رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) (٢٤)

فصدهم عن السبيل الذي هو قول الله وصراطه ، ولما كان الخبء النباتي تخرجه الشمس من الأرض بما أودع الله فيها من الحرارة ، ومساعدة الماء بما أعطى الله فيه من الرطوبة ، فجمع بين الحرارة ومنفعل البرودة ، حتى لا تستقل الشمس بالفعل ، فظهرت الحياة في الحي العنصري ، وكان الهدهد ـ دون الطير ـ قد خصه الله بإدراك المياه ، كان يرى للماء السلطنة على بقية العناصر تعظيما لنفسه ، وحماية لمقامه ، حيث اختص بعلمه ليشهد له بالعلم بأشرف الأشياء ، حيث كان العرش المستوي عليه الرحمن على الماء ، فكان الهدهد يحامي عن مقامه ، ووجد قوما يعبدون الشمس ، وهي على النقيض من طبع الماء ، الذي جعل الله منه كل شيء حي ، وعلم أنه لو لا حرارة الشمس ما خرج الخبء ، وأنها مساعدة للماء ، فأدركته الغيرة في المنافر فوشى إلى سليمان عليه‌السلام بعابديها ، وزاد للتغليظ بقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) ينبه على موضع الغيرة ، والشمس وإن أخرجت خبء الأرض بحرارتها ، فهي تخبأ الكواكب بإشراقها ، وتظهر المحسوسات الأرضية بشروقها ، فلها حالة الخبء والإظهار ، وبها حد الليل والنهار ، فزاحمت من يخرج الخبء في السموات والأرض ، ويعلم ما يخفون وما يعلنون ، فابتلى الله الماء فأصبح غورا ، وابتلى الشمس فأمست آفلة ، وفجر العيون فأظهر خبء الماء ، وفار التنور فأظهر خبء الشمس ، فأخرج الخبء في السموات والأرض فقال الهدهد.

(أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) (٢٥)

يقول إن الشمس التي يسجدون لها ، وإن اعتقدوا أنها تعلم ما يعلنون ، فالسجود لمن يعلم ما يخفون وما يعلنون أولى ، ثم إنهم يسجدون للشمس لكونها تخرج لهم بحرارتها ما خبأت الأرض من النبات ، فقال الله لهم : ينبغي لكم أن تسجدوا للذي يخرج الخبء في

٢٨١

السموات ، وهو إخراجه ما ظهر من الكواكب بعد أفولها وخبئها ، ثم يظهرها طالعة من ذلك الخبء وفي (الْأَرْضِ) ما يخرجه من نباتها ، فالشمس ليس لها ذلك ، بل لظهورها يكون خبء ما في السموات من الكواكب ، فالله أولى بأن يسجد له من سجودكم للشمس ، فإن حكمها عند الله كحكم الكواكب في الأفول والطلوع ، فطلوعها من الخبء الذي يخرجه الله في السماء ، مثل سائر الكواكب.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (٢٦)

فوسع كل شيء رحمة وعلما ، واستوى على العرش العظيم ، إذ حكم على فلك الشمس بدورته ، وعلى الماء باستقراره وجريته ، فهما في كل درجة في خبء وظهور ، فوحّده الظهور بظهوره ، ووحّده الخبء بسدل ستوره ، فعلم سبحانه ما يخفون وما يعلنون ، فهو (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ). وهذا هو التوحيد الثاني والعشرون في القرآن ، وهو توحيد الخبء ، وهو من توحيد الهوية ، والسجدة مختلف في موضعها ، فقيل : عند قوله (تُعْلِنُونَ) وقيل : عند قوله (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) وهي سجدة رجحان ، فإن الدليل هنا في جناب الله أرجح منه في الدلالة على ألوهة الشمس حين اتخذتموها إلها لما ذكرناه.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٢٧)

فإن الأخبار تشهد للمؤمن بالإيمان والبهتان ، والدليل خبر الهدهد فيما أخبر به سليمان ، فإن شهد له العيان ، أو الضرورة من الجنان ، وقع الإيمان ، وإن كذبه ألحقه بالبهتان ، فالأخبار ، محك ومعيار ، تشهد لها الآثار الصادقة ، والأنوار الشارقة.

(اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) (٢٩)

من حكمة بلقيس وعلو علمها كونها لم تذكر من ألقى إليها الكتاب ، وما عملت ذلك إلا لتعلم أصحابها أن لها اتصالا إلى أمور لا يعلمون طريقها ، لأنه إذا جهل طريق الأخبار

٢٨٢

الواصل إلى الملك ، خاف أهل الدولة على أنفسهم في تصرفاتهم ، فلا يتصرفون إلا في أمر إذا وصل إلى سلطانهم عنهم يأمنون غائلة ذلك التصرف ، فلو تعين على يد من تصل الأخبار إلى ملكهم لصادقوه وأعظموا له الرشا حتى يفعلوا ما يريدون ، ولا يصل ذلك إلى ملكهم ، فكان قولها (أُلْقِيَ إِلَيَّ) ولم تسم من ألقاه سياسة منها أورثت الحذر منها في أهل مملكتها وخواص مدبريها ، وبهذا استحقت التقدم عليهم (كِتابٌ كَرِيمٌ) أي يكرم عليها.

(إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣٠)

قدم سليمان عليه‌السلام اسمه على قوله (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) لأن ذلك أدب وقته وشرع وقته ، بالنسبة إلى أهل ملته وزمانه ، فكان ذلك اصطلاحهم في ذلك الزمان ، فلم تقتض الحكمة أن يخرج عن عادة أهل زمانه.

(أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ

٢٨٣

أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (٤٠)

(قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) وهو آصف بن برخيا ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، الذي يفعل بالخاصية ، ولو لا الكتاب ما علم ذلك ، قال لسليمان عليه‌السلام : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فظهر بهذا الأمر تعظيما لقدر سليمان عليه‌السلام عند أهل بلقيس وسائر أصحابه وما طوي عن سليمان عليه‌السلام العلم بهذا الاسم ، وإنما طوي عنه الإذن في التصرف به ، تنزيها لمقامه ، فإنه رسول مصرف العين إلى من أرسل إليه ، فما ظهر آصف بالقوة على الإتيان بالعرش دون سليمان عليه‌السلام إلا ليعلم الحق أن شرف سليمان عظيم ، إذ كان لمن هو حسنة من حسناته هذا القدر ، فكان ذلك من آصف بن برخيا إعلام الغير ، بأن التلميذ التابع ، إذا كان أمره بهذه المثابة ، فما ظنك بالشيخ؟ فيبقى قدر الشيخ مجهولا في غاية التعظيم ، فلو ظهر على سليمان عليه‌السلام هذا الفعل ، لتوهم أن هذا غايته ، وظهور هذا الفعل على يد صاحبه أتم في حقه ، إذ كان هذا التابع مصدقا به ، وقائما في خدمته بين يديه تحت أمره ونهيه ، فيزيد المطلوب رغبة في هذا الرسول ، إذا رأى بركته قد عادت على تابعيه ، فيرجو هذا الداخل أن يكون له بالدخول في أمره ما كان لهذا التابع ، والنفس مجبولة على الطمع ، وحب الرياسة والتقدم (قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) فإنه معلوم بالقدر الزماني ، أن رجوع الطرف إلى الناظر به أسرع من قيام القائم من مجلسه ، لأن حركة البصر في الإدراك إلى ما يدركه أسرع من قيام حركة الجسم فيما يتحرك منه ، فإن الزمان الذي يتحرك فيه البصر عين الزمان الذي يتعلق بمبصره مع بعد المسافة بين الناظر والمنظور ، فإن زمان فتح البصر زمان تعلقه بفلك الكواكب الثابتة ، وزمان رجوع طرفه إليه هو عين زمان عدم إدراكه ، والقيام من مقام الإنسان ليس كذلك ، أي ليس له هذه السرعة.

