رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٣)

فأثنى عليهم ولم يكونوا يؤدون سوى الفرائض.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) (٧٨)

ـ إشارة ـ لا تغلب على مقلتك النوم ، فتنفش في غنم القوم ، أي إذا لم تراقب خواطرك فإنها تتصرف فيما لا ينبغي ، والنفش الرعي ليلا ، وهو محل الظلمة والغيب.

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) (٧٩)

(فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) مع نقيض الحكم (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) فكان علم داود

١٤١

علما مؤتى ، آتاه الله ، وعلم سليمان علم الله في المسألة ، فحكم الله في القصة حكم سليمان فهو مصيب بعين الحكم ومصيب في الاجتهاد ، وداود مصيب من وجه واحد ، وحكمه من عند الله آتاه إياه ، فهو بمنزلة المجتهد المخطىء من أمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن العلماء ورثة الأنبياء بإطلاقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد قال في المجتهد إذا أخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران ، ومن رزق الفهم من المحدثات فقد رزق العلم ، وما كل من رزق علما كان صاحب فهم ، فالفهم درجة عليا في المحدثات ، وفي الفهم عن الله يقع التفاضل بين العلماء بالله ، والفهم قوة لا تتصرف إلا في المبهمات الممكنات وغوامض الأمور ، ويحتاج صاحب الفهم لمعرفة المواطن ، (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ) داود منصوص على خلافته ، ومن أعطي الخلافة أعطي التحكم والتصرف في العالم ، فترجيع الجبال معه بالتسبيح والطير تؤذن بالموافقة ، فموافقة الإنسان أولى.

(وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (٨٣)

الشكوى إلى الله لا تقدح في الصبر ، ألا ترى إلى أيوب عليه‌السلام سأل ربه رفع البلاء عنه بقول (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) أي أصاب مني ، فشكا ذلك إلى ربه عزوجل ، وقال له : (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ففي هذه الكلمة إثبات وضع الأسباب ، وعرض فيها لربه برفع البلاء عنه ، فإن من النزاع الصبر على البلاء إذا لم يرفع إزالته إلى الله ، والدعاء لا يقتضي المنازعة ، فإنه ذلة وافتقار ، والنزاع رياسة وسلطنة ، فلم يقدح دعاء أيوب عليه‌السلام في صبره ، وقد أثنى الله عليه بالصبر ، فقال مع ثبوت شكواه (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) فذكره بكثرة الرجوع إليه في كل أمر ينزل به ، فمن حبس نفسه عند الضر النازل

١٤٢

به عن الشكوى إلى الله في رفع ما نزل به وصبر مثل هذا الصبر فقد قاوم القهر الإلهي ، والشكوى إلى الله أعلى منه وأتم ، ولهذا قلنا إن الدعاء لا يقدح ولا يقتضي المنازعة ، بل هو أعلى وأثبت في العبودة من تركه ، وأما الرضا والتسليم فهما نزاع خفي لا يشعر به إلا أهل الله ، لذلك رفع أيوب عليه‌السلام شكواه إلى الله لا إلى غيره ، بل يجب عليه ذلك ، لما في الصبر إن لم يشك إلى الله من مقاومة القهر الإلهي ، وهو سوء أدب مع الله ، والأنبياء عليهم‌السلام أهل أدب ، وهم على علم من الله ، فاستجاب له ربه وقال :

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) (٨٤)

فأثبت بقوله تعالى : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أن دعاه كان في رفع البلاء ، فكشف ما به من ضر وشهد له بالصبر ، فلو كان الدعاء إلى الله في رفع الضر ورفع البلاء يناقض الصبر المشروع المطلوب لم يثن الله على أيوب عليه‌السلام بالصبر ، وقد أثنى عليه به ، بل من سوء الأدب مع الله أن لا يسأل العبد رفع البلاء عنه ، لأن فيه رائحة من مقاومة القهر الإلهي بما يجده من الصبر وقوته ، ومن الأدب الإلهي الذي علمه الله أنبياءه ورسله ، إن كنت صاحب غرض وتحس بمرض وألم فاحبس نفسك عن الشكوى لغير من آلمك بحكمه عليك ، فإنه ما آلمك وحكم عليك بخلاف غرضك ـ وغرضك من جعل حكمه فيك ـ إلا لتسأله في رفع ذلك عنك ، بما جعل فيك من الغرض الذي بسببه تألمت ، كما فعل بأيوب عليه‌السلام ، فمن لم يشك إلى الله مع الإحساس بالبلاء وعدم موافقة الغرض فقد قاوم القهر الإلهي ، فالأدب كل الأدب في الشكوى إلى الله في رفعه لا إلى غيره ، ويبقى عليه اسم الصبر كما قال تعالى في أيوب عليه‌السلام : (إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً) في وقت الاضطراب والركون إلى الأسباب ، فلم يضطرب ولا ركن إلى شيء غير الله إلا إلينا لا إلى سبب من الأسباب ، فإنه لا بد طبعا عند الإحساس من الاضطراب وتغير المزاج. ـ إشارة ـ لذلك قال بعضهم : الصبر مقاومة ، وهو سوء أدب في حق الكامل.

(وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي

١٤٣

رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨٧)

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) كان غضب يونس عليه‌السلام لله ومن أجله ، فلما ذهب مغاضبا (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي ظن أن الله لا يضيق عليه من سعة رحمة الله فيه ، وما نظر ذلك الاتساع الإلهي الرحماني في حق غيره ، فتناله أمته واقتصر به على نفسه ، وكذلك فعل الحق ، ففرج الله عنه بعد الضيق ليعلم قدر ما أنعم الله به عليه ، بعد أن أسكن بطن الحوت ما شاء الله لينبهه الله على حالته ، حين كان في بطن أمه من كان يدبره فيه ، وهل كان في ذلك الموطن يتصور منه أن يغاضب أو يغاضب ، بل كان في كنف الله لا يعرف سوى ربه ، فرده إلى هذه الحالة في بطن الحوت تعليما له بالفعل لا بالقول ، (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) عذرا عن أمته ، أي تفعل ما تريد وتبسط رحمتك على ما تشاء (سُبْحانَكَ) حيث كنت (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ما أنت ظلمتني ، وهذا هو التوحيد العشرون في القرآن وهو توحيد الغم ، وهو توحيد المخاطب «أنت» وهو توحيد التنفيس.

(فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) (٨٨)

ظن يونس عليه‌السلام بالله خيرا فاستجاب له فنجاه من الغم وقذفه الحوت من بطنه على ساحل اليم مولودا على الفطرة ، وأنبت عليه اليقطين لنعمته ولنفور الذباب عن حوزته ، ونفس الله عن يونس بالخروج من بطن الحوت ، وأرضاه في أمته ، إذ كان غضبه لله ومن أجله ، وظنه بربه أنه لا يضيق عليه ، وكذلك فعل ، فانظر في هذه العناية الإلهية بهذا النبي وما جاء به من الاعتراف في توحيده ، (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) يعني الصادقين في أحوالهم.

(وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) (٨٩)

١٤٤

من حيث أنه سبحانه وارث فإنه تعالى قال إنه يرث الأرض ومن عليها ، وهكذا الإشارة في كل خير منسوب مضاف مثل خير الصابرين والشاكرين ، ومثل هذا مما ورد عن الله في أي شرع.

(فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (٩٠) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ) (٩١)

روح عيسى منفوخ بالجمع والكثرة ففيه قوى جميع الأسماء والأرواح ، فإنه قال فنفخنا بنون الجمع ، فإن جبريل عليه‌السلام وهبه لها بشرا سويا ، فتجلى في صورة إنسان كامل فنفخ وهو نفخ الحق ، كما قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده.

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) (٩٦)

جاء في حديث أبي عيسى الترمذي عن الدجال أن عيسى عليه‌السلام يقتله بباب لد ، ثم قال ويلبث كذلك ما شاء الله ، ثم يوحي الله إليه أن أحرز عبادي إلى الطور ، فإني قد أنزلت عبادا لي لا يد لأحد بقتالهم ، قال ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم كما قال الله تعالى : (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) قال فيمر أولهم ببحيرة طبرية فيشربون ما بها ، ثم يمر بها آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ، ثم يسيرون إلى أن ينتهوا إلى جبل بيت المقدس ، فيقولون لقد قتلنا من في الأرض فهلم فلنقتل من في السماء ، فيرمون بنشابهم إلى السماء فيرد الله

١٤٥

عليهم نشابهم محمرا دما ، ويحاصر عيسى ابن مريم وأصحابه حتى يكون رأس الثور يومئذ خيرا لهم من مائة دينار لأحدكم اليوم ، قال فيرغب عيسى ابن مريم إلى الله وأصحابه ، قال فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم ، فيصبحون فرسى موتى كموت نفس واحدة ، قال ويهبط عيسى ابن مريم وأصحابه فلا يجد موضع شبر إلا وقد ملأته زهمتهم ونتنهم ودماؤهم ، قال فيرغب عيسى إلى الله وأصحابه ، قال فيرسل الله عليهم طيرا كأعناق البخت ، فتحملهم فتطرحهم بالمهبل ، ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجعابهم سبع سنين ، ويرسل الله عليهم مطرا لا يكن منه بيت ولا وبر ولا مدر ، قال فيغسل الأرض ويتركها كالزلقة ـ إلى آخر الحديث ـ قال أبو عيسى هذا حديث غريب حسن صحيح.

(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) (٩٨)

(إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي الذي انفرد بهذا الاسم (حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهو قوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وهو كل من دعاكم إلى عبادة نفسه ، أو عبدتموه وكان في وسعه أن ينهاكم عن ذلك فما نهاكم ، فمثل هؤلاء يكونون من حصب جهنم ، وقد قرىء حطب جهنم ، إذا كان يوم القيامة ، وأدخل المشركون دار الشقاء ، وهي جهنم ، أدخل معهم جميع من عبدوه إلا من هو من أهل الجنة وعمارها فإنهم لا يدخلون معهم فدخولها معهم زيادة في عذابهم.

(لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) (٩٩)

فيخلد المشرك في النار مع شريكه إن كان حجرا أو نباتا أو حيوانا أو كوكبا ، إلا الإنسان الذي لم يرض بما نسب إليه ونهى عنه وكرهه ظاهرا وباطنا ، فإنه لا يكون معه في النار ، وإن كان هذا من قوله وعن أمره ومات غير موحد ولا تائب كان معه في النار ، إلا أن الذي

١٤٦

لا يرضى بذلك ينصب للمشرك مثال صورته يدخل معه ليعذب بها ، ولا عذاب على كوكب ولا حجر ولا شجر ولا حيوان ، وإنما يدخلون معهم زيادة في عذابهم حتى يروا أنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئا ، فيقولون : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ).

(لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) (١٠٠)

وأما من سبقت لهم الحسنى ، وهم الذين لم يأمروا ولم يرضوا ، فهم عنها مبعدون كعيسى وعزير وأمثالهما وعلي بن أبي طالب وكل من ادعي فيه أنه إله وقد سعد.

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (١٠١)

فيدخل الله مع المشركين في جهنم مثلهم الذين كانوا يصورونها في الكنائس وغيرها ، نكاية لهم لأن كل عابد من المشركين قد مسك مثال صورة معبوده المتخيلة في نفسه ، فتجسد إليه تلك الصورة المتخيلة ويدخلها النار معه ، فإنه ما عبد إلا تلك الصورة التي مسكها في نفسه ، وتجسد المعاني المتخيلة غير منكور شرعا وعقلا ، فالمشركون يدخلون النار للعقاب والانتقام ، وهؤلاء المعبودون يدخلونها لا للانتقام فإنهم ما ادعوا ذلك ولا المثل ، وإنّما أدخلوها نكاية في حق العابدين لها فيعذبهم الله بشهودهم إياها ، حتى يعلموا أنهم لا يغنون عنهم من الله شيئا ، لكونهم ليسوا بآلهة كما ادعوا فيهم ، والذين سبقت لهم الحسنى.

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) (١٠٢)

(لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) يعني النار ، لما يؤثر السماع في صاحبه من الخوف (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) فإن الآخرة دائمة التكوين عن العالم ، فإنهم يقولون في الجنان للشيء يريدونه كن فيكون ، فلا يتوهمون أمرا ولا يخطر لهم خاطر في تكوين أمر ما إلا ويتكون بين أيديهم حسا بمجرد حصول الخاطر والهم والإرادة والتمني والشهوة ، فشهواتهم كالإرادة من الحق ، إذا تعلقت بالمراد تكوّن.

١٤٧

(لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (١٠٣)

اعلم أن لله عبادا أخفياء لا يعرفهم سواه ، قال فيهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنهم يوم القيامة يكونون على منابر من نور ليسوا بأنبياء ولا شهداء ، تغبطهم الأنبياء والشهداء ، يعني بالشهداء هنا الرسل ، فإنهم شهداء على أممهم ، وكان الاغتباط من كونهم لم يكونوا رسلا فارتاحوا ، وإن كانت الرسل أرفع مقاما منهم ، فإنهم لا يدخلهم خوف البتة ، فغبط الأنبياء والشهداء إياهم فيما هم فيه من الراحة وعدم الحزن والخوف في ذلك الموطن ، والأنبياء والرسل وعلماء هذه الأمة الصالحون الوراثون درجات الأنبياء خائفون وجلون على أممهم ، وأولئك لم يكن لهم أمم ولا أتباع ، وهم آمنون على أنفسهم مثل الأنبياء على أنفسهم آمنون لا يحزنهم الفزع الأكبر من أجل نفوسهم ، فهذه الفئة هم أولياء الله الذين لا يخافون ، لأنهم ما لهم أمم ولا أتباع يخافون عليهم ، فارتفع الخوف عنهم في ذلك اليوم في حق نفوسهم وفي حق غيرهم ، كما قال تعالى : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) فقد كانوا مجهولين عند الناس فلم يكونوا في الدنيا يعرفون ، ولا في الآخرة يطلب منهم الشفاعة ، فهم أصحاب راحة عامة في ذلك اليوم ، والوجه الآخر الذي ذكرناه أنهم لم يكونوا لهم أتباع ، فإذا كان في القيامة جاءت الأنبياء والعلماء خائفة يحزنهم الفزع الأكبر في غاية من شدة الخوف على أممهم لا على أنفسهم ، والأمم والمؤمنون والعامة والعصاة خائفون على أنفسهم لما ارتكبوه من المخالفات ، وهؤلاء ما لهم أتباع يخافون عليهم ، ولا ارتكبوا مخالفة توجب لهم الخوف ، فجاءت هذه الطائفة مستريحة غير خائفة لا على نفوسهم ، ولا يحزنهم الفزع الأكبر على أممهم ، إذ لم يكن لهم أمم ، ففي مثل هذا يغبطهم النبيون والشهداء في ذلك الموقف خاصة (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) أن يرتفع الحزن والخوف فيه عنكم في حق أنفسكم وحق الأمم ، إذ لم تكن لكم أمة ولا تعرفتم لأمة مع انتفاع الأمة بكم ، ففي هذا الحال تغبطهم الأنبياء المتبوعون ، فإذا أدخلوا الجنة وأخذوا منازلهم تبينت المراتب وتعينت المنازل ، وظهر عليون لأولي الألباب.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ

١٤٨

وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (١٠٤)

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث جابر المشهور أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا أول من تنشق عنه الأرض ـ بحث في الإعادة ـ قال تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) وقال : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) الإعادة تكرار الأمثال في الوجود ، لأن تكرار العين ليس بواقع للاتساع الإلهي ، ولكن الإنسان في لبس من خلق جديد ، فهي أمثال يعسر الفصل فيها لقوة الشبه ، فالإعادة إنما هي في الحكم ، مثل السلطان يولي واليا ثم يعزله ثم يوليه بعد عزله ، فالإعادة في الولاية ، والولاية نسبة لا عين وجودي ، ألا ترى الإعادة يوم القيامة إنما هي في التدبير ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ميز بين نشأة الدنيا ونشأة الآخرة ، والروح المدبر لنشأة الدنيا عاد إلى تدبير النشأة الآخرة ، فهي إعادة حكم ونسبة لا إعادة عين فقدت ثم وجدت ، وأين مزاج من يبول ويغوط ويتمخط من مزاج من لا يبول ولا يغوط ولا يتمخط؟ والأعيان التي هي الجواهر ما فقدت من الوجود حتى تعاد إليه ، بل لم تزل موجودة العين ، ولا إعادة في الوجود لموجود فإنه موجود ، وإنما هي هيآت وامتزاجات نسبية.

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (١٠٥)

ـ إشارة ـ الأرض هي أرض العبادة التي يرثها الصالحون في الطاعة ، فإن الصالح لا يرث من الأرض إلا إتيانها لله طائعة مع السماء ، حين قال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ، فورث العباد منها الطاعة لله وهي المعبر عنها بالقنوت.

(إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (١٠٦) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧)

ما كان السبب في إنزال هذه الآية إلا أنّه لمّا اشتد قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الله وغيرته على الحق ، وكان في مقام الغيرة على جناب الله تعالى وما يستحقه ، أخذ يقنت في صلاته شهرا كاملا وهو القنوت ، يدعو على طائفة من عباد الله بالهلاك والعذاب والانتقام في قصة رعل وذكوان وعصية عصت الله ورسوله ، فكان يقول اللهم عليك بفلان وفلان ، وذكر ما كان منهم فأنزل الله عليه وحيه بواسطة الروح الأمين ، يا محمد إن الله يقول لك ما أرسلك سبابا ولا

١٤٩

لعانا ، أي طرادا ، أي لا تطرد عن رحمتي من بعثتك إليه ، وإنما بعثك رحمة ، أي لترحم مثل هؤلاء ، كأنه يقول له : بدل دعائك عليهم كنت تدعوني لهم. وأوحى الله تعالى إليه في ذلك لما علم من إجابته إياه إذا دعاه في أمر ، فنهاه عن الدعاء عليهم وسبهم وما يكرهون إبقاء لهم ورحمة بهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين جرحوه اللهم اهد قومي إنهم لا يعلمون ثم تلا عليه جبريل عليه‌السلام كلام ربه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فعتب الحق رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حق المشرك الذي أخبر أنه لا يغفر له بهذه الآية ، وما خص مؤمنا من غيره ، فلم يقل تعالى «للمؤمنين خاصة» فلم يخص الحق مؤمنا من كافر بل قال (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) أي لترحمهم ، لأنك صاحب القرآن الذي ينطق بأن رحمتي وسعت كل شيء ، فعم العالم ولم يخص عالما من عالم ، فدخل المطيع والعاصي والمؤمن والكافر والموحد والمشرك في هذا الخطاب وكل مسمى العالم ، أي لترحمهم وتدعوني لهم لا عليهم ، فإنك إذا دعوتني لهم ربما وفقتهم لطاعتي ، فترى سرور عينك وقرتها في طاعة ، وإذا لعنتهم ودعوت عليهم وأجبت دعاءك فيهم لم يتمكن أن آخذهم إلا بأن يزيدوا طغيانا وإثما مبينا ، وذلك كله إنما يكون بدعائك عليهم ، فكأنك أمرتهم بالزيادة في الطغيان الذي نؤاخذهم به ، فتنبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أدبه به ربه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله أدبني فأحسن أدبي ، وقد صح عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يقول : (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) ونهي عن الدعاء عليهم ، قام ليلة إلى الصباح لا يتلو فيها إلا قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) وهو قول عيسى عليه‌السلام ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسل إلى جميع الناس كافة ليرحمهم بأنواع وجوه الرحمة ، ومن وجوه الرحمة أن يدعو لهم بالتوفيق والهداية ، فلا أحد ممن بعث إليه يبقى شقيا ولو بقي في النار فإنها ترجع عليه بردا وسلاما ، فإنه من حين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انطلق على جميع من في الأرض من الناس أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فعمت العالم رحمته صلى‌الله‌عليه‌وسلم التي أرسل بها ، فإن الله أخبر أنه أرسله ليرحم العالم ، وما خص عالما من عالم ، فأعلمنا الله أنه أرسله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرحمة وجعله رحمة للعالمين ، فمن لم تنله رحمته فما ذلك من جهته ، وإنما ذلك من جهة القابل ، فهو كالنور الشمسي أفاض شعاعه على الأرض ، فمن استتر منه في كن أو ظل جدار فهو الذي لم يقبل انتشار النور عليه ، وعدل عنه ، فلم يرجع إلى الشمس من ذلك منع ، وكانت هذه الآية في الدنيا عنوان حكم الآخرة ، لأنه إذا كان من

