رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

خص بالخطاب في قوله (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) أي قدّرناه في حال شيئيته المتوجه عليها أمرنا إلى شيئية أخرى ، لقوله تعالى (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ) يعني في حال عدمه (أن نقول له كن فيكون) وكن كلمة وجودية من التكوين ، فسماه شيئا في حال لم تكن فيه الشيئية المنفية بقوله (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) نبهه على أصله ، فأنعم عليه بشيئية الوجود ، فأحاله على هذه الصفة أن يكون مستحضرا لها ، فإن الله لما امتن علينا بالاسم الرحمن ، وتولانا منه سبحانه ابتداء الرحمة ، أخرجنا من الشر الذي هو العدم إلى الخير الذي هو الوجود ، ولهذا امتن الله تعالى بنعمة الوجود فقال (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) يريد منك في شيئيتك أن تكون معه كما كنت وأنت لا هذه الشيئية ، فالمراد من كل ما سوى الله أن يعبد الله ، فإن الإنسان لما قال منكرا (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أحاله الله تعالى على نشأته الأولى ، فقال (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) وهذا فيه وجهان : الوجه الواحد ، أن هذا الذي يقال له الإنسان لم يك قبل ذلك إنسانا ، فشيئا هنا معناه إنسانا ، كما تقول في جسد الإنسان إذا مات إنه إنسان بحكم المجاز ، أي قد كان إنسانا ، فإنه لا يتغذى ولا يحس ولا ينطق ، ومتى بطلت الأوصاف الذاتية بطل الموصوف ، فقد كان الإنسان قبل أن يطلق عليه اسم إنسان ترابا وماء وهواء ونارا وروحا قدسيا إلهيا ، وقد كان دما ثم انتقل نطفة وهي نشأة الأين ، وقد كان ذلك الدم برّا ولحما وشحما وفاكهة وغير ذلك من المطعومات ، فقد كان الإنسان أشياء لكن لم يكن إنسانا. والوجه الآخر ، أن يكون قد أحاله على حقيقته الأولى التي هو فيها الإنسان بالقوة ، وهو أول البدء ، وهو شيء من لا شيء ولا كان شيئا ، وأحاله في هذه الآية على النظر الفكري الذي يستدل به على معرفة الفاعل ـ نصيحة ـ اعلم أنه ما يكون منك ولا تمتحن وتختبر حتى تمكّن من نفسك وتجعل قواك لك ، ويسدل الحجاب بينك وبين ما هي الأمور عليه ، حتى ترى ما يستخرج منك ، هذه هي الفتنة ، فإذا أراد الرجل التخلص من هذه الورطة ، فلينظر إلى الأصل الذي كان عليه قبل الفتنة ، وقد أحالك الله عليك إن تفطنت بقوله (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) فانظر إلى حالك مع الله إذ لم تكن شيئا وجوديا ، ما كنت عليه مع الحق؟ فلتكن مع الله في شيئية وجودك على ذلك الحكم ، لا تزد على ذلك شيئا إلا ما اقتضاه الخطاب فقف عنده ، فإنه من بقي في حال وجوده مع

٦١

الله كما كان في حال عدمه فذلك الذي أعطى الله حقه ، ومن ادعى مع الله في نعته وزاحمه في صفاته أحاله من دائه العضال على استعمال دواء (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) يقول له : كن معي في شيئية وجودك كما كنت إذ لم تكن موجودا ، فأكون أنا على ما أنا عليه ، وأنت على ما أنت عليه.

(فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) (٦٨)

أقسم الله جل ثناؤه على الحشر الروحاني والجسماني ، أقسم سبحانه على نفسه باسمه الرب المضاف إلى نبيه محمد عليه‌السلام فقال (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) الآية ، فإن الإنسان لما قال منكرا (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) وسمع النبي عليه‌السلام من الإنسان هذا الإنكار وتكذيبه فيما قال الله من حشر الأجساد بعد موتها ، ولهذا ورد في الخبر الصحيح عن الله تعالى ، يقول الله تعالى [شتمني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، وكذبني ابن آدم ولم يكن ينبغي له ذلك ، أما شتمه إياي فقوله : إن لي صاحبة وولدا ، وأنا الواحد الأحد لم اتخذ صاحبة ولا ولدا ، وأما تكذيبه إياي فبقوله : إني لا أعيده كما بدأته ، وليس أول الخلق عليّ بأهون من إعادته] فلما كان في إنكار الحشر والإعادة تكذيب الله جل وعلا ، شق ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولما لم تكن الدنيا دار انتقام مطلق ، أقسم الباري باسمه جل ثناؤه ـ المضاف إلى نبيه ـ بحشر الجميع الصالح والطالح في مقابلة الإنكار الروحاني والترابي ، وجعل الطريق الذي هو الصراط على النار ، حتى لا يبقى أحد إلا ويرد عليها ، فمنهم السوي ومنهم المكبوت (وما قدروا الله حق قدره) فقال تعالى (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ) من أنكر الحشر (وَالشَّياطِينَ) فهم الذين يوحون إليهم ليجادلوا أهل الحق ، فذكروا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المقسومين عليهم ، حتى يسكن ما يجده من الألم بالوعد الذي وعده الله للانتقام المطلق.

(ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) (٧١)

لما كان الصراط على النار ، وما تمّ طريق إلى الجنة إلا عليه ، قال تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ

٦٢

إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) فالصراط المشروع الذي كان هنا معنى ينصب في الآخرة حسا محسوسا ، يقول الله لنا (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) ولما تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية خط خطا وخط عن جنبتيه خطوطا ، وهذا الصراط صراط التوحيد ولوازمه وحقوقه ، فالمشرك ما وحد الله هنا ، فهو من الموقف إلى النار مع المعطلة ومن هو من أهل النار الذين هم أهلها ، إلا المنافقين ، فلابد لهم أن ينظروا إلى الجنة وما فيها من النعيم فيطمعون ، فذلك نصيبهم من نعيم الجنان ، ثم يصرفون إلى النار ، وهذا من عدل الله ، فقوبلوا بأعمالهم ، والطائفة التي لا تخلد في النار إنما تمسك وتسأل وتعذب على الصراط. والصراط على متن جهنم غائب فيها ، والكلاليب التي فيه بها يمسكهم الله عليه ، وقد أتى في وصف الصراط الحسي أنه أدق من الشعر وأحد من السيف ، وكذا هو علم الشريعة في الدنيا ، فالشرع هنا هو الصراط المستقيم ، فهو أحد من السيف وأدق من الشعر ، وظهوره في الآخرة محسوس أبين وأوضح من ظهوره في الدنيا ، وقد ورد في الخبر أن الصراط يظهر يوم القيامة متنه للأبصار على قدر نور المارين عليه ، فيكون دقيقا في حق قوم وعريضا في حق آخرين ، فالطريق إلى الجنة على النار فلابد من الورود ، فعلى الحقيقة ما منا إلا من يردها ، فإنها الطريق إلى الجنة ، وإذ لم يبق في أرض الحشر من أهل الجنة أحد ، عاد الصراط كله نارا.

(ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا

٦٣

وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) (٨٥)

معلوم أنه لا يحشر إلى شيء من كان عند ذلك الشيء ، ولا يحشر الرحمن إليه إلا من ليس عنده من حيث هذا الاسم الخاص ، وهو عنده من حيث حكم اسم آخر غير هذا الاسم ، فالعين التي تحشر منها هي العين التي تحشر إليها وبعينها ما وصفت به ، فانظر أي اسم يكون مشهود المتقي فما تجده الرحمن ، وإن كان معه في حال إتقائه ، ولكن تحشر إليه لينفرد بك دون أن يكون لاسم آخر تصرف فيك ، والمتقي هو الحذر الخائف الوجل ، ولا يكون أحد يشهد الرحمن الرحيم الرؤوف ويتقيه ، وإنما مشهود المتقي السريع الحساب الشديد العقاب المتكبر الجبار ، لأن الاتقاء والخوف من حكم المتقى منه ، فكان المتقي في حكم أمثال هذه الأسماء الإلهية فيتقي ويخاف ، لأن المتقي ما هو جليس الرحمن ، إنما هو جليس الجبار المريد العظيم المتكبر فيتقي سطوته ، والاسم الرحمن ماله سطوة من كونه الرحمن ، إنما الرحمن يعطي اللين والعطف والعفو والمغفرة ، فإن الرحمن لا يتّقى ، بل هو محل موضع الطمع والإدلال والأنس ، فلذلك يحشر إليه من الاسم الجبار الذي يعطي السطوة والهيبة ، فإنه جليس المتقين في الدنيا مع كونهم متقين ، فالمتقي جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد ، فسمي جليسه متقيا منه ، فيحشره الله من هذا الاسم إلى الاسم الإلهي الذي يعطيه الأمان مما كان خائفا منه ، وهو الرحمن ، فقال (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي يأمنون مما كانوا يخافون منه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث الشفاعة

٦٤

[شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون وبقي أرحم الراحمين] فيقضي سياق الكلام أن يكون أرحم الراحمين يشفع أيضا ، فلابد ممن يشفع عنده ، وما ثمّ إلا الله ، فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهار والشديد العقاب ، لذا يحشر الله المتقين يوم القيامة إلى الرحمن ليكون جليسهم ، فيزول عنهم الاتقاء ويزول عنهم حكم هؤلاء الأسماء الأخر ، فيأمن المتقي سطوة الجبار القهار ، وعلى هذا الأسلوب تأخذ الأسماء الإلهية كلها ، وهكذا تجدها حيث وردت في ألسنة النبوات إذا قصدت حقيقة الاسم وتميزه من غيره ، فإن له دلالتين : دلالة على المسمى به ، ودلالة على حقيقته التي بها يتميز عن اسم آخر.

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (٨٦)

(وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) وهم الذين استحقوا المقام الذي ساقهم إليه ، والذي ساقهم هو عين الأهواء التي كانوا عليها (إِلى جَهَنَّمَ) وهي البعد (وِرْداً).

(لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٩١)

فانظر إلى القوة الإلهية التي أعطاها الله لمن أنزل عليه الوحي الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله ، فإنهم علموا قدر من أنزله ، فرزقهم الله من القوة ما يطيقون به حمل ذلك الجلال ، فإذا سمعوا في الله ما يخالف ما تجلى لهم فيه (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) وقد سمع ذلك أهل الله ورسله ، وما جرى عليهم شيء من ذلك ، لما أعطاهم من قوة العلم ، إذ لا أقوى من العلم ، فعلم أهل الله من رسول ونبي وولي ما لم تعلمه السموات والأرض والجبال من الله ، فأنتج لهم هذا العلم بالله قوة في نفوسهم حملوا بها ما سمعوه من قول من قال : إن المسيح ابن الله ، وإن عزيرا ابن الله ، ولم يتزلزلوا ، ولو نزل ذلك على من ليست له هذه القوة

٦٥

لذاب في عينه لعظيم ما جاءه ، فانظر ما اكثف حجاب من اعتقد أن لله ولدا وما أشد عماه عن الحقائق.

(وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٩٣)

يعني يوم القيامة ، والعبودة حال يستصحب العبد في الدنيا والآخرة فإنها حقيقة تطلبه ، فالعبد ثابت الوجود في عبوديته ، دائم الحكم في ذلك ، لأن العبودة نعت ثابت لا يرتفع عن الكون ، فإذا أضفت الخلق إلى الله تعالى فكل ما سوى الله عبد لله ، فالعبادة حال ذاتي للإنسان لا يصح أن يكون لها أجر مخلوق ، لأنها ليست بمخلوقة أصلا ، فالأعيان من كل ما سوى الله مخلوقة موجودة حادثة ، والعبادة فيها ليست بمخلوقة ، فإنها لهذه الأعيان أعني أعيان العالم في حال عدمه وفي حال وجوده ، وبها صح أن يقبل أمر الله بالتكوين من غير تثبط ، فحكم العبادة للممكن في حال عدمه أمكن فيه منها في حال وجوده ، إذ لا بد له في حال وجوده واستحكام رأيه ونظره لنفسه واستقلاله من دعوى في سيادة بوجه ما ، ولو كان ما كان ، فينقص له من حكم عبادته بقدر ما ادعاه من السيادة.

(لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) (٩٦)

الود هو ثبات الحب ، أي سيجعل لهم الرحمن ثباتا في المحبة عند الله وفي قلوب عباده.

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨)

٦٦

(٢٠) سورة طه مكيّة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

هذه السورة أشرف سورة في القرآن في العالم السعيد ، فإنها السورة التي يقرؤها الحق تعالى في الجنة على عباده بلا واسطة ، فإذا تلا الحق على أهل السعادة من الخلق سورة طه تلاها عليهم كلاما ، وتجلى لهم فيها عند تلاوته صورة ، فيشهدون ويسمعون ، فكل شخص حفظها من الأمة يتحلى بها هنالك كما تحلى بها في الدنيا بالحاء المهملة ، فإذا ظهروا بها في وقت تجلي الحق بها وتلاوته إياها تشابهت الصور ، فلم يعرف المتلو عليهم الحق من الخلق إلا بالتلاوة ، فإنهم صامتون منصتون لتلاوته ، ولا يكون في الصف الأول بين يدي الحق في مجلس التلاوة إلا هؤلاء الذين أشبهوه في الصورة القرآنية الطاهيّة ، ولا يتميزون عنه إلا بالإنصات خاصة ، فلا يمر على أهل النظر ساعة أعظم في اللذة منها ، فمن استظهر القرآن هنا بجميع رواياته حفظا وعلما وعملا فقد فاز بما أنزل الله له القرآن ، وصحت له الإمامة ، وكان على الصورة الإلهية الجامعة ، فمن استعمله القرآن هنا استعمل القرآن هناك ، ومن تركه هنا تركه هناك.

(طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥)

المسألة الأولى ـ بحث عام في الألفاظ التي تعطي التشبية والتجسيم ـ المحقق الواقف العارف بما تقتضيه الحضرة الإلهية من التقديس والتنزيه ونفي المماثلة ، لا يحجبه ما نطقت به الآيات والأخبار في حق الحق تعالى ، من أدوات التقييد بالزمان والجهة والمكان وما أشبه ذلك من الأدوات اللفظية ، وقد تقرر بالبرهان العقلي خلقه الأزمان والأمكنة والجهات والألفاظ والحروف والأدوات والمتكلم بها والمخاطبين من المحدثات ، كل ذلك خلق الله

٦٧

تعالى ، فيعرف المحقق قطعا أنها مصروفة إلى غير الوجه الذي يعطيك التشبيه والتمثيل ، وأن الحقيقة لا تقبل ذلك أصلا ، ولكن تتفاضل العلماء السالمة عقائدهم من التجسيم ، فتتفاضل العلماء في هذا الصرف عن هذا الوجه الذي لا يليق بالحق تعالى ، فطائفة لم تشبّه ولم تجسم ، وصرفت علم ذلك الذي ورد في كلام الله ورسله إلى الله تعالى ، ولم تدخل لها قدما في باب التأويل ، وقنعت بمجرد الإيمان بما يعلمه الله في هذه الألفاظ والحروف ، من غير تأويل ولا صرف إلى وجه من وجوه التنزيه ، بل قالت لا أدري جملة واحدة ، ولكني أحيل إبقاءه على وجه التشبية ، لقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لا لما يعطيه النظر العقلي ، وعلى هذا فضلاء المحدثين من أهل الظاهر السالمة عقائدهم من التشبيه والتعطيل ، وطائفة أخرى من المنزهة عدلت بهذه الكلمات عن الوجه الذي لا يليق بالله تعالى في النظر العقلي ، عدلت إلى وجه ما من وجوه التنزيه على التعيين مما يجوز في النظر العقلي أن يتصف به الحق تعالى ، بل هو متصف به ولابد ، وما بقي النظر إلا في هذه الكلمة ، هل المراد بها ذلك الوجه أم لا؟ ولا يقدح ذلك التأويل في ألوهته ، وربما عدلوا إلى وجهين وثلاثة وأكثر على حسب ما تعطيه الكلمة في وضع اللسان ، ولكن من الوجوه المنزهة لا غير ، فإذا لم يعرفوا من ذلك الخبر أو الآية عند التأويل في اللسان إلا وجها واحدا قصروا الخبر أو الآية إلى تلك المصارف ، وقالت طائفة من هؤلاء : يحتمل أن يريد كذا ، ويحتمل أن يريد كذا ، وتعدد وجوه التنزيه ، ثم تقول : والله أعلم أي ذلك أراد ، وطائفة أخرى تقوّى عندها وجه ما من تلك الوجوه النزيهة بقرينة ما ، قطعت لتلك القرينة بذلك الوجه على الخبر وقصرته عليه ، ولم تعرج على باقي الوجوه في ذلك الخبر وإن كانت كلها تقتضي التنزيه ، وطائفة أخرى من المنزهة أيضا وهي العالية ، فرغوا قلوبهم من الفكر والنظر وأخلوها ، إذ كان المتقدمون من الطوائف المتقدمة المتأولة أهل فكر ونظر ، فأشبهت في هذا العقد المحدثين السالمة عقائدهم ، حيث لم ينظروا ولا تأولوا ولا صرفوا ، بل قالوا : ما فهمنا ، فقال هؤلاء بقولهم ثم انتقلوا عن مرتبة أولئك بأن قالوا : لنا أن نسلك طريقة أخرى في فهم هذه الكلمات ، وذلك بأن نفرغ قلوبنا من النظر الفكري ، ونجلس مع الحق تعالى بالذكر على بساط الأدب والمراقبة والحضور والتهيىء لقبول ما يرد علينا منه تعالى ، حتى يكون الحق تعالى يتولى تعليمنا على الكشف والتحقيق ، لما سمعته يقوله (واتقوا الله ويعلمكم الله) ويقول (إن تتقوا الله

٦٨

يجعل لكم فرقانا). فعندما توجهت قلوبهم وهمهم إلى الله تعالى ولجأت إليه ، وألقت عنها ما استمسك به الغير من دعوى البحث والنظر ونتائج العقول ، كانت عقولهم سليمة وقلوبهم مطهرة فارغة ، فعندما كان منهم هذا الاستعداد تجلى الحق لهم معلّما ، فأطلعتهم تلك المشاهدة على معاني هذه الأخبار والكلمات دفعة واحدة ، وهذا ضرب من ضروب المكاشفة ، فإنهم إذا عاينوا بعيون القلوب ما نزهته العلماء المتقدم ذكرهم بالإدراك الفكري ، لم يصح لهم عند هذا الكشف والمعانية أن يجهلوا خبرا من هذه الأخبار التي توهم ، ولا أن يبقوا ذلك الخبر منسحبا على ما فيه من الاحتمالات النزيهة من غير تعيين ، بل يعرفون الكلمة والمعنى النزيه الذي سيقت له ، فيقصرونها على ما أريدت له ، وإن جاء في خبر آخر ذلك اللفظ عينه فله وجه آخر من تلك الوجوه المقدسة ، معيّن عند هذا الشاهد ، وطائفة أخرى ليس لهم هذا التجلي ، ولكن لهم الإلقاء والإلهام واللقاء والكتابة ، وهم معصومون فيما يلقى إليهم بعلامة عندهم لا يعرفها سواهم ، فيخبرون بما خوطبوا به وما ألهموا به وما ألقي إليهم أو كتب ، وقد تقرر عند جميع المحققين الذين سلّموا الخبر لقائله ولم ينظروا ولا شبّهوا ولا عطلوا ، والمحققين الذين بحثوا واجتهدوا ونظروا على طبقاتهم ، والمحققين الذين كوشفوا وعاينوا ، والمحققين الذين خوطبوا وألهموا ، أن الحق تعالى لا تدخل عليه تلك الأدوات المقيدة بالتحديد والتشبيه على حد ما نعقله من المحدثات ، ولكن تدخل عليه بما فيها من معنى التنزيه والتقديس ، على طبقات العلماء والمحققين في ذلك لما فيه وتقتضيه ذاته من التنزيه ، وإذا تقرر هذا ، فقد تبيّن أنها أدوات التوصيل إلى أفهام المخاطبين ، وكل عالم على حسب فهمه فيها وقوة نفوذه وبصيرته ، فعقيدة التكليف هينة الخطب ، فطر العالم عليها ، ولو بقيت المشبهة على ما فطرت عليه ما كفرت ولا جسّمت ، وجاء في هذه الآية الاستواء على العرش بلفظ العرش ولفظ الاستواء ، وما هو نص في ظرفية المكان ، بخلاف اسم لفظة المكان ، فإنه نصّ بالوضع في ظرفيته ، والمتمكن في المكان نص فيه ، فعدل إلى الاستواء والعرش ، ليسوغ التأويل الذي يليق بالجناب العالي لمن يتأول ولا بد ، والأولى التسليم لله فيما قاله ، ورد ذلك إلى علمه سبحانه بما أراده في هذا الخطاب ، ونفي التشبيه المفهوم عنه ، بقوله (ليس كمثله شي) ـ المسألة الثانية في الاستواء ـ ذكر تعالى أنه استوى على العرش على طريق التمدح والثناء ، إذ كان العرش أعظم الأجسام ، والاستواء حقيقة معقولة معنوية