٢٨٤

(قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) (٤٢)

لما قامت لبلقيس شبهة بعد المسافة ، وقيل لها (أَهكَذا عَرْشُكِ؟ قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) وما كان إلا هو ، ولكن حجبها بعد المسافة ، وحكم العادة ، وجهلها بقدر سليمان عليه‌السلام عند ربه ، فهذا حجبها أن تقول : هو هو ؛ فقالت : (كَأَنَّهُ هُوَ) وهو هو ، فجهلها أدخل كاف التشبيه فما شبهته إلا بنفسه وعينه لا بغيره ، وإنما شوش عليها بعد المسافة المعتاد ، ولو شاهدت الاقتدار الإلهي لعلمت أنه هو ، كما كان هو من غير زيادة ، فقولها : (كَأَنَّهُ هُوَ) حصل لها من وقوفها مع الحركة المعه دة في قطع المسافة البعيدة ، وعلمت بعد ذلك أنه هو لا غيره ، وهذا القول الذي صدر منها يدل عندي أنها لم تكن كما قيل متولدة بين الإنس والجان ، إذ لو كانت كذلك لما بعد عليها مثل هذا ، من حيث علمها بأبيها ، وما تجده من نفسها من القوة على ذلك ، حيث كان أبوها من الجان على ما قيل. فهذا شهود حاصل ، وعين مشهودة ، وعلم ما حصل ، لأن متعلق العلم المطلوب هنا إنما هو نسبة هذا العرش المشهود إليها كما هو في نفس الأمر ، ولم تعلم ذلك.

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) (٤٣)

فلو شاهدت الاقتدار الإلهي لعلمت أنه هو.

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)

(قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) وكان الصرح أملس لا أمت فيه (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) أي ماء (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) حتى لا يصيب الماء ثوبها (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) من زجاج (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ) أي إسلام سليمان (لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فما انقادت لسليمان ، وإنما انقادت لله رب العالمين ، وسليمان من العالمين ،

٢٨٥

فكان إسلام بلقيس إسلام سليمان إذ قالت (مَعَ سُلَيْمانَ) فما يمر بشيء من العقائد إلا مرت به معتقدة ذلك ـ إشارة ـ لما قالت بلقيس في عرشها (كَأَنَّهُ هُوَ) عثور على علمها بتجديد الخلق في كل زمان فأتت بكاف التشبيه ، وأراها صرح القوارير كأنه لجة ، وما كان لجة ، كما أن العرش المرئي ليس عين العرش من حيث الصورة لقول سليمان عليه‌السلام (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) ، والجوهر واحد ، وهذا سار في العالم كله أي تجديد الخلق مع الأنفاس ـ إشارة ـ (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) أي بينت أمرها ، ومنه كشف عن ساق الأمر.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٠)

(وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أن عين ما اعتقدوه أنه مكرهم هو مكري بهم ، ووجود المكر الإلهي بالماكرين من حيث لا يشعرون لا يكون إلا في الدنيا ، فإنهم في الآخرة يعرفون أن الله مكر بهم في الدنيا ، بما بسط لهم فيها مما كان فيه هلاكهم ، فهنا في الدنيا وقع المكر بهم ، حيث وقع المكر منهم ، بل في بعض الوقائع أو أكثرها بل كلها أن عين مكرهم هو مكر الله بهم وهم لا يشعرون. واعلم أن كل ممكور به إنما يمكر الله به من حيث لا يشعر ، وقد يشعر بذلك المكر غير الممكور به ، فإنه تعالى قال : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) فمضمر (هُمْ) هو المضمر في مكروا ، فكان مكر الله بهؤلاء هو عين مكرهم الذي اتصفوا به ، وهم لا يشعرون ، وهذا المكر الإلهي إذا شعر به الممكور به زال كونه مكرا ، إلا في حال واحد ، وذلك إذا شعر بمكر الله في أمر أقامه فيه ، وأقام عليه ، وإقامته عليه بعد العلم أنه من مكر

