قصص الأنبياء

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي

قصص الأنبياء

المؤلف:

أبي الفداء اسماعيل بن عمر ابن كثير الدمشقي


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٣

قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.)

[٢٨ / القصص : ٣٣ ـ ٣٥]

يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وكليمه موسى عليه‌السلام ، في جوابه لربه عزوجل حين أمره بالذهاب إلى عدوه الذي خرج من ديار مصر فرارا من سطوته وظلمه ، حين كان من أمره ما كان في قتل ذلك القبطي ولهذا (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) أي اجعله معي معينا وردءا ووزيرا يساعدني ، ويعينني على أداء رسالتك ليهم فإنه أفصح مني لسانا وأبلغ بيانا.

قال الله تعالى مجيبا له إلى سؤاله : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) أي برهانا (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) أي فلا ينالون منكما مكروها بسبب قيامكما بآياتنا ، وقيل ببركة آياتنا. (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ).

وقال في سورة طه : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) قيل إنه أصابته في لسانه لثغة ، بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه ، والتي كان فرعون أراد اختبار عقله ، حين أخذ بلحيته وهو صغير فهم بقتله ، فخافت عليه آسية وقالت : إنه طفل ، فاختبره بوضع ثمرة وجمرة بين يديه فهم بأخذ التمرة فصرف الملك يده إلى الجمرة ، فأخذها فوضعها على لسانه فأصابته لثغة بسببها. فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله ، ولم يسأل زوالها بالكلية.

قال الحسن البصري : «والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت في لسانه بقية.

ولهذا قال فرعون ، قبحه الله ، فيما زعم أنه يعيب به الكليم : «ولا يكاد يبين» أي يفصح عن مراده ، ويعبر عما في ضميره وفؤاده.

ثم قال موسى عليه‌السلام : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً* وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً* قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى.)

[٢٠ / طه : ٣٢ ـ ٣٦]

أي قد أجبناك إلى جميع ما سألت ، وأعطيناك الذي طلبت. وهذا من وجاهته عند ربه عزوجل ، حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه. وذا جاه عظيم ، قال الله تعالى : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً). وقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا).

وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس وهم سائرون في طريق الحج : أي أخ أمنّ

٢٨١

على أخيه؟ فسكت القوم ، فقالت عائشة لمن حول هودجها : هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه هارون فأوحى إليه. قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا).

* * *

وقال تعالى : (وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ* قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ* وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ* وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ* قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ* فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ* أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ* قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ* وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ.)

[٢٦ / الشعراء : ١٠ ـ ١٩]

تقدير الكلام : فأتياه فقالا له ذلك ، وبلغاه ما أرسلا به من دعوته إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له ، وأن يفك أسارى بني إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته ، ويتركهم يعبدون ربهم حيث شاؤوا ويتفرغون لتوحيده ودعائه والتضرع لديه.

فتكبر فرعون في نفسه وعتا وطغى ، ونظر إلى موسى بعين الازدراء والنقص قائلا له : «ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين؟» أي أما أنت الذي ربيناه في منزلنا؟ وأحسنا إليه وأنعمنا عليه مدة من الدهر؟

وهذا يدل على أن فرعون الذي بعث إليه هو الذي فر منه ، خلافا لما عند أهل الكتاب : من أن فرعون الذي فر منه مات في مدة مقامه بمدين ، وأن الذي بعث إليه فرعون آخر.

وقوله : (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي وقتلت الرجل القبطي ، وفررت منا وجحدت نعمتنا.

(قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) أي قبل أن يوحي إليّ وينزل عليّ ، (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

ثم قال مجيبا لفرعون عما امتن به من التربية والإحسان إليه : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ). أي وهذه النعمة التي ذكرت ؛ من أنك أحسنت إليّ وأنا رجل واحد من بني إسرائيل تقابل ما استخدمت هذا الشعب العظيم بكماله ، واستعبدتهم في أعمالك وخدمتك وأشغالك.

(قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ * قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ* قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ* قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ* قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ).

٢٨٢

يذكر تعالى ما كان بين فرعون وموسى من المقاولة والمحاجة والمناظرة ، وما أقامة الكليم على فرعون اللئيم ؛ من الحجة العقلية المعنوية ثم الحسية.

وذلك أن فرعون ـ قبحه الله ـ أظهر جحد الصانع تبارك وتعالى ، وزعم أنه الإله (فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى). (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي).

وهو في هذه المقالة معاند ، يعلم أنه عبد مربوب ، وأن الله هو الخالق البارىء المصور ، الإله الحق كما قال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

ولهذا قال لموسى عليه‌السلام على سبيل الإنكار لرسالته ، والإظهار أنه ما ثم رب أرسله :

(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) لأنهما قالا له : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) كأنه يقول لهما : ومن رب العالمين؟

الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟

فأجابه موسى قائلا : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) يعني رب العالمين خالق هذه السموات والأرض المشاهدة ، وما بينهما من المخلوقات المتعددة (١) ، من السحاب والرياح والمطر والنبات والحيوانات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها ، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق. وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين.

«قال» أي فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ) من امرائه ومرازبته ووزرائه ، على سبيل التهكم والتنقص لما قرره موسى عليه‌السلام : (أَلا تَسْتَمِعُونَ) يعني كلامه هذا.

«قال» موسى مخاطبا له ولهم : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم ، من الآباء والأجداد ، والقرون السالفة في الآباد ؛ فإن كل أحد يعلم أنه لم يخلق نفسه ، ولا أبوه ولا أمه ، ولا يحدث من غير محدث ، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين. وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ).

ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته ، ولا نزع من ضلالته ، بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه : (قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي هو المسخر لهذه الكواكب الزاهرة (٢) المسير للأفلاك الدائرة ، خالق الظلام والضياء ، ورب الأرض والسماء ، والأولين والآخرين ، خالق الشمس والقمر ، والكواكب السائرة ، والثوابت الحائرة ، خالق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون ، وفي فلك يسبحون ، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون. فهو تعالى الخالق المالك المتصرف في خلقه بما يشاء.

__________________

(١) م : المتجددة.

(٢) و : النيرة.

٢٨٣

فلما قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه (١) ولم يبق له قوى سوى العناد ، عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ).

وهذان هما البرهانان اللذان أيده الله بهما ، وهما العصا واليد ، وذلك مقام أظهر فيه الخارق العظيم ، الذي بهر به العقول والأبصار ، حين ألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ، أي عظيم الشكل ، بديع في الضخامة والهول ، والمنظر العظيم الفظيع الباهر ، حتى قيل إن فرعون لما شاهد ذلك وعاينه ، أخذه رهب (٢) شديد وخوف عظيم ، بحيث إنه حصل له إسهال عظيم أكثر من أربعين مرة في يوم ، وكان قبل ذلك لا يتبرز في كل أربعين يوما إلا مرة واحدة ، فانعكس عليه الحال.

وهكذا لما أدخل موسى عليه‌السلام يده في جيبه ، واستخرجها ، أخرجها وهي كفلقة القمر تتلألأ نورا يبهر الأبصار ، فإذا أعادها إلى جيبه (٣) [واستخرجها](٤) رجعت إلى صفتها الأولى.

ومع هذا كله لم ينتفع فرعون ـ لعنه الله ـ بشيء من ذلك ، بل استمر على ما هو عليه ، وأظهر أن هذا كله سحر ؛ وأراد معارضته بالسحرة ، فأرسل يجمعهم من سائر مملكته ومن هم في رعيته وتحت قهره ودولته ، كما سيأتي بسطه وبيانه في موضعه ، من إظهار الله الحق المبين والحجة الباهرة القاطعة على فرعون وأملئه ، وأهل دولته وملته. ولله الحمد والمنة.

* * *

وقال تعالى في سورة طه : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى * وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ، اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي* اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى * قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى * قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى).

يقول تعالى مخاطبا لموسى فيما كلمه به ليلة أوحى إليه ، وأنعم بالنبوة عليه ، وكلمه منه إليه :

قد كنت مشاهدا لك وأنت في دار فرعون ، وأنت تحت كنفي وحفظي ولطفي ، ثم أخرجتك من أرض مصر إلى أرض مدين بمشيئتي وقدرتي وتدبيري ، فلبثت فيها سنين (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ) أي مني لذلك ، فوافق ذلك تقديري وتسييري (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) أي أصطفيتك لنفسي برسالتي وبكلامي.

__________________

(١) و : شبهته.

(٢) و : رعبه.

(٣) و : في جيبه.

(٤) من و.

٢٨٤

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) يعني ولا تفترا في ذكري إذا قدمتما (١) عليه ووفدتما إليه (٢) ؛ فإن ذلك عون لكما على مخاطبته ومجاوبته ، وأداء (٣) النصيحة إليه وإقامة الحجة عليه.

وقد جاء في بعض الأحاديث : يقول الله تعالى : «إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني (٤) وهو ملاق (٥) قرنه» (٦) وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [٨ / الأنفال : ٤٥]

ثم قال تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) وهذا من حلمه تعالى وكرمه (٧) ورأفته ورحمته بخلقه ، مع علمه بكفر فرعون وعتوه وتجبره ، وهو إذ ذاك أدرى خلقه ، وقد بعث إليه صفوته من خلقه في ذلك الزمان ، ومع هذا يقول لهما ويأمرهما أن يدعوا إليه بالتي هي أحسن برفق ولين ، ويعاملاه [بألطف](٨) معاملة من يرجو أن يتذكر أو يخشى.

كما قال لرسوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [١٦ / النحل : ١٢٥] وقال تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [٢٩ / العنكبوت : ٤٦]. قال الحسن البصري : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) أعذرا إليه ، قولا له : إن لك ربا ولنا معادا ، وإن بين يديك جنة ونارا.

وقال وهب بن منبه : قولا له : إني إلى العفو والمغفرة أقرب مني إلى الغضب والعقوبة. قال يزيد الرقاشي عند هذه الآية. يا من يتحبب إلى من يعاديه ، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟!

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) ، وذلك أن فرعون كان جبارا عنيدا وشيطانا مريدا ، له سلطان في بلاد مصر طويل عريض ، وجاه وجنود ، وعساكر وسطوة ، فهاباه من حيث البشرية ، وخافا أن يسطو عليهما في بادىء الأمر ، فثبتهما تعالى وهو العلي الأعلى فقال :

(لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ، كما قال في الآية الأخرى : (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).

(فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) يذكر تعالى أنه أمرهما أن يذهبا إلى فرعون فيدعواه إلى الله تعالى ، أن يعبده وحده لا شريك له وأن يرسل معهما

__________________

(١) و : إذا دخلتما.

(٢) و : عليه.

(٣) م : وإهداء.

(٤) و : لمن يذكرني.

(٥) و : هو منا خبر قرنه.

(٦) حديث ضعيف. رواه الترمذي في سننه (٤٩ / ١١٩ / ٣٥٨٠) وفيه زيادة (... يعني عند القتال). وفيه : عفير بن معدان الحمصي بالتصغير المؤذن. مشهور ، ضعيف من السابعة / ت ق وقال ابن أبي حاتم : لا يشتغل به. أه.

تقريب التهذيب (٢ / ٢٥). المغني في الضعفاء (١ / ٤٣٦ / ٤١٤٧)

(٧) و : وعلمنه.

