رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

محمود محمود الغراب

رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن - ج ٣

المؤلف:

محمود محمود الغراب


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٥

إليهم ، وهو يقول لهم : أطيعوا الله يا مساكين ، فإنكم من طين خلقتم ، وأخاف أن تطبخ النار هذه الأواني فتردها فخّارا ، فهل رأيتم قط آنية من طين تكون فخارا من غير أن تطبخها نار؟ يا مساكين لا يغرنكم إبليس بكونه يدخل النار معكم ، وتقولون : الله يقول (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) إبليس خلقه الله من نار ، فهو يرجع إلى أصله ، وأنتم من طين تتحكم النار في مفاصلكم ، يا مساكين انظروا إلى إشارة الحق في خطابه إبليس بقوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) وهنا وقف ، ولا تقرأ ما بعدها ، فقال له : (جَهَنَّمَ مِنْكَ) وهو قوله : (خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) فمن دخل بيته وجاء إلى داره واجتمع بأهله ما هو مثل الغريب الوارد عليه ، فهو راجع إلى ما به افتخر ، قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) فسروره رجوعه إلى أصله ، وأنتم يا مناحيس تتفخر بالنار طينتكم ، فلا تسمعوا من إبليس ، ولا تطيعوا واهربوا إلى محل النور تسعدوا ، يا مساكين أنتم عمي ما تبصرون الذي أبصره أنا.

(الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) (٨)

قال تعالى موعدا ومبينا (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) الآية ـ الحد الضابط للإحسان في العمل أن تعبد الله كأنك تراه ، وما عدا هذا فهو سوء عمل فيراه حسنا ، إما ببذل الوسع في الاجتهاد فيكون وفّى الأمر حقه ولكنه أخطأ ، وهو صاحب عمل ، فيكون رؤية سوء العمل حسنا بعد الاجتهاد ، وإما أن يكون في المشيئة فلا يدري بما يختم له ، إذا لم يكن عن استيفاء الاجتهاد بقدر الوسع ورآه حسنا عن غير اجتهاد ، وهذه الآية موطن حيرة ، فقد قال تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) ببنية ما لم يسم فاعله ، فلا يدري من زيّنه؟ هل هو تزيين الله؟ أو تزيين الشيطان؟ أو تزيين الحياة الدنيا؟ ولكن من قوله تعالى : (سُوءُ عَمَلِهِ) عرفت من زينه وإن لم يذكره ، ومع هذا فالاحتمال لا يرتفع عنه تعالى ، فإن الله يقول في مثل هذا (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ) فجاء بنون الكناية

٤٤١

عن نفسه ، ولذا قال تعالى : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) أي يحيره في مثل هذا ، حيث وصفه بالسيّىء والحسن ، فإن سوء العمل ما كان يتصف بالحسن بالرؤية حتى قبل العمل صفة الحسن في وجه من الوجوه الوجودية ، فهو سوء بالخبر حسن بالرؤية ، فكأن الرؤية لا تصدق الخبر ، وشاهد الرؤية أقطع ، والناس يطلبون أن يصدّق الخبر الخبر والخبر الرؤية ، ولم نر أحدا يطلب أن يصدق الخبر الرؤية كما يصدق الخبر الخبر ، وهنا كان موطن الحيرة ، فإنه من المكر الإلهي الذي يعطي الحسن في السوء ، فقال تعالى : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) أي يوفق للإصابة في معنى السوء والحسن لهذا العمل ما معناه ، وكيف ينبغي أن يأخذه ، فإذا جاءت الزينة مهملة غير منسوبة فإنك لا تدري من زينها لك ، فانظر ذلك في موضع آخر واتخذه دليلا على ما انبهم عليك ، مثل قوله : (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) ومثل قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) ولم يذكر من زينه ، فتستدل على من زينه من نفس العمل ، فزينة الله غير محرمة ، وزينة الشيطان محرمة ، وزينة الدنيا ذات وجهين : وجه إلى الإباحة والندب ووجه إلى التحريم ، فمن أراد أن يعتصم من التزيين فليقف عند ظاهر الكتاب والسنة ، لا يزيد على الظاهر شيئا ، فإن التأويل قد يكون من التزيين ، فما أعطاه الظاهر جرى عليه ، وما تشابه وكل علمه إلى الله وآمن به ، فهذا متبع ليس للتزيين عليه سبيل ، ولا يقوم عليه حجة عند الله (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) فهو الذي يرزق الإصابة في النظر والذي يرزق الخطأ (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي فلا تكترث لهم حسرة عليهم ، فهي بشرى من الله بسعادة الجميع ، فإنه ما حيل بينه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين إنسانيته ، فهو إنسان في كل حال ، ولا تزول الحسرات عنه ـ وهو إنسان كامل ـ إلا باطلاعه على سعادتهم في المآل ، فلا يبالي من العوارض ، فإن السوء للعمل عارض بلا شك والحسن له ذاتي ، وكل عارض زائل وكل ذاتي باق لا يبرح (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) أي خبير عن ابتلاء (بِما يَصْنَعُونَ) من كل ما يظهر فيكم من الأعمال وعنكم ، وفي هذه الآية لطيفة وسر خفي من لطف الله ، يلقن الله فيها عبده المؤمن الحجة إذا كان فطنا ، فإن المحب ما أحب إلا ما هو جمال عنده ، لا بد من حكم ذلك ، ففي هذه الآية ما رأى العبد سوء عمله حسنا ، وإنما رأى الزينة التي زين له بها ، فإذا كان يوم القيامة ورأى قبح العمل فر منه ، فيقال له : هذا الذي كنت تحبه وتتعشق به وتهواه ، فيقول المؤمن : لم يكن حين أحببته بهذه الصورة ولا بهذه الحلية ، أين