٢٨٦

الله مكر من الله ، ولم يزل اسم المكر عن الذي أقام على الأمر الذي كان لا يشعر به أنه مكر من الله في إقامته على ذلك الأمر في حقه ، ثم قد يمكر بهم بأمر زائد على مكرهم ، فإنه أرسله سبحانه نكرة فقال : (وَمَكَرْنا مَكْراً) فدخل فيه عين مكرهم ، ومكر آخر زائد على مكرهم ، ومن المكر الإلهي ما يقصد به ضرر العبد ، ومنه ما لا يقصد به ضرر العبد ، وإنما يكون لحكمة أخرى ، يكون فيها سعادة العبد ، فإنه لو لا المكر الخفي لما صح تكليف ، ولا طلب جزاء ، فإنه من مكر الله المحمود في الممكور به ، تكليف الله إياه الأعمال والسمع والطاعة له فيما كلف به ، والأمر يعطي في نفسه أن الأعمال خلق لله في العبد ، وأن الله لا يكلف نفسه ، وليس العامل إلا هو وهذا قد شعر به بعض الناس ، وأقاموا على العمل وثابروا عليه ، أعني عمل الخيرات ـ نصيحة ـ من اعتمد على غير الحق ، جعل نصرته فيه مكرا من حيث لا يشعر.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (٥٩)

(قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) اعلم أن الحمد والمحامد هي عواقب الثناء ، ولهذا يكون آخرا في

٢٨٧

الأمور ، كما ورد أن آخر دعواهم (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحمد : إنّها تملأ الميزان ، أي هي آخر ما يجعل في الميزان ، وذلك لأن التحميد يأتي عقيب الأمور ، ففي السراء يقال : الحمد لله المنعم المفضل ، وفي الضراء يقال : الحمد لله على كل حال ؛ والحمد هو الثناء على الله ، وهو على قسمين ، ثناء عليه بما هو له ، كالتسبيح والتكبير والتهليل ، وثناء عليه بما يكون منه ، وهو الشكر على ما أسبغ من الآلاء والنعم ، وله العواقب فإن مرجع الحمد ليس إلا إلى الله ، فإنه المثني على العبد والمثنى عليه ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [أنت كما أثنيت على نفسك] وهو الذي أثنى به العبد عليه ، فرد الثناء له من كونه مثنيا اسم فاعل ، ومن كونه مثنيا عليه اسم مفعول ، فعاقبة الحمد في الأمرين له تعالى. وتقسيم آخر ، وهو أن الحمد يرد من الله مطلقا ومقيدا في اللفظ ، وإن كان مقيدا بالحال ، فإنه لا يصح في الوجود إطلاق فيه ، لأنه لا بد من باعث على الحمد ، وذلك الباعث هو الذي قيده وإن لم يتقيد لفظا ، كأمره في قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) فلم يقيد ، وأما المقيد فلا بد أن يكون مقيدا بصفة فعل ، كقوله (الحمد لله الذي خلق السموات والأرض) وكقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) (والحمد لله فاطر السماوات) وقد يكون مقيدا بصفة تنزيه ، كقوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً). واعلم أن الحمد لما كان يعطي المزيد للحامد ، علمنا أن الحمد بكل وجه شكر ، كذلك ما أعطى المزيد من الأذكار فهو شكر ، فهو حمد كله ، لأنه ثناء على الله ، ولا نحمده إلا بما أعلمنا أن نحمده به ، فحمده مبناه على التوقيف ، وقد خالفنا في ذلك جماعة من علماء الرسوم ، لا من العلماء الإلهيين ، فإن التلفظ بالحمد على جهة القربة لا يصح إلا من جهة الشرع ، فلا يتمكن أن يقال على جهة القربة وإن عقل أنه خير إلا حتى يقول الحق اذكروني ، فإما أن يطلق بكل ذكر ينسب إليه الحسن في العرف ، وهو من مكارم الأخلاق ، وإما أن يقيده فيعين ذكرا خاصا فالثناء على الله بما هو فاعل ثناء عرفي يثني به المخلوق على الخالق ، ما لم ينه عنه إذا كان ذلك الثناء مما يعظم في العالم ، فقد يكون من حيث ما هو فاعل وليس بعظيم في العالم ، فإذا ذكر بما هذا مثله نكر ، ومثاله أن يقول : الحمد لله خالق كل شيء ، فيدخل فيه كل مخلوق معظّم ومحقّر ، ومثال المعظم في العرف أن تقول : الحمد لله الذي خلق السموات ، ومثل ذلك ، ولا ينبغي أن يعين في الثناء خلق المحقر عرفا ، والمستقذر طبعا ، وإن دخل في عموم كل