(٨) من و.

٢٨٥

بني إسرائيل ويطلقهم من أسره وقهره ولا يعذبهم. (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وهو البرهان العظيم في العصا واليد ، (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) تقييد مفيد بليغ عظيم ، ثم تهدداه وتوعداه على التكذيب فقالا : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى). أي كذب بالحق بقلبه ، وتولى عن العمل بقالبه.

قد ذكر السدي وغيره : أنه لما قدم من بلاد مدين ، دخل على أمه وأخيه هارون ، وهما يتعشيان من طعام فيه «الطفشيل» وهو اللفت ؛ فأكل معهما. ثم قال يا هارون : إن الله أمرني وأمرك أن ندعو فرعون إلى عبادته ، فقم معي. فقاما يقصدان باب فرعون فإذا هو مغلق. فقال موسى للبوابين والحجبة : أعلموه أن رسول الله بالباب. فجعلوا يسخرون منه ويستهزئون به.

وقد زعم بعضهم أنه لم يؤذن لهما عليه إلا بعد حين طويل. وقال محمد بن إسحاق : أذن لهما بعد سنتين ، لأنه لم يك أحد يتجاسر على الاستئذان لهما. فالله أعلم. ويقال إن موسى تقدم إلى الباب فطرقه بعصاه ، فانزعج فرعون وأمر بإحضارهما ، فوقفا بين يديه فدعواه إلى الله عزوجل كما أمرهما.

وعند أهل الكتاب : «أن الله قال لموسى عليه‌السلام : إن هارون اللاوي ـ يعني الذي من نسل لاوي بن يعقوب ـ سيخرج ويتلقاك ، وأمره أن يأخذ معه مشايخ بني إسرائيل إلى عند فرعون ، وأمره أن يظهر ما آتاه من الآيات وقال له : إني سأقسي قلبه فلا يرسل الشعب ، وأكثر آياتي وأعاجيبي بأرض مصر. وأوحى الله إلى هارون أن يخرج إلى أخيه يتلقاه بالبرية عند جبل حورب ، فلما تلقاه أخبره موسى بما أمره به ربه. فلما دخلا مصر جمعا شيوخ بني أسرائيل وذهبا إلى فرعون ، فلما بلغاه رسالة الله قال : من هو الله لا أعرفه ولا أرسل بني إسرائيل.

* * *

وقال الله مخبرا عن فرعون : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى * قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى * قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى* كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى * مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.)

[٢٠ / طه : ٤٩ ـ ٥٥]

يقول تعالى مخبرا عن فرعون : إنه أنكر إثبات الصانع تعالى قائلا : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى * قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) أي هو الذي خلق الخلق وقدر لهم أعمالا وأرزاقا وآجالا ، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له ، فطابق عمله فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه ، ؛ وقدرته وقدره لكمال علمه. وهذه الآية كقوله تعالى :

٢٨٦

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى* الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى)

[٨٧ / الأعلى : ١ ـ ٣]

أي قدر قدرا هدى الخلائق إليه.

(قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) يقول فرعون لموسى : «فإذا كان ربك هو الخالق المقدر الهادي الخلائق لما قدره ، وهو بهذه المثابة من أنه لا يستحق العبادة سواه ، فلم عبد الأولون غيره؟

وأشركوا به من الكواكب والأنداد ما قد علمت؟ فهلا اهتدى إلى ما ذكرته القرون الأولى»؟ (قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) أي هم وإن عبدوا غيره فليس ذلك بحجة لك ، ولا يدل على خلاف ما أقول لأنهم جهلة مثلك ، وكل شيء فعلوه مستطر عليهم في الزبر ، من صغير وكبير ، وسيجزيهم على ذلك ربي عزوجل ، ولا يظلم أحدا مثقال ذرة ؛ لأن جميع أفعال العباد مكتوبة عنده في كتاب لا يضل عنه شيء ولا ينسى ربي شيئا.

ثم ذكر له عظمة الرب وقدرته على خلق الأشياء ، وجعله الأرض مهادا والسماء سقفا محفوظا ، وتسخيره السحاب والأمطار لرزق العباد ودوابهم وأنعامهم ، كما قال : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) أي لذوي العقول الصحيحة المستقيمة ، والفطر القويمة غير السقيمة ؛ فهو تعالى الخالق الرازق.

وكما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.)

[٢ / البقرة : ٢١ ، ٢٢]

ولما ذكر إحياء الأرض بالمطر ، واهتزازها بإخراج نباتها فيه نبه به على المعاد فقال : «منها» أي من الأرض (خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) كما قال تعالى : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ).

قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.)

[٣٠ الروم : ٢٧]

ثم قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى * قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً* قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.)

[٢٠ / طه : ٥٦ ـ ٥٨]

٢٨٧

يخبر تعالى عن شقاء فرعون وكثره جهله وقلة عقله ؛ في تكذيبه بآيات الله واستكباره عن اتباعها ، وقوله لموسى إن هذا الذي جئت به سحر ، ونحن نعارضك بمثله. ثم طلب من موسى أن يواعده إلى وقت معلوم ومكان معلوم.

وكان هذا من أكبر مقاصد موسى عليه‌السلام : أن يظهر آيات الله وحججه وبراهينه جهرة بحضرة الناس ولهذا قال : (مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) وكان يوم عيد من أعيادهم ومجتمعا لهم «وأن يحشر الناس ضحى» أي من أول النهار في وقت اشتداد ضياء الشمس ، فيكون الحق أظهر وأجلى ، ولم يطلب أن يكون ذلك ليلا في ظلام ؛ كيما يروّج عليهم محالا وباطلا ؛ بل طلب أن يكون نهارا جهرة ؛ لأنه على بصيرة من ربه ، ويقين بأن (١) الله سيظهر كلمته ودينه ، وإن رغمت أنوف القبط!