٤٤٢

الزينة التي كانت عليه وحببته إليّ؟ ترد عليه ، فإني ما تعلقت إلا بالزينة لا به ، لكن لما كان محلها كان حبي له بحكم التبع ، فيقول الله : صدق عبدي لو لا الزينة ما استحسنه ، فردوا عليه زينته ، فيبدل الله سوءه حسنا ، فيرجع حبه فيه إليه ويتعلق به (أولئك الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات) فلا ينبغي للمؤمن الكيس أن يهمل شيئا من كلام الله ولا كلام المبلغ عن الله ، فإن الله تعالى يقول فيه (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) فإن كلام المبلغ عن الله ما جاء به إلا رحمة بالسامع ، وهو إن كان فطنا كان له ، وإن كان حمارا كان عليه ـ نصيحة ـ إن الإنسان إذا كان في شيء لم ير حقيقته ومعناه ، وإذا صار عنه أجنبيا رآه ، والنفس إذا التبست بشهوتها وغرضها ، وتعشقت بعلّتها ومرضها ، لا ترى سوى ما هي فيه ، ولهذا تصطنعه وتصطفيه ، فانظر إلى ما يستقبحه الشرع فاجتنبه ، وإلى ما يستحسنه فبادر إليه وامتثله ، ولا يغرنك غدّار ، مدخول النصيحة غرار ، فعليك باتباع العلم ، والاستسلام للشيخ فيما وجّه عليك من الحكم ، وطهارة النفس ، ومحاسن الأخلاق ، وجميل الوفاق

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١٠)

(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) ـ الوجه الأول ـ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وهو عين شكل الكلمة من حيث ما هو شكل مسبح لله تعالى ، ولو كانت كلمة كفر ، فإن ذلك يعود وباله على المتكلم بها لا عليها ، فإن الحروف اللفظية تتشكل في الهواء ، فإذا تشكلت قامت بها أرواحها ، فيكون شغلها تسبيح ربها ، وتصعد علوا إليه ، فقوله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) أي الأرواح الطيبة فإنها كلمات الله مطهرة ، هذا كلام الله سبحانه يعظّم ويمجّد ويقدّس ـ المكتوب في المصاحف ـ ويقرأ على جهة

٤٤٣

القربة إلى الله ، وفيه جميع ما قالت اليهود والنصارى في حق الله من الكفر والسب ، وهي كلمات كفر عاد وبالها على قائلها ، وبقيت الكلمات على بابها تتولى يوم القيامة عذاب أصحابها أو نعيمهم ـ الوجه الثاني ـ إن الكلمة إذا خرجت تجسدت في صورة ما هي عليه من طيب وخبث ، فالخبيث يبقى فيما تجسد فيه ما له من صعود ، والطيب من الكلم إذا ظهرت صورته وتشكلت ، فإن كانت الكلمة الطيبة تقتضي عملا وعمل صاحبها بذلك العمل ، أنشأ الله من عمله براقا ـ أي مركوبا ـ لهذه الكلمة ، فيصعد به هذا العمل إلى الله صعود رفعة يتميز بها عن الكلم الخبيث ، فقوله تعالى : (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي الأعمال تظهر في صورة مراكب للأرواح الطيبة ، فهو براق الكلم الطيب الذي يسري به إليه تعالى وينزل به عليه ، فإن كانت الأعمال صالحة صعدت ورفعت الروح الطيبة إلى درجاتها حيث كانت من عليين ـ إشارة ـ ما ثمّ إلا عبد ورب ، فإليه تصعد وإليك ينزل كما قال : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وقال : [ينزل ربنا إلى السماء الدنيا].

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (١٢)

راجع سورة الفرقان آية رقم ٥٣ (عَذْبٌ فُراتٌ) عذب من اللذة ، فهو صفة الماء (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) اعلم أن الله عزوجل ما جعل التكوينات التي هي دواب البحر في البحر الملح إلا في العذب منه خاصة ، فلو لا وجود الهواء فيه والماء العذب ما تكون فيه حيوان (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يكون الجوهر في الصدف عن ماء فرات في ملح أجاج ، فصدفته جسمه وملحه طبيعته ، ولهذا ظهر حكم الطبيعة في صدفته فإن الملحة

٤٤٤

البياض ، وهو بمنزلة النور الذي يكشف به.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) (١٣)

بالفلك المدار ظهرت الدهور والأعصار ، وبالشمس ظهر الليل والنهار ، من خفايا الأمور المد والجزر في الأنهار والبحور ، أمن القمر مدّه وجزره؟ أم من غير ذلك فكيف أمره؟ هو عبد مأمور مثل سائر الأمور ، مدّه ماد الظل ، ونزّله منزل الوبل والطل ، لا شك أن الأمور معلولة ، والكيفية من الله مجهولة ، والنفوس على طلب العلم به مجبولة.

(إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (١٥)

لما سبق في علمه تعالى أنه يخلق قوما ويخلق فيهم السؤال إلى الأغيار ، ويحجبهم عن العلم به أنه هو المسؤول في كل عين مسؤولة يفتقر إليها ، من جماد ونبات وحيوان وملك وغير ذلك ، أخبر أن الناس فقراء إلى الله ، أي هو المسؤول على الحقيقة ، فإنه بيده ملكوت كل شيء ، فالفقر إلى الله هو الأصل فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) فنحن فقراء إلى أسمائه ، ولذلك أتى بالاسم الجامع للأسماء الإلهية ، والافتقار في كل ما سوى الله أمر ذاتي لا يمكن الانفكاك عنه ، ولذلك كان الافتقار إلى الله حالا وعقدا دون غيره سبحانه ، ففي هذا الخطاب تسمية الله بكل اسم هو لمن يفتقر إليه فيما يفتقر إليه ، وهو من باب الغيرة الإلهية حتى لا يفتقر إلى غيره ، والشرف فيه إلى العالم بذلك ، فإن من الناس من افتقر إلى الأسباب الموضوعة كلها ، وقد حجبتهم في العامة عن الله ، وهم على الحقيقة ما افتقروا في نفس الأمر إلّا إلى من بيده قضاء حوائجهم وهو الله ، ولهذا قال بعض العلماء بأن الله