٢٨٨

شيء ، ولكن إذا عين لا يقتضيه الأدب بل ينسب معيّنه إلى سوء الأدب ، أو فساد العقيدة ، مع صحة ذلك ، والكل منه ونعمته ، ولو لا حقارة ذلك بالعرف لم نقل به ، فإني ما أرى شيئا ليس عندي بعظيم ، لأني أنظر بعين اعتناء الله به حيث أبرزه في الوجود ، فأعطاه الخير ، فليس عندنا أمر محتقر ، فالكل نعمته ظاهرة وباطنة ، فظاهرة ما شوهد منها ، وباطنة ما علم ولم يشهد ، وظاهرة التعظيم عرفا ، وباطنة التعظيم عند أهل الله وأهل النظر المستقيم مما ليس بعظيم في الظاهر (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) الاصطفاء لا يكون إلا بعد الخلق ، فإنه ما كل خلق مصطفى ، كما أنه ما كل مصطفى نبي ، وكل نبي مصطفى ، والمصطفون بمنزلة الصفي من المغنم ، وهم نصيب الحق من الخلق.

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٦٢)

إن المضطر هو الذي دعا ربه عن ظهر فقر إليه ، وما منع الناس الإجابة من الله في دعائهم إياه إلا كونهم يدعونه عن ظهر غنى ، لالتفاتهم إلى الأسباب وهم لا يشعرون ، وينتجه عدم الإخلاص. والمضطر المضمون له الإجابة مخلص مخلص ، ما عنده التفات إلى غير من توجه إليه ، فمن دعا عقيب عبودية الاضطرار فقمن أن يستجاب له ، فإن الله تعالى قد ضمن الإجابة لمن اضطر في سؤاله ـ تحقيق ـ كل مخلوق الاضطرار يصحبه دائما لأنه حقيقته ، ومع اضطراره فقد كلّف ، فالذي ينبغي له أن يقف عند ما كلّف ، فإن الاضطرار المطلق لا يرتفع عنه ، وإنما يرتفع عنه اضطرار خاص إلى كذا ، فجميع حركات الكون من جهة الحقيقة اضطرارية مجبور فيها ، وإن كان الاختيار في الكون موجودا نعرفه ، ولكن ثمّ علم آخر علمنا به أن المختار مجبور في اختياره ، بل تعطي الحقائق أن لا مختار ، لأنا رأينا

٢٨٩

الاختيار من المختار اضطراريا ، أي لا بد أن يكون مختارا ، فالاضطرار أصل ثابت لا يندفع يصحب الاختيار ، ولا يحكم على الاضطرار الاختيار ، فالوجود كله في الجبر الذاتي ، لا أنه مجبور بإجبار من غير ، فإن المجبر للمجبور ـ الذي لو لا جبره لكان مختارا ـ مجبور في اختياره لهذا المجبور.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (٦٣)

ـ من باب الإشارة ـ (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الظلمات : هي الأكوان ، والبر هو الظاهر منها ، والبحر هو الباطن منها ، إشارة إلى المحسوس والمعلوم.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ

٢٩٠

رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٧٧)

كون القرآن هدى من كلّ آية محكمة ، وكل نص ورد في القرآن مما لا يدخله الاحتمال ، ولا يفهم منه إلا الظاهر بأول وهلة ، مثل قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وقوله (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وقوله (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) وأمثال هذه الآيات مما لا يحصى كثرة (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) أما كونه رحمة فلما فيه مما أوجبه الحق على نفسه من الوعد لعباده بالخير والبشرى ، مثل قوله : (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) وقوله (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وكل آية رجاء.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) (٨٢)

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) فأخبر تعالى أن هذه الدابة تكلمنا ، وذلك أنها إذا خرجت من أجياد ، وهي دابة أهلب كثيرة الشعر ، لا يعرف قبلها من دبرها ، يقال لها الجساسة ، فتنفخ فتسم بنفخها وجوه الناس شرقا وغربا ، جنوبا وشمالا ، برا وبحرا ، فيرتقم في جبين كل شخص ما هو عليه في علم الله من إيمان وكفر ، فيقول من سمته مؤمنا لمن سمته كافرا ، يا كافر أعطني كذا وكذا ، وما يريد أن يقول له ،

