الله إنما أرسلهم من كونه ملكا إلى النفوس الناطقة من عباده لكونهم مدبرين مدائن هياكلهم ، ورعاياهم جوارحهم الظاهرة ، وقواهم الباطنة ، فيبعث الله رسله إلى هذه النفوس الناطقة ، وهي التي تنفذ في الجوارح ما تنفذ من طاعة ومخالفة ، ولها قبول الرسالة والإقبال على الرسول والتحفي به أو الإهانة ، وقد يكون الرد بحسب ما أعطاها الله من الاستعداد من توفيق أو خذلان ، فجعل النفوس ملوكا على أبدانها ، وآتاها ما لم يؤت أحدا من العالمين ، وهو طاعة رعاياها لها ، فالجوارح والقوى لا تعصي لها أمرا بوجه من الوجوه ، وسائر الملوك الذين رعاياهم غير متصلين بهم قد يعصون أوامر ملوكهم ، كما أن من هؤلاء الملوك من قد يعصي ما أمره به الملك الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله إليهم وقد يطيع ، فتوجيه الرسل وبعث الله إليهم ، أثبت لهم كونهم ملوكا ، فإن الرسل عرفاء لا تمشي إلا بين

٥٢٥

الملوك لا بين الرعايا ، فلما أنزلهم الحق منزلته في الملك ، علمنا أنه لو لا ثمّ مناسبة تقتضيه ما كان هذا ، فإذا المناسبة في أصل الخلقة ، وهي قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فهو ولّاه وملّكه وجعله خليفة عنه ، فما كانت الرسل إلا إلى ولاته ، فهذه إشارة إلى أن النفس الناطقة هي المخاطبة من الحق بواسطة الرسول ، ولما كانت صورة الإنسان الأول المخلوق باليدين على الصورة الإلهية الجامعة ، وتوجه عليها الرحمن بنفسه ، ونفخ فيها روحا من أمره ، فحمل الإنسان الأول في تلك النفخة علم الأسماء الإلهية التي لم يحملها صورة العقل أول مخلوق ، فخرج على صورة الحق ، وفيه انته حكم النفس ، إذ لا أكمل من صورة الحق ، فقال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).

(إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٧٤)

سمى الله إبليس كافرا ، لأنه يستر عن العباد طريق سعادتهم التي جاء بها الشرع في حق كل إنسان بما يقدر عليه من ذلك ، ولم يقل من المشركين ، لأنه يخاف الله رب العالمين ، ويعلم أن الله واحد ـ راجع البقرة آية ٣٤ ـ.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) (٧٥)

إن الله خلق آدم بيديه على جهة التشريف لقرينة الحال ، حين عرّف بذلك إبليس لما ادعى الشرف على آدم بنشأته ، فما توجهت اليدان إلا على طينة آدم وطبيعته ، فقال تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) فما أضاف الحق آدم إلى يديه إلا على جهة التشريف والاختصاص على غيره ، والتنويه لتعلم منزلته عند الله ، فإنه لم يجمع سبحانه لشيء مما خلقه من أول موجود إلى آخر مولود وهو الحيوان بين يديه تعالى إلا الإنسان وهذه النشأة البدنية الترابية ، بل خلق كل ما سواها إما عن أمر إلهي ، أو عن يد واحدة ، قال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فهذا عن أمر إلهي ، وورد في الخبر [إن

٥٢٦

الله عزوجل خلق جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس شجرة طوبى بيده ، وخلق آدم الذي هو الإنسان بيديه] فلما جمع الله لآدم في خلقه بين يديه ، علمنا أنه قد أعطاه صفة الكمال فخلقه كاملا جامعا ، ولهذا قبل الأسماء كلها ؛ وقد وردت الأخبار والآيات بتوحيد اليد الإلهية وتثنيتها وجمعها ، وما ثنّاها إلا في خلق آدم عليه‌السلام وهو الإنسان الكامل ، ولا شك أن التثنية برزخ بين الجمع والإفراد ، بل هي أول الجمع ، والتثنية تقابل الطرفين بذاتها ، فلها درجة الكمال ، لأن المفرد لا يصل إلى الجمع إلا بها ، والجمع لا ينظر إلى المفرد إلا بها ، فبالإنسان الكامل ظهر كمال الصورة ، فهو قلب لجسم العالم الذي هو عبارة عن كل ما سوى الله ، وهو البيت المعمور بالحق لما وسعه ولا يسوغ هنا حمل اليدين على القدرة لوجود التثنية ، ولا على أن تكون اليد الواحدة النعمة ، والأخرى يد القدرة ، فإن ذلك سائغ في كل موجود ، فلا شرف لآدم بهذا التأويل ، فلا بد أن يكون لقوله (بِيَدَيَّ) خلاف ما ذكرناه مما يصح به التشريف ، فإنه لما أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية جمع لها بين يديه ، وأعطاها جميع حقائق العالم ، وتجلى لها في الأسماء كلها ، فحازت الصورة الإلهية ، والصورة الكونية وجعلها روحا للعالم ، وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المدبر له ، فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم ، كما يتعطل الدنيا بمفارقة الإنسان ، فالدار الدنيا جارحة من جسد العالم الذي الإنسان روحه ، ولكونه جامعا قابل الحضرتين بذاته ، فصحت له الخلافة ، وتدبير العالم وتفصيله ، فإذا لم يحز إنسان رتبة الكمال فهو حيوان ، تشبه صورته الظاهرة صورة الإنسان ، فإن الله ما خلق أولا من هذا النوع إلا الكامل وهو آدم عليه‌السلام (أَسْتَكْبَرْتَ) في نظرك؟ بقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) وكذلك كان ، فإن الله أخبر عنه أنه استكبر فقوله تعالى (أَسْتَكْبَرْتَ)؟ على من هو مثلك يعني عنصريا (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) أي أنك في نفس الأمر خير منه فكنت من العالين عن العنصر ، ولست كذلك ، ويعني بالعالين من علا بذاته عن أن يكون عنصريا في نشأته النورية العنصرية وإن كان طبيعيا ، فهو علو المكانة عند الله ، فهنا ظهر جهل إبليس ، وقد يريد بالعالين الملائكة المهيمة في جلال الله الذين لم يدخلوا تحت الأمر بالسجود ، فهم المهيمون الكروبيون ، وهم أرواح ما هم ملائكة ، فإن الملائكة هم الرسل من هذه الأرواح ، كجبريل عليه‌السلام وأمثاله ، فإن الألوكة هي الرسالة في