٤٤٥

قد تسمى بكل ما يفتقر إليه في الحقيقة ، ودليلهم هذه الآية ، وهي تنبيه من الله إلى الناس لعلمه بفقرهم إليه ، فإن أحدا ما افتقر إلا إلى الله ، فمن فتح الله عين فهمه في القرآن وعلم أنه الصدق والحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، علم أن الأسباب التي يفتقر إليها الإنسان إنما هي صور تجل حجبت الخلائق عن الله تعالى ، وقد تسمى الله في هذه الآية بكل ما يفتقر إليه ، فكل ما يفتقر إليه فهو اسم الله تعالى ، إذ لا فقر إلا إليه ، وإن لم يطلق عليه لفظ من ذلك فنحن إنما نعتبر المعاني التي تفيد العلوم ، وأما التحجير في الإطلاق عليه سبحانه فذلك إلى الله ، فما اقتصر عليه من الألفاظ في الإطلاق اقتصرنا عليه ، فإنا لا نسميه إلا بما سمى به نفسه ، وما منع من ذلك منعناه أدبا مع الله ، فالحق تعالى يقبل صفات الخلق لا أسماءه بالتفصيل ، ولكن يقبلها بالإجمال ، وكونه لا يقبل أسماء العالم بالتفصيل ، أعني بذلك أسماء الأعلام ، وما عدا الأسماء الأعلام فيقبلها الحق على التفصيل ، فإن الحق ما له اسم علم لا يدل على معنى سوى ذاته ، فكل أسمائه مشتقة تنزلت له منزلة الأعلام ، وتدل هذه الآية على سر الاقتدار الإلهي في كل شيء ، فلا شيء ينفع إلا به ، ولا يضر إلا به ، ولا ينطق إلا به ، ولا يتحرك إلا به ، وحجب العالم بالصور فنسبوا كل ذلك إلى أنفسهم وإلى الأشياء ، وكلام الله حق وهو خبر ، ومثل هذه الأخبار لا يدخلها النسخ ، فلا فقر إلا إلى الله ، فإن في فطرة كل إنسان افتقارا لموجود يستند إليه وهو الله ، فيقول الحق للناس : ذلك الافتقار الذي تجدونه في أنفسكم متعلقه الله لا غيره ، وفي هذه الآية تسمى الحق لنا باسم كل ما يفتقر إليه غيرة منه أن يفتقر إلى غيره ، وكان في هذا الخطاب هجاء للناس ، حيث لم يعرفوا ذلك إلا بعد التعريف الإلهي في الخطاب الشرعي على ألسنة الرسل عليهم‌السلام ، ومع هذا أنكر ذلك خلق كثير ، وخصوه بأمور معينة يفتقر إليه فيها ، لا في كل الأمور من اللوازم التابعة للوجود ، التي تعرض مع الآنات للخلق ، وكان ينبغي لنا لو كنا متحققين بفهم هذه الآية أن نبكي بدل الدموع دما ، حيث جهلنا هذا الأمر من نفوسنا إلى أن وقع به التعريف الإلهي ، فكيف حال من أنكره وتأوله وخصصه؟ فإن الإنسان وإن كان في نفس الأمر عبدا ، ويجد في نفسه ما هو عليه من العجز والضعف ، والافتقار إلى أدنى الأشياء ، والتألم من قرصة البرغوث ، ويعرف هذا كله من نفسه ذوقا ، ومع هذا فإنه يظهر بالرياسة والتقدم ، وكلما تمكن من التأثير في غيره فإنه يؤثر ، ويجد

٤٤٦

في نفسه طلب ذلك كله وحبه ذلك ، لأنه خلقه الله على صورته ، وله تعالى العزة والكبرياء والعظمة ، فسرت هذه الأحكام في العبد ، فإنها أحكام تتبع الصورة التي خلق عليها الإنسان وتستلزمها ، فرجال الله هم الذين لم يصرفهم خلقهم على الصورة عن الفقر والذلة والعبودية ، وإذا وجدوا هذا الأمر الذي اقتضاه خلقهم على الصورة ولا بد ، ظهروا به في المواطن التي عيّن لهم الحق أن يظهروا بذلك فيها ، فإن المقرّب لا يبقي له القرب والجلوس مع الحق والتحدث معه اسما إلهيا من الأسماء المؤثرة في العالم ولا من أسماء التنزيه ، وإنما يدخل عليه بالذلة لشهود عزّه ، وبالفقر لشهود غناه ، وبالتهيؤ لنفوذ قدرته (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) ـ الوجه الأول ـ هو الغني عنكم ، فالغنى لله ، وهو المثنّي عليه بهذه الصفة ، فكان الاسم الغني لله ، والإنسان فقير ، وفقره لا يكون إلا إلى الله الغني ـ الوجه الثاني ـ (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) اعلم أن الله تعالى لا يعلم بالدليل أبدا ، لكن يعلم أنه موجود ، وأن العالم مفتقر إليه افتقارا ذاتيا لا محيص عنه البتة ، إذ لا مناسبة بين الله تعالى وبين خلقه من جهة المناسبة التي بين الأشياء ، وهي مناسبة الجنس أو النوع أو الشخص ، فليس لنا علم متقدم بشيء فندرك به ذات الحق لما بينهما من المناسبة ، فليس بين الباري والعالم مناسبة فيعلم بعلم سابق بغيره أبدا ، كما يزعم بعضهم من استدلال الشاهد على الغائب بالعلم والإرادة والكلام وغير ذلك ، ثم يقدسه بعد ما قد حمله على نفسه وقاسه بها (الْحَمِيدُ) يعني بأسمائه ، وجاء بالحميد على وزن فعيل ، فعمّ اسم الفاعل بالدلالة الوضعية واسم المفعول ، فهو الحامد المحمود ، وإليه ترجع عواقب الثناء كلها ، وما يثنى عليه إلا بنا من حيث وجودنا ، فهو المثنى عليه بكل ما يفتقر إليه ، فمن كونه محمودا وهو قول : [الحمد لله] لا لغيره ، فإنه ما في العالم لفظ لا يدل على ثناء البتة ، أعني ثناء جميلا ، وأن مرجعه إلى الله ، فإنه لا يخلو أن يثني المثني على الله أو على غير الله ، فإذا حمد الله فحمد من هو أهل الحمد ، وإذا حمد غير الله فما يحمده إلا بما يكون فيه من نعوت المحامد ، وتلك النعوت مما منحه الله إياها وأوجده عليها ، إما في جبلته أو في تخلقه فتكون مكتسبة له ، وعلى كل وجه فهي من الله ، فكان الحق معدن كل خير وجميل ، فرجع عاقبة الثناء على المخلوق بتلك المحامد على من أوجدها وهو الله ، فلا محمود إلا الله ، وما من لفظ يكون له وجه إلى مذموم إلا وفيه وجه إلى محمود ، فهو من حيث أنه محمود يرجع إلى الله ، ومن حيث ما هو مذموم لا حكم له ، لأن مستند