١٥٠

أشرك به يعتب رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الدعاء عليهم ، فكيف يكون فعله فيهم إذا تولى سبحانه الحكم فيهم بنفسه ، وقد علمنا أنه تعالى ما ندبنا إلى خلق كريم إلا كان هو أولى به ، ففي هذه الآية تنبيه على رحمة الله بعباده ، لأنهم على كل حال عباده ، معترفون به معتقدون لكبريائه ، طالبون القربة إليه ، لكنهم جهلوا طريق القربة ولم يوفوا النظر حقه. ـ وجه آخر ـ (وَما أَرْسَلْناكَ) وما أرسل إلا بالعلم (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فجعل إرساله رحمة ، فهو علم يعطي السعادة في لين ، قال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ).

(قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٨)

اعلم أن الحق لما انتقم وعذب بصفة الغضب ، وعفا وتجاوز بصفة الكرم ، وعصم بصفة الرحمة ، وظهر الاستناد من الموجودات إلى الكثرة في العين الواحدة ، فاستند هذا إلى غير ما استند هذا ، زال ابتهاج التوحيد والأحدية بالأسماء الحسنى وبما نسب إليه من الوجوه المتعددة الأحكام ، فلم يبق للاسم الواحد ابتهاج ، فرجع إلى أحدية الألوهية ، وهي أحدية الكثرة لما تطلبه من الأسماء لبقاء مسمى الأحدية ، فقال : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ولم يتعرض إلى ذكر النسب في الأسماء والوجوه ، فإن طلب الوحدة ينافي طلب الكثرة ـ راجع البقرة آية ١٦٤ ـ.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١١٢)

(قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي الحق الذي شرعت لنا ليثبت صدقي عند من أرسلتني إليهم فيما أرسلتني به ، فجاء بلفظ يدل على أنه وقع فقال تعالى مخبرا (قالَ) وهو عند العامة ما وقع ، فإنه يوم القيامة ، وما أخبر الله إلا بالواقع ، فلا بد أن يكون ثم حضرة إلهية فيها وقوع الأشياء دائما ، لا يتقيد بالماضي فيقال قد وقعت ، ولا بالمستقبل فيقال تقع ، ولكن

١٥١

متعلقها الحال الدائم ، والحال له الوجود ، ومن هذه الحضرة الإلهية عنها تقع الإخبارات بالماضي والمستقبل ، والألف واللام في الحق للحق المعه د الذي بعث به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي بما شرعت لي وأرسلتني به ، فإن الله لا يعاملنا إلا بما شرع لنا لا بغير ذلك ، ألا تراه قد أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأله يوم القيامة أن يحكم بالحق الذي بعثه به بين عباده وبيده ، فقال تعالى آمرا «قل» يا محمد ، وهي قراءة (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) أي فليكن حكمك في الأمم يوم القيامة بما شرعت لهم وبعثتنا به إليهم. فإن ذلك مما يراد ، فإنك ما أرسلتنا إلا بما تريد حتى يثبت صدقنا عندهم ، وتقوم الحجة عليهم إذا حكم الحق في كل أمة بما أرسل به نبيه إليهم ، وبهذا تكون لله الحجة البالغة ، فما حكم إلا بما شرع وأمر عبده أن يسأله تعالى في ذلك حتى يكون حكمه فيه عن سؤال عبده ، كما كان حكم العبد بما قيده من الشرع عن أمر ربه ، وأكثر من هذا التنزل الإلهي إلى العباد ما يكون ، وهل يحكم الله إلا بالحق ، فجعل الحق نفسه في هذه الآية مأمورا لنبيه عليه‌السلام ، فإن لفظة احكم أمر ، وأمره سبحانه أن يقول له ذلك ، فإن الله ما يعامل العبد بأمر إلا قد عامل به نفسه ، فأوجب على نفسه كما أوجب عليك ، ودخل لك تحت العهد كما أدخلك تحت العهد ، فما أمرك بشيء إلّا وقد جعل على نفسه مثل ذلك ، هذا لتكون له الحجة البالغة ، ووفى بكل ما أوجبه على نفسه ، وطلب منك الوفاء بما أوجبه عليك ، أليس هذا من لطفه؟ أليس هذا من كرمه؟ ألا تراه تعالى لما قال لنبيه داود (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) قال تعالى جبرا لقلب خلفائه «قل» يا محمد (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) فيحكم بنفسه تعالى بالحق الذي بعث به رسله ليصدقهم عند عبيده فعلا بحكمه ، كما صدقهم في حال احتجابه بما أيدهم به من الآيات ، ولما كان الأصل في الحكم المشروع غلبة الظنّ ، فإن الحاكم لا يحكم إلا بشهادة الشاهد ، وهو ليس قاطعا فيما شهد به من ذلك ، فما اختلف العلماء في حكم الحاكم بين الخصمين بغلبة الظن ، واختلفوا في حكمه بعلمه ، فكانت غلبة الظن في هذا النوع أصلا متفقا عليه ويرجع إليه ، وكان العلم في ذلك مختلفا فيه ، والحق تعالى وإن لم يكن عنده إلا العلم فإنه يحكم بالشهود ، ولذلك جاء «قل رب احكم بالحق» أي بما شرعت لي وأرسلتني به ، فمع علمه تعالى يقيم على خلقه يوم القيامة الشهود ، فلا يعاقبهم إلا بعد إقامة البينة عليهم مع علمه ، وبهذا قال من قال : إنه ليس للحاكم أن يحكم بعلمه ، أما في العالم فللتهمة بما له