* * *

قال الله تعالى : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى * قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى * فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى * قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى.)

[٢٠ / طه : ٦٠ ـ ٦٤]

يخبر تعالى عن فرعون أنه ذهب فجمع من كان ببلاده (٢) من السحرة وكانت بلاد مصر في ذلك الزمان مملوءة سحرة فضلاء ، في فنهم غاية ، فجمعوا له من كل بلد ومن كل مكان فاجتمع منهم خلق كثير وجم غفير ، فقيل : كانوا ثمانين ألفا ـ قاله محمد بن كعب. وقيل سبعين ألفا قاله القاسم بن أبي بردة (٣) ، وقال السدي :

بضعة وثلاثين (٤) ألفا ، وعن أبي أمامة تسعة عشر الفا ، وقال محمد بن إسحاق : خمسة عشر ألفا. وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر الفا.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس : كانوا سبعين رجلا ، وروي عنه أيضا أنهم كانوا أربعين غلاما من بني إسرائيل ؛ أمرهم فرعون أن يذهبوا إلى العرفاء فيتعلموا السحر. ولهذا قالوا : «وما أكرهتنا عليه من السحر» وفي هذا نظر.

وحضر فرعون وأمراؤه وأهل دولته وأهل بلده عن بكرة أبيهم ، وذلك أن فرعون نادى فيهم أن يحضروا هذا الموقف العظيم ، فخرجوا وهم يقولون : (لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ).

وتقدم موسى عليه‌السلام إلى السحرة فوعظهم ، وزجرهم عن تعاطي السحر الباطل ، الذي فيه معارضة لآيات الله وحججه فقال : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى * فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ.)

__________________

(١) و : أن.

(٢) و : في بلاده.

(٣) و : ابن أبي بذة.

(٤) و : وثمانين.

٢٨٨

قيل : معناه أنهم اختلفوا فيما بينهم ، فقائل يقول : هذا كلام نبي وليس بساحر ، وقائل منهم يقول :

بل هو ساحر. فالله أعلم.

وأسروا التناجي بهذا وغيره.

«قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما» يقولون : إن هذا وأخاه هارون ، ساحران عليمان مطبقان متقنان لهذه الصناعة ، ومرادهما أن يجتمع الناس عليهما ويصولا على الملك وحاشيته ، ويستأصلانكم عن آخركم ويستأمرا هما عليكم بهذه الصناعة.

«فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى» وإنما قالوا الكلام الأول ليتدبروا ويتواصوا ، ويأتوا بجميع ما عندهم من المكيدة والمكر والخديعة والسحر والبهتان.

وهيهات! كذبت والله الظنون ، وأخطأت الآراء ؛ أنى يعارض البهتان ، والسحر والهذيان خوارق العادات التي أجراها الديان ، على يدي عبده الكليم ، ورسوله الكريم المؤيد بالبرهان الذي يبهر الأبصار وتحار فيه العقول والأذهان!

وقولهم : «فأجمعوا كيدكم» أي جميع ما عندكم «ثم ائتوا صفا» أي جملة واحدة ، ثم حضوا بعضكم بعضا على التقدم في هذا المقام ؛ لأن فرعون كان قد وعدهم ومناهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.

* * *

وقال تعالى :

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى * قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى * قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى * وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى.)

[٢٠ / طه : ٦٥ ـ ٦٩]

لما اصطف السحرة ووقف موسى وهارون عليهما‌السلام تجاههم. قالوا له إما أن تلقي قبلنا ، وإما أن نلقي قبلك «قال بل ألقوا» أنتم ، وكانوا قد عمدوا إلى حبال وعصي ، فأودعوها الزئبق وغيره ؛ من الآلات التي تضطرب بسببها تلك الحبال والعصي اضطرابا يخيل للرائي أنها تسعى باختيارها ، وإنما تتحرك بسبب ذلك ، فعند ذلك سحروا أعين الناس واسترهبوهم ، وألقوا حبالهم وعصيهم ، وهم يقولون : «بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون».

قال الله تعالى : «فلما القوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم». وقال تعالى :

«فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى* فأوجس في نفسه خيفة موسى» أي خاف على الناس أن يفتتنوا بسحرهم ومحالهم ، قبل أن يلقي ما في يده ، فإنه لا يصنع شيئا قبل أن يؤمر فأوحى الله إليه في الساعة

٢٨٩

الراهنة : «لا تخف إنك أنت الأعلى* وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا* إنما صنعوا كيد ساحر ، ولا يفلح الساحر حيث أتى» فعند ذلك ألقى موسى عصاه وقال : «ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين* ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون».

وقال تعالى : «وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون* فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون* فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين* وألقى السحرة ساجدين* قالوا آمنا برب العالمين* رب موسى وهارون».

وذلك أن موسى عليه‌السلام لما ألقاها ؛ صارت حية عظيمة ذات قوائم ، فيما ذكره غير واحد من علماء السلف ، وعنق عظيم وشكل هائل مزعج ؛ بحيث أن الناس انحازوا منها وهربوا سراعا ، وتأخروا عن مكانها وأقبلت هي على ما ألقوه (١) من الحبال والعصي ، فجعلت تلقفه واحدا واحدا في أسرع ما يكون من الحركة ، والناس ينظرون إليها ويتعجبون منها ، وأما السحرة فإنهم رأوا ما ها لهم وحيرهم في أمرهم ، واطلعوا على أمر لم يكن في خلدهم ولا بالهم ولا يدخل تحت صناعاتهم (٢) وأشغالهم ، فعند ذلك وهنالك تحققوا بما عندهم من العلم أن هذا ليس بسحر ولا شعوذة (٣) ، ولا محال ولا خيال ، ولا زور ولا بهتان ولا ضلال ؛ بل حق لا يقدر عليه إلا الحق ، الذي ابتعث هذا المؤيد به بالحق. وكشف الله عن قلوبهم غشاوة الغفلة ، وأنارها بما خلق فيها من الهدى وازاح عنها القسوة ، وأنابوا إلى ربهم وخروا له ساجدين ، وقالوا جهرة للحاضرين ولم يخشوا عقوبة ولا بلوى : «آمنا برب موسى وهارون».