٢٩١

فلا يغضب لذلك الاسم ، لأنه يعلم أنه مكتوب في جبينه كتابة لا يمكنه إزالتها ، فيقول الكافر للمؤمن : نعم أو لا في قضاء ما طلب منه ، بحسب ما يقع ، فكلامها المنسوب إليها ما هو في العموم سوى ما وسمت به الوجوه بنفختها ، وإن كان لها كلام مع من يشاهدها أو يجالسها من أي أهل لسان كان ، فهي تكلمه بلسانه من عرب أو عجم ، على اختلاف اصطلاحاتهم ، يعلم ذلك كله ، وقد جاء حديثها في الخبر الصحيح الذي ذكره مسلم في حديث الدجال ، حين دلت تميما الداري عليه ، وقالت له : إنه إلى حديثك بالأشواق ، وهي الآن في جزيرة في البحر الذي يلي جهة الشمال ، وهي الجزيرة التي فيها الدجال ، ثم أخبر تعالى أن طائفة من العباد لا توقن بذلك وتخرجه بالتأويل عن ظاهره فقال : (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) أي لا يستقر الإيمان بالآيات التي هذه الآيات منها في قلوبهم ، بل يقبلون ذلك إيمانا ، وطائفة منهم تتأول ذلك على غير الوجه الذي قصد له.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) (٨٨)

فكل شيء محكم ، لأنه صنعة حكيم ، ومن هنا نظر من نظر إلى جمال الكمال ، وهو جمال الحكمة ، فإن العالم خلقه الله في غاية الإحكام والإتقان ـ إشارة ـ من خصائص المحمديين من أهل الله ، أهل الأدب ، جلساء الحق على بساط الهيبة ، مع الأنس الدائم ،

٢٩٢

الاعتدال والثبات والسكون ، غير أن لهم سرعة الحركات في الباطن في كل نفس (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ).

(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (٩١)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة] وخرج مسلم عن أبي هريرة أن خزاعة قتلوا رجلا من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم فقتلوه ، فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فركب راحلته ، فخطب فقال : [إن الله حبس عن مكة الفيل ، وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، ألا وإنها لا تحل لأحد قبلي ، ولن تحل لأحد بعدي ، ألا وإنها أحلت لي ساعة من نهار ، ألا وإنها ساعتي هذه ، وهي حرام ، لا يخبط شوكها ، ولا يعضد شجرها ، ولا يلقط ساقطتها ، إلا لمنشد ، ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إما أن يعطى يعني الدية ، وإما أن يقاد أهل الفتيل] ـ الحديث ـ فمكّة حمى الله وحرمه ، ولا موجود أعظم من الله ، فلا حمى ولا حرم أعظم من حرم الله ولا حماه في الأماكن ، فإن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس.

(وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٩٢)

اعلم أن التالي إنما سمي تاليا لتتابع الكلام بعضه بعضا ، وتتابعه يقضي عليه بحرف الغاية ، وهما من وإلى ، فينزل من كذا إلى كذا ، ولما كان القلب من العالم الأعلى قال تعالى فيه (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) وكان اللسان من العالم الأنزل ، والحرف من عالم اللسان ،

٢٩٣

ففصل اللسان الآيات وتلا بعضها بعضا ، فيسمى الإنسان تاليا من حيث لسانه ، فإنه المفصل لما أنزل مجملا.

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٩٣)

(٢٨) سورة القصص مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (٦) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) (٧)

لا يتصور المخالف إذا كان الكلام وحيا ، فإن سلطانه أقوى من أن يقاوم ، وكذلك فعلت أم موسى ولم تخالف ، مع أن الحالة تؤذن أنها ألقته في الهلاك ، ولم تخالف ولا ترددت ولا حكمت عليها البشرية بأن إلقاءه في اليم في تابوت من أخطر الأشياء ، فدل ذلك على أن الوحي أقوى سلطانا في نفس الموحى إليه من طبعه الذي هو عين نفسه ، وأرشد الحق

٢٩٤

تعالى في وحيه هذا إلى أم موسى عليه‌السلام عند الخوف أن تلقيه من يدها وتخرجه عن حفظها ، فإن الله تعالى يتولاه بحفظه ويبقيه برحمته ، ألا ترى إلى قوله تعالى (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا) الآية ، فعند زعم القدرة عليها أخذت وزالت.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (٩)

(وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) فبه قرت عينها بالكمال الذي حصل لها ، وكان قرة عين لفرعون بالإيمان الذي أعطاه الله عند الغرق (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) وكذلك وقع ، فإن الله نفعهما به عليه‌السلام.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١٠)

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) من الهم الذي أصابها ، فإن الله عصمه من فرعون.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) (١٢)

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) ثم إن الله حرم عليه المراضع حتى أقبل على ثدي أمه فأرضعته ، ليكمل الله لها سرورها به.