١٥٢

من الغرض ، وأما في جانب الحق فلإقامة الحجة على المحكوم عليه ، حتى لا يأخذه في الآخرة إلا بما شرع له من الحكم في الدنيا على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولهذا يقول الرسول لربه عن أمر ربه (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ) يعني بالحق الذي بعثتني به وشرعت لي أن أحكم به فيهم (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) لو لا ما هو الرحمن ما اجترأ العبد أن يقول رب احكم بالحق ، فإنه تعالى ما يحكم إلا بالحق ـ الوجه الثاني ـ جعل الله في الوجود كتابين ، كتابا سماه أمّا ، فيه ما كان قبل إيجاده وما يكون ، كتبه بحكم الاسم المقيت ، فهو كتاب ذو قدر معلوم فيه بعض أعيان الممكنات وما يتكون عنها ، وكتابا آخر ليس فيه سوى ما يتكون عن المكلفين خاصة ، فلا تزال الكتابة فيه ما دام التكليف ، وبه تقوم الحجة لله على المكلفين ، وبه يطالبهم لا بالأم ، وهذا هو الإمام الحق المبين الذي يحكم به الحق تعالى الذي أخبرنا الله في كتابه أنه أمر نبيه أن يقول لربه (احْكُمْ بِالْحَقِّ) ، يريد هذا الكتاب ، وهو كتاب الإحصاء فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وكل صغير وكبير مستطر ، وهو منصوص عليه في الأم.

(٢٢) سورة الحج مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) (٢)

إذا كان يوم العرض ، ووقع الطلب بالسنة والفرض ، وذهلت كل مرضعة عما أرضعت ، وزهدت كل نفس فيما جمعت ، وألجم الناس العرق ، وامتازت الفرق ، واستقصيت الحقوق ، وحوسب الإنسان على ما اختزنه في الصندوق ، زال الريب والمين ، وبان الصبح لذي عينين ، وندم من أعرض وتولى ، وفاز بالتجلي السعادي كل قلب بالأسماء

١٥٣

الحسنى تحلى ، فإن الأمر جليل مهم ، وخطب ملم ، فزلزلة الساعة ، مذهلة عن الرضاعة ، مع الحب المفرط في الولد ، ولا يلوي أحد على أحد ، فإن عذاب الله شديد.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) (٥)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) من عناية الله بنا لما كان المطلوب من خلقنا عبادته أن قرب علينا الطريق ، بأن خلقنا من الأرض التي أمرنا أن نعبده فيها ، فخلقنا من تراب الأرض ، أنزل موجود خلق ، ليس وراءها وراء ، فقرّب علينا الطريق لعبادته ، فخلقنا من تراب في تراب ، وهي الأرض التي جعلها الله ذلولا ، والعبادة الذلة ، فنحن الأذلاء بالأصل (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي تامة الخلقة وغير تامة الخلقة ، والغير تامة الخلقة داخل في قوله تعالى : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ) فأعطى النقص خلقه أن يكون نقصا ، ولما كان الجسد للروح كالآلة للصانع يعمل بها في صنعته ، يصرف كل آلة لما هيئت له فمنها مكملة وهي المخلقة يعني التامة الخلقة ، ومنها غير المكملة وهي غير المخلقة ، فينقص العامل من العمل على قدر ما نقص من جودة الآلة ، ذلك ليعلم أن الكمال الذاتي لله سبحانه ، ولتنظر في مرتبة جسدك وروحك وتتفكر ، فتعتبر أن الله ما خلقك سدى ، وإن طال المدى ، (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ

١٥٤

ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) الطفل مأخوذ من الطفل وهو ما ينزل من السماء من الندى غدوة وعشية ، وهو أضعف ما ينزل من السماء من الماء ، فالطفل من الكبار كالرش والوبل والسكب من أنواع نزول المطر ، ولما كان بهذا الضعف كان مرحوما أبدا ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) وذلك لأنه من عالم الطبيعة يتنوع ويستحيل باستحالاتها ، فالمواد التي حصل له منها هذا العلم استحالت ، فالتحقق العلم بها بحكم التبعية ، (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) فإن الأرض فراش (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ) فإذا نكح الجو الأرض وأنزل الماء (اهْتَزَّتْ) تحركت ودبرت الماء في رحمها آثار الأنواء الفلكية ، (وَرَبَتْ) وهو الحمل فحملت شبه حمل المرأة (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) فأولدها توأمين ، فضحكت الأرض بالأزهار ، وإنما كان زوجا من أجل ما يطلبه من النكاح ، إذ لا يكون إلا بين زوجين ، والمخلقة من النبات هو ما سلم من الجوائح ، وغير المخلقة ما نزلت به الجائحة ، والله على كل شيء قدير.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٧)

إن الله لما خلق الإنسان خلقه مستقبلا الآخرة ، والساعة تستقبله ، ولذا سميت ساعة ، أي تسعى إليه.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) (٨)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وهو ما أعطاه الدليل النظري دليل فكره (وَلا هُدىً) يعني ولا بيان أبان له كشفه ، (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) وهو ما وقع به التعريف مما هو الحق عليه من النعوت ، لما نزلت به الآيات من المعرفة بالله في كتبه المنزلة الموصوفة بأنها نور ليكشف بها ما نزلت به ، لما كان النور يكشف به ، فنفاهم عن تقليد الحق وعن التجلي والكشف وعن النظر العقلي ، ولا مرتبة في الجهل أنزل من هذه المرتبة ، ولهذا جاءت من الحق في معرض الذم يذم بها من قامت به هذه الصفة.

١٥٥

(ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٠)

يقول تعالى في الحديث القدسي : «إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه» ، فما نرى من الحق إلا ما نحن عليه ، فمن شاء فليعمل ومن شاء لا يعمل ، فإنه لا يرجع إلى الإنسان إلا ما خرج منه ، فاجهد أن لا يخرج عنك إلا ما تحمد رجوعه إليك ، فهذه كلمة نبوية حق كلها فإن العمل ما يعود إلا على عامله ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تكونوا ممن خدعته العاجلة وغرته الأمنية واستهوته الخدعة ، فركن إلى دار سريعة الزوال وشيكة الانتقال ، إنه لم يبق من دنياكم هذه في جنب ما مضى إلا كإناخة راكب أو صر حالب ، فعلام تعرجون ، وما ذا تنتظرون ، فكأنكم والله بما قد أصبحتم فيه من الدنيا كأن لم يكن ، وما تصيرون إليه من الآخرة كأن لم يزل ، فخذوا الأهبة لأزوف النقلة ، وأعدوا الزاد لقرب الرحلة ، واعلموا أن كل امرىء على ما قدّم قادم ، وعلى ما خلّف نادم.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ

١٥٦

ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) (١٨)

قال الله تعالى خطابا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاحب الكشف حيث يرى ما لا نرى (أَلَمْ تَرَ) رؤية مشاهدة واعتبار ، لما أشهده سجود كل شيء (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فأطلق وعم ثم فصل فقال (وَالشَّمْسُ) في غروبها (وَالْقَمَرُ) في محاقه (وَالنُّجُومُ) في مواقعها (وَالْجِبالُ) في إسكانها (وَالشَّجَرُ) في إقامتها على سوقها (وَالدَّوَابُّ) في تسخيرها ، فعم الأمهات والمولدات وما ترك شيئا من أصناف المخلوقات ، ولم يبعض فإن كل شيء في العالم يسجد لله تعالى من غير تبعيض إلا الناس ، فلما وصل بالتفصيل إلى ذكر الناس قال : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) فبعض ولم يقل كلهم ، وهم من لهم الشهود ، فإنه تعالى قال : كذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، وشتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، ولذلك قال : (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) ، وسبب ذلك أن وكله من حيث نفسه الناطقة بما جعل الله فيها من الفكر ، فسجد لله في صورة غير مشروعة ، فأخذ بذلك مع أنه ما سجد إلا لله في المعنى (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) فجعل ذلك من مشيئته ، وأشهد الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجود كل شيء فما ترك أحدا ، فإنه ذكر من في السموات ومن في الأرض فذكر العالم العلوي والسفلي ، فإن الله دعا العالم كله إلى معرفته وهم قيام فإن الله أقامهم بين يديه حين خلقهم ، فأسجدهم فعرفوه في سجودهم ، فلم يرفعوا رؤوسهم أبدا ، فكل ما سوى الله ما عدا الثقلين على معرفة بالله ،

١٥٧

ووحي من الله وعلم بمن تجلى له ، مفطور على ذلك سعيد كله ، فإن تجلي الحق دائم أبدا ، فيبادر العبد بالسجود في هذه الآية ليكون من الكثير الذي يسجد لله لا من الكثير الذي حق عليه العذاب ، فإذا رأى العبد أن الله قد وفقه للسجود ولم يحل بينه وبين السجود علم أنه من أهل العناية الذين التحقوا بمن لم يبعض سجودهم ، فهذه السجدة هي سجود المعادن والنبات سجود المشيئة ، والحيوان وبعض البشر وعمار الأفلاك والأركان سجود مشاهدة واعتبار.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) (٢٥)