كما قال تعالى : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى * قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى * قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا* إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى.)

[٢٠ / طه : ٧٠ ـ ٧٦]

قال سعيد بن جبير وعكرمة والقاسم بن أبي بردة (٤) والأوزاعي وغيرهم : لما سجد السحرة رأوا منازلهم وقصورهم في الجنة تهيأ لهم ، وتزخرف لقدومهم ولهذا لم يلتفتوا إلى تهويل فرعون وتهديده ووعيده.

وذلك لأن فرعون لما رأى هؤلاء السحرة قد أسلموا وأشهروا ذكر موسى وهارون في الناس على هذه الصفة الجميلة ، أفزعه ذلك ، ورأى أمرا بهره ، وأعمى بصيرته وبصره ، وكان فيه كيد ومكر وخداع ،

__________________

(١) و : على ما أقبلت.

(٢) و : صناعاتهم.

(٣) و : شعبذة.

(٤) و : ابن أبي بذة.

٢٩٠

وصنعة بليغة في الصد عن سبيل الله ، فقال مخاطبا للسحرة بحضرة الناس : «آمنتم له قبل أن آذن لكم» أي هلا شاورتموني فيما صنعتم من الأمر الفظيع بحضرة رعيتي؟! ثم تهدد وتوعد وأبرق وأرعد ، وكذب فأبعد قائلا :

(إنه لكبيركم الذي علمكم السحر) ، وقال في الآية الأخرى ، (إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون).

وهذا الذي قاله من البهتان [الذي](١) يعلم كل فرد عاقل (٢) ما فيه من الكفر والكذب والهذيان ، بل لا يروح مثله على الصبيان ؛ فإن الناس كلهم من أهل دولته وغيرهم يعلمون أن موسى لم يره هؤلاء يوما من الدهر ، فكيف يكون كبيرهم الذي علمهم السحر؟ ثم هو لم يجمعهم ولا علم باجتماعهم ، حتى كان فرعون هو الذي استدعاهم واجتباهم من كل فج عميق ، وواد سحيق ، من حواضر بلاد مصر والأطراف ، ومن المدن والأرياف.

* * *

قال الله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ* قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ* قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ* قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ* وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ* قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ* وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ* فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ* فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ* وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ* قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ* لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ* قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ* وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ.)

[٧ / الأعراف : ١٠٣ ـ ١٢٦]

وقال تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ * فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ* قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِ

__________________

(١) من و.

(٢) و : كل عاقل.

٢٩١

لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ* قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ* وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ* فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ* فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ* وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ.)

[١٠ / يونس : ٧٥ ـ ٨٢]

وقال تعالى : (قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ* قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ* قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ* قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ* فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ* وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ* فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ* قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ* فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ* فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ* فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ* قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ* قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ* إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ.)

[٢٦ / الشعراء : ٢٩ ـ ٥١]

والمقصود أن فرعون كذب وافترى وكفر غاية الكفر في قوله : «إنه لكبيركم الذي علمكم السحر» وأتى ببهتان يعلمه العالمون بل العالمون في قوله : «إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون» ، وقوله : «لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف» يعني قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى وعكسه ، «ولأصلبنكم أجمعين» أي ليجعلنهم (١) مثلة ونكالا لئلا يقتدي بهم أحد من رعيته وأهل ملته.

ولهذا قال : «ولأصلبنكم في جذوع النخل» أي على جذوع النخل ؛ لأنها أعلى وأشهر «ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى» يعني في الدنيا.

«قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات» أي لن نعطيك ونترك ما وقر في قلوبنا من البينات والدلائل القاطعات «والذي فطرنا «قيل معطوف ، وقيل قسم «فأقض ما أنت قاض» أي فأفعل ما قدرت عليه «إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» أي إنما حكمك علينا في هذه الحياة الدنيا ، فإذا انتقلنا منها إلى الدار الآخرة صرنا إلى حكم الذي أسلمنا له وأتبعنا رسله «إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى»

__________________

(١) و : ليجعلهم.

٢٩٢

أي ثوابه خير مما وعدتنا به من التقريب (١) والترغيب ، «وأبقى» أي وأدوم من هذه الدار الفانية. وفي الآية الأخرى : «قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون* إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا» أي ما اجترمناه من المآثم والمحارم «أن كنا أول المؤمنين» أي من القبط ، بموسى وهارون عليهما‌السلام.

وقالوا له أيضا : «وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا» أي ليس لنا عندك ذنب إلا إيماننا (٢) بما جاءنا به رسولنا ، واتباعنا آيات ربنا لما جاءتنا «ربنا أفرغ علينا صبرا» أي ثبتنا على ما ابتلينا به من عقوبة هذا الجبار العنيد ، والسلطان الشديد ، بل الشيطان المريد ، «وتوفنا مسلمين».