٤٤٧

الذم عدم ، فلا يجد متعلقا ، فيذهب ويبقى الحمد لمن هو له ، فلا يبقى لهذا اللفظ المعيّن إلا وجه الحمد عند الكشف ، ويذهب عنه وجه الذم ، أي ينكشف له أن لا وجه للذم ، فعادت عواقب الثناء إلى الله عزوجل ، وأما من كونه حامدا فمن حيث أنه حمد نفسه بنفسه ، فالله هو الغني الذي لا يفتقر ، الحميد الذي ترجع إليه عواقب الثناء من الحامد والمحمود. ومبدأ الحمد غنى الحق عن العالمين ، وقدّم الفقر على الغنى في اللفظ ، لأن مبدأ الحمد من الخلق هو الافتقار إلى الحق تعالى ، وغنى الحق مقدّم في المعنى على فقر الخلق إليه ، فإن الغنى عن الخلق لله أزلا ، والفقر للممكن في حال عدمه إلى الله من حيث غناه أزلا ، واعلم أن الحمد لله تملأ الميزان ، لأنه كل ما في الميزان فهو ثناء على الله وحمد لله ، فما ملأ الميزان إلا الحمد ، فالتسبيح حمد وكذلك التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم والتوقير والتعزيز ، وأمثال ذلك كله حمد ، فالحمد لله هو العام الذي لا أعم منه ، وكل ذكر فهو جزء منه ، والحمد على ثلاثة أنحاء في التمام والكمال ، وأتمها واحد منها ، وذلك حمد الحامد نفسه يتطرق إليه الاحتمال ، فلا يكون له ذلك الكمال ، فيحتاج إلى قرينة حال وعلم يصدق الحامد فيما حمد به نفسه ، فإنه قد يصف واصف نفسه بما ليس هو عليه ، وكذلك حكمه إذا حمده غيره يتطرق أيضا إليه الاحتمال ، حتى يستكشف عن ذلك ، فينقص عن درجة الإبانة والتحقيق ، والحمد الثالث حمد الحمد ، وما في المحامد أصدق منه ، فإنه عين قيام الصفة به ، فلا محمود إلا من حمده الحمد ، لا من حمد نفسه ولا من حمده غيره ، فإذا كان عين الصفة عين الموصوف عين الواصف كان الحمد عين الحامد والمحمود ، وليس إلا الله ، فهو عين حمده سواء أضيف ذلك الحمد إليه أو إلى غيره ـ بحث في الغنى بالله ـ يرى البعض أن الغنى بالله تعالى من أعظم المراتب ، وحجبهم ذلك عن التحقيق بالتنبيه على الفقر إلى الله الذي هو صفتهم الحقيقية ، فجعلوها في الغنى بالله بحكم التضمين ، لمحبتهم في الغنى الذي هو خروج عن صفتهم ، والرجل إنما هو من عرف قدره ، وتحقق بصفته ولم يخرج عن موطنه ، وأبقى على نفسه خلعة ربه ولقبه واسمه الذي لقبه به وسماه ، فقال : (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) وكان غاية الغنى في العبد أن يستغني بالله عما سواه ، وليس ذلك عندنا مقاما محمودا ، فإن في ذلك قدرا لما سوى الحق ، وتميزا عن نفسه ، فلرعونة النفس وجهالتها أرادت أن تشارك ربها في اسم الغني ، فرأت أن تتسمى بالغني بالله ، وتتصف

٤٤٨

به حتى ينطلق عليها اسم الغني ، وتخرج عن اسم الفقير ، وهذا من غوائل النفوس المبطونة فيها ، وصاحب مقام العبودة يسري ذوقه في كل ما سوى الله أنه عبد كهو لا فرق ، ويرى أن كل ما سوى الله محل جريان تعريفات الحق له ، فيفتقر إلى كل شيء فإنه ما يفتقر إلا إلى الله ، ولا يرى أن شيئا يفتقر إليه في نفسه ، وإن أفاد الله الناس على يديه فهو عن ذلك في نفسه بمعزل ، ويرى أن كل اسم تسمى به شيء مما يعطيه فائدة أن ذلك اسم الله ، غير أنه لا يطلقه عليه حكما شرعيا وأدبا إلهيا ، فما خلق الله العالم على قدم واحدة إلا في شيء واحد وهو الافتقار ، فالفقر له ذاتي والغنى له أمر عرضي ، فالعبد له الفقر المطلق إلى سيده ، والحق له الغنى المطلق عن العالم ، فالعالم المحقق لا يزال الأمر الذاتي من كل شيء ومن نفسه مشهودا له دائما دنيا وآخرة ، فلا يزال عبدا فقيرا تحت أمر سيده ، لا يستغني عن ربه ، فإن الحقيقة تأبى أن يفتقر إلى غير الله ، وقد أخبر الله أن الناس فقراء إلى الله على الإطلاق ، والفقر حاصل منهم ، فعلمنا أن الحق قد ظهر في صورة كل ما يفتقر إليه فيه ، والفقير من يتناول الأسباب على أوضاعها الحكمية لا يخل بشيء منها ، وهو الذي يفتقر إلى كل شيء وإلى نفسه ولا يفتقر إليه شيء ، وهو العبد المحض عند المحققين فإن الله يقول من باب الغيرة الإلهية (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وما خص مؤمنا ولا غيره (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) فكنّى عن نفسه في هذه الآية بكل ما يفتقر إليه ، أي فما افتقرتم إليه من الأشياء هو لنا وبأيدينا ، وما هو لنا لا يطلب إلا منا ، فإلينا الإفتقار لا إليه ، إذ هو غير مستقل إلا بنا ، فما افتقر فقير إلا إلى الله ، عرف ذلك الشخص أو لم يعرفه ، وهذا الفقير المتحقق بفقره إلى الله لا تظهر عليه صفة غنى بالله ولا بغير الله ، فيفتقر إليه من ذلك الوجه فصح له مطلق الفقر ، فإن الذلة والافتقار لا تكون من الكون إلا لله تعالى ، فكل من تذلل وافتقر إلى غير الله تعالى واعتمد عليه وسكن في كل أمره إليه فهو عابد وثن ، والمفتقر إليه يسمى وثنا ، ويسميه المفتقر إلها (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي المثنى عليه بصفة الغني عن العالم.