٦٩

تنسب إلى كل ذات بحسب ما تعطيه حقيقة تلك الذات ، ولا حاجة لنا إلى التكلف في صرف الاستواء عن ظاهره ، فهو استواء منزه عن الحد والمقدار ، معلوم عنده ، غير مكيف ولا معلوم للعقول والأذهان ، وكما لا يلزم من الفوق إثبات الجهة ، كذلك لا يلزم من الاستواء إثبات المكان ، فذلك الاستواء مجهول النسبة ، ثابت الحكم ، متوجه كما ينبغي لجلاله نخلص من ذلك إلى القول بأن استواء الرحمن ليس كاستواء الأكوان ، وأنه لو جلس عليه جلوسا كما يدعيه المشبهة لحدّه المقدار ، وقام به الافتقار إلى مخصص مختار ، لا تحيط به الجهات والأقطار ، والافتقار على الله محال ، فالاستقرار بمعنى الجلوس عليه محال ، ولا سبيل إلى هذا الاعتقاد بحال ، وما بقي فيه سوى أمرين مربوطين بحقيقتين ، الأمر الواحد أن نصرف هذا الاستواء إلى الاستيلاء ، والأمر الآخر أن نؤمن بها كما جاءت من غير تشبيه ولا تكييف ، ونصرف العلم بها إليه ، فإنه أسلم بالمؤمنين عند قدومهم عليه ، ولهذا يختم المنزّه تأويله بقوله : والله أعلم ، لمعرفته بأن التنزيه قائم بذاته ، ولكن صرف هذه الآية إلى هذا الحكم لا يلزم. فتحفظوا من مكر الله في التأويل واستدراجه ، واسألوه الثبات على منهاجه ، وطهروا قلوبكم بماء التقديس والتنزيه ، من التجسيم والتشبيه ، فإنه ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير ، ويستوي ويجيء وينزل ، وهو في السماء وفي الأرض كما قاله ، وعلى المعنى الذي أراده ، من غير تشبيه ولا تكييف ، وهو العليم القدير. ـ المسألة الثالثة في معنى العرش ـ الوجه الأول ـ (عَلَى الْعَرْشِ) أي على ملكه ، فالعرش عين الملك ، يقال : ثلّ عرش الملك إذا اختل ملكه ـ الوجه الثاني ـ العرش الذي استوى عليه الرحمن ، هو سرير ذو أركان أربعة ووجوه أربعة ، وله أربعة قوائم يحمله منها أربعة من الملائكة ، وفي كل نصف وجه قائمة ، فهي ثمانية قوائم ، لا حامل لتلك الأربعة اليوم إلى يوم القيامة ، فإذا كان في القيامة وكّل الله بها من يحملها ، فيكونون في الآخرة ثمانية وهم في الدنيا أربعة ، وقوائم هذا العرش على الماء الجامد ، فالعرش إنما يحمله الماء الجامد ، والحملة التي له إنما هي خدمة له تعظيما وإجلالا ، وذلك الماء الجامد مقره على الهواء البارد ، والعرش مجوف ، محيط بجميع ما يحوي عليه من كرسي وأفلاك وجنات وسموات وأركان ومولدات ، وبين مقعر العرش والكرسي فضاء واسع وهواء محترق ، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة ، ولما أوجد الله العرش استوى عليه الرحمن واحد الكلمة لا مقابل لها ، فهو رحمة كله ، ليس فيه ما

٧٠

يقابل الرحمة ، وإن وقع ببعض العالم غصص ، فذلك لرحمة فيه. لو لا ما جرعه إياها اقتضى ذلك مزاج الطبع ومخالفة الغرض النفسي ، فهو كالدواء الكريه والطعم الغير المستلذ وفيه رحمة للذي يشربه ويستعمله وإن كرهه ، فباطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، وما استوى عليه الرحمن تعالى إلا بعد ما خلق الأرض وقدّر فيها أقواتها ، وخلق السموات وأوحى في كل سماء أمرها ، وفرغ من خلق هذه الأمور كلها ، ورتب الأركان ترتيبا يقبل الاستحالات لظهور التكوين والتنقل من حال إلى حال ، وبعد هذا استوى على العرش ، فالعرش هو الجسم الكلي ، واستوى عليه سبحانه بالاسم الرحمن بالاستواء الذي يليق به ، الذي لا يعلمه إلا هو ، من غير تشبيه ولا تكييف ، وهو أول عالم التركيب ، وقد قال تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) في معرض التمدح ، فلو كان في المخلوقات أعظم من العرش لم يكن ذلك تمدحا ، والعرش المذكور في هذه الآية مستوى الرحمن وهو محل الصفة ـ المسألة الرابعة في تفسير الآية ـ اعلم أن الله سبحانه ما استوى على عرش إلا بالاسم الرحمن ، إعلاما بذلك أنه ما أراد بالإيجاد إلا رحمة بالموجودين ، ولم يذكر غيره من الأسماء ، وذكر الاستواء على اعظم المخلوقات إحاطة من عالم الأجسام ، فإن الآلام ليس محلها إلا التركيب ، وأما البسائط فلا تقبل في ذاتها قيام معنى بها ، بل هي عين المعنى ، فتدل هذه الآية على شمول الرحمة للعالم وإن طرأت عوارض البلايا ، فإنها رحمة كما ذكرنا في شرب الدواء الكريه ، ليس المقصود منه عذاب من شربه ولا إيلامه ، وإنما المقصود من استعماله ما يؤول إليه من استعمله من الراحة والعافية ، فللحق سبحانه تجل عام إحاطي ، وتجل خاص شخصي ، فالتجلي العام تجل رحماني. وهو قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) فمن معافى ومبتلى ، بحسب ما يحكم فيه من الأسماء إلى الأجل المسمى ، فتعم الرحمة التي وسعت كل شيء من الرحمن الذي استوى على العرش ، فتعم النعم العالم ، فإن العرش ما حوى ملكه كله مما وجد ، وعرشه وسع كل شيء ، والنار ومن فيها من الأشياء ، والرحمة سارية في كل موجود ، والتجلي الخاص هو ما لكل شخص شخص من العلم بالله ، والرحمن لا يظهر عنه إلا مرحوم ، لذلك قال (عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) لنعلم إذا ظهرت أعياننا وبلّغتنا سفراؤه هذا الأمر شمول الرحمة وعمومها ، ومآل الناس والخلق كلها إليها ، فلو لم يكن من عظيم الرجاء في شمول الرحمة إلا قوله (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) لكفى فإذا استقرت