٢٩٥

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١٣)

(فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) بتربيته وتشاهد انتشاءه في حجرها (وَلا تَحْزَنَ).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) (١٥)

إذا ساعد الشيطان على الإنسان القدر السابق بالفعل فوقع منه الفعل ، ورأى أن ذلك من الشيطان مؤمنا مصدقا كما قال موسى عليه‌السلام (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) فعمل ، تاب إثر وعقيب وقوع الفعل ، والتوبة هنا الندم ، فإنه معظم أركان التوبة ، فقد ورد أن الندم توبة ، فإن الحضور مع الإيمان عند وقوع المخالفة يرد ذلك العمل حيا بحياة الحضور ، يستغفر لفاعله إلى يوم القيامة ، فالشيطان في هذه الحالة يكون قد سعى في تضعيف الخير للعبد وهو لا يشعر ، فإن الحرص أعماه ، ويحور الوبال وإثم تلك المعصية عليه ، وهذا من مكر الله تعالى بإبليس ، فإنه لو علم أن الله يسعد العبد بتلك اللمة من الشيطان سعادة خاصة ما ألقى إليه شيئا من ذلك ، والأدب يقضي بأمر كلي أن ما حسن عرفا وشرعا نسبه العبد للحق ، فأظهر الحق فيه وجلاه للبصائر والأبصار ، وما قبح عرفا وشرعا نسبه إلى نفسه إن شاء وأظهر نفسه فيه وجلّاه ، أو نسبه إلى الشيطان إن شاء وأظهر عين الشيطان فيه وجلّاه.

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦)

٢٩٦

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧)

الظهير المعين ، وهو خبير بمن هو له نصير.

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ

٢٩٧

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨)

لما علم موسى عليه‌السلام قدر النساء ومنزلتهن استأجر نفسه في مهر امرأة عشر سنين ، وأعني بالنساء الأنوثة السارية في العالم ، وكانت في النساء أظهر.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) (٢٩)

فلو نظرت فيما أنتج الله من الكلام لموسى عليه‌السلام ، حين خرج ساعيا لأهله لما كانوا يحتاجون إليه من النار ، فبسعيه على عياله واستفراغه ناداه الحق وكلمه في عين حاجته وهي النار ، فإنه عليه‌السلام قد استفرغه طلب النار لأهله ، وهو الذي أخرجه لما أمر به من السعي على العيال ، والأنبياء أشد الناس مطالبة لأنفسهم للقيام بأوامر الحق ، فلم يكن في نفسه سوى ما خرج إليه ، فلما أبصر حاجته وهي النار التي لا حت له من الشجرة من جانب الطور الأيمن ناداه الحق من عين حاجته بما يناسب الوقت ـ إشارة ـ إن سرت بأهلك ، أي إذا جئت إلى الحق فلا تترك منك مع الكون شيئا ، بل احضر بجمعيتك ، فلا يكون لك خاطر تفرقة أبدا ، بل يكون مجموع الهم في دخولك على الله تعالى ، وإذا خرجت من عند الحق اترك الكون عنده ، وإخراج بالحق إلى الحق ، فإنك إن سرت بأهلك آنست نارا ، وكلمك العزيز جهارا.