خزائن الجود ما انسدت مغالقها

لو انتهت لانته في العالم الفقر

وفقره دائم لا ينتهي أبدا

كذاك نائله لا ينقضي عمر

الفقر بالذات ذاتي لصاحبه

ولو يدوم له من ربه اليسر

ما قلت إلا الذي قال الإله لنا

فينا ففي كل يسر مدرج عسر

٤٤٩

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) (١٦)

(إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) إعدام الموجود (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) إيجاد المعدوم ، فإن له الاقتدار والاقتدار لا يكون عنه إلا الوجود ، فأبى الاقتدار إلا الوجود ، وعلق الإرادة بالإعدام ، والله تعالى لا يعدم الأشياء القائمة بأنفسها بعد وجودها ، ولا يتصف بإعدام أحوالها ولا أعراضها بعد وجودها ، وإنما الأشياء تكون على أحوال ، فتزول تلك الأحوال عنها فيخلع الله عليها أحوالا غيرها ، أمثالا كانت أو أضدادا ، مع جواز إعدام الأشياء بمسكه الإمداد بما به بقاء أعيانها ، لكن قضى القضية أن لا يكون الأمر إلا هكذا ، ولذلك قال : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) ولكن ما فعل.

(وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٧) بممتنع.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (١٨)

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) في الآخرة لأنها دار تمييز ، فلا تصيب العقوبة إلا أهلها.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) (١٩)

أي لا يستوي الأعمى وهو الذي لا يفهم فيعلم ، ولا البصير الذي يفهم فيعلم.

(وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ) (٢٠)

ولا ظلمات الضلال ولا نور الهدى ، ولا ظلمات الشرك ولا نور التوحيد ، ولا ظلمات الشقاء والتعب ولا نور السعادة والراحة ، ولا ظلمات الجهل ولا نور العلم ، ولا ظلمات

٤٥٠

المخالفة ولا نور الموافقة.

(وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٢٤)

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) كل أمة على حسب ما تعطيه حقيقتها وتقبل رقيقتها ، فإن الله تعالى يقول : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) فألحق البهائم بالأمم وحكم بذلك وعمّ ، وكل أمة في أفقها ناطقة وفي أوجها عاشقة ، فليس في الوجود جماد ولا حيوان إلا ناطق بلسان ، لسان ذات لا لسان حال ، والقائل بخلاف هذا قائل محال ، وفي كل أمة من الأمم نذير من جنسها على حسب نفسها ، فعمت الشرائع جميع الخلائق ، فنكّر الأمة ونكّر النذير ، والنذير قد يكون لكل واحد منهم نذير في ذاته ، وقد يكون للنوع من جنسه ، لا بد من ذلك ، من حيث لا يعلمه ولا يشهده إلا من أشهده الله ، وهذه الآية ليست بنص في الرسالة إنما هي نص أن في كل أمة عالما بالله وبأمور الآخرة ، وذلك هو النبي لا الرسول ، ولو كان الرسول لقال : إليها ، ولم يقل : فيها ، ونحن نقول : إنه كان فيما قبل نوح عليه‌السلام ـ وهو أول رسول ـ أنبياء عالمون بالله ، ومن شاء وافقهم ودخل معهم في دينهم وتحت حكم شريعتهم كان ، ومن لم يشأ لم يكلف ذلك ، وكان إدريس عليه‌السلام منهم ، وما من شيء في الوجود إلا وهو أمة من الأمم ، فإنه تعالى ما يعذب ابتداء ولكن يعذب جزاء ، فإن الرحمة لا تقتضي في العذاب إلا الجزاء للتطهير ، ولو لا التطهير ما وقع العذاب ، وقد [قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الكلاب : إنها أمة من الأمم] فعمت الرسالة الإلهية جميع الأمم ، صغيرهم وكبيرهم ، فما من أمة إلا وهي تحت خطاب إلهي على لسان نذير بعث إليها منها وفيها ، فإن كل جنس من خلق الله أمة من الأمم ، فطرهم الله على عبادة تخصهم أوحى بها إليهم في نفوسهم ، فرسولهم من ذواتهم ، إعلام من الله بإلهام خاص جبلهم عليه ، كعلم بعض الحيوانات بأشياء يقصر عن إدراكها المهندس النحرير ، وعلمهم على الإطلاق بمنافعهم فيما يتناولونه من الحشائش والمآكل وتجنب ما يضرهم من ذلك ، كل ذلك

٤٥١

في فطرتهم ، أما قوله تعالى : (نَذِيرٌ) أي يقوم بسياستها لبقاء المصلحة في حقها ، سواء كان ذلك الشرع إلهيا أو سياسيا ، على كل حال تقع المصلحة به ، في القرن الذي يظهر فيه ، وذلك بالنسبة للبشر ، فهو إما نذير بأمر الله وإرادته ، أو نذير بإرادة الله لا بوحي نزل عليه يعلم به أنه من عند الله ، فما من طائفة إلا وهي تحت ناموس شرعي حكمي أو وضع حكمي ، فلا تخلو أمة من مخالفة تقع منها لناموسها كان ما كان ، فقد عمت النواميس جميع الأمم.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) (٢٥)