وقالوا أيضا يعظونه ويخوفونه بأس ربه العظيم : «إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا» يقولون له : فإياك أن تكون منهم. فكان منهم : «ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى» أي المنازل العالية ، «جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى» فأحرص أن تكون منهم فحالت بينه وبين ذلك الأقدار التي لا تغالب ولا تمانع ، وحكم العلي العظيم بأن فرعون ـ لعنه الله ـ من أهل الجحيم ، ليباشر العذاب الأليم ، يصب من فوق رأسه الحميم. ويقال له على وجه التقريع والتوبيخ ، وهو المقبوح المنبوح والذميم اللئيم : «ذق إنك أنت العزيز الكريم».

والظاهر أن من هذه السياقات أن فرعون ـ لعنه الله ـ صلبهم وعذبهم رضي الله عنهم. قال عبد الله بن عباس وعبيد بن عمير : كانوا من أول النهار سحرة ، فصاروا من آخره شهداء بررة!

ويؤيد هذا قولهم : «ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين».

__________________

(١) و : الترهيب.

(٢) و : إلا في إيماننا.

٢٩٣

فصل

ولما وقع ما وقع من الأمر العظيم ، وهو الغلب الذي غلبته القبط في ذلك الموقف الهائل ، وأسلم السحرة الذين استنصروا بهم ، لم يزدهم ذلك إلا كفرا وعنادا وبعدا عن الحق.

قال الله تعالى : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ* قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ* قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ.)

[٧ / الأعراف : ١٢٧ ـ ١٢٩]

يخبر تعالى عن الملأ من قوم فرعون ، وهم الأمراء والكبراء ، أنهم حرضوا ملكهم فرعون على أذية نبي الله موسى عليه‌السلام ، ومقابلته بدل التصديق بما جاء به ، بالكفر والرد والأذى.

قالوا : «أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك» يعنون ـ قبحهم الله ـ أن دعوته إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة ما سواه ، فساد بالنسبة إلى اعتقاد القبط ، لعنهم الله. وقرأ بعضهم : «ويذرك وإلهتك» أي وعبادتك. ويحتمل شيئين : أحدهما ويذر دينك ، وتقويه القراءة الأخرى.

والثاني : ويذر أن يعبدك ؛ فإنه كان يزعم أنه إله لعنه الله.

«قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم» أي لئلا يكثر مقاتلتهم ، «وإنا فوقهم قاهرون» أي غالبون.

«وقال موسى لقومه استعينوا بالله وأصبروا» أي إذا هم هموا بأذيتكم والفتك بكم ، فاستعينوا أنتم بربكم وأصبروا على بليتكم «إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» أي فكونوا أنتم المتقين لتكون لكم العاقبة ، كما قال في الآية الأخرى : «وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين* فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين* ونجنا برحمتك من القوم الكافرين».

وقولهم : «قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا» أي قد كانت الأبناء تقتل قبل مجيئك وبعد مجيئك إلينا. قال : «عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون».

٢٩٤

وقال الله تعالى (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ.)

[٤٠ / غافر : ٢٣ ، ٢٤]

وكان فرعون الملك ، وهامان الوزير ، وكان قارون إسرائيليا من قوم موسى ، إلا أنه كان على دين فرعون وملئه ، وكان ذا مال جزيل جدا ، كما ستأتي قصته فيما بعد إن شاء الله تعالى.

«فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم وما كيد الكافرين إلا في ضلال» وهذا القتل للغلمان من بعد بعثة موسى إنما كان على وجه الإهانة والإذلال ، والتقليل لملأ بني إسرائيل (١) لئلا يكون لهم شوكة يمتنعون بها ، ويصولون على القبط بسببها ، وكان القبط منهم يحذرون ، فلم ينفعهم ذلك ، ولم يرد عنهم قدر الذي يقول للشيء كن فيكون.

«وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه ، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد» ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم : «صار فرعون مذكرا» وهذا منه ، فإن فرعون في زعمه خاف على الناس أن يضلهم موسى عليه‌السلام!

«وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» أي عذت بالله ولجأت إليه [واستجرت](٢) بجنابه (٣) ، من أن يسطو فرعون وغيره عليّ بسوء. وقوله : «من كل متكبر» أي جبار عنيد لا يرعوي ولا ينتهي ، ولا يخاف عذاب الله وعقابه ، لأنه لا يعتقد معادا ولا جزاء. ولهذا قال : «من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب».

* * *

قال الله تعالى :

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ* يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ.)

[٤٠ / غافر : ٢٨ ، ٢٩]

وهذا الرجل هو ابن عم فرعون ، وكان يكتم إيمانه من قومه خوفا منهم على نفسه. وزعم بعض الناس أنه كان إسرائيليا ، وهو بعيد ومخالف لسياق الكلام لفظا ومعنى ، والله أعلم.

قال ابن جريج قال ابن عباس : لم يؤمن من القبط بموسى إلا هذا ، والذي جاء من أقصى المدينة ،

__________________

(١) و : لبني إسرائيل ..

(٢) سقطت من م.

(٣) و : بجانبه.

٢٩٥

وامرأة فرعون.

رواه ابن أبي حاتم.

وقال الدارقطني لا يعرف من اسمه شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون.

حكاه السهيلي.

وفي تاريخ الطبراني : أن اسمه «خير» فالله أعلم.

والمقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه ، فلما هم فرعون ـ لعنه الله بقتل موسى عليه‌السلام ـ وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه خاف هذا المؤمن على موسى ، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب ، فقال على وجه المشورة والرأي.

وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» (١) وهذا من أعلى مراتب هذا المقام ، فإن فرعون لا أشد جورا منه ، وهذا الكلام لا أعدل منه! لأنه فيه عصمة نبي ويحتمل أنه كاشفهم (٢) بإظهار إيمانه وصرح لهم بما كان يكتمه. والأول أظهر ، والله أعلم.

«قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله» أي من أجل أنه قال ربي الله فمثل هذا لا يقابل بهذا ، بل بالإكرام والاحترام والموادعة وترك الانتقام.

يعني لأنه «قد جاءكم بالبينات من ربكم» أي الخوارق التي دلت على صدقه فيما جاء به عمن أرسله ، فهذا إن وادعتموه كنتم في سلامة ؛ لأنه «إن يك كاذبا فعليه كذبه» ولا يضركم ذلك «وإن يك صادقا» وقد تعرضتم له «يصبكم بعض الذي يعدكم». أي وأنتم تشفقون أن ينالكم أيسر جزاء مما يتوعدكم به ، فيفي بكم إن حل جميعه عليكم؟ وهذا الكلام في هذا المقام ، من أعلى مقامات التلطف والاحتراز والعقل التام.

وقوله : «يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض» يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز ؛ فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم!

__________________

(١) حديث ضعيف. رواه أحمد في رواية طويلة في مسنده (٣ / ٩ / حلبي) وفيه : علي بن زيد بن عبد الله ابن زهير بن عبد الله بن جدعان التيمي البصري ، أصله حجازي وهو المعروف بعلي بن زيد بن جدعان ، ينسب أبوه إلى جد جده ، ضعيف ، من الرابعة مات سنة إحدى وثلاثين وقيل قبلها / غ م ع. تقريب التهذيب (٢ / ٣٧ / ٣٤٢). ورواه ابن ماجة (٣٦ / ٢٠ / ٤٠١١). ورواه أبو داود في سننه ـ كتاب الملاحم ـ باب الأمر والنهي (٢ / ٤٣٨ / حلبي) من نفس طريق ابن ماجة بزيادة «أو أمير جائر». ورواه الترمذي من نفس الطريق السابق أيضا (٣٤ / ١٣ / ٢١٧٤) ولفظه (إن من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر).

ورواه السيوطي أيضا في الفتح الكبير (١ / ٢٠٨ / حلبي).

وجميع الروايات السابقة ضعيفة لأن فيها :

عطية بن سعد العوفي الكوفي ، تابعي مشهور ـ مجمع على ضعفه قال ابن حجر «كان شيعيا مدلسا ومشهور بالتدليس القبيح» من الثالثة مات سنة إحدى عشرة ـ غ د ت ق. أه.

تقريب التهذيب (٢ / ٢٤ / ٢١٦). طبقات المدلسين (٣٧ / مصر). المغني في الضعفاء (٢ / ٤٣٦ / ٤١٣٩)

(٢) و : كاشرهم.

٢٩٦

وكذا وقع لآل فرعون ؛ ما زالوا في شك وريب ، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور ، والنعمة والحبور ، ثم حولوا الى البحر مهانين ، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين.

ولهذا قال هذا الرجل المؤمن المصدق ، البار الراشد ، التابع للحق ، الناصح لقومه ، الكامل العقل :

«يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض» أي عالين على الناس حاكمين عليهم ، «فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا؟» أي لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة ، والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ، ولا رد عنا بأس مالك الممالك.

«قال فرعون» أي في جواب هذا كله : «ما أريكم إلا ما أرى» أي ما أقول لكم إلا ما عندي ، «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد».

وكذب في كل من هذين القولين وهاتين المقدمتين ؛ فإنه قد كان يتحقق في باطنه وفي نفسه أن هذا الذي جاء به موسى من عند الله لا محالة ، وإنما كان يظهر خلافه بغيا وعدوانا ، وعتوا وكفرانا.

قال الله تعالى إخبارا عن موسى : «لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر ، وإني لأظنك يا فرعون مثبورا* فأراد أن يستفزهم من الأرض فأغرقناه ومن معه جميعا* وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض ، فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم لفيفا».

وقال تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ* وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا ، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).

وأما قوله : «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» فقد كذب أيضا ؛ فإنه لم يكن على رشاد من الأمر ، بل كان على سفه وضلال وخبل وخيال ؛ فكان أولا ممن يعبد الأصنام والأمثال ، ثم دعا قومه الجهلة الضلال ألى أن اتبعوه وطاوعو (١) وصدقوه فيما زعم من الكفر والمحال ؛ في دعواه إنه رب ، تعالى الله ذو الجلال!

قال الله تعالى : (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ* فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ* فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ* فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ* فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ.)

[٤٣ / الزخرف : ٥١ ـ ٥٦]

وقال تعالى : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى * فَكَذَّبَ وَعَصى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى * فَحَشَرَ فَنادى * فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى * فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى * إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى)

[٧٩ / المنازعات : ٢٠ ـ ٢٦]

__________________

(١) و : وطاعوه.

٢٩٧

وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ.)

[١١ / هود : ٩٦ ـ ٩٩]

والمقصود بيان كذبه في قوله : «ما أريكم إلا ما أرى» وفي قوله : «وما أهديكم إلا سبيل الرشاد.

* * *

قال تعالى :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ* وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ* وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ* الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ.)

[٤٠ / غافر : ٣٠ ـ ٣٥]

يحذرهم ولي الله إن كذبوا برسول الله موسى أن يحل بهم ما حل بالأمم من قبلهم ، من النقمات والمثلات ؛ مما تواتر عندهم وعند غيرهم ، مما حل بقوم نوح وعاد وثمود ومن بعدهم إلى زمانهم ذلك ، مما أقام به الحجج على أهل الأرض قاطبة ، في صدق ما جاءت به الأنبياء ، لما أنزل (١) من النقمة بمكذبيهم من الأعداء ، وما أنجى الله من اتبعهم من الأولياء وخوفهم يوم القيامة ، وهو يوم التناد ، أي حين ينادي الناس بعضهم بعضا ، حين يولون إن قدروا على ذلك ، ولا إلى ذلك سبيلا.