الإلحاد الميل عن الحق شرعا ولذلك قال : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) فذكر الظلم وهو هنا الهم الذي هو الإرادة ، فإنه سواء وقع منه ذلك الظلم الذي أراده أو لم يقع في الحرم المكي فإنه محاسب عليه ، وأما في غير المسجد الحرام المكي فإنه غير مؤاخذ بالهم ، فإن لم يفعل ما هم به كتب له حسنة إذا ترك ذلك من أجل الله خاصة ، فإن لم يتركها

١٥٨

من أجل الله لم يكتب له ولا عليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : احتكار الطعام بمكّة إلحاد فيه ، وكان ابن عباس يسكن الطائف لأجل هذه الآية احتياطا لنفسه فإن الإنسان ما في قوته أن يمنع عن قلبه الخواطر فإنه تعالى نكّر الظلم ، فخاف مثل ابن عباس وغيره ـ بحث في الإرادة ـ اعلم أن الله تعالى إذا أراد إيجاد فعل ما بمقارنة حركة شخص ما بعث إليه رسوله المعصوم وهو الخاطر الإلهي المعلوم ، ولقربه من حضرة الاصطفا هو في غاية الخفا ، فلا يشعر بنزوله في القلب إلا أهل الحضور والمراقبة في مرآة الصدق والصفا ، فينقر في القلب نقرة خفية ، تنبيها لنزول نكتة غيبية ، فمن حكم به فقد أصاب في كل ما يفعله ، ونجح في كل ما يعمله ، وذلك هو السبب الأول ، عند الشخص الذي عليه يعوّل ، وهو نقر الخاطر ، عند أرباب الخواطر ، وهو الهاجس ، عند من هو للقلب سائس ، فإن رجع إليه مرة أخرى فهو الإرادة ، فإن عاد ثالثة فهو الهم ، فإن عاد رابعة فهو العزم ، ولا يعود إلا لنفوذ أمر جزم ، فإن عاد خامسة فهو النية ، وهو الذي يباشر الفعل الموجود عن هذه البنية ، وبين التوجه إلى الفعل والفعل يظهر القصد ، واعلم أن النية إذا كان معناها القصد أصل في إقامة كل بنية ، وليس للحس في النية مدخل لأنها من وصف العقل المتخيل.

(وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (٢٦)

يا كعبة طاف بها المرسلون

من بعد ما طاف بها المكرمون

ثم أتى من بعدهم عالم

طافوا بها من بين عال ودون

أنزلها مثلا إلى عرشه

ونحن حافون لها مكرمون

فإن يقل أعظم حاف به

إني أنا خير فهل تسمعون

والله ما جاء بنص ولا

أتى لنا إلا بما لا يبين

هل ذاك إلا النور حفت به

أنوارهم ونحن ماء مهين

فانجذب الشيء إلى مثله

وكلنا عبد لديه مكين

هلا رأوا ما لم يروا أنهم

طافوا بما طفنا وليسوا بطين

لو جرد الألطف منا استوى

على الذي حفوا به طائفين

١٥٩

قدّسهمو أن يجهلوا حق من

قد سخر الله له العالمين

لما نسب الله تعالى البيت إليه بالإضافة في قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) جعله نظيرا ومثالا لعرشه ، وجعل الطائفين به من البشر كالملائكة الحافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ، أي بالثناء على ربهم تبارك وتعالى.

قلت عند الطواف كيف أطوف

وهو عن درك سرنا مكفوف

جلمد غير عاقل حركاتي

قيل أنت المحير المتلوف

انظر إلى البيت نوره يتلالا

لقلوب تطهرت مكشوف

نظرته بالله دون حجاب

فبدا سره العلي المنيف

وتجلى لها من أفق جلالي

قمر الصدق ما اعتراه خسوف

لو رأيت الولي حين يراه

قلت فيه مدله ملهوف

يلثم السر في سواد يميني

أي سر لو أنه معروف

جهلت ذاته فقيل كثيف

عند قوم وعند قوم لطيف

قال لي حين قلت لم جهلوه

إنما يعرف الشريف الشريف

عرفوه فلازموه زمانا

فتولاهم الرحيم الرؤوف

واستقاموا فما يرى قط فيهم

عن طواف بذاته تحريف

قم فبشر عني مجاور بيتي

بأمان ما عنده تخويف

إن أمتهم فرحتهم بلقائي

أو يعيشوا فالثوب منهم نظيف

ولنا أيضا :

أرى البيت يزهو بالمطيفين حوله

وما الزهو إلا من حكيم له صنع

وهذا جماد لا يحس ولا يرى

وليس له عقل وليس له سمع

فقال شخيص هذه طاعة لنا

قد أثبتها طول الحياة لنا الشرع

فقلت له هذا بلاغك فاستمع

مقالة من أبدى له الحكمة الوضع

رأيت جمادا لا حياة بذاته

وليس له ضر وليس له نفع

ولكن لعين القلب فيه مناظر

إذا لم يكن بالعين ضعف ولا صدع

١٦٠