ولما أراد الله إصلاح خلقه

وكان بهم داء الطمأنينة اصطفى

إماما كريما منهم متطلعا

لأسرار أرواح العلا متشوفا

فأنزله فيهم طبيبا محكما

أمينا عليما بالسقام وبالشفا

وجاء بآيات تؤيد صدقه

تراها برأي العين إن كنت منصفا

فأنقذنا من لفح نار تسعرت

وكنا لعمر الله منها على شفا

وأظهر أسرارا وأبدى سبيلها

لتحصيلها من بعد ما كان قد عفا

سبب وضع الشريعة في العالم أمران فيهما سران : الأمر الواحد صلاح العالم ، وهو منهج الأنبياء ، ويؤيده قوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) ، وسره أن نصر المؤمنين حق عليه ، والأمر الآخر ، إثبات ذل العبودية ، وظهور عز الربوبية ، وسره حكم سلطان اسميه (المعز المذل) ، فتنبه لما رمزناه ، وفك المعمّى الذي لغزناه ، الطمأنينة بما لا حقيقة له توجب التكليف ، وما ثمّ شيء إلا وله حقيقة فقد لزمك الوقوف ، ما من أمة إلا قد اطمأنت ، فلما جاءتها الرسالة أنّت لعبئها ثم حنّت ، لو لا الوعيد والوعد ، ما سعي في الوفاء بالعهد ، فالحقائق لها رقائق ، غاب عنها أهل العلائق والعوائق ، والحال علاقة المريد ، وحب الكشف نهاية من لم يذق لذة المزيد ، وكل من شاهد أمرا ليس ذلك المشهود عليه ، فذلك

٤٥٢

الأمر فيه وراجع إليه ، فليحذر أن يقول : إنه في الكون الخارج لا محالة ، فيثبت عند المحققين محاله ، ومن لم يفرق بين نفسه وغيره ، فلا يميز بين شره وخيره ، فهذا سبب وضع الشرع ، الموافق للعقل والطبع.

(ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ) (٢٧)

إن الزرقة التي ننسبها إلى السماء ونصفها بها فتلك اللونية لجرم السماء لبعدها عنك في الإدراك البصري ، كما ترى الجبال إذا بعدت عنك زرقا ، وليس الزرقة إلا لبعدها عن نظر العين ، كما ترى الجبل البعيد عن نظرك أسود ، فإذا جئته قد لا يكون كما أبصرته ، فإن الألوان على قسمين : لون يقوم بجسم المتلون ، ولون يحدث للبصر عند نظره إلى الجسم لأمر عارض يقوم بين الرائي والمرئي ، مثل هذا ومثل الألوان التي تحدث في المتلون باللون الحقيقي ، لهيئات تطرأ فيراها الناظر على غير لونها القائم بها الذي يعرفه.

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨)

الخشية من خصائص العلماء بالله المرضي عنهم المطلوب منهم الرضى ، قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) فالخشية من صفات العلم الذي يعطي الخشية اللازمة له ، وعلى قدر العلم بها تكون الخشية المنسوبة إلى العالم ، فالعلم يورث الخشية والخشية تعطي الخشوع ، وهذه صفة العلماء العارفين بالله ، لعلمهم بأنه يعلم حركاتهم وسكناتهم على التعيين والتفصيل ، وكل عالم عندنا لم تظهر عليه ثمرة علمه ولا حكم عليه علمه فليس بعالم ، وإنما هو ناقل ، وأتمم الله هذه الآية بقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) وعزته

٤٥٣

امتناعه ، فهو الذي يخاف ويرجى ويسأل ويجيب إن شاء وإن شاء ، فهو عزيز عن أن يتصف بالخوف والرجاء وعن مثل هذا ، وهو أيضا عزيز أي يمتنع أن يؤثر فيه أمر يحول بينه وبين عموم مغفرته على عباده ، ولذلك قال (غَفُورٌ) بما ستر ، وجاء ببنية المبالغة في الغفران بعمومها ، فهي رجاء مطلق للعصاة على طبقاتهم ، فإنه لما كانت علوم الله وأسراره الراجعة إليه تعالى وإلى أسمائه وإلى العالم قد سترها عن الخلق كلهم بالمجموع ، فلا يعلم المجموع ولا واحد من الخلق ، لكن له العلم بالآحاد ، فعند واحد ما ليس عند الآخر ، فهو بالمجموع حاصل لا حاصل ، فهو حاصل عند المجموع غير حاصل عند واحد ، فعند واحد من العلم بالله ما ليس عند الآخر ، فلذلك قال : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) (٢٩)

(وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) خرج مسلم عن جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة ، مجتابي النمار متقلدين السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتمعر وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن ، وأقام فصلى بهم ثم خطب فقال : [يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره ، حتى قال : ولو بشق تمرة ، قال : فجاء رجل بصرة من الأنصار تكاد كفه تعجز عنها ، بل عجزت ، قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتهلل كأنه مذهبة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أجورهم شيئا ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينتقص من أوزارهم شيئا] وإخفاء الصدقة شرط في نيل

٤٥٤

المقام العالي ، ومنها أن تخفي كونها صدقة فلا يعلم المتصدق عليه أنه بين يدي المتصدق ، خرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في (طاعة) عبادة الله ، ورجل قلبه متعلق بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه] والكامل من الناس يعلن في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق رجح فيه الإعلان ، ويسر بها في وقت في الموضع الذي يرى أن الحق يرجح فيه الإسرار.