٧١

الرحمة في العرش الحاوي على جميع أجسام العالم ، فكل ما يناقضها أو يريد رفعها من الأسماء والصفات فعوارض لا أصل لها في البقاء ، لأن الحكم للمستولي وهو الرحمن ، فإليه يرجع الأمر كله ، فيكون المآل للرحمة التي وسعت كل شيء ، فهو في الدنيا يرزق مع الكفر ويعافي ويرحم ، فكيف مع الإيمان والاعتراف في الدار الآخرة على الكشف كما كان في قبض الذرية؟ ـ إشارة ـ قرأ أبو العباس العريبي (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ) وقف والابتداء (اسْتَوى).

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) (٦)

أي ثبت له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، فالاسم الرحمن ثابت الحكم في كل ما يحوي عليه العرش ، وهو قوله (ورحمتي وسعت كل شيء) فمآل الكل إلى الرحمة وإن تخلل الأمر آلام وعذاب وعلل وأمراض مع حكم الاسم الرحمن ، فإنما هي أعراض عرضت في الأكوان دنيا وآخرة ، ومن أجل أن الرحمن له الأسماء الحسنى ، ومن الأسماء الضار والمذل والمميت ، فلهذا ظهر في العالم مالا تقتضيه الرحمة ولكن لعوارض ، وفي طي تلك العوارض رحمة ، ولو لم يكن إلا تضاعف النعيم والراحة عقيب زوال حكمه ، ولهذا قيل : أحلى من الأمن عند الخائف الوجل ، فما تعرف لذات النعيم إلا بأضدادها ، فما ثمّ حكم إلا للرحمن لأنه المستوي على العرش ، فلا تنفذ الأحكام إلا من هذا الاسم ، فالرحمن استوى على عرشه ، وما انقسمت الكلمة إلا من دون العرش ، من الكرسي فما تحته ، فإنه موضع القدمين ، ليس سوى انقسام الكلمة ، فظهر الأمر والخلق ، والنهي والأمر ، والطاعة والمعصية ، والجنة والنار ، وكل ذلك عن أصل واحد وهي الرحمة التي هي صفة الرحمن.

(وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (٧)

الوجه الأول ـ يدل ظاهر الآية في قوله تعالى (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ) أي ما يحدّث المرء به نفسه ، لقوله وإن تجهر بالقول ، فإنه يعلم ذلك ويعلم ما تحدث به نفسك ، وهو قوله (ونعلم ما توسوس به نفسه) ومتعلق السر الاسم الباطن ، وهو ما يسره العبد في نفسه ،

٧٢

وهو خلاف الجهر والعلانية ـ الوجه الثاني ـ السر ما بينك وبينه ، وما هو أخفى ما يستر عنك عينه فالسر ما بين العبد والحق ، والأخفى ما يعلمه سبحانه من العبد ولا يعلمه العبد من نفسه أن يكون فيه ، فلا يعلم الأخفى إلا الله ، والسر يعلمه الزائد ، وما زاد فهو إعلان وزال عن درجة الكتمان ، فقوله (وَأَخْفى) الأخفى عن صاحب السر هو ما لا يعلمه. مما يكون لا بد أن يعلمه خاصة ، فالعلم بما هو أخفى من السر ما لا يعلمه إلا الله وحده ، لا علم لهذا العبد به ، ولا يمكن أن يعلمه إلا الله ، فالأخفى هو سرّ سرّ ، وهو العلم الذي انفرد به الحق دون سواه ، فما هو أخفى من السر ما لا يعلم من الأمر ، وما هو إلا العلم بالله ـ الوجه الثالث ـ (يَعْلَمُ السِّرَّ) والسر هو إخفاء ما له عين (وَأَخْفى) وهو إظهار ما لا عين له ، فيتخيل الناس أن ذلك حق ، والله يعلم أنه ليس له وجود عين في نفس الحكم ، فيعلم السر وأخفى ، أي أظهر في الخفاء من السر ، والشيء الخافي هو الظاهر لغة منقولة ـ الوجه الرابع ـ ومع هذا فإن الألف واللام لها حكم في مطلق اسم السر ، للشمول على جميع ما ينطلق عليه اسم السر ، وما هو أخفى من ذلك السر ، ومن السر النكاح ، فمن أسمائه السر ، فيعلم ما ينتجه النكاح ، وهو قوله (ويعلم ما في الأرحام) فإنه الخالق ما فيها ، ولذلك فإن الإيجاد بمنزلة السر في النكاح ، والأخفى هو التوجه بتعلق القدرة بإيجاد موجود ما ، فنفذ الاقتدار فكان أخفى من السر ، لجهلنا بنسبة هذا التوجه إلى الذات العلية ونسبة الصفات إليها ، لأنها مجهولة لا تعرف فيعرف التوجه ، فأعقب ذلك بتوحيد الموجد للأشياء مع كثرة النسب ، فهو واحد في كثير فقال :

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٨)

هذا التوحيد السادس عشر في القرآن ، وهو توحيد الإبدال ، فإنه أبدل الله من الرحمن ، وهذا في المعنى بدل المعرفة من النكرة ، لأنهم أنكروا الرحمن ، وفي اللفظ بدل المعرفة من المعرفة ، وهو توحيد الهوية القائمة بأحكام الأسماء الحسنى ، لا أن الأسماء الحسنى تقوم معانيها بها ، بل هي القائمة بمعاني الأسماء ، فهو قائم بكل اسم بما يدل عليه ، وقد تسمى بأحكام أفعاله من طريق المعنى ، فكلها أسماء حسنى ، غير أنه منها ما يتلفظ بها ، ومنها ما يعلم ولا يتلفظ بها لما هو عليه حكمها في العرف من إطلاق الذم عليها ، والله اسم جامع