يقول تعالى :

(يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ* كَلَّا لا وَزَرَ* إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ.)

[٧٥ / القيامة : ١٠ ـ ١٢]

وقال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ* يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ* فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ.)

[٥٥ / الرحمن : ٣٣ ـ ٣٦]

__________________

(١) و : نزل.

٢٩٨

وقرأ بعضهم : «يوم التناد» بتشديد الدال ، أي يوم الفرار ، ويحتمل أن يكون يوم يحل الله بهم البأس. ، فيودّون (١) الفرار ولات حين مناص : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ* لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ.)

[٢١ / الأنبياء : ١٢ ، ١٣]

ثم أخبرهم عن نبوة يوسف في بلاد مصر ، وما كان منه من الإحسان إلى الخلق في دنياهم وأخراهم ، وهذا من سلالته وذريته ، ويدعو الناس إلى توحيد الله وعبادته ، وأن لا يشركوا به أحدا من بريته ، وأخبر عن أهل الديار المصرية في ذلك الزمان ، وأن من سجيتهم التكذيب بالحق ومخالفة الرسل. ولهذا قال : (فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) أي وكذبتم في هذا. ولهذا قال :

(كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ* الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ). أي يردون حجج الله وبراهينه ودلائل توحيده ، بلا حجة ولا دليل عندهم من الله ؛ فإن هذا أمر يمقته (٢) الله غاية المقت ، أي يبغض من تلبس به من الناس ، ومن اتصف به من الخلق ، (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) قرىء بالإضافة بالنعت ، وكلاهما متلازم : أي هكذا إذ خالفت القلوب الحق ـ ولا تخالفه إلا بلا برهان ـ فإن الله يطبع عليها ، أي يختم عليها [بما فيها](٣).

* * *

يقول تعالى :

(وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً ، وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ ..)

[٤٠ / غافر : ٣٦ ـ ٣٧]

كذب فرعون موسى عليه‌السلام في دعواه أن الله أرسله ، وزعم فرعون لقومه ما كذبه وافتراه في قوله لهم : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي ، فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) وقال هاهنا : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ) أي طرقها ومسالكها ، (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) ويحتمل هذا معنيين : أحدهما وإني لأظنه كاذبا في قوله إن للعالم ربا غيري ؛ والآخر في دعواه أن الله أرسله والأول أشبه بظاهر حال فرعون ؛ فإنه كان ينكر ظاهرا إثبات الصانع والثاني أقرب إلى اللفظ حيث قال : (فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) أي فأسأله هل أرسله أم (٤) لا؟ (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً) أي في دعواه تلك. وإنما كان مقصود فرعون أن يصد الناس عن تصديق موسى عليه‌السلام ، وأن يحثهم على تكذيبه.

__________________

(١) و : فيردون.

(٢) و : يمقت الله عليه.

(٣) سقطت من م.

(٤) و : أولا.

٢٩٩

قال الله تعالى : (وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ). وقرىء : (وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ).

قال ابن عباس ومجاهد : يقول : إلا في خسار ، أي باطل ، لا يحصل له شيء من مقصوده الذي رامه ؛ فإنه لا سبيل للبشر أن يتوصلوا بقواهم إلى نيل السماء أبدا ـ أعني السماء الدنيا ـ فكيف بما بعدها من السموات العلى؟ وما فوق ذلك من الأرتفاع الذي لا يعلمه إلا الله عزوجل؟ وذكر غير واحد من المفسرين أن هذا الصرح ، وهو القصر الذي بناه وزيره هامان له لم ير بناء أعلى منه ، وأنه كان مبنيا من الآجر المشوي بالنار ولهذا قال : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً).

وعند أهل الكتاب : أن بني إسرائيل كانوا يسخرون في ضرب اللبن ، وكان مما حملوا من التكاليف الفرعونية أنهم لا يساعدون على شيء مما يحتاجون إليه فيه ، بل كانوا هم الذين يجمعون ترابه وتبنه وماءه ، ويطلب منهم كل يوم قسط معين ، إن لم يفعلوه ضربوا (١) وأهينوا غاية الإهانة وأوذوا غاية الأذية. ولهذا قالوا لموسى : (أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ، قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). فوعدهم بأن العاقبة لهم على القبط ، وكذلك وقع ، وذا من دلائل النبوة.

* * *

ولنرجع إلى نصيحة المؤمن وموعظته واحتجاجه. قال الله تعالى :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ* يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ* مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ.)

[٤٠ / غافر : ٣٨ ـ ٤٠]

يدعوههم رضي الله عنه إلى طريق الرشاد الحق ، وهي متابعة نبي الله موسى وتصديقه فيما جاء به من عند ربه ، ثم زهدهم في الدنيا الدنية الفانية المنقضية لا محالة ، ورغبهم في طلب الثواب عند الله الذي لا يضيع عمل عامل لديه ، القدير الذي ملكوت كل شيء بيديه. الذي يعطي على القليل كثيرا ، ومن عدله لا يجازي على السيئة إلا مثلها ، وأخبرهم أن الآخرة هي دار القرار ، التي من وافاها ـ مؤمنا قد عمل الصالحات ـ فله الدرجات (٢) العاليات ، والغرف الآمنات ؛ والخيرات الكثيرة الفائقات ، والأرزاق الدائمة التي لا تبيد ، والخير الذي كل ما لهم منه في مزيد.

ثم شرع في إبطال ما هم عليه ، وتخويفهم مما يصيرون إليه ، فقال : (وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ

__________________

(١) و : وإلا ضربوا.

(٢) م : فلهم الجنات العاليات.

٣٠٠