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٣٠)

نسبة الشكر إليه تعالى ببنية المبالغة في حق من أعطاه من العمل ما تعين على جميع أعضائه وقواه الظاهرة والباطنة ، في كل حال بما يليق به ، وفي كل زمان بما يليق به ، فيشكره الحق على كل ذلك بالاسم الشكور.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (٣٢)

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) هو القرآن المحفوظ من التحريف والزيادة (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) المصطفى من عباد الله لا يتقدم له نظر عقلي في العلم بالله ، فإنه ما تقدم لنبي قط قبل نبوته نظر عقلي في العلم بالله ، ولا ينبغي له ذلك ، وكذلك كل ولي مصطفى ، وسبب ذلك أن النظر يقيده في الله بأمر ما يميزه به عن سائر الأمور ، ولا يقدر على نسبة عموم

٤٥٥

الوجود لله ، فما عنده سوى تنزيه مجرد ، فإذا عقد عليه ، فكل ما أتاه من ربه فخالف عقده ، فإنه يرده ويقدح في الدلالة التي تعضد ما جاءه من عند ربه ، فمن اعتنى الله به عصمه قبل اصطفائه من علوم النظر ، واصطنعه لنفسه وحال بينه وبين طلب العلوم النظرية ، ورزقه الإيمان بالله وبما جاء من عند الله على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، هذا في هذه الأمة التي عمت دعوة رسولها ، وإن سعد صاحب النظر العقلي فإنه لا يكون أبدا في مرتبة الساذج الذي لم يكن عنده علم بالله إلا من حيث إيمانه وتقواه ، وهذا هو وارث الأنبياء في هذه الصفة ، فهو معهم وفي درجتهم هذه ، فالمصطفى هو الولي ، ثم قال في المصطفين : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) ومن ظلم لنفسه حمل الأمانة (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) وهو آدم ومن كان بهذه المثابة. واعلم أن للنفس حقا فإذا جني عليها وعفوت فأنت الظالم المصطفى ، وهو الأول من الثلاثة ، لم يأخذ لها حقها ممن ظلمها ، وعاد أجرها على الله ، ومنهم ظالم لنفسه ، وهو أن يمنعها حقها من أجلها ، أي الحق الذي لك يا نفسي عليّ في الدنيا نؤخره لك إلى الآخرة ، وبادر هنا إلى الكد والاجتهاد وأخذ بالعزائم ، واجتنب الميل إلى الرخص ، وهذا كله حق لها ، فهو ظالم لنفسه نفسه من أجل نفسه ، ولهذا قال فيمن اصطفاهم (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أي من أجل نفسه ليسعدها ، فما ظلمها إلا لها ، فمن ورثة الكتاب الظالم لنفسه بما يجهدها عليه ، فهو يظلم نفسه فيما لها من الحق لنفسه ، فهو في الوقت صاحب عذاب وألم لا يريد دفعه عنه ، لأنه استعذبه وهان عليه حمله في جنب ما يطلبه ، فإنه يطلب سعادته ، وهو ظالم لنفسه أي من أجل نفسه بأنه لا يوفيها حقها ، لنزوله في العلم عن رتبة من يعلم أن حقائقه التي هو عليها لا تتداخل ، ولا تتعدى كل حقيقة مرتبتها ، ولا تقبل إلا ما يليق بها ، فإن الإنسان مجموع أمور أنشأه الله عليها ، طبيعية وروحانية وإلهية ، فلا تقبل العين إلا السهر والنوم وما يختص بها ، ولا تقبل من الثواب إلا المشاهدة والرؤية ، والأذن لا تقبل في الثواب إلا الخطاب ، إذ ليس الشهود للسمع ، والكامل يسعى لقواه على قدر ما تطلبه ، وهو إمام ناصح لرعيته ليس بغاش لها ، فإن ظلمها فإنما يظلمها لها في زعمه ، وذلك لجهله بما علم غيره من ذلك ، كسلمان الفارسي وأخيه في الله أبي الدرداء في حالهما ، فرجح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلمان ، فإنه كان يعطي كل ذي حق حقه ، فيصوم ويفطر ، ويقوم وينام ، وكان أبو الدرداء مع كونه مصطفى ظالما لنفسه ، يصوم فلا يفطر ، ويقوم فلا ينام ، هذا هو

٤٥٦

ظلم المصطفين من عباد الله ، لا ظلم يتعدى الحدود الإلهية ، فإن من يتعدى حدود الله فقد ظلم نفسه ، وأما الظالم لنفسه فلعلمه بقدرها عند الله ، فهو يظلم لها لا يظلمها ، فيعطى كل ذي حق حقه إلا الحق ، فإنه لا يعطيه كل حقه ، بل يعطيه من حقه تعالى ما يسمى به أديبا ، وما لا يسمى به أديبا يظلمه فيه من أجل نفسه ، حتى يلحق برتبة الأنبياء ، فمثل هذا الظلم من الفضل الإلهي على عبده ، فمن كان مشهده هذا سمي ظالما لنفسه مع أنه مصطفى ، وما أوقفه على ذلك إلا علمه بالكتاب ، فهو يحكم به ، (وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) وهو الذي اقتصد في كل موطن على ما يقتضيه حكم الموطن لا بحكم نفسه ، وهم أهل الله السابقون إلى الخيرات على طريق الاقتصاد من إعطاء كل ذي حق حقه ، فمشهد الظالم ما يجب للحق فلا ينسبه إليه ، ومشهد المقتصد المواطن وما تستحق ، فالظالم يدخل في حكم المقتصد ، ولهذا كان المقتصد وسطا ، لأنه على حقيقة ليست للطرفين ، وفيه حكم الطرفين ، ما يحتاج إليه أو يندرج فيه (وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) وأما السابق بالخيرات فهو الذي يتهيأ لحكم المواطن قبل قدومها عليه ، وتجتمع هذه الأحوال في الشخص الواحد ، فيكون ظالما مقتصدا سابقا بالخيرات (بِإِذْنِ اللهِ) أي كل ذلك بأمر الله (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) الضمير من (هُوَ) يعود على السبق الذي يدل عليه اسم الفاعل ، فالمصطفون عند أولي الألباب ، ثلاثة بنص الكتاب ، ظالم لنفسه في أبناء جنسه ، والثاني مقتصد وعليه المعتمد ، فإنه حكيم الوقت بعيد عن المقت ، والثالث سابق بالخيرات إلى الخيرات ، وهو الساعي صاحب السمع الواعي ، وأما المقتصد فما زاد على زاده على قدر اجتهاده ، وأما الظالم فهو المحكوم عليه للحاكم ، فمن ظلم ما حكم ، ومن اقتصد ما اعتضد ، وقنع واكتفى ، ومن سبق حاز الأمر وظفر ، والكتاب قد شمل الجميع ، وإن كان فيهم الأرفع والرفيع ، فالكل وارث فإنه حارث ، وأصحاب السهام متفاضلون ، فمنهم المقلون ومنهم المكثرون ، فما تميز الرجال إلا بالأحوال في الأعمال ، فكن من شئت من هؤلاء ، وهؤلاء الثلاثة هم الورثة الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [العلماء ورثة الأنبياء] والوارث الكامل من ورث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم علما وعملا وحالا ، فقوله تعالى في الوارث المصطفى إنه ظالم لنفسه يريد حال أبي الدرداء وأمثاله من الرجال ، الذين ظلموا أنفسهم لأنفسهم ، أي من أجل أنفسهم حتى يسعدوها في الآخرة ، وذلك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : [إن لنفسك

٤٥٧

عليك حقا ، ولعينك عليك حقا] فإذا صام الإنسان دائما وسهر ليله ولم ينم ، فقد ظلم نفسه في حقها وعينه في حقها ، وذلك الظلم لها من أجلها ، ولهذا قال : (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) فإنه أراد بها العزائم وارتكاب الأشد ، لما عرف منها ومن جنوحها إلى الرخص والبطالة ، وجاءت السّنة بالأمرين لأجل الضعفاء ، فلم يرد الله تعالى بقوله : (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الظلم المذموم في الشرع ، فإن ذلك ليس بمصطفى ، وأما الصنف الثاني من ورثة الكتاب فهو المقتصد ، وهو الذي يعطي نفسه حقها من راحة الدنيا ، ليستعين بذلك على ما يحملها عليه من خدمة ربها ، في قيامه بين الراحة وأعمال البر ، وهو حال بين حالين ، بين العزيمة والرخصة ، ففي قيام الليل يسمى المقتصد متهجدا ، لأنه يقوم وينام ، وعلى مثل هذا تجري أفعاله ، وأما السابق بالخيرات وهو المبادر إلى الأمر قبل دخول وقته ليكون على أهبة واستعداد ، وإذا دخل الوقت كان متهيأ لأداء فرض الوقت ، لا يمنعه من ذلك مانع ، كالمتوضىء قبل دخول الوقت ، والجالس في المسجد قبل دخول وقت الصلاة ، فإذا دخل الوقت كان على طهارة وفي المسجد ، فيسابق إلى أداء فرضه وهي الصلاة ، وكذلك إن كان له مال أخرج زكاته وعيّنها ليلة فراغ الحول ، ودفعها لربها في أول ساعة من الحول الثاني للعامل الذي يكون عليها ، وكذلك في جميع أفعال البر كلها يبادر إليها ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لبلال : [بم سبقتني إلى الجنة؟] فقال : بلال ما أحدثت قط إلا توضأت ، ولا توضأت إلا صليت ركعتين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بهما] فهذا وأمثاله من السابق بالخيرات ، وهو كان حال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين المشركين في شبابه وحداثة سنه ، ولم يكن مكلّفا بشرع ، فانقطع إلى ربه وتحنث وسابق إلى الخيرات ومكارم الأخلاق ، حتى أعطاه الله الرسالة.

القلب بيت وإن العلم يسكنه

بالعلم يحيى فلا تطلب سوى العلم

ما ثم علم يكون الحق يمنحه

إلا الكتاب لمن قد خص بالفهم

فيه فتبدو علوم كلها عجب

لكل قلب سليم حائز الحكم

أو سابق أو إمام ظل مقتصدا

يرجو النجاة فما ينفك عن وهم

إن النجاة لتأتي القوم طائعة

وتأت قوما إذا جاءت على الرغم

 ـ إشارة ـ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [العلماء ورثة الأنبياء] وقال [علماء هذه الأمة أنبياء سائر

٤٥٨

الأمم] : الولي يخرج بصورة النبي ، لا ينسخ شريعة ، ولا يثبت أخرى ، ولا يسأل على تعليمه أجرا ، وإنما صح لنا ورث الكتاب ، لكونه أعطاه لنا من غير اكتساب ، وكل وارث مصطفى ، ومن سواه على شفا ، وإنما ألحق الوارث منا بالنبي السالف ، لأنه للإلقاء النبوي ذائق ولمقامه العلي كاشف ، فهي موهوبة ومكسوبة ، وطالبة ومطلوبة.

(جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) (٣٥)

سميت منزل الكرامة دار المقامة ، لأنها مقيمة على العهد لا تقبل الضد (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) فإن الراحة والرحمة مطلقة في الجنة كلها ، فكل من في الجنة متنعم ، وكل ما فيها نعيم ، فحركتهم ما فيها نصب ، وأعمالهم ما فيها لغوب ، إلا راحة النوم ما عندهم لأنهم ما ينامون.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) (٣٧)

(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) فإنهم في هذه الحال علموا صدق الله في إنفاذ الوعيد فيهم.

(إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٣٨)

٤٥٩

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً) (٣٩)

(هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ) وهي محل الخفض ، إذ الخفض لا يليق بالجناب العالي ، فلهذا أقام له نائبا فيه ليعلم أنه عبد ، فمن الخلافة ثبت أنه عبد فقير ، ما له قوة من استخلفه ، بل الخلافة خلعت عليه ، يزيلها متى شاء ويجعلها على غيره ، ولو استخلف الإنسان في السماء مع وجوده على الصورة لم يشاهد عبوديته في رفعته ، للصورة والمكان والمكانة ، فربما طغى.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤١) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً) (٤٢)

(فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) يعني دعاء الحق على لسان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً).

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ

٤٦٠