٢٩٨

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٠)

فثبته الخطاب الأول بالنداء لأنه خرج على أن يقتبس نارا أو يجد على النار هدى ، وهو قوله : (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) أي من يدله على حاجته ، فكان منتظرا للنداء ، قد هيأ سمعه وبصره لرؤية النار ، وسمعه لمن يدله عليها فالشجرة ظهر النور فيها للمكلّم موسى عليه‌السلام ، فإنه كان طلب موسى عليه‌السلام النار لأهله ، ليصلح به عيشهم ، ونودي في شجرة واديه ، من التشاجر ، وهو مقام تداخل المقامات ، لأنه مشهد للكلام ، والكلام متداخل المعاني على كثرتها ، فأشبه الشجرة ، فنودي من الشجرة وفي النار لأنها مطلوبه ، فلا يتغير عليه الحال ، فيسرع بالإجابة من غير انتقال من حال إلى حال ، فإن النار تراءت له متعلقة بالشجرة ، وأهل الكشف الذين يرون الوجود لله بكل صورة ، جعلوا الشجرة هي صورة المتكلم ، كما كان الحق لسان العبد وسمعه وبصره بهويته لا بصفته ، كما يظهر في صورة تنكر ويتحول إلى صورة تعرف ، وهو هو لا غيره ، إذ لا غير ، فما تكلم من الشجرة إلا الحق فالحق صورة شجرة ، وما سمع من موسى إلا الحق فالحق صورة موسى من حيث هو سامع ، كما هو الشجرة من حيث هو متكلم ، والشجرة شجرة وموسى موسى لا حلول ، لأن الشيء لا يحل في ذاته ، فإن الحلول يعطي ذاتين ، وهنا إنما هو حكمان ـ مسئلة ـ إن الملائكة إذا تكلم الله بالوحي كأنه سلسلة على صفوان تصعق الملائكة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا أنزل عليه الوحي كسلسلة على صفوان يصعق ، وهو أشد الوحي عليه ، فينزل جبريل على قلبه فيفنى عن عالم الحس ويرغو ويسجى إلى أن يسرى عنه ، وإنه لينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد جبينه عرقا ، وموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلمه الله تكليما بارتفاع الوسائط ، وما صعق ولا زال عن حسه ، وقال وقيل له ، وهذا المقام أعظم من مقام الوحي بوساطة الملك ، فهذا الملك يصعق عند الكلام ، وهذا أكرم البشر يصعق عند نزول الروح بالوحي ، وهذا موسى لم يصعق ولا جرى عليه شيء مع ارتفاع الوسائط ، وصعق لذلك الجبل؟ اعلم أن موسى لما جاءه النداء بأمر مناسب لم ينكره وثبت ، فلما علم أن المنادي ربه وقد صح له الثبوت ، وجاء النداء من خارج لا من نفسه ثبت ليوفي الأدب حقه في

٢٩٩

الاستماع ، فإنه لكل نوع من التجلي حكم ، وحكم نداء هذا التجلي التهيؤ لسماع ما يأتي به ، فلم يصعق ولا غاب عن شهوده ، فإنه خطاب مقيد بجهة ، مسموع بأذن ، وخطاب تفصيلي ، فالمثبت للإنسان على حسه وشهود محسوسه قلبه المدبر لجسده ، ولم يكن لهذا الكلام الإلهي الموسوي توجه على القلب ، فليس للقلب هنا إلا ما يتلقاه من سمعه وبصره وقواه حسبما جرت به العادة ، فلم يتعد الحال حكمه في موسى عليه‌السلام ، وأما أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو نزول قلبي وخطاب إجمالي كسلسلة على صفوان ، فاجعل بالك لهذا التشبيه ، فاشتغل القلب بما نزل إليه ليتلقاه ، فغاب عن تدبير بدنه ، فسمي ذلك غشيا وصعقا ، وكذلك الملائكة.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) (٣٤)

هارون عليه‌السلام نبي بحكم الأصل ، وأخذ الرسالة بسؤال أخيه موسى عليه‌السلام ـ إشارة ـ لا تطلب ردءا سواه ، فمن توكّل على الله كفاه ، اطلب الردء من جنسك ، فإنه قد شاء أن يكون أقوى لنفسك ـ فلا تطلب ردءا سواه ، أي معينا ، واطلب الردء من جنسك ، لخور الطبع ، فإذا كنت في مقام لا تقوى فيه على ما يقتضيه المقام الأول ، فانزل إلى المقام الثاني ، فهو بمنزلة قوله عليه‌السلام : [اعقلها وتوكل] ليكون القلب مطمئنا.

٣٠٠