٧٣

لحقائق جميع الأسماء ، وهو دليل على مسمى ، وهو ذات مقدسة له نعوت الكمال والتنزيه (لِلَّهِ الْأَسْماءُ) فالاسماء كلها للمرتبة ، ولها ترتيب حقائق معقولة كثيرة من جهة النسب لا من جهة وجود عيني ، فإن ذات الحق واحدة من حيث ما هي ذات ، ولكن لما كان وجودنا وافتقارنا وإمكاننا لا بد له من مرجح نستند إليه ، وأن ذلك المستند لا بد أن يطلب وجودنا منه نسبا مختلفة ، كنّى الشارع عنها بالأسماء الحسنى وتسمى بها ، فالله واحد وإن تكثرت أحكامه فإنها نسب وإضافات ، فهو من حيث نفسه له أحدية الأحد ، ومن حيث أسماؤه له أحدية الكثرة ، والأسماء الحسنى تبلغ فوق أسماء الإحصاء عددا ، وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة ، وهي المؤثرة في هذا العالم ، فإنه ليس في المخلوقات على اختلاف ضروبها أمر إلا ويستند إلى حقيقة ونسبة إلهية ، وهي المفاتيح الأول التي لا يعلمها إلا هو ، وإن كان لكل حقيقة اسم ما يخصها من الأسماء ، فحقيقة الإيجاد يطلبها الاسم القادر ، وحقيقة الأحكام يطلبها الاسم العالم ، وحقيقة الاختصاص يطلبها الاسم المريد ، إلى غير ذلك من الحقائق ، فالاسماء الحسنى نسب وإضافات ترجع إلى عين واحدة ، إذ لا يصح هناك كثرة بوجود أعيان فيه كما زعم من لا علم له بالله من بعض النظار ، لأن الصفات الذاتية للموصوف بها وإن تعددت ، فلا تدل على تعدد الموصوف في نفسه لكونها مجموع ذاته ، وإن كانت معقولة في التمييز بعضها عن بعض ، فأسماء الله وهي صفاته نسب وإضافات له لا أعيان زائدة ، لما يؤدي إلى نعتها بالنقص ، إذ الكامل بالزائد ناقص بالذات عن كماله بالزائد ، وهو كامل لذاته ، فالزائد بالذات على الذات محال ، وبالنسب والإضافة ليس بمحال ، ولو كانت الصفات أعيانا زائدة وما هو إله إلا بها ، لكانت الألوهية معلولة بها ، فلا يخلو أن تكون هي عين الإله ـ فالشيء لا يكون علة لنفسه ـ أو لا تكون ، فالله لا يكون معلولا لعلة ليست عينه ، فإن العلة متقدمة على المعلول بالرتبة ، فيلزم افتقار الإله من كونه معلولا لهذه الأعيان الزائدة التي هي علة له ، وهو محال ، ثم إن الشيء المعلول لا يكون له علتان ، وهذه كثيرة ، ولا يكون إلها إلا بها ، فبطل أن تكون الأسماء والصفات أعيانا زائدة على ذاته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، فأسماء الله الحسنى نسب وإضافات ، منها ما يحتاج إليها الممكنات احتياجا ضروريا ، ومنها ما لا يحتاج إليها الممكنات ذلك الاحتياج الضروري ،

٧٤

وقوة نسبتها إلى الحق أوجه من طلبها الخلق. ولما كانت الأسماء الإلهية نسبا تطلبها الآثار ، لذلك لا يلزم ما تعطل حكمه منها ما لم يتعطل ، وإنما يقدح ذلك لو اتفق أن تكون أمرا وجوديا ، فالله إله سواء وجد العالم أو لم يوجد ، فلذلك قلنا : إنه سبحانه لو رحم العالم كله لكان ، ولو عذب العالم كله لكان ، ولو رحم بعضه وعذب بعضه لكان ، ولو عذبه إلى أجل مسمى لكان ، فإن الواجب الوجود لا يمتنع عنه ما هو ممكن لنفسه ، ولا مكره له على ما ينفذه في خلقه ، بل هو الفعال لما يريد ، ولما كانت الصفات نسبا وإضافات ، والنسب أمور عدمية ، وما ثمّ إلا ذات واحدة من جميع الوجوه ، لذلك جاز أن يكون العباد مرحومين في آخر الأمر ، ولا يسرمد عليهم عدم الرحمة إلى ما لا نهاية له إذ لا مكره له على ذلك ، والصفات والأسماء ليست أعيانا توجب حكما عليه في الأشياء ، فلا مانع من شمول الرحمة للجميع ، ولا سيما وقد ورد سبقها للغضب ، فإذا انته الغضب إليها كان الحكم لها ، فكان الأمر على ما قلناه ، ولذلك قال تعالى (ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا) فكان حكم هذه المشيئة في الدنيا بالتكليف ، وأما في الآخرة فالحكم لقوله (يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فمن يقدر أن يدل على أنه لم يرد إلا تسرمد العذاب على أهل النار ولابد ، أو على واحد في العالم كله؟ فكل ما ذكر في قوله : لو شاء ، ولئن شئنا ، لأجل هذا الأصل ، فله الإطلاق وما ثمّ نص يرجع إليه لا يتطرق إليه الاحتمال في تسرمد العذاب كما لنا في تسرمد النعيم ، فلم يبق إلا الجواز ، وأنه رحمن الدنيا والآخرة ، والأسماء الإلهية منها مشتركة وإن كان لكل واحد من المشتركة معنى ، إذا تبين ظهر أنها متباينة ، فالأصل في الأسماء التباين ، والاشتراك فيه لفظي ، ومنها متباينة ، ومنها مترادفة ومع ترادفها فلابد أن يفهم من كل واحد معنى لا يكون في الآخر ، فعلمنا ما سمى به نفسه واقتصرنا عليها ، وقيدت الأسماء بالحسنى لدلالتها على المسمى الأسمى.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠)

(إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت نارا ، من آنست الشيء إذا أبصرته ، ويدل أيضا على