٥٢٧

لسان العرب ، ولم تدخل الأرواح المهيمة فيمن خوطب بالسجود ، فإن الله ما ذكر أنه خاطب إلا الملائكة ، فقال : (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) وهم هذه الأرواح المهيمة في جلال الله ، لا تعلم أن الله خلق آدم ولا شيئا لشغلهم بالله ، أي هل أنت من هؤلاء الذين ذكرناهم فلم تؤمر بالسجود؟ فالعالون هم العابدون بالذات لا بالأمر ، ما أمروا بالسجود لأنهم ما جرى لهم ذكر في تعريف الله إيانا ، ومن العالين اللوح والقلم فلا يتمكن لهم إنكار آدم الإنسان الكامل ، والقلم قد سطره ، واللوح قد حواه ، فإن القلم لما سطره سطّر رتبته وما يكون منه ، واللوح قد علم علم ذوق ما خطه القلم فيه ، وأما الأرواح المهيمة فإن الله خلقها في العماء وهيّمها في جلاله ، ثم خلق الخلق فشغلهم هيمانهم في جلال جماله أن يروا سواه ، فهم الذين لا يعرفون أن الله خلق أحدا ، فأعلاهم الحق أن يكون شيء من الخلق لهم مشهودا ولا نفوسهم ، فهم عبيد اختصهم الله لذاته ، والتجلي لهم دائم ، وهم فيه هائمون لا يعلمون ما هم فيه ، فهم لا يشهدون علو الحق ، لأنه لا يشهد علو الحق إلا من شهد نفسه ، وهم في أنفسهم غائبون ، فهم أرفع الأرواح العلوية ، وكل روح لا يعطي رسالة فهو روح ، لا يقال فيه : ملك إلا مجازا. فالعالون ليسوا بملائكة من حيث الاسم ، فإنه موضوع للرسل منهم خاصة ، فمعنى الملائكة الرسل ، وهو من المقلوب وأصله مألكة ، والألوكة الرسالة والمألكة الرسالة ، فما تختص بجنس دون جنس ، ولهذا دخل إبليس في الخطاب بالأمر بالسجود لما قال الله للملائكة (اسْجُدُوا) لأنه ممن كان يستعمل في الرسالة فهو رسول ، فأمره الله فأبى ، فالرسالة جنس حكم يعم الأرواح الكرام البررة السفرة والجن والإنس ، من كل صنف من أرسل ، فكان قوله تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) بحسب ما يليق بجلاله على جهة التشريف الإلهي الذي خص به آدم بخلقه بيديه ، إذ اليد بمعنى القدرة لا شرف فيها على من شرف عليه ، واليد بمعنى النعمة مثل ذلك ، فإن النعمة والقدرة عمت جميع الموجودات ، فلا بد أن يكون لقوله بيدي أمر معقول له بخصوص وصف بخلاف هذين وهو المفهوم من لسان العرب الذي نزل القرآن بلغتهم ، فإذا قال صاحب اللسان : إنه فعل هذا بيده ، فالمفهوم منه رفع الوسائط (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) على طريق الاستفهام بما هو به عالم ، ليقيم شهادته على نفسه بما ينطق به. ـ مسئلة ـ هذه الآية من أدل الأدلة على إثبات الأسباب عند الله ، فإن الله قادر أن يكون

٥٢٨

آدم ابتداء من غير تخمير ولا توجه يديه ولا تسوية ولا تعديل لنفخ روح ، بل يقول له : كن فيكون ، ومع هذا خمر طينته بيديه وسواه وعدله ، ثم نفخ فيه الروح ، وعلمه الأسماء ، وأوجد الأشياء على ترتيب. فقال إبليس.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٧٦)

فاستكبر على آدم لا على أمر الله ، وما كان من العالين ، فأخذه الله بقوله ، وكان من الكافرين نعمة الله عليه حين أمر بالسجود لآدم ، وألحقه بالملأ الأعلى في الخطاب بذلك ، فحرمه الله لشؤم النشأة العنصرية ـ راجع سورة الأعراف آية ١١ ـ.

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٢)

كأن إبليس يري الحق أنه يعلم من نشأة الإنسان قبوله لكل ما يلقى إليه ، فأقسم بالله تعالى فقال : (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) وهو مجبور في الإغواء وإن كان من اختياره إبرارا لقسمه بربه ، فإنه وإن سبق له الشقاء فله شبهة يستند إليها في امتثال أمر سيده ، بعد أن حقت الكلمة كلمة العذاب عليه بقوله تعالى : اذهب ، واستفزز ، وأجلب ، وعدهم.

فإنه يجد لذلك تنفيسا.

(إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٨٣)

يعني الذين اصطنعهم الحق لنفسه ، فهم الذين أخلصهم الله إليه مما ألقى إليهم ، وفيهم من نور الحفظ والعصمة ، ولذلك قال تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) أي قوة وقهر وحجة ، لأن الله تولى حفظهم وتعليمهم بما جعل فيهم من التقوى ، فلما اتخذوا الله جل جلاله وقاية لم يجد اللعين من أين يدخل عليهم بشيء ، فإنه أينما تولى منه ليدخل

٥٢٩

عليه بما يخرجه عن دينه وعلمه ، وجد في تلك الجهة وجه الله يحفظه ، فلا يستطيع الوصول إليه بالوسوسة. ولما سأل إبليس ذلك أجاب الله سؤاله فقال له : (اذْهَبْ) الآية رقم ٦٣ سورة الإسراء ـ يعني إلى ما سألته مني ، وذكر له جزاءه وجزاء من اتبعه من الإنس ، فكان جزاء الشيطان أن رده إلى أصله الذي منه خلقه ، والذي اتبعه كذلك ، فقال.

(قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (٨٥)

فغلّب جزاء الإنسان على جزاء إبليس ، فإن الله ما جعل جزاء هما إلا جهنم وفيها عذاب إبليس ، فإن جهنم برد كلها ما فيها شيء من النارية ، فهو عذاب لإبليس أكثر من متبعه ، وإنما كان ذلك لأن إبليس طلب أن يشقي الغير ، فحار وباله عليه لما قصده ، فهو تنبيه من الحق لنا أن لا نقصد وقوع ما يؤدي إلى الشقاء لأحد ، فعذاب الشياطين من الجن في جهنم أكثر ما يكون بالزمهرير لا بالحرور ، وقد يعذب بالنار ، وبنو آدم أكثر عذابهم بالنار ، وسميت جهنم جهنما لأنها كريهة المنظر ، والجهام السحاب الذي هرق ماءه ، والغيث رحمة الله فلما أزال الله الغيث من السحاب بإنزاله أطلق عليه اسم الجهام ، لزوال الرحمة الذي هو الغيث منه ، كذلك الرحمة أزالها الله من جهنم ، فكانت كريهة المنظر والمخبر ، وسميت أيضا جهنم لبعد قعرها يقال : ركية جهنام ، انظر الإشارة سورة فاطر آية رقم ٦.

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ) (٨٨)

(٣٩) سورة الزّمر مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (١)

٥٣٠

كل ما ينسب إلى الله تعالى فهو بحسب ما يليق بجلاله من غير تكييف ولا تشبيه ولا تصور ، بل كما تعطيه ذاته وما ينبغي أن ينسب إليها من ذلك (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) (الْعَزِيزُ) فلا يصل أحد إلى العلم ولا إلى الظفر بحقيقته (الْحَكِيمُ) الذي نزل لعباده في كلماته فقرّب البعيد في الخطاب لحكمة أرادها تعالى.

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) (٢)

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي طهر عبادتك من العلل حتى تعبد الله عبدا خالصا محضا ، لا تشوبه علة ولا مرض في عبادته ولا عبوديته ، فإن الموحد يعبد الله من طريقين : من طريق الذات من كونها تستحق وصف الألوهية ، ومن طريق الألوهية ، فالسعيد الجامع بينهما ، لأن العبد مركب من حرف ومعنى ، فالحرف للحرف والمعنى للمعنى ، فلذلك لا نعبد الذات معراة عن وصفها بالألوهية ، ولم تعبد الألوهية من غير نسبتها إلى موصوف بها ، فلم تقم العبادة إلا على ما تقتضيه حقيقة العبد وهو التركيب ، لا على ما تقتضيه حقيقة الحق وهو الأحدية ، التي لا تتعلق ولا يتعلق بها فإنها للذات ، فلبّ إذا دعاك الحق إليه ، لا رغبة فيما في يديه ، فإنك إن أحببته لذلك ، فأنت هالك ، وكنت لمن أجبت ، وأخطأت وما أصبت ، واستعبدك الطمع واسترقك ، وأنت تعلم أن الله لا بد أن يوفيك حقك ، فمن كان عبدا لغير الله فما عبد إلا هواه ، وأخذ به العدو عن طريق هداه ، ما اختزن الأشياء إلا لك ، فقصر أملك وأخلص لله عملك.

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) (٣)

(أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) ـ الوجه الأول ـ ألا إنه العهد الذي خلص لنفسه في وفاء العبد به ، ما استخلصه العبد من الشيطان ، ولا من الباعث عليه من خوف ولا رغبة ولا جنة ولا نار ، فقد يكون الباعث للمكلف مثل هذه الأمور في الوفاء بعهد الله ، فيكون

٥٣١

العبد من المخلصين ، ويكون الدين بهذا الحكم مستخلصا من حد من يعطي المشاركة فيه ، فيميل العبد به عن الشريك ، والعهد الخالص هو الذي لما أخذ الله من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ، ثم ولد كل بني آدم على الفطرة ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [كل مولود يولد على الفطرة] وهو الميثاق الخالص لنفسه ، الذي ما ملكه أحد غصبا فاستخلص منه ، بل لم يزل خالصا لنفسه في نفس الأمر طاهرا مطهرا ، فإذا ولد المولود ونشأ محفوظا قبل التكليف ، ولم يرزء في عهده هذا بشيء مما ذكرناه آنفا ، فبقي عهده على أصله خالصا ، وهو الدين الخالص ـ لا المخلص ـ من غير شوب خالطه حتى يستخلصوه منه ، فهو صاحب العهد الخالص فلا يشقى ، وأهل العهد الخالص على منابر لا يحزنهم الفزع الأكبر على نفوسهم ولا على أحد ، لأنهم لم يكن لهم تبع في الدنيا ، وكل من كان له تبع في الدنيا فإنه وإن أمن على نفسه فإنه لا يأمن على من بقي وعلى تابعه ، لكونه لا يعلم هل قصر وفرط فيما أمر به أم لا؟ فيحزنه الفزع الأكبر عليه ـ الوجه الثاني ـ (الدِّينُ الْخالِصُ) أي المستخلص من أيدي ربوبية الأكوان ، ولا يكون ذلك إلا من المخلصين بفتح اللام ، فإن الله إذا اعتنى بهم استخلصهم من ربوبية الأسباب ، فإذا استخلصهم كانوا مخلصين بكسر اللام فالدين الخالص لا يشوبه شيء من عمل لأجل ثواب أو خوف عقاب ، وإنما يقصد امتثال أمر الله إن كان واجبا ، أو إتيان ما رغب الله في إتيانه إن كان تطوعا (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وهم الذين يجعلون مع الله إلها آخر. اعلم أيدك الله أن عبادة الله بالغيب عين عبادته بالشهادة ، فإن الإنسان وكل عابد لا يصح أن يعبد معبوده إلا عن شهود ، إما بعقل أو ببصر أو بصيرة ، فالبصيرة يشهده العابد بها فيعبده ، وإلا فلا تصح له عبادة ، فما عبد إلا مشهودا لا غائبا ، لذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [اعبد الله كأنك تراه] فأمره بالاستحضار وأمره بتصوره في الخيال مرئيا ، فما حجر الله على العباد تنزيهه ولا تخيله ، وإنما حجر عليه أن يكون محسوسا له ، وأعظم من الشرك لا يكون ، وقد قال المشرك (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فما عبدوا الشركاء لأعيانهم ، فإن العبادة لله لا تكون لغير الله أبدا ، فما أخذوا لكونهم عبدوهم ، فإن المشرك ما جحد الله تعالى ، بل أقر به وأقر له بالعظمة والكبرياء على من اتخذه قربة إليه ، فلو لا وضع اسم الألوهية على الشريك ما عبدوه ، فإن نفوس الأناسي بالأصالة تأنف من عبادة المخلوقين ، ولا سيما

٥٣٢

من أمثالها ، فأصحبوا عليها الاسم الإلهي حتى لا يتعبدهم غير الله ، لا يتعبدهم مخلوق ، فما جعل المشرك يشرك بالله في وضع هذا الاسم على المخلوق إلا التنزيه لله الكبير المتعالي ، ولكن لا بد من أخذ المشركين لتعديهم بالاسم غير محله وموضعه ، ولم يرد عليه أمر بذلك من الله ، ومن المحال أن ترد عبادة وإن ورد سجود ، فإن الله لا يأمر خلقه ولا يصح أن يأمر خلقه بعبادة مخلوق ، ويجوز أن يأمرنا بالسجود للمخلوق ، فمن سجد عبادة لمخلوق عن أمر الله أو عن غير أمر الله فقد شقي ، ومن سجد غير عابد لمخلوق عن أمر الله كان طاعة وسعد ، فإن المشرك وإن أفرد عظم عظمة الله في قلبه إلى الله فما وقعت المؤاخذة إلا لكون ما وقع من ذلك عن غير أمر الله ، في حق أشخاص معينين ، ونقل الاسم إلى أولئك الأشخاص ، فمن هذا يعلم أنه لا يصح شرك عام ولا تعطيل عام ، وإنما هي أسماء سموها أطلقوها على أعيان محسوسة وموهومة عن غير أمر الله ، فأخذوا بعدم التوقيف ، والسبب في نسبة الألوهية لهذه الصور المعبودة ، هو أن الحق لما تجلى لهم في أخذ الميثاق تجلى لهم في مظهر من المظاهر الإلهية ، فذلك الذي أجرأهم على أن يعبدوه في الصور ، ومن قوة بقائهم على الفطرة أنهم ما عبدوه على الحقيقة في الصور ، وإنما عبدوا الصور لما تخيلوا فيها من رتبة التقريب كالشفعاء ، ومن ذلك نعلم أن العالم لم يزل في حال عدمه مشاهدا لواجب الوجود ، ولهذا لم ينكره أحد من الممكنات في حال وجوده ، إلا أن هذا الموجود الإنساني وحده من بين العالم أشرك بعضه به ممن غلب عليه حجاب الطبع ، وهو ما اعتاد أن يسمع ويطيع ويعبد بالأصالة إلا لرب يشهده ، وقد صير ذلك المعبود حجاب الطبع غيبا له ، فاتخذ ما اتخذ من الموجودات التي يشهدها ويراها ، إما من العالم السماوي كالكواكب ، وإما من العالم الأسفل كالعناصر أو ما تولد عنها ، ربا يعبده على المشاهدة التي اعتادها ، وسكنت نفسه بها إليه ، وتوهم في نظره أن ذلك المتخذ إلها يشهد الحق ، وأنه أقرب إليه منه ، فعبّد نفسه له خدمة ليقربه إلى الله عزوجل ، كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا (ما نَعْبُدُهُمْ) يعني الآلهة التي اتخذوها للعبادة (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فأكدوه بزلفى ، واتخذوهم شهداء ولذا قال تعالى : (وادعوا شهداءكم إن كنتم صادقين) حيث زعموا أنها تشهد لهم أنهم على الحق ، ورغم أن المشركين جعلوا العظمة والكبرياء لله ، وجعلوا الآلهة التي اتخذوها كالسدنة والحجاب ، فإن قرائن الأحوال تدل على القطع بمؤاخذتهم ، لكونهم اتخذوها عن

٥٣٣

نظرهم لا عن وضع إلهي ، ولم يفرقوا بين ما هو وضع لله في خلقه وبين ما وضعوه لأنفسهم من أنفسهم ، مثال ذلك ، ما وضعه الحق لعباده من تقبيل الحجر الأسود والسجود ، وجعل الكعبة قبلة ، إلى غير ذلك ، فيقال للمشركين : وإن كنتم ما عبدتم كل من عبدتموه إلا بتخيلكم أن الألوهة صفته ، فما عبدتم غيرها ، ليس الأمر كذلك ، فإنكم شهدتم على أنفسكم أنكم ما تعبدونها إلا لتقربكم إلى الله زلفى ، فأقررتم مع شرككم أن ثمّ إلها كبيرا ، هذه الآلهة خدمتكم إياها تقربكم من الله ، فهذه دعوى بغير برهان ، فإذ وقد اعترفوا أنهم عبدوا الشريك ليقربهم إلى الله زلفى ، فتح القائل على نفسه باب الاعتراض عليه ، بأن يقال له : ومن أين علمتم أن هذه الحجارة أو غيرها لها عند الله هذه المكانة بحيث أن جعلها معبودة لكم؟ ـ راجع سورة يونس آية ـ ـ ١٨ ـ تحقيق ـ إن الله نصب الأسباب وأزال حكم الأرباب قال المشركون (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) فلو قالوا «ما نتخذهم» وأبقوا العبودية لجناب الله تعالى ، لكان لهم في ذلك مندوحة بوضع الأسباب الإلهية المقررة في العالم. واعلم أن الله لا يدخله تنكير ، والإله يدخله التنكير ، فيقال : إله ؛ ففرق بين قولك : الله ، وقولك : إله ، فكثرت الآلهة في العالم لقبولها التنكير ، والله واحد معروف لا يجهل ، أقرت بذلك عبدة الآلهة قالت (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) وما قالت : إلى إله كبير هو أكبر منها ، ولهذا أنكروا ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم في القرآن والسنة من أنه إله واحد ، من إطلاق الإله عليه ، وما أنكروا الله ، ولو أنكروه ما كانوا مشركين ، فبمن يشركون إذا أنكروه؟! فما أشركوا إلا بإله لا بالله.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٤)

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى) فجعله من قبيل الإمكان ، فأجاز التبني وجوّز ذلك ، والاصطفاء جعل ، والمجعول ينافي الكفاءة للجاعل ، فجعل ذلك استدلالا بالتنبيه على موضع الدلالة ، (مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) بقي تعلق الاصطفاء ، بمن يتعلق؟ هل بالصاحبة؟ مثل قوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) يعني الولد (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا)

٥٣٤

وما له ظهور إلا من الصاحبة التي هي الأم ، فيكون الاصطفاء في حق الصاحبة ، أو يكون يعلق الاصطفاء للبنوة؟ فذلك التبني لا البنوة ، فنفى تعلق الإرادة باتخاذ الولد ، والإرادة لا تتعلق إلا بمعدوم ، فإن لو حرف امتناع ، ولكنه امتناع شيء لامتناع غيره ، فإذا جاء حرف لا بعد لو كان لو حرف امتناع لوجود ، ولم يأت في هذه الآية لا ، فنفى أن تتعلق الإرادة باتخاذ الولد ، ولم يقل : أن يلد ولدا ؛ فإنه يقول (لم يلد) والولد المتخذ يكون موجود العين من غير أن يكون ولدا ، فيتبنى بحكم الاصطفاء ، والتقريب في المنزلة أن ينزله من نفسه منزلة الولد من الوالد الذي يكون عليه ولادة ، والحقيقة تمنع الولادة والتبني ، لأن النسبة مرتفعة عن الذات ، والنسبة الإلهية من الله لجميع الخلق نسبة واحدة لا تفاضل فيها ، إذ التفاضل يستدعي الكثرة ، فلهذا أتى بلفظة لو ولم يجعل بعدها لفظة لا ، فكان حرف امتناع ، أي لم يقع ذلك ولا يقع ، لامتناع الذات أن توصف بما لا تستحقه ، ولهذا قال (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) بعد قوله (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) فوصفه بالعلو عن قيام هذا الوصف لعظمة الرب المضاف إلى المربوب بالذكر ، فكيف بالرب من غير إضافة لفظية؟ فكيف بالاسم الله؟ فكيف بالذات من غير اسم؟ فجاء بحرف لو فدل على الامتناع ، فلم يكن من الوجهين : لا التبني ولا اصطفاء الصاحبة ، وأعظم من هذا التنزيه لا يكون ، وهذه الآية دليل على أن قدرة الحق مطلقة على إيجاد المحال لو شاء وجوده ، كما ذكره عن نفسه ما هو محال في العقل بما يعطيه دليله ، فقال تعالى : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) فألحقه بالنسبة إلى المشيئة الإلهية بدرجة الإمكان ، والعقل قد دل على أن ذلك محال ، لا من كونه لم يرده ، فكانت هذه الآية أولها جرح ، جرح به العقل في صحة دليله ليبطله ، ثم داوى ذلك الجرح في آخر الآية بقوله (سُبْحانَهُ) أي هو المنزه (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) ـ الوجه الأول ـ أن يكون لأحديته ثان ـ الوجه الثاني ـ ذهب بعض الناس إلى أن الله تعالى لو أراد إيجاد ما هو محال الوجود لنفسه لأوجده ، وإنما لم يوجده لكونه ما أراد وجود المحال الوجود ، فصاحب هذا القول يقول : إن الحق أعطى المحال محاله والواجب وجوبه والممكن إمكانه ، فهذا القائل لا يدري ما يقول ، فإنه سبحانه واجب الوجود لنفسه ، فهو كما قال القائل : أراد أن يعربه فأعجمه ، فإنه أراد أن ينسب إليه تعالى نفوذ الاقتدار ، ولم يعلم متعلق الاقتدار ما هو؟ فعلّقه بما لا يقتضيه ، وصير الحق

٥٣٥

من قبيل الممكنات من حيث لا يشعر ، فإن قلت : فما فائدة إخبار الله تعالى «لو أراد أن يتخذ ولدا» فعلق الإرادة بالمحال لنفسه؟ فكيف أدخله تحت نفي تعلق الإرادة التي لا يدخل تحتها إلا الممكن ، وهو الذي أشار إليه هذا الذي جهلناه وخطأناه في قوله؟ فاعلم أن هذا من غاية الكرم الإلهي ، حيث أنه قد سبق في علمه إيجاد مثل هذا الشخص من فساد العقل الذي قد قضى به له في قسمه ، فلما قضى بهذا ، علم أن عقله لا بد أن يعتقد مثل هذا ، وهو غاية الجهل بالله ، فأخبر الله تعالى بنفي تعلق الإرادة بالمحال الوقوع لنفسه ، فيأخذ الكامل العقل من ذلك نفي تعلق الإرادة بما لا يصح أن تتعلق به ، ويأخذ منه هذا الضعيف العقل أنه سبحانه لو لا ما قال : لو ، وإلا كان يفعل ، فيستريح إلى ذلك ولا ينكسر قلبه ، حيث أراد نفوذ الاقتدار الإلهي وقصد خيرا ، وليعلم الكامل العقل ما فضله الله به عليه فيزيد شكرا ، حيث لم يجعل الله عقله مثل هذا الناقص العقل ، فيعلم أن الله قد فضله عليه بدرجة لم ينلها من قصر عقله هذا القصور ، ولذلك قالت جماعة : إن الله يقدر على المحال ، والذي ينبغي أن يقال : إن الله على كل شيء قدير ، كما قال الله ، والقدرة تطلب محلها الذي تتعلق به ، فالعالم العاقل يعلم متعلق كل نسبة فيضيفها إليها.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ) (٥)

لما كان زمان الليل والنهار دوريا ، لهذا قال تعالى : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) من كوّر العمامة ، فيخفي كل واحد منهما بظهور الآخر ، فالتكوير بتسخير الأنوار ، وتحريك الأكوار بضروب الأدوار ، واختلاف الأحوال والأطوار ، على عالم الانشقاق والانفطار ، لإيجاد الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم ، لذلك قال تعالى.

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ

٥٣٦

اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٦)

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) وهو الخلق في الرحم (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) ظلمة الرحم وظلمة المشيمة وظلمة البطن. ـ إشارة ـ إذا ولد الإنسان اندرجت ظلمته فيه ، فكان ظاهره نورا وباطنه ظلمة ، فلا يتمكن له المشي في ظلمة باطنه إلا بسراج العلم ، إن لم يكن له هذا السراج فإنه لا يهتدي (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) هذا هو التوحيد السابع والعشرون في القرآن ، وهو توحيد الإشارة ، فما في الكون مشار إليه إلا هو (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) لأن الإشارة لا تقع من المشير إلا لأمر حادث عنده ، وإن لم يكن في عينه في نفس الأمر حادثا ، ولكنه يعلم أنه حدث عنده ، وما يحدث أمر عند من يحدث عنده ، إلا ولا بد أن يجهل أمره عند ما يحدث عنده ، لشغله بحدوثه عنده وأثره فيه ، فيشير إليه في ذلك الوقت وفي تلك الحالة رفيقه ، وهو على نوعين : ـ إذ ما له رفيق سوى اثنين ـ إما عقله السليم وإما شرعه المعصوم ، وما ثمّ إلا هذا ، لأنه ما ثمّ من يقول له في هذه الإشارة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إلا أحد هذين القرينين ، إما العقل السليم أو الشرع المعصوم ، وما عدا هذين فإنه يقول له خلاف ما قال هذان القرينان ، فيقول له : هذا الدهر وتصرفه ، ويقول الآخر : هذه الطبيعة وأحكامها ، ويقول الآخر : هذا حكم الدور ، فيصرفه كل قائل إلى ما يراه ، فهو قول هذين القرينين (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء بالقرآن.

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (٧)

(وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) لما كان العلم تابعا للمعلوم ، والرضا إرادة ، فلا تناقض بين الأمر والإرادة ، وإنما النقض بين الأمر وما أعطاه العلم التابع للمعلوم ، فهو فعال لما يريد ، وما يريد إلا ما هو عليه المعلوم ، والحكم للعلم لا للأمر ، فصح قوله تعالى : (وَلا

٥٣٧

يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وكذا كل عمل لا يرضي الله من سفساف الأخلاق ، وما لنا من الأمر الإلهي إلا صيغة الأمر ، وهي من جملة المخلوقات في لفظ الداعي إلى الله ، فهي مرادة معلومة كائنة في فم الداعي إلى الله ، فتنبه واعتبر (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) وكذا كل عمل يرضي الله من مكارم الأخلاق ، فتتبع الشرع تعلم كل صفة علق الذم بها فاجتنبها.

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) (٨)

إن الإنسان لو نشأ على الخير والنعم طول عمره ، لم يعرف قدر ما هو فيه حتى يبتلى ، فإذا مسّه الضر عرف قدر ما هو فيه من النعم والخيرات ، عند ذلك عرف قدر المنعم.

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٩)

اعلم أن أول الأمر خوف والرجاء يتلوه ، فإن تقدمه الرجاء فقد فاته الخوف ، فإن الماضي لا يسترجع ، فالتقدم للخوف وقد فاته وذهب عنه ، ومن له بردّه؟ والرجاء في المحل قد منعه سلطانه ، فالمؤمن من تساوى خوفه ورجاؤه ، بحيث أنه لا يفضل واحد صاحبه عنده ، لأنه استعمل كل شيء في محله ، وأول نشء الإنسان ضعف ، ولضعفه يتقدمه الخوف على نفسه ، ثم تكون له القوة بعد هذا الضعف ، فيأتيه الرجاء بقوته ، فإنه يتقوى نظره في العلوم والتأويلات ، فيعظم رجاؤه في جانب الحق ، ولكن العاقل لا يتعدى به موطنه ، فإذا خطر له من قوة الرجاء ما يوجب استعمال الخوف عند العاقل العارف ، عزل الرجاء عن الانفراد بالحكم وأشرك معه الخوف ، فذلك المؤمن ، فلا يزال كذلك إلى أن تكمل ذاته الكمال الذي ينتهي إليه أولياء الله في الورث النبوي ، في هذا الزمان المحمدي الذي أغلق فيه باب نبوة التشريع والرسالة ، وبقي باب حكم الاختصاص بالعلوم الإلهية والأسرار

٥٣٨

مفتوحا ، يدخل عليه أهل الله ، وأول داخل عليه أهل الذكر ، جعلنا الله ممن استوى خوفه ورجاؤه في الحياة الدنيا إلى حين موته عند الاحتضار ، فيغلب رجاؤه على خوفه (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وهو قوله تعالى : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) اعلم أن العلم بالله أسنى الكرامات ، لأن موطنه الدنيا وهو المطلوب ، وبه تقع المنفعة ولو لم يعمل به ، فالعلماءهم الآمنون من التلبيس ، فإن العلم أسنى تحفة وأعظم كرامة ، ولو قامت عليك به الحجة ، فإنه يجعلك تعترف ولا تحاجج ، فإنك تعلم ما لك وما عليك وما له ، وما أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلب منه الزيادة من شيء إلا من العلم ، لأن الخير كله فيه ، وهو الكرامة العظمى ، والبطالة مع العلم أحسن من الجهل مع العمل ، ولا أعني بالعلم إلا العلم بالله والدار الآخرة ، وما تستحقه الدار الدنيا وما خلقت له ولأي شيء وضعت ، حتى يكون الإنسان من أمره على بصيرة حيث كان ، فلا يجهل من نفسه ولا من حركاته شيئا ، والعلم صفة إحاطية إلهية ، فهي أفضل ما في فضل الله وهو السعادة ، وإذا أراد الله شقاوة العبد أزال عنه العلم ، فإنه لم يكن العلم له ذاتيا بل اكتسبه ، وما كان مكتسبا فجائز زواله ، ويكسوه حلة الجهل ، فإن عين انتزاع العلم جهل ، ولا يبقى عليه من العلم إلا العلم بأنه قد انتزع عنه العلم ، فلو لم يبق الله تعالى عليه هذا العلم بانتزاع العلم لما تعذب ، فإن الجاهل الذي لا يعلم أنه جاهل فارح مسرور ، لكونه لا يدري ما فاته ، فلو علم أنه قد فاته خير كثير ما فرح بحاله ولتألم من حينه ، فما تألم إلا بعلمه ما فاته أو مما كان عليه فسلبه ، لذلك لم يسوّ تعالى بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، فإنه ما وضع حكما إلا ليستعمل في محكوم عليه ولو لم يرد استعماله لكان عبثا ، ولو لم يوجد من يستعمل فيه ذلك الحكم ومن يعمل به لكان أيضا عبثا وقد أخبر سبحانه وتعالى عباده بشرف العلم حيث وصف به نفسه ، فبالعلم الشرف التام ، وليس في الصفات أعم تعلقا منه ، لتعلقه بالواجبات والجائزات والمستحيلات ، وغيره من الصفات ليس كذلك ، واعلم أن الشرف الذي للعلم شرفان : من حيث ذاته ، ومن حيث معلومه ، فالذي له من حيث ذاته ، كونه يوصلك إلى حقيقة الشيء على ما هي عليه ، ويزيل عنك أضداده إذا قام بك ، كالجهل بذلك المعلوم والظن والشك والغفلة وما ضاده ، والذي له من حيث معلومه فمعلومه يكسبه ذلك الشرف ، فكما أن بعض المعلومات أشرف من بعض ، كذلك بعض العلوم

٥٣٩

أشرف من بعض ، فكثير بين من قام به العلم بأوصاف الحق تعالى وأفعاله ، وبين من قام به العلم بأن زيدا في الدار وخالدا في السوق ، فكما أنه ليس بين المعلومين مناسبة في الشرف ، كذلك العلمان ، فهذا هو الشرف الطارىء على العلم من المعلوم ، ثم إن الله سبحانه وتعالى مدح من قامت به صفة العلم وأثنى عليه ، ووصف بها عباده كما وصف نفسه في غير موضع من الكتاب العزيز ، كقوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) فأخبر تعالى أن العلماء هم الموحدون على الحقيقة ، والتوحيد أشرف مقام ينته إليه ، وليس وراءه مقام إلا التشبيه والتعطيل ، فمن زلّت قدمه عن صراط التوحيد رسما أو حالا وقع في الشرك ، فمن زلت قدمه في الرسمي فهو مؤبد الشقاء لا يخرج من النار أبدا ، لا بشفاعة ولا بغيرها ، ومن زلت قدمه في الحالي فهو صاحب غفلة ، يمحوها الذكر وما شاكله ، فإن الأصل باق يرجى أن يجبر فرعه ، بمنّ الله وعنايته ، وليس الفرع كذلك ، وكقوله أيضا جل ثناؤه في صاحب موسى عليه‌السلام (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) وهو علم الإلهام ، فالعالم أيضا صاحب إلهام وأسرار ، وكقوله تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) فالعالم صاحب الخشية ، وكقوله تعالى : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) فالعالم أيضا صاحب الفهم عن الله العالم بحكم آيات الله وتفاصيلها ، وكقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) فالعالم هو الراسخ الثابت الذي لا تزيله الشبه ولا تزلزله الشكوك ، لتحققه بما شاهده من الحقائق بالعلم ، وكقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) فالعلماء هم الذين علموا الكائنات قبل وجودها ، وأخبروا بها قبل حصول أعيانها ، وهي الصفة الشريفة التي أمر الله تعالى نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالزيادة منها ، فقال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) ولم يقل له ذلك في غيره من الصفات ، وإنما أكثرنا هذا في العلم ، لأن في زماننا قوما لا يحصى عددهم ، غلب عليهم الجهل بمقام العلم ، ولعبت بهم الأهواء حتى قالوا : إن العلم حجاب ؛ ولقد صدقوا في ذلك لو اعتقدوه ، أي والله حجاب عظيم ، يحجب القلب عن الغفلة والجهل وأضداده ، فما أشرفها من صفة ، حبانا الله بالحظ الوافر منها ، وكيف لا يفرح بهذه الصفة ويهجر من أجلها الكونان ، ولها شرفان كبيران عظيمان؟ الشرف الواحد أن الله سبحانه وصف بها نفسه ، والشرف الآخر أنه مدح بها أهل خاصته من أنبيائه وملائكته ، ثم منّ علينا سبحانه ولم يزل مانّا بأن جعلنا ورثة أنبيائه فيها ، فقال

٥٤٠