٧٥

أنه ما قطع فيما أبصر أنه نار (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) فانظر ما أعجب قوة النبوة لأنه وجد الهدى ، وكل خير في السعي على الغير ، والسعي على الأهل من ذلك ، فمشى موسى عليه‌السلام في حق أهله ليطلب لهم نارا يصطلون بها ويقضون بها الأمر الذي لا ينقضي إلا بها في العادة ، وما كان عنده خبر بما جاءه ، فأسفرت له عاقبة ذلك الطلب عن كلام ربه ، فكلمه الله في عين حاجته وهي النار في الصورة ، ولم يخطر له عليه‌السلام ذلك الأمر بخاطر ، وأي شيء أعظم من هذا؟ وما حصل له إلا في وقت السعي في حق عياله ، ليعلمه بما في قضاء حوائج العائلة من الفضل ، فيزيد حرصا في سعيه في حقهم ، فكان ذلك تنبيها من الحق تعالى على قدر ذلك عند الله تعالى ، وعلى قدرهم لأنهم عبيده على كل حال ، وقد وكّل هذا على القيام بهم.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى) (١١) وتجلى له الحق في عين حاجته فلم تكن نارا

(إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٢)

لما خرج موسى عليه‌السلام في طلب النار لأهله لما كان فيه من الحنو عليهم ، وقع التجلي له في عين صورة حاجته ، فرأى نارا لأنها مطلوبه فقصدها فناداه ربه منها ، وهو لا علم له بذلك لاستفراغه فيما خرج له (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ولما كان القاعد لا يلبس النعلين وإنما وضعت للماشي فيها ، ومن وصل إلى المنزل خلع نعليه ، قيل لموسى عليه‌السلام (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) أي قد وصلت المنزل ، فإنه كلمه الله بغير واسطة ، بكلامه سبحانه بلا ترجمان ، وقوله تعالى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) له ظاهر وباطن ، فأما ظاهره فالحكمة في الأمر بخلع النعل الظاهر ، أن سير الأنبياء في الأرض كان سير اعتبار وادكار ونظر لما أودع فيها من سر البدء والإعادة ، بمقتضى قوله تعالى (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) وكان المراد التعرف لموسى بسر الإعادة وقيام الساعة ، ولهذا كانت مناجاته من الجانب الغربي ، لأن من أكبر آيات الساعة طلوع الشمس من مغربها ، وقيل له في أول مناجاته (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية) ومن المعلوم أن بعث الخلائق وحشرهم يكون من الأرض المقدسة ، وقد فسر قوله تعالى (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ

٧٦

يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي من صخرة بيت المقدس ، فمن ها هنا قيل لموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند ما سار بأهله وبلغ بيت المقدس وكشف له عن سر ما أودع فيه من قيام الساعة (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) تنبيها على أنه انته سفرك وبلغ ما كان المراد بك من التعرف ، ولهذا قيل له (إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ) أي هذا هو الوادي الذي أودع فيه سر قيام الساعة ورجوع الخلائق إلى الله تعالى ، فاخلع نعليك وألق عصاك ، فإن النعل وأخذ العصا من توابع السفر ، وخلع النعل وإلقاء العصا من أعلام الإقامة ، قال الشاعر :

فألقت عصاها واطمأن بها النوى

كما قر عينا بالإياب المسافر

وأما الباطن فإن حقيقة النعل ما يكون وقاية لقدم الصدق من عوائق طريق القلب إلى الله تعالى وما فيه من وعر وشوك ، كما نبه عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم ، تعس وانتكس وشيك ولا انتقش] فنبه بهذا على أن افتتان القلب بزينة الدنيا يعوق قدم الصدق عن السير إلى الله تعالى ، فإن عظم في عينيه منها شيء تعس به ، وإن احتقره أو استهان به كان بمثابة الشوك يدخل في قدم السائر ، فإن انتقش أي أخرجه بمنقاش الاستغفار ، وألقاه بالزهد فيه سلم وسارع بقدم صدقه إلى الله تعالى ، وإن أهمله كان بمثابة الشوكة التي يهملها صاحبها حتى تتمكن ويفسد بها الدم ويحصل المرض والوقوف عن السير ، وربما تمكنت فكانت سببا للموت أو ورما للقدم ، والنعلان يقيان من ذلك ، وهما الرجاء فيه والخوف منه ، كموسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج خائفا يترقب ، وقال عند التوجه (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) علم أنه انتعل الخوف والرجاء وركبهما في سيره ، لأن من انتعل فقد ركب ، لحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في صحيح مسلم قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر ، فقال : أكثروا من النعال فإن الرجل يظل راكبا ما انتعل. فلما بلغ موسى عليه‌السلام في حضرة المناجاة والتأنيس وصل في وادي التقديس ، قيل له (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) لأن الرجاء والخوف لأرباب السلوك لا لمن وصل وخص بمجالسة المملوك ، روينا أن نعلا موسى كانتا من جلد حمار ميت ، فجمعت ثلاثة أشياء : الشيء الواحد الجلد وهو ظاهر الأمر ، أي لا تقف مع الظاهر في كل الأحوال ، والثاني البلادة فإنها منسوبة إلى الحمار ، والثالث كونه ميتا غير مذكى والموت الجهل ، وإذا كنت ميتا لا تعقل ما تقول ولا ما يقال لك ، والمناجي لا بد أن يكون بصفة من يعقل ما يقول ويقال له ، فيكون حي

٧٧

القلب فطنا بمواقع الكلام ، غواصا في المعاني التي يقصدها من يناجيه بها ـ اعتبار ـ خلع النعلين في الاعتبار يشير إلى خلع صفة الجهل المختصة بالحمار ، لأن النعلين كانتا من جلد حمار ميت ، فهو صفة جهل وموت ، والوادي المقدس في الاعتبار يشير إلى صفة موسوية ـ إشارة ـ خلعت النعلان إشارة لزوال شفعية الإنسان.

(وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) (١٣)

وقريء «وإنا اخترناك» قرأ بها حمزة على رب العزة في المنام ، وإذا قرىء «وأنا اخترتك» كان أحق بالآية وأنسب وأنفى للتغيير ، فإنه ما زال التوحيد يصحبها إلى آخر الآية في قوله (فاعبدني) وإذا قرىء بالجمع ظهر التغيير بالانتقال في العين الواحدة من الكثير إلى الواحد ، فمساق الآية يقوي «وإنا اخترناك» لأنه عدد أمورا تطلب أسماء مختلفة ، فلابد من التغيير في كل صورة يدعى إليها ، وكان جملة ما تحصل في هذه الواقعة لموسى على ما روي اثنتي عشرة ألف صورة ، يقول له في كل صورة : يا موسى ، ليتنبه موسى على أنه لو أقيم لصورة واحدة لا تسق الكلام ، ولم يقل في كل كلمة : يا موسى ؛ فقوله «إنا اخترناك فجمع ، ثم أفرد ثم عدد ما كلم به موسى عليه‌السلام غير أن قوله «وإنا اخترناك» قرأ بها حمزة على رب العزة في المنام ، فقال له ربه : «وإنا اخترناك» فهي قراءة برزخية ، فلهذا جمع لأنه تجل صوري في منام ، فلابد أن تكون القراءة هكذا ، فإذا أفردتها بعد الجمع فلأحدية الجمع لا غير.

(إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) (١٤)

هذا هو التوحيد السابع عشر في القرآن ، وهو توحيد الاستماع ، وهو توحيد الإناية ، وقوي بالجمع إذ قد قرىء «وإنا اخترناك» فكثّر ، ثم أفرد فقال «إنني» وإن كلمة تحقيق ، فالإنية هي الحقيقة ، ولما كان حكم الكناية بالياء يؤثر في صورة الحقيقة ، نظرت من في الوجود على صورتها ، فوجدت نونا من النونات ، فقالت لها : قني بنفسك من أجل كناية الياء ، لئلا تؤثر فيّ صورة حقيقتي ، فيشهد الناظر والسامع التغيير في الحقيقة أن الياء هي عين الحقيقة ؛ فجاءت نون الوقاية فحالت بين الياء ونون الحقيقة ، فأحدثت الياء الكسر

٧٨

في النون المجاورة لها ، فسميت نون الوقاية لأنها وقت الحقيقة بنفسها ، فبقيت الحقيقة على ما كانت عليه لم يلحقها تغيير ، فقال (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) ولو لا نون الوقاية لقال (إِنِّي أَنَا اللهُ) فغيرها ، وتغيير الحقيقة بالضمير في الإن هو مقام تجليه في الصور يوم القيامة ، وما ثمّ إلا صورتان خاصة لا ثالث لهما ، صورة تنكر وصورة تعرف ، ولو كان ما لا يتناهى من الصور فإنها محصورة في هذا الحكم ، إما أن تنكر أو تعرف ، لابد من ذلك ، فإذا قرىء (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) كان أحق بالآية وأنسب وأنفى للتغيير ، فإنه ما زال التوحيد يصحبها إلى آخر الآية. تفسير من باب الإشارة ـ الوجه الأول : واعلم أن إنيتين ضبطتهما العبارة ، وهما طرفان ، ولكل واحدة من الإنيتين حكم ليس للأخرى ، إنية في جانب الحق (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) وإنية في جانب الخلق الكامل (إني رسول الله) والإنيتان متميزتان ، إلا أن لإنية الحادث منزلة الفداء والإيثار لجناب الحق بكونها وقاية ، وبهذه الصفة من الوقاية تندرج إنية العبد في الحق اندراجا في ظهور ، فينسب الفعل إلى العبد وليس إليه ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [الخير كله بيديك ، والشر ليس إليك] قال تعالى (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) النون الثانية من إنني هي نون الوقاية ، فلو لا نون العبد التي أثر فيها حرف الياء ، الذي هو ضمير الحق ، فخفض النون ، فظهر أثر القديم في المحدث ، ولولاه لخفضت النون من إن ، وهي إنية الحق فخفضتها ، ومقامها الرحمة التي هي الفتح ، فما أزاله عن مقامه إلا هو ولا أثر فيه سواه ، فأقرب ما يكون العبد من الحق إذا كان وقاية بين إنية الحق وبين ضميره ، فيكون محصورا قد أحاط به الحق من كل جانب ، وكان به رحيما لبقاء صفة الرحمة ، فبابها مفتوح ، وبها حفظ على المحدث وجوده ، فبقي عين نون الوقاية الحادثة في مقام العبودية الذي هو الخفض المتولد عن ياء ضمير الحق ، فظهر في العبد أثر الحق ، وهو عين مقام الذلة والافتقار ، فما للعبد مقام في الوصلة بالحق تعالى أعظم من هذا ، حيث له وجود العين بظهور مقامه فيه ، وهو في حال اندراج في الحق محاط به من كل جانب ، فعرف نفسه بربه حين أثر فيه الخفض ، فعرف ربه حين أبقاه على ما هو عليه من الرحمة ، فإنه الرحمن الرحيم ، فما زال عنه الفتح (فتح أنا) بوجود عين العبد (نون الوقاية) فلا يشهده أبدا إلا رحمانا ، ولا يعلمه أبدا إلا مؤثّرا فيه ، فلا يزال في عبوديته قائما ، وهذا غاية القرب ، ولو لا هذا القرب المعيّن لعاد الأثر على إنية الحق ، ولهذا ظهر في (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ليعلم أن الأثر إذا صدر من الحق لا بد من

٧٩

ظهور حكم ، وما وجد إلا الحق فعاد عليه ، فجاء العبد فدخل بين الإنية الإلهية والمؤثر فعمل فيه ، قال أبو يزيد لربه : يا رب بماذا أتقرب إليك؟ فقال : بما ليس لي ، فقال : يا ربّ وما ليس لك؟ فقال : الذلة والافتقار ، فعلم عند ذلك ما لإنّيّة الحق وما لإنية العبد ، وليست العناية من الله ببعض عباده إلا أن يشهده هذا المقام من نفسه ، فما يزيد على العالم كله إلا بالعلم به حالا وذوقا ، ولا يجني أحد ثمرة الإيثار مثل ما يجنيها صاحب هذا المقام ، فإن ثمرة الإيثار على قدر من تؤثره على نفسك ، والذي تؤثره على نفسك هنا إنما هو الحق ـ الوجه الثاني ـ النون الثانية نون الوقاية ، وهو تعالى الواقي ، فهو نون الوقاية ، وهو ضمير الياء ، فهذه إضافة الشيء إلى نفسه ، يروى أن موسى لما جاء من عند ربه كساه الله نورا على وجهه يعرف به صدق ما ادعاه ، فما رآه أحد إلا عمي من شدة نوره ، فكان يتبرقع حتى لا يتأذى الناظر إلى وجهه عند رؤيته.

(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) (١٧)

السؤال عن الضروريات ما يكون من العالم بذلك إلا لمعنى غامض ، وهو في هذه المسئلة تعليم موسى خلع الصور من الجوهر وإلباسه صورا غيرها ، ليعلمه أن الأعيان ـ أعيان الصور ـ لا تنقلب ، فإنه يؤدي إلى انقلاب الحقائق ، وإنما الإدراكات تتعلق بالمدركات ، تلك المدركات لها صحيحة لا شك فيها ، فيتخيل من لا علم له بالحقائق أن الأعيان انقلبت ، وما انقلبت ، فقال تعالى لموسى عليه‌السلام (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) فقال في تحقيق كونها عصا.

(قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى) (١٨)

كل ذلك من كونها عصا ، أرأيتم أنه أعلم الحق تعالى بما ليس معلوما عند الحق؟ وهذا جواب علم ضروري عن سؤال معلوم مدرك بالضرورة ، فقال له.

(قالَ أَلْقِها يا مُوسى) (١٩)

يعني من يدك ، مع تحققك أنها عصا.